أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين15%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116702 / تحميل: 15334
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الأهداف المحتملة للحسينعليه‌السلام

ما يُحتمل أنْ يكون هدفاً للإمام الحسينعليه‌السلام في حدود تفكيرنا وإدراكنا، كما يلي. نذكرها جميعاً لنرى ما هو صحيح منها، وما هو قابل للمناقشة، بعد الالتفات إلى أنَّنا نفينا - خلال الحديث السابق عن الشروط - عدداً مِن الأهداف التي قد تخطر في الذهن، كالانتصار العسكري المباشر أو مُباشرة الحُكم فعلاً ونحو ذلك؛ لأنَّها لم تكن جامعة للشرائط؛ إذاً فهي ليست هدفاً للحسينعليه‌السلام في حركته.

إذاً؛ فينبغي أنْ نُعرض عنها الآن، ونذكر غيرها مِمَّا يدور في الحُسبان.

الهدف الأوَّل: أنْ لا يُبايع الحاكم الأُموي يومئذ كما طُلِب منه؛ فإنهعليه‌السلام رفض ذلك بكلِّ قوَّة وصمود، كما ورد عنه أنَّه قال:(... ومثلي لا يُبايع مثله...) (١) ، فقد تحمَّل القتل وهذه التضحيات الجِسام في سبيل ترك هذه البيعة الدنيئة.

وقد يُناقش هذا الهدف بعِدَّة مُناقشات، يحسن بنا أنْ نذكر المهمَّ منها، لكي يتكامل فهمنا لهذا الهدف في نفس الوقت مِن خلال الحديث:

المناقشة الأُولى: إنَّه كان يُمكنه (سلام الله عليه) تجنُّب كلا الأمرين: المبايعة والتضحية معاً، فلماذا اختار التضحية مع إمكانه تجنُّبها؟!

غير أنَّ هذه المناقشة بمُجرَّدها غير تامَّة؛ للوضوح التاريخي مِن أنَّهعليه‌السلام كان مُكرهاً على أحد أمرين: المبايعة أو الشهادة(٢) ، ولم يكن في

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص ١١ ابن نما ص١٤ الخوارزمي ج١ص١٨٤

(٢) البحار للمجلسي ج٤٥ ص٩ - اللهوف ص ٤١ - الخوارزمي ج٢ص٦

٨١

مُستطاعه طبيعيَّاً أنْ يتجنَّبهما معاً؛ لمدى الضغط العظيم الذي وجَّهته الدولة يومئذ عليه - طبعاً - للمبايعة، وتهديداً بالموت إنْ تركها.

ويدلُّ على هذا الأمر مُضافاً إلى وضوحه التاريخي، الارتكاز العامِّ لفهم الدولة الأُمويَّة يومئذ، وكذلك ما فعل يزيد بن مُعاوية بسائر مُعارضيه مِن المحاربة والتنكيل، ولم يكن الحسينعليه‌السلام ببِدع مِن ذلك، كما يُعبِّرون.

ويدلُّ عليه - أيضاً - ما ورد عنهعليه‌السلام مٍن قوله:(ألا وإنَّ الدَّعيَّ... (١) بن الدَّعي قد رَكَزَ اثنتين: بين السلِّة (٢) والذِّلَّة، وهيهات مِنَّا الذِّلَّة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون...) (٣) .

والدَّعي بن الدعي هو الحاكم الأُموي.

والسِّلَّة هو سلُّ السيف للقتل، والمراد به التهديد بالقتل.

والذِّلَّة هو المبايعة والدخول تحت السيطرة الأُمويَّة. وقوله: وهيهات منَّا الذِّلَّة، يعني هيهات منَّا المبايعة كما يُريد الحاكم الأُموي. كما قال في الخُطبة نفسها:(... أنْ نؤثر بيعة اللئام على مصارع الكرام) (٤) كما يدلُّ على ذلك ما ورد مِن أنَّ الحُكم القائم يومئذ دسَّ في مَكَّة أربعين مِن العُتاة وبثَّهم ما بين الناس، وأوصاهم أنْ يقتلوا الحسينعليه‌السلام حيث وجدوه، ولو كان مُتعلِّقاً بأستار الكعبة، وقد علم الحسينعليه‌السلام ذلك؛ ومِن هنا خرج مِن مَكَّة قاصداً كربلاء؛ لكي لا يكون مقتولاً داخل الحرم المكِّي، الذي جعله الله آمنا وحرَّم فيه كلَّ أشكال إهراق

____________________

(١) الدَّعيُّ: المتَّهم في نسبه، والذي يُدعى لغير أبيه - أقرب الموارد ج١ص٣٧٣ - مجمع البحرين ج١ ص١٤٤ - بتصرُّف

(٢) السِّلَّة: سلَّ الشيء مِن الشيء سلَّاً: انتزعه وأخرجه في رفق، كسلَّ السيف مِن الغِمد - أقرب الموارد ج١ص٥٣٥ - مجمع البحرين ج٥ص٣٩٨ - بتصرَّف.

(٣) اللهوف لابن طاووس ص ٤١ - مقتل الخوارزمي ج٢ص٦.

(٤) نفس المصدر، أسرار الشهادة للدربندي.

٨٢

الدم حتَّى الصيد(١) ؛ فكَرِهعليه‌السلام أنْ يكون سبباً لهتك هذا الحَرَم المقدَّس.

إذاً؛ فلم يكن مُستطيعاً أنْ يتجنَّب كلا الأمرين: البيعة والتضحية معاً، بلْ كان مُكرهاً على أنْ يقبل بأحدهما.وقد اختار لنفسه أعلاهما وأشرفهما وهو التضحية.

المناقشة الثانية: إنَّ هذا الهدف إنَّما هو هدفه الشخصي مِن حركته، ونحن نُريد التعرُّف على ما يكون مُحتملاً مِن أهداف الحكمة الإلهيَّة في ذلك.

وقد أشرنا في مُقدِّمات هذا البحث، إلى ثبوت كلا هذين النحوين مِن الأهداف، غير أنَّ هذه المناقشة أيضاً لا تتمُّ لعِدَّة وجوه، نذكر المهمَّ منها:

أوَّلاً: إنَّ انقسام الأهداف - كما ذكرنا - وإنْ كان صحيحاً، غير أنَّ الباحث أو المفكِّر، كما يطمح أنْ يتعرَّف على الهدف الثابت في الحكمة الإلهيَّة، يطمح أيضاً أنْ يتعرَّف على الهدف الشخصي سواء بسواء.

فالقول باختصاص الطموح بأحد النوعين مِن الأهداف، دون الثاني قول بلا موجب.

إذاً؛ فحتَّى لو كان عدم المبايعة هدفاً شخصيَّاً، فنحن يحسن بنا أنْ نلتفت إليه ونأخذه بنظر الاعتبار.

ثانياً: إنَّ عدم المبايعة هنا - كما هو هدف شخصيٌّ للحسينعليه‌السلام - هو هدف للحكمة الإلهيَّة أيضاً. وأوضح سبيل إلى إيضاحه، أنْ نقيس الأمر بحصول المبايعة، فكم سوف يحصل مِن المفاسد بوجودها؟ وكيف يتغيَّر الدين الخالص؟ ويبقى مُتغيِّراً فاسداً - وحاشاه - إلى يوم القيامة، وهذا بكلِّ تأكيد خلاف الحكمة الإلهيَّة؛ إذاً فوجود البيعة مُخالفاً للحكمة الإلهيَّة؛ فيكون

____________________

(١١٢) سورة الأعراف آية (٩٤-٩٦)

٨٣

عدمها موافقاً لها لا مُحالة

المناقشة الثالثة لهذا الهدف: إنَّه هدف وقتي منوط لا محالة بحياة الإمام الحسين (عليه‌السلام ). كما هو منوط بحياة الحاكم الأُموي؛ لوضوح أنَّه لا معنى للمبايعة لدى موت أحدهما، ونحن إنَّما نُريد الاطِّلاع على الأهداف الدائميَّة لا الأهداف الوقتيَّة. غير أنَّ هذه المناقشة غير صحيحة، ونورد عليها ما يُشبه الوجهين اللذين أوردناهما على المناقشة السابقة.

أوَّلاً: إنَّ هذا الهدف وإنْ سلَّمنا أنَّه هدف وقتيٌّ، إلاَّ أنَّ اختصاص تعرُّف الباحث أو المفكِّر بالأهداف الدائمة وغير الوقتيَّة بلا موجب، بلْ نحن نُريد التعرُّف على كلا الشكلين مِن الأهداف.

ثانياً: إنَّ هذا الهدف وإنْ كان منوطاً بحياة هذين الشخصين، إلاَّ أنَّه - مع ذلك - ليس وقتيَّاً بلْ مُستمرَّ، ولنا أنْ نقيس ذلك إلى صورة حصول المبايعة، فكما أنَّ المفاسد مع حصول المبايعة سوف لن تكون وقتيَّة بكلِّ تأكيد، كذلك المصالح والأهداف الناتجة عن ترك المبايعة سوف لن تكون وقتيَّة، ويكفي بها أنْ تكون تخلُّصاً ودفعاً لتلك المفاسد المستمرَّة؛ إذاً فهي أهداف مُستمرَّة.

المناقشة الرابعة لهذا الهدف: إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن مُضطرَّاً أو مُكرهاً على هذين الأمرين: البيعة أو التضحية. بلْ كان يُمكنه أنْ يتجنَّبهما معاً - كما قلنا في المناقشة الأُولى - ولكنَّنا قلنا هناك: إنَّه يُمكنه أنْ يتجنَّبهما وهو مُرتاح في بلده، ولم يكن هذا صحيح كما عرفناه.

أما هنا فنقول: إنَّه كان يُمكنه أنْ يخرج إلى بلاد بعيدة لا تنالها يد الأُمويِّين، كاليمن أو الهند أو الأفغان أو غيرها؛ لينجو مِن القتل والبيعة معاً.

خاصَّة، وإنَّ الدول في ذلك الحين لم تكن تملك إمكانيَّات الدول الحاضرة، ولم

٨٤

يكن في استطاعتها الحرب في الأماكن البعيدة، وقد ورد عن بعض ناصحيه - والمشفقين عليه مِن الخروج -(١) هذا المعنى، فلماذا لم يفعل؟!

وجواب ذلك يتمُّ في وجوه نذكر أهمَّها:

أوَّلاً: إنَّ ما قاله المستشكل مِن ضعف الدول القديمة وإنْ كان صحيحاً إجمالاً، إلاَّ أنَّه ليس صحيحاً تماماً؛ إذ يكفي أنْ نتصوَّر كيف سار الفتح الإسلامي في ذلك القَرن الأوَّل نفسه، بلْ قبل مقتل الحسينعليه‌السلام إلى العراق وإيران، وسوريا وفلسطين ومصر، وأذلَّ الجبابرة والقياصرة والأكاسرة، فكيف حصل ذلك إلاَّ باستعداد تامٍّ ومعنويَّات عالية؟!

كما يكفي أنْ نتذكَّر كيف خاض الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قبل مقتل الحسين بمُدَّة طويلة حروباً مُروِّعة كصِفِّين والنهروان. أمَّا عن الحديث عن حروب الجاهليَّة السابقة على الإسلام فحدِّث و لا حرج.

إذاً؛ فالناس في ذلك الحين، كانوا مُقاتلين شجعاناً، ومُتدرِّبين على تحمُّل أنواع المصاعب في سبيل ما يطمحون إليه مِن الأهداف، أو ما يُؤمَرون به مِن الأغراض.

إذاً؛ فمِن المحتمل جِدَّاً، بلْ السائغ تماماً، أنْ نتصوَّر أنَّ الحسينعليه‌السلام أينما ذهب فسوف يُرسل الحاكم الأُموي خلفه جيشاً عرمرماً(٢) للقضاء عليه وقتله، أو أنْ يدسَّ إليه مَن يقتله غيلة أينما وجده، وليس كلُّ ذلك على المفسدين ببعيد.

إذاً؛ فهذا التخيير بين (السِّلَّة والذلَّة) أو البيعة والتضحية، كانعليه‌السلام مُكرهاً عليه في كلِّ وجه الأرض المنظور يومئذ بكلِّ تأكيد، ولم يُمكن النجاة منه على أيِّ حال.

____________________

(١) ومنهم (محمد بن الحنفيَّة وعبد الله بن عباس) تاريخ الطبري ص٢١٩ - الكامل في التاريخ ج٤ ص٧ وص١٦

(٢) عرمرماً: الشديد والجيش الكبير (أقرب الموارد ج٢ ص٧٧٣)

٨٥

ثانياً: إنَّ الأمام الحسينعليه‌السلام لو ذهب بعيداً، لأرجف عنه أعداؤه أنَّه ذهب مُنهزماً عن المواجهة وفارَّاً مِن الملاقاة، ولوصفوه بكلِّ عظيمة، والأعلام يومئذ وفي كلِّ يوم على استعداد لذلك على أيِّ حال، وهذا ما لا يُريده لنفسه بعد أنْ كان يعيش مِن نقطة قوَّة وبروز في المجتمع بصفته سِبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وابنه، وسيِّد شباب أهل الجنَّة، والإمام المفترض الطاعة لطائفة مِن المسلمين.

كيف، ونحن نجد أعداءه قد أرجفوا ضدَّه، بالرغم مِن تضحيته وصبره وصموده؛ فكيف كان عليه الحال لو اختار الاحتمال الآخر. وإنْ كان يُدرك أنَّ فيه بعض المصالح.

على أيِّ حال، يكفي أنَّ هذا الإرجاف عندئذ يستطيع أنْ يُسيطر في المجتمع الجاهل، وأنْ يسلب بعض نقاط القوَّة، التي كان يعيشها الحسينعليه‌السلام فقد لا يكون عندئذ ناجحاً في عمله، حتَّى لو ذهب إلى مكان بعيد.

ثالثاً: إنَّنا لا ينبغي أنْ نتوقَّع أنْ يذهب الحسينعليه‌السلام إلى أيِّ نقطة مِن العالم كيف كانت؛ ولذا لم يذكر له الذين ناقشوه على الخروج إلاَّ منطقة واحدة هي اليمن، وقالو له: (إنَّ فيها شيعة لأبيك)(١) ؛ لأنَّ أباه أمير المؤمنينعليه‌السلام ذهب إلى اليمن بأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ردحاً مِن الزمن ورآه اليمنيُّون وأحبُّوه.

أمَّا ذهابه إلى مناطق أُخرى، فغير معقول إطلاقاً، إمَّا لكونهم ضدَّ الحسينعليه‌السلام كما حصل في الكوفة وكربلاء، وإمَّا لأنَّهم غير مُسلمين أساساً، وإمَّا لأنَّهم غير عرب أساساً، يتعذَّر العيش معهم لاختلاف لُغتهم، وإمَّا لأنَّهم مُتخلفون حضاريَّاً، بحيث يضيع وجوده بينهم وينقطع خبره عن الآخرين، وكلُّ

____________________

(١) الخوارزمي ج١ص١٨٨ - مناقب بن شهر آشوب ج٢ص٢٤٠ ط نجف

٨٦

ذلك غير معقول ولا يُريده الحسين لنفسه.

وأُكرِّر الآن: أنَّ المكان الوحيد البعيد الذي كان مُناسباً نسبياً، لم يكن إلاَّ اليمن، وهو الوحيد الذي ذكروه له، إلاَّ أنَّه رفضه، وكان رفضه بحسب فهمنا مُعتمداً على الوجهين الأوَّلين، اللذين قلناهما قبل قليل لهذه المناقشة فراجع وفكِّر، مُضافاً إلى أُمور أُخرى تعرفها مِن أجوبة المناقشات السابقة.

وحيث لم تتمَّ مُناقشة واحدة لهذا الهدف الحسيني الجليل؛ إذاً يتعيَّن الأخذ به، وهو ترك البيعة ليزيد بن مُعاوية، واختيار التضحية عليه، فإذا تمَّ هدف آخر فيما يلي، كان نوراً على نور، وإلاَّ ففي هذا الهدف الكفاية.

الهدف الثاني: الممكن لحركة الحسينعليه‌السلام الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى إيَّاه بها، ذلك الأمر المعروف لديه - إمَّا بالإلهام أو بالرواية عن جَدِّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) - وكان يطلب ثواب الله وجزاءه الأُخروي على ذلك تماماً، كما يفعل أيُّ مؤمن حين يؤدِّي أيَّ واجب دينيٍّ، كالصلاة أو الصوم أو الحجِّ.

ويدلُّ على ذلك: ما ورد عن جَدِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه قال له في المنام:(يا بني، إنَّه لا بُدَّ لك مِن الشهادة، وإنَّ لك درجات عند الله عزَّ وجلَّ لن تنالها إلاَّ بالشهادة) (٢) ، كما يدلُّ عليه ما ورد: أنَّه بعد مقتلهعليه‌السلام وضعت أُخته الحوراء زينب (سلام الله عليها) يديها تحت جسده الطاهر وقالت: (اللَّهمَّ، تقبَّل منَّا هذا القُربان)(٣) ؛ لوضوح أنَّ القَبول إنَّما يكون لعمل مِن أعمال الامتثال والطاعة.

وهذا الهدف صحيح بكلِّ تأكيد، كما أنَّه بكل تأكيد هدف شخصيٌّ

____________________

(١) البحار للمجلسي ج٤٤ ص٣٢٨ أسرار الشهادة للدربندي ص٢٢٤

(٢) أمالي الصدوق، مجلس ٣٠ص١٣٥ الخوارزمي ج١ص١٨٧ البحار ج٤٤ص٣٢٨

(٣) الكبريت الأحمر ج٣ص١٣ عن الطراز المذهَّب.

٨٧

له، وليس مِن أهداف الحكمة الإلهيَّة في حركته؛ فإنَّ الحكمة الإلهيَّة وإنْ كانت تُريد امتثاله وطاعته (سلام الله عليه)، إلاَّ أنَّ هذا مِمَّا يعود إليه لا أنَّه يعود على غيره، والأهداف التي نتحدَّث عنها إنَّما هي الأهداف التي تعود إلى غيره بالنفع. مِمَّا قلنا: إنَّه مِن أهداف الحكمة الإلهيَّة مِن حركته - في حدود ما نستطيع تعقُّله - إلاَّ أنَّنا قلنا - في نفس الوقت -: إنَّ الطموح غير خاصٍّ بالأهداف العامَّة، بلْ تشمل الأهداف الخاصَّة أيضاً. مُضافاً إلى إمكان أنْ يُقال بكلِّ تأكيد - أيضاً -: إنَّ عدم انتفاع الآخرين مِن هذا الهدف غير صحيح إطلاقاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة. أمَّا في الدنيا؛ فلما سنذكره مِن الأهداف الآتية: مِن أنَّ حركته أوجبت هداية الناس، وتعريفهم أهميَّة الدين، ولزوم التضحية له عند الحاجة بالنفس والأهل والمال والوُلِد، وأنَّ طاعة الله سبحانه لازمة على كلِّ حال. وأمَّا في الآخرة؛ فلأنَّهعليه‌السلام أصبح واسع الشفاعة يوم القيامة، أكثر مِن أيِّ واحد مِن المعصومين الآخرين (سلام الله عليهم). كما ثبت في محلِّه، ووردت عليه بعض النصوص(١) ، ولم يكن لينال هذه المنزلة لولا تلك المقامات والدرجات التي حصلت له بالشهادة نفسها.

إذاً؛ فالأمر كما يعود إليه يعود إلى غيره، والرحمة الإلهيَّة عامَّة للجميع.

الهدف الثالث: الذي قد يخطر في بعض الأذهان لحركة الحسينعليه‌السلام هو الانتصار العسكري المباشر، أو قلْ: إزالة الحُكم الأُموي فوريَّاً.

وهذا مِمَّا سبق أنْ أشرنا إلى نفيه خلال حديثنا عن الشروط السابقة(٢) ، ولكنَّنا نذكره الآن لأنَّ عدداً مِن الناس بما فيهم بعض المفكِّرين قد يتصوَّرونه.

وقد يُستدلُّ عليه بما ورد مِن أنَّه قيل لمسلم بن عقيل (سلام الله عليه) حين تألَّب عليه الأعداء في الكوفة:إنَّ الذي يطلب ما تطلب لا يبكي إذا نزل به ما

____________________

(١) الخصائص الحسينيَّة للتُّستري ص١٤ (ط) - والبحار للمجسي ج٩٨ص١٦ (ط)

(٢) الشرط الثالث مِن باب حدود أهداف الحسين فراجع.

٨٨

نزل بك (١) .

إذاً؛ فهو يطلب السيطرة على الحُكم - أعني: من الناحية الدينيَّة - ويُدافع عن هذا الهدف ضمن دفاع الحسينعليه‌السلام لأنَّه رسوله إلى الكوفة.

غير أنَّ صحَّة هذا الهدف تتوقَّف على أُمور، لو تمَّ أيُّ واحد منها أمكن قبوله، وإلاَّ فلا.

الأمر الأوَّل: أنْ نتصوَّر الإمام الحسين قائداً دنيويَّاً، قد تخفى عليه بعض النتائج، وأنَّ عدم سيطرته الفعليَّة على الحُكم أمر لم يكن يتوقَّعها أوَّل الأمر، ثمَّ أصبح مغلوباً على أمره مُتورِّطاً في فعله.

وقد سبق أنْ ناقشنا ذلك مُفصَّلاً، وعلمنا أنَّهعليه‌السلام عالم بالنتائج قبل حدوثها - أمَّا بالإلهام أو بالرواية عن جَدِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ومِن هنا؛ فمِن غير المعقول أنْ نُجرِّد منه قائداً دنيويَّاً مَهما كان عبقريَّاً.

الأمر الثاني: أنْ يكون هذا الهدف الذي يُقال أو أيُّ هدف يُقال، جامعاً للشرائط؛ لأنَّه ينقص منه شرط واحد وهو التحقُّق فعلاً، فإنَّ هذا الهدف لم يتحقَّق أصلاً قطعاً، فلا ينبغي أنْ نعتبره هدفاً كما سبق أنْ برهنَّا عليه هناك.

الأمر الثالث: أنْ نفهم مِن التاريخ أنَّ انتصار الحسين وفوزه المباشر على أعدائه أمر مُحتمل، وأنَّ احتماله وارد ومعقول، بحيث يكون استهدافه أمراً معقولاً، وأمَّا إذا كان في نفسه أمراً غير مُحتمل، كما يعرفه جماعة مِن حُذَّاق المجتمع ومُفكِّريه - بما فيهم الذين ناقشوه في الخروج إلى الجهاد(٢) - إذاً، فلا يكون استهداف مثل هذا الهدف معقولاً عُرفاً وعقلائيَّاً وسياسيَّاً، فضلاً عن الالتفات إلى العلم الإلهي والحكمة الإلهيَّة.

الهدف الرابع: المحتمل لحركة الإمام الحسينعليه‌السلام

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ج١ص٢١١ - الطبري ج٦ص٢١١ - الإرشاد للمفيد ص٢١٤

(٢) مَرَّ ذكرهم سابقاً فراجع.

٨٩

فضح بني أُميَّة ومَن كان على شاكلتهم مِن يومه إلى يوم القيامة، بأنَّهم ليسوا فقط ظالمين لأنفسهم بينهم وبين الله سبحانه، بلْ ولا ظالمين للناس في حُكمهم غير العادل فحسب، وإنَّما الأمر أكثر مِن ذلك، فإنَّهم على استعداد أنْ يقتلوا الرجال والأطفال وأنْ يسبوا النساء وأنْ يقتلوا خير الخلق الموجودين على وجه الأرض؛ مِن أجل التمسُّك بالحُكم أو الكرسي، وهذا معناه أنَّهم مُستعدُّون أنْ يقتلوا أيَّ إنسان أو أيَّ عدد مِن الناس - مهما كثر عدده أو كثرت أهميَّته في سبيل، ذلك كما أنَّ معناه عدم وجود عاطفة الإنسانيَّة في قلوبهم على الإطلاق، كما أنَّ معناه أنَّهم على استعداد أنْ يفعلوا أيَّ مُنكر آخر مِمَّا يرتبط بالملك أو لا يرتبط، بعد أنْ انسلخوا تماماً عن الإنسانيَّة وعن الورع وعن المحارم.

وهذا الهدف صحيح وواقعي، وقد حصل فعلاً على إثْرِ واقعة كربلاء مُباشرة، ولا زال ساري المفعول وسيبقى إلى يوم القيامة ضِدَّ بني أُميَّة الحُكَّام السابقين، وضِدَّ أضرابهم مِن الظالمين مِن البشر إلى قيام يوم الدين.

ومِن هنا؛ فإنِّي أعتقد أنَّ هذا الحاكم الأُموي قد أخطأ خطأً كبيراً، حين سوَّد صحيفة أعماله بأُمور كثيرة و مُنكرات فضيعة جِدَّاً، وأوجب سوء ظنِّ الناس والتاريخ به وبعشيرته وأمثاله باستمرار، مُضافاً إلى غضب الله سبحانه؛ وذلك أنَّه فعل ثلاثة أُمور مُهمَّة مُضافاً إلى مُنكراته الشخصيَّة، أهمُّها قتل الحسينعليه‌السلام وجيشه في كربلاء والتنكيل تنكيلاً فضيعاً(١) ، مُضافاً إلى رمي الكعبة بالمجانيق، وكان بمنزلة القصف المدفعي في زماننا؛ إذ يُشعلون النار في بعض المواد ويقذفونها بعيداً على العدوِّ بواسطة الآلة القاذفة، التي تُسمَّى بالمِنجنيق، وقد بقيت الكعبة المشرفَّة تحت هذا القصف المركز أيَّاماً بلياليها(٢) .

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج٢ص٥.

(٢) نفس المصدر ج٢ص١٠.

٩٠

هذا مُضافاً إلى واقعة الحَرَّة، بقيادة مسلم بن عقبة، الذي أباح المدينة المنوَّرة ثلاثة أيَّام كاملة، قتلاً ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال، بشكل لم يسبق له مَثيلاً(١) .

____________________

(١) نفس المصدر ج١ص١٧٩

ويحسن أنْ نُشير إلى خلافة يزيد، وما أرتكب فيها مِن جرائيم، حيث بدأت خلافة يزيد بن مُعاوية في أواخر سنة ٦١هـ وانتهت بوفاته في النصف الأوَّل مِن سنة ٦٤هـ، وبذلك تكون مُدَّة حكمه ثلاث سنوات تقريباً، ارتكب فيها أبشع وأقبح جرائم في التاريخ البشري بشكل عامٍّ والإسلامي بشكل خاصٍّ، ففي السنة الأُولى قَتل سبط الرسول وسيِّد شباب أهل الجنَّة، وسبى نساءه وقتل عياله وشرَّدهم وروَّعهم ومثَّل بالأجساد الطاهرة، فأبان الرؤوس عن الأجساد، فحُملت فوق الرماح يُطاف بها مِن بلد إلى بلد، وبذلك صنع مع آل الرسول مالا يُصنع مع الترك أو اليهود أن القوم الكافرين. وفي السنة الثانية أقدم على جريمة بشعة لم يُروَ لها مثيل في التاريخ، وهي واقعة الحَرَّة، وسُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى منطقة الحَرَّة، والتي هي قُرب المدينة المنوَّرة؛ وذلك أنَّه لما أنكر أهل المدينة أفعال يزيد وموبقاته، وكيفيَّة قتل الحسين وأهل بيته وأسر نساءه، وفعله للمحرَّمات حتَّى وصل به الحال إلى الزنى بالمحارم، فيقول ابن سعد في الطبقات الكُبرى وابن الأثير في الكامل: إنَّ عبد الله بن حنظلة - غسيل الملائكة - خطب في أهل المدينة خُطبة قال فيها: (فو الله، ما خرجنا على يزيد حتَّى خفنا أنْ نُرمى بالحجارة مِن السماء. إنَّ رجلاً ينكح الأُمَّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة. والله، لو لم يكن معي أحد مِن الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً). فغضب يزيد مِن ذلك؛ فأرسل جيشاً مؤلَّفاً مِن ثلاثين ألفاً مِن أهل الشام، وعليهم مسلم بن عقبة، وقد قال له: السيف السيف، أجهز على جريحهم، وأقبل على مُدبرهم، وإيَّاك أنْ تُبقي عليهم. فيقع ثلاثون ألفاً مِن أهل الشام - مُدجَّجون بالأسحلة الكاملة - في أهل المدينة قتلاً وذبحاً ثلاثة أيَّام. وخطب مسلم بن عقبة قائلاً: هذه المدينة لكم مُباحة ثلاثة أيَّام دمائها ونسائها وأموالها.

وذكر المؤرِّخون أنَّه بلغ عدد قتلى الحَرَّة يومئذ - مِن قريش والأنصار والمهاجرين وأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ألفاً وسبعمئة، ومِن سائر الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، وقد نقل المؤرِّخون صور مُروِّعة عن هذه الفاجعة، فمثلاً ما نُقل عن أبي معشر حين قال: إنَّ رجلاً مِن أهل الشام دخل على امرأة نُفساء مِن نساء الأنصار ومعها صبي لها، فقال لها: هل مِن مال؟ قالت: لا والله، ما تركوا لي شيئاً فقال: والله، لتُخرجين إليَّ شيئاً أو لأقتلنَّك وصبيَّك هذا! فقالت: ويحك! إنَّه ولد ابن أبي كبش الأنصاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بايعت يوم بيعة الشجرة على أنْ لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي... فما أتيت شيئاً، فاتَّق الله. ثمَّ قالت لابنها: يا بُني - والله - لو كان عندي شيء لافتديتك به. (قال:) فأخذ الشاميُّ برُجْل الصبيِّ والثديُ في فمه =

٩١

الهدف الخامس: المحتمل لثورة الحسينعليه‌السلام ، هو طلب الإصلاح أو مُحاولة الإصلاح في الأُمَّة المسلمة، أُمَّة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو الذي روي عنهعليه‌السلام حين يقول:(... لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) (١) ، وذلك حين رأى سلام الله عليه أنَّ الدين قد تغيَّر عن القلوب وأنَّ المعروف لا يُعمل به وأنْ المنكر لا يُتناهى عنه، وأنَّه لم يبقَ منه صُبابة إلاَّ كصُبابة الإناء، أو خساسة عيش

____________________

= فجذبه مِن حِجرها، وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض أمام أُمِّه).

ويدخل القوم المدينة وتجول خيولهم فيها، فيقتلون وينهبون فما تركوا في المنازل مِن أثاث ولا حُليٍّ، ولم يتركوا فراشاً إلاَّ نفضوا صوفه ولم يتركوا حتَّى الحمامة والدجاج إلاَّ كانوا يذبحونها. فهذا أبو سعيد الخدري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يدخلون عليه، فينتفون لحيته ويضربونه ضربات ثمَّ يأخذون كلَّ ما يجدون في بيته حتَّى الصوف، وحتَّى زوج حمام كان له، بالرغم مِن أنَّه عرَّف لهم نفسه.

والأفظع والأدهى مِن ذلك كلِّه إباحة مسلم بن عقبة - بأمر مِن يزيد - نساء المدينة المنوَّرة لجيش الشام ثلاثة أيَّام، وكأنَّهنَّ لسن مُسلمات، أو أنَّهنَّ أُسارى حرب غير المسلمين، وهذه الجريمة النكراء ارتُكبت عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي حرم النبي وحِمى النبي، فنادى مُنادٍ (مسلم) في أهل الشام: يا أهل الشام، إنَّ أميركم مسلم بن عقبة - بأمر مِن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية - أباح لكم هذه المدينة كلَّها ثلاثة أيَّام، ومَن زنى بامرأة فذاك له. فوقع جيش الشام في الزنا بالمسلمات، وفيهن بنات المهاجرين والأنصار، وفيهن ذوات الأزواج، وفيهن الأبكار...

وأمَّا في السنة الثالثة، فإنَّ خليفة المسلمين يبعث بجيش جرَّار إلى مكَّة المكَّرمة؛ لحصار عبد الله بن الزبير، فرموا الكعبة المقدَّسة بأحجار صخام ونار مِن المِنجنيق، حتَّى حطَّموها وأحرقوها، ولم يبقَ منها سوى المدر، فهذه ثلاث سنوات حكمها الطاغية، فعمل بها تلك الجرائم الكُبرى، وليت شِعري، لو كان عاش أكثر مِن ذلك ماذا كان يفعل؟!

راجع دائرة معارف القرن العشرين ج٤ - الإمامة والسياسة لابن قتيبة السفينة ج١ - ناسخ التواريخ (مُجلَّد زين العابدين) - شواهد التنزيل ج١ ص٣٤٥ - تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير (وقائع سنة ٦١....٦٤هـ) - تاريخ الفتوح لابن أعثم ج٥.

(١) مقتل الخوارزمي ج١ص١٨٨ مناقب بن شهرآشوب ج٣ص٢٤١ط نجف - أسرار الشهادة للدربندي ص١٩١.

٩٢

كالمرعى الوبيل، كما يُستفاد مِن الكلام المروي(١) عنه (سلام الله عليه).

وهذا هدف مُحترم جِدَّاً، وكان الحسين (عليه‌السلام ) أهلاً له، إلاَّ أنَّني أعتقد أنَّ الإصلاح المقصود على قسمين: إصلاح يحصل منه مُباشرة قبل مقتله، وإصلاح يحصل مِن المجتمع بعد مقتله وبسبب شهادته. وهو أيضاً إصلاح منسوب إليه، ويُمكن أنْ يكون قد تعمَّده واستهدفه.

أمَّا الإصلاح المباشر في حياته، فهو لا يُحتمل أنْ يكون هدفاً؛ لأنَّه فاقد لأحد الشرائط السابقة - وهو عدم التحقُّق في المجتمع - وقد كرَّرنا أنَّ الأمر الذي لم يتحقَّق لا يُمكن أنْ يكون هدفاً.

وقد يخطر في البال: أنَّ الإصلاح المباشر قد حصل خلال الخُطب والأقوال، التي قيلت مِن قِبَل الحسين نفسه وأصحابه وأهل بيته قبل مقتله، وهذه تكفي للمشاركة بالإصلاح مُشاركة فعليَّة وفعَّالة.

وجواب ذلك: أنَّ الخُطب والأقوال قد حصلت فعلاً، إلاَّ أنَّها كانت مُكرَّسة كلَّها لأجل الحديث عن حركة الحسين وشرح أبعادها والدفاع عنها؛ ومعه فلا تكون هي الإصلاح المعهود والموعود، وإنَّما المتوقَّع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جوانب الدين عامَّة وفي فروعه كافَّة. وهو مِمَّا لم يحصل على الإطلاق؛ لأنَّ الأجل لم يُمهلهعليه‌السلام وأصحابه للقيام بهذه المهمَّة الشريفة الموعودة.

وإنَّما الذي حصل هو الهداية والرعاية للبشر - دينيَّاً ومعنويَّاً وإنسانيَّاً وأُخرويَّاً - بمقتله وشهادته (سلام الله عليه)؛ إذ أعطى المثال الأعظم للتضحية الضخمة بهذا الصدد، فكان النبراس الأفضل الذي يُضيء للأجيال طريقهم باستمرار، وإلى يوم القيامة.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص٣٤، الطبري ج٦ص٢٢٩، البحار للمجلسي ج٤٤ص٣٨١

٩٣

ونستطيع أنْ نؤكِّد أنَّ هذا الإصلاح هو الذي كان مقصوداً للحسينعليه‌السلام ومُستهدفاً له، وإنْ لم يُصرِّح به تماماً آخذاً بقانون:(كَلِّم الناس على قدر عقولهم) (١) ، وهو هدف جليل وصحيح ولا غُبار عليه.

الهدف السادس: المحتمل للحسينعليه‌السلام في حركته، هو الاستجابة لأهل الكوفة، حين طلبوا منه القدوم عليهم، وأخذْ البيعة منهم ومُمارسة الحُكم بينهم، وقالوا:(وإنَّما تُقدِم على جُند لك مُجنَّدة) (٢) . فأجابهم بالموافقة وعزم على المسير إليهم، إلاَّ أنَّه لم يوفَّق للوصول إلى الكوفة، حيث اجتمع عليه الجيش المعادي في كربلاء وتمَّ الإجهاز على حركته هناك.

وهذه الاستجابة وإنْ كانت صحيحة بحسب الحُكم الظاهري في الشريعة.

إذ يجب (سلام الله عليه) أنْ يستجيب لمثل هذا الطلب الجليل، ولكنَّنا مع ذلك لا نعتبره هدفاً حقيقاً للحركة، وإنَّما هي استجابة لا بُدَّ منها لسدِّ الألسنة وقطع المعاذير مِن ناحية، والتكلُّم مع الناس على قدر عقولهم، وأمَّا لو لاحظنا الأمر أعمق مِن ذلك بقليل لوجدنا عِدَّة إشكالات ترد على هذا الهدف.

أوَّلاً: لأنَّنا نعلم أنَّهعليه‌السلام يعلم أنَّ أهل الكوفة يومئذ كاذبون عن الإعراب عن موالاتهم ومُبايعتهم، وإنَّما هُمْ فسقة ومُنافقون.

ولا يتوقَّف الاطِّلاع على هذا الأمر على الإلهام أو التسديد الإلهي، وإنْ كان هذا صحيحاً في نفسه، إلاَّ أنَّه أيضاً كان واضحاً لكثير مِن الناس - يومئذ - بما فيهم الذين ناقشوه في خروجه، وقالوا - له في ما قالوا -: (إنَّ أهل الكوفة قد غدروا بأبيك وأخيك؛ فمِن الحريِّ أنْ يغدروا بك، وإنَّما الأفضل أنْ تذهب إلى

____________________

(١) أصول الكافي ج١ص٦٧ حديث ١٥

(٢) الخوارزمي ج١ص١٩٥ - الطبري ج٦ص١٩٧.

٩٤

اليمن، فإنَّ فيها شيعة لأبيك)(١) ، ويُمكن أنْ يكون هناك حصيناً ضِدَّ الأعداء آمناً مِن شرور الزمان، فمِن هذه الناحية لا يُحتمل في حقِّه أنَّه كان موافقاً حقيقة على الأمر، أو أنْ يكون مُصدِّقاً لهذا الخبر، بالرغم مِن أهمِّيَّته

ثانياً: إنَّه بشَّر بمقتله قبل خروجه أكثر مِن مرَّة، وقد سبق أنْ ذكرنا ما يدلُّ على ذلك مِمَّا روي عنه (سلام الله عليه).

إذاً؛ فقد كان يعلم بالنتيجة قبل حصولها، بمعنى أنَّه يعلم بعدم وصوله إلى الكوفة، ولا مُبايعتهم له ولا نصرتهم إيَّاه، بلْ يعلم مُحاربتهم له ومقتله على أيديهم، فإنَّهم قالوا له: (... قلوبنا معك وسيوفنا عليك)(٢) .

ثالثاً: إنَّه هدف لم يحصل، وقد سبق - أنْ تحدَّثنا في الشرائط - أنَّ كلَّ هدف لم يحصل فهو ليس هدفاً حقيقيَّاً.

رابعاً: إنَّهعليه‌السلام علم وهو في الطريق إلى العراق بغدر أهل الكوفة، وقتلهم لمسلم بن عقيل وارتدادهم عن بيعته، وهذا يستلزم بوضوح سقوط تكليفه الشرعي عن الاستمرار بالذهاب إليهم، والهِمَّة في الوصول لهم.

فإنْ قيل: إنَّ الأمر كذلك، غير أنَّ الحُرَّ الرياحي جَعْجَع به، ومنعه عن المسير إلى حيث يُريد، وعن الرجوع إلى المدينة المنوَّرة؛ وذلك سبَّب إلى وقوع الكارثة المروِّعة في كربلاء، ولولا ذلك لأمكنهعليه‌السلام الرجوع إلى المدينة أو الذهاب إلى أيِّ مكان آخر، بعد أنْ سقط تكليفه الشرعي بالذهاب إلى الكوفة، كما عرفنا.

إلاَّ أنَّ جواب ذلك: إنَّ في مثل هذا التفكير جَهلاً بالتاريخ الإسلامي كما وصل إلينا؛ فإنَّ الحسينعليه‌السلام علم بمقتل مسلم بن عقيل وغدر أهل

____________________

(١) الخوارزمي ج١ص١٨٨ - مناقب بن شهرآشوب ج٣ص٢٤٠ - إسرار الشهادة ص٢٢٤.

(٢) الإرشاد للمفيد ص٢١٨ - العِقد الفريد ج٤ص٣٨٤.

٩٥

الكوفة، حين كان ركبهُ في منطقة تُسمَّى(زَرود) (١) ولم يُفكِّر بالرجوع يومئذٍ، بلْ استمرَّ في المسير، وهذا معناه أنَّه استمرَّ بالمسير رغم سقوط تكليفه الشرعي المشار إليه في هذا الهدف؛ وذلك مِن أجل هدفٍ آخر أعمق وأهمّ منه، ولم يكن قد التقى بالحُرِّ الرياحي(٢) يومئذٍ، وإنَّما التقى به بعد ذلك في منطقة تُسمَّى(شَراف) (٣) ، وعندئذٍ عَرض عليه العودة إلى المدينة المنوّرة، آنذاك كان أهل الكوفة قد بدّلوا رأيهم به وأعرَضوا عنه، فَمنعهُ الحرّ الرياحي عن الرجوع، وذَكرَ لهُ أنّه مأمور بمصاحبتهِ حتّى يُدخله على عُبيد الله بن زياد في الكوفة(٤) .

إذاً، فهناك فترة زمنيّة كافية لم يُحدِّد التاريخ مقدارها، لعلّها أسبوع أو أكثر أو أقل، كان يمكن للإمام الحسينعليه‌السلام أن يعود بركبهِ إلى المدينة، وعندئذٍ لم يكن يلتقي بالحرّ ولا يُجعجع به؛ وإنّما كان سلام الله عليه طالباً للشهادة على كلّ حال.

____________________

(١) زرود في المعجم: ممّا استُعجِم ج٢، ص٦٩٦ بفتح أوّلهِ وبالدال المهملة في أخره، ومُعجم البلدان: ج٤، ص٣٢٧ وهي: رمالٌ بين الثعلبيّة والخزيميّة بطريق الحاجّ من الكوفة وهي دون الخزيميّة بمِيل، وفيها بُركة وحوض وفيها وقعة يُقال لها: (يوم زرود).

(٢) الحرّ بن يزيد بن ناجية بن تعلب بن عتاب بن هرمي بن رياح بن بربوع بن حنظلة التميمي....... من الشخصيّات الاجتماعيّة البارزة في الكوفة، وأحد قوّاد الجيش الأموي الخارج لحرب الحسينعليه‌السلام ، وكان يقومُ فيه ربع تميم وهندان كما يقول الطبري وغيره.

وقد ذَكرَ الخوارزمي في مقتله أنّه لحقَ بالحسينعليه‌السلام مع غلامه التُركي، ولعلّ اسمهُ (عروة) على ما نصّ عليه بعض المقاتل، كمقتل الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، ففيه إضافة إلى ذلك استشهاد وَلَد الحرّ (علي) وأخيه (مصعب) كل هؤلاء لثلاثة بني يدي الحر.

وفي اللهوف والخوارزمي: أنّ قصة توبة الحرّ كانت بعد الحَملة الأولى من أصحاب الحسينعليه‌السلام التي قُتل فيها زهاء خمسين رجلاً (واقعةُ الطف لآل بحر العلوم: ص٥٠٨).

(٣) شَراف: في معجم البلدان بفتح أوّله وآخره فاء ثانية محققة، سُمّي باسم رجلٍ يقال له شَرَاف، استخرجَ عيناً حَدثت آباراً كبار كثيرة ماؤها عذب من شَرَاف إلى واقعة ميلان.

(٤) مقتلُ الخوارزمي: ج١، ص٢٣٣، الفتوح لابن أعثم: ج ٥، ص١٣٨، أسرار الشهادة: ص٢٣٢.

٩٦

اللهمّ إلاّ أن يُقال: إنّهعليه‌السلام أدركَ بوضوح بعد أن أُخبرَ بغدر الكوفة ببيعته أنّهُ لا يستطيع أن ينجو وهو في هذه المنطقة بالذات من بلاد الله، وبهذا يختلف حاله عن حاله وهو في مكّة أو المدينة، فإنّه كان يستطيع أن يذهب من هناك إلى اليمن مثلاً، في حين لا يستطيع الآن أن يفعل شيئاً بحسب القانون الطبيعي؛ لأنّه أصبحَ بمنزلة المحاصَر بجيوش بني أُميّة، وإن لم يكن كذلك فعلاً، إلاّ أنّ الرجوع يحتاج إلى زمنٍ طويل نسبيّاً، الأمرُ الذي يستلزم أنّهم يُدركونه أينما وجدوه.

وهنا ينتج: أنّه سلام الله عليه كان يائساً من الحياة، وتحدّثنا فيما سبقَ أنّ اليائس من الحياة يختلف تكليفه الشرعي عن غيره، ويستطيع أن يختار الموتة التي يتمنّاها لنفسه إن كان في مقدوره ذلك، وكان في مقدوره سلام الله عليه ذلك، فاختار لنفسه.

الهدفُ السابع: المحتمل لحركة الحسينعليه‌السلام ، إعطاء الأمثولة للدين الحنيف القويم، وأنّه يستحقّ هذا المقدار العظيم من التضحية والفداء في سبيل الله وفي سبيل إقامة الأحكام الإسلاميّة والشعائر الدينيّة.

وينبغي هنا أن نُلاحظ أنّ الأمر إنّما هو مربوط بالله سبحانه قبل أن يكون مربوطاً بشيء آخر؛ لأنّ الدين على عَظمته إنّما اكتسبَ الأهميّة لأنّه أمر الله ونهيه، والرسول إنّما اكتسبَ الأهميّة لأنّه رسول الله، والمعصومون إنّما حَصَلوا عليها؛ لأنّهم أولياء الله، إذاً فالأمر مربوط بالله مباشرة وليس بغيره من قريبٍ ولا بعيد، وهو الذي يستحقّ الفداء في الحقيقة، وإن كان هو في غِنى عن العالَمين، ولذا وردَ في تفسير قوله تعالى:( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١) ، يعني الحسينعليه‌السلام ، وهو لم يفدِ إسماعيل الذبيح سلام الله عليه، كما هو ظاهر السياق، بل وقعَ السياق في سبيل الله وفي طريق توحيد الله وطاعته،

____________________

(١) سورة الصافات: آية ١٠٧.

٩٧

وهو نفس الطريق الذي ضحّى من أجله إسماعيلعليه‌السلام ، وبُعث فيه الأنبياء وأُرسلت الكتب السماويّة وحَصَل ما حصل.

وفي هذا السبيل، قال الحسينعليه‌السلام :(هوّنَ ما نزلَ بي أنّه بعين الله) (١) .

كما قيل إنّه حين سقط جريحاً لا يستطيع أن يواصل القتال، كان يُردِّد قول رابعة العدويّة:

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي أراكا

ولو قطّعتَني في الحُبّ إرباً

لما مَالَ الفؤاد إلى سواكا(٢)

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص٤٩، البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٤٦.

(٢) شاعَ على لسان الخطباء الحسينيّين هذه الأبيات، وأنّها لرابعة العدويّة وقد قالها الحسينعليه‌السلام عند مصرعه، ولا أعلم على أيّ مصدرٍ قد اعتمدَ هؤلاء الخُطباء، أو من أين أتى هذا الشياع؟ فقد تتبّعتُ أغلب المصادر المعتَمدة التي تَذكر مقتل الحسينعليه‌السلام ، فلم أجد أحداً يَذكر أنّ الحسينعليه‌السلام قال هذه الأبيات، أو حتّى أنّها نُسبت إليه، ونفس الشيء بالنسبة إلى رابعة العدويّة، فأغلب المصادر التاريخيّة التي ذَكرَتها لم تَذكر أو تَنسبها لها.

ولقد ذَكرَ الأبيات: أبي فرج عبد الرحمان بن رجب الحَنبلي في كتابه (كشفُ الكُربة في وصف حال أهل الغربة، ص٢٧) إلاّ أنّه نَسبها إلى إبراهيم بن أدهم، وهو أحد الزُهّاد المشهورين.

وأغلبُ الظنّ أنّ الخُطباء استعملوها مجازاً كلسانِ حالٍ عن الحسينعليه‌السلام ، وإلاّ بحسب القول الأوّل يَبعد أن تكون للإمام الحسينعليه‌السلام وذلك لسببين:

الأوّل: إنّ الحسينعليه‌السلام أسبق زمناً من رابعة، فواقعة الطف حَدَثت في ٦١هـ، ورابعة العدويّة وِلدَت في القرن الثاني الهجري، حيث ذَكرَ المؤرِّخون أنّ وفاتها كانت في سنة ١٨٠ هـ، وبهذا لا يمكن أن يكون الحُسين رآها أو سمعها فضلاً عن أن يتمثّل بأبياتها، وكذا هو الحال بالنسبة إلى إبراهيم بن أدهم الذي هو متأخِّر زمناً قد يصل لعدّة قرون عن الحسينعليه‌السلام .

الثاني: عدمُ وجود مصدر مُعتَمد يَذكر أنّ الحسينعليه‌السلام قال هذه الأبيات.

وفي نفس الوقت نستبعد أن تكون هذه الأبيات لرابعة العدويّة؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: عدمُ وجود مصدر يَنسب هذه الأبيات لرابعة، بل إنّ بعض المصادر نَسَبتها إلى غيرها، كإبراهيم بن أدهم كما في (كشف الكُربة).

الثاني: مضمونُ هذه الأبيات يجعلنا نستبعد أن تكون لرابعة، فالبيتُ يقول: (وأيتمتُ العيال لكي أراكا) بينما يَذكر لنا التاريخ أنّ رابعة لم تتزوّج قط، وأنّها تُوفيت بدون زوج ولا أطفال، فكيف أيتَمَت العيال؟

٩٨

____________________

فإن قيل: إنّه لربّما أُريدَ بالعيال المعنى الآخر، وهو الإعالة أي: كلّ ما تعيلهُ رابعة وتُنفق عليه؟

قلنا: إنّ رابعة لم تكن ميسورة الحال أو غنيّة لكي تُعيل غيرها، بل بالعكس فإنّ المؤرِّخين يذكرون أنّها كانت فقيرة، وكان الذين يعرفونها هم الذين يُعيلونها ويساعدونها على المعيشة، وبهذا يُنفى هذا المعنى أيضاً عن رابعة العدويّة.

فإن قيل: إنّ هذه الأبيات يمكن أن تكون لرابعة الشاميّة *، وقد توهِّم أنّها لرابعة العدويّة، والأُولى كانت متزوّجة وميسورة الحال، فيمكن أن ينطبق معنى البيت الشِعري عليها.

قلنا: إنّ هذا لا يتمّ؛ لأنّ البيت الذي يقول:

تركـتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمــتُ العيال لكي أراكا

يوحي لمعنيين: الأوّل: هو تركُ الدنيا والخَلق عن طريق الموت، فهي ذاهبة إلى جوار الله في العالَم الأُخروي، والموت بصورة شرعيّة أكيداً كالجهاد في سبيل الله، ولم يُنقل ذلك عن رابعة الشاميّة، ولا حتّى عن رابعة العدويّة.

والثاني: تركُ الخَلق عن طريق الغيبة عنهم والانعزال لمناجاة الله وعبادته بدون أن ترى أحداً أو أنّ أحداً يراها، وهذا أيضاً لم يُنقل عن رابعة الشاميّة، بل بالعكس فلقد عاشت حياتها مع زوجها مطيعة لهُ حريصة على خدمته، حتّى أنّها زوّجتهُ ثلاث نساء غيرها، خوفاً أن تكون قد ألهَتها العبادة عن بعض واجبات زوجها فيجد ذلك عند الباقيات.

ويمكن أن يسأل أحدهم: إذا كان كذلك فمن أين شاعَ إسناد هذه الأبيات لرابعة؟

قلتُ: إنّ أغلب الظنّ أنّ الذين ذكروا هذه الأبيات - من خطباء وغيرهم - لم يركِّزوا على ذِكر الناظم لها، فعندَ التناقل جُهلَ اسمهُ وخصوصاً مع قلّة المصادر (والتي تكاد أن تكون نادرة)، والتي تَنسب هذه الأبيات لناظمها.

وقد نُسبت عُرفاً لرابعة؛ لوجود أبيات شعريّة شبيهة بالأبيات المذكورة معناً ووزناً وقافيةً، قد قالتها رابعة العدويّة وقد نَقَلتها أغلب المصادر التي ذَكرت رابعة وهو قولها:

أحُـبّك حُـبّين حُبّ الهوى

وحُـبّ  لأنّـك أهـلٌ لِذاكا

فـأمّا  الذي هو حُبّ الهوى

فـانشغالي بـكَ عمّن سِواكا

وأمّـا الـذي أنـتَ أهلٌ له

فكشفكَ لي الحُجبَ لكي أراكا

فـلا الحمد في ذي وذاك لي

وإنّما لك الحمد في ذي وذاكا

٩٩

____________________

ويمكن أن نقول أيضاً: إنّها قيلت على لسان الحسينعليه‌السلام كلسان حالٍ لا أكثر، كما هو المشهور في كثيرٍ من الأبيات كقولهم:(إن كان دينُ محمّد لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خُذيني) . وكقولهم:(شيعتي ما إن شَربتم عذبّ ماء فاذكروني). وغيرها كثير. وقد راجعتُ سماحة المؤلِّف في هذه الأبيات فقال لي: إنّه قد سَمعها شخصيّاً من أحد الخطباء الكبار ولم يقرأها في كتاب، ولذلك لم يَسندها وإنّما عبّر عنها بـ(قيل)، ولمن أراد التوسّع في رابعة فليراجع: كتاب شهيدة العشق الإلهي لعبد الرحمان بدوي، وكتاب رابعة العدويّة لطه عبد الباقي سرور، فإنّهما قد ذَكرا جميع المصادر التي ذَكرت رابعة، والتي لا مجال لذكرها هنا.

* وهي رابعة بنت إسماعيل الشاميّة، توفيت سنة ٢٣٥ هـ ودُفنت برأس زينا ببيت المقدس، وزوجها أحمد بن أبي الحواري، وأبوهُ أبو الحواري ميمون من أهل دمشق، وقد كان من العارفين الورعين وقد كان أحمد له نصيب منه، توفي سنة ٢٣٠ هـ، وكان قد تزوّج ثلاث غيرها.

وهذه رابعة كانت أيضاً من العابدات الورعات، فيُنقل عن زوجها عندما سُئل عنها؟ قال: إذا أتيتها في النهار قالت: بالله عليك، لا تُفسد عليّ صومي، وإذا أتيتُها في الليل قالت: لا تُفسد عليّ عبادتي (كتاب سَيرُ السالكات المؤمنات الخيّرات لأبي بكر الحصني)، وكثيرٌ ما كان يشتبه المؤرِّخون بينها وبين رابعة العدويّة التي كانت أسبق زماناً منها.

١٠٠

وفي هذا السبيل، أيضاً رويَ عن زينب العقيلة بنت عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّها بعد المقتل وضَعت يديها تحت الجثمان وقالت:(اللهمّ تَقبّل مِنّا هذا القربان) (١) ، وفي بعض الروايات:(هذا القربان القليل) (٢) ، يعني: القليل مهما كان شريفاً وعظيماً أمام عَظمة الله اللامتناهية وأمام استحقاقه اللامتناهي للتضحية والفداء، يبقى قليلاً.

إذاً فالمسألةُ الأهمّ من كلّ شيء هي: أهميّة التوجّه إلى الله والتضحية في سبيله، وتطبيق طاعته والحصول على رضوانه بكلّ صورة مهما كانت الوسائط ومهما كانت النتائج، وهذا هدفٌ صحيح قد تحقّق فعلاً، وقد عَرَفت الأجيال ذلك بكلّ وضوح.

وقد يخطر في البال عن قول زينب سلام الله عليها:(اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان) ، أنّ قولها (منّا) ليس بصحيح؛ لأنّه وإن كان قرباناً عظيماً إلاّ أنّه إنّما قدّمهُ الحسين نفسه، وليس لأحدٍ آخر أن يُقدّمه، بل لا معنى لذلك؛

____________________

(١) الكبريت الأحمر: ج٣، ص١٣ عن الطراز المذهّب.

(٢) نفس المصدر.

١٠١

لأنّ التضحية الحقيقيّة والألم الحقيقي لم يتحمّله غيره ولم يشعر به غيره، فما تفسير كلامها سلام الله عليها؟

جوابُ ذلك: إنّ التضحية العظيمة من هذا القبيل، أو أيّة تضحية أخرى مهمّة، لا تكون ذات مستوى واحد، بل على مستويات متعدّدة؛ لأنّ انطباعها في نفس صاحبها وفي نفوس الآخرين يكون متعدّداً لا محالة، وفي حدود ما نستطيع أن نستفيد منه هنا من المستويات نذكر ثلاثة منها:

المستوى الأوّل: التضحية بمعنى تحمّل الألم والجروح والقتل والصبر عليه طواعية، وهذا المستوى خاصّ بصاحب التضحية، ولا يمكن أن يكون شاملاً لغيره كما قال السائل.

المستوى الثاني: التضحية بمعنى الإعانة لصاحب التضحية بكلّ ما يمكن من جهدٍ وجهاد، وتحمّل كلّ بلاء في سبيله، مضافاً إلى تحمّل فراقه كشخص محبوب أُسريّاً ودينيّاً واجتماعيّاً، وتحمّل الحرمان عن فوائده وتوجيهاته ولطفه.

وهذا المستوى خاصّ بمَن كان مع الحسينعليه‌السلام ، من الركب المعاوِن له في الحياة والموافِق له في الأهداف، فإنّهم رجالاً ونساءً وشيباً وشُبّاناً، أتعَبوا أنفسهم في سبيله تماماً، وتحمّلوا شظفَ(١) العيش وبلاء الدنيا لأجل رضاه الذي يكون سبباً لرضاء الله عزّ وجل، كما قال:(رضا الله رضانا أهل البيت) (٢) ، ومن هذه الناحية وعلى هذا المستوى كانت التضحية تشملهم، فكأنّهم هم اللذين رفعوا الحسينعليه‌السلام قرباناً لله عزّ وجل.

ولا شكّ أنّ العقيلة زينب سلام الله عليها بنت عليعليه‌السلام ، من ذلك الرَكب المضّحي في سبيل الحسينعليه‌السلام ، ولعلّها أهمّ النساء الموجودات فيه على الإطلاق.

____________________

(١) شَظفَ: شظفَ الرجل شَظفاً، كان عيشهُ ضيّقاً وشديداً ويابساً فيقال: شظفَ العيش (أقربُ الموارد: ج١، ص٥٢٩).

(٢) الخوارزمي: ج٢، ص٥، اللهوف: ص٢٦، كشفُ الغُمّة للإربلي: ج٢، ص٢٤١.

١٠٢

ومن هنا صحّ لها أن تدعو وتقول:(اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان) .

المستوى الثالث: الموافقة مع الحسينعليه‌السلام نفسيّاً وقلبيّاً وعاطفيّاً، وبالتالي الموافقة الحقيقيّة على عَمل الحسينعليه‌السلام وتضحيته، وعلى هدف الحسينعليه‌السلام ورسالته، حتّى أنّ الفرد المحبّ له يحسّ كأنّه أعطى قطعة من قلبه أو كبده، وأنّها قُتلت فعلاً بمقتل الحسينعليه‌السلام ، وأنّهُ - أعني المحبّ - وإن كان حيّاً يُرزق في هذه الدنيا وفي كلّ جيل، إلاّ أنّ التضحية تضحيّته والعمل عمله.

ويكفينا من ذلك ما وردَ:(إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى) (١) ،(إنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عَمله) (٢) ، وما ورد:(إنّ الراضي بفعل قوم كفاعله) (٣) ، وما وردَ:(إنّ الفرد يُحشر مع مَن يُحبّ) (٤) ، إلى غير ذلك من المضامين التي تجعل التضحية التي قام بها الحسينعليه‌السلام ، منتشرة فعلاً لدى كلّ محبّيه والمتعاطفين معه على مدى الأجيال، وإنّ كلّ واحدٍ منهم يستطيع أن يقول:

اللهمّ تَقبّل منّا هذا القربان، وليس العقيلة زينب فقط.

وقد يخطر في البال في حدود هذه التضحيات المشار إليها: أنّ الأجيال كلّها يجب أن تكون مثل الحسينعليه‌السلام في تضحيّته الجسيمة وفعلته الكريمة.

____________________

(١) إسعاف الراغبين للشيخ محمد صبّان على هامش نور الأبصار للشبلنجي: ص٧٦، مُنية المريد للشهيد الثاني: ص٤٢، جامع السعادات: ج٣، ص١١٢.

(٢) مصباحُ الشريعة: ص٥، مُنية المريد للشهيد الثاني: ص٤٣، جامع السعادات: ج٣، ص١١٨.

(٣) عيون أخبار الرضا للصدوق: ج١، ص٢٧٣، نهج البلاغة: خطبة ١٠٤، وفيها يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :(الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخلٍ في باطل إثمان: إثمُ العمل به، وإثم الرضا به) .

(٤) الكافي: ج٨، ص٨٠، حديث ٣٥ بتصرّف، أمالي الطوسي: المجلّد الثاني، ص٢٤٥ مجلس يوم الجمعة ٢ رجب.

١٠٣

فتضحّي بالنفس والنفيس في سبيل الأهداف التي قُتل لأجلها الحسينعليه‌السلام .

وجوابُ ذلك: إنّ الأمر ليس كذلك باستمرار، وإنّما قد يحصل ذلك أحياناً قليلة، ولا يحصل ذلك أحياناً كثيرة، وكلّ فردٍ يجب أن يَحسب حساب تكليفه الشرعي أمام الله عزّ وجل، ونشير فيما يلي أنّ التكليف الشرعي كثيراً ما لا يقتضي ذلك، على عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ التضحية التي أرادها الحسينعليه‌السلام واستهدفَ حصولها - وقد حَصلت فعلاً - هي من الأهميّة والعظمة بحيث لا تكون مقدورة لأحد إطلاقاً، وإنْ زَعم الزاعم لنفسه أنّه يتحمّلها، إلاّ أنّه يَخدع نفسه لا محالة، يكفي في ذلك أنّه (سلام الله عليه) معصوم، وأعمال المعصومين بلا شكّ فوق طاقة الأفراد الاعتياديين مهما تصاعدوا في درجات الإيمان والإخلاص.

ومن هذا القبيل: ما قالهُ أمير المؤمنينعليه‌السلام عن زهده:(ألا وإنّكم لا تقدرونَ على ذلك ولكن أعينوني - يعني على أنفسكم الأمّارة بالسوء -بورعٍ واجتهاد. ..... إلى آخر ما قالهُ)(١) .

المستوى الثاني: إنّه لو كانت تضحيات الحسينعليه‌السلام واجبة على الأجيال بعده، لكانَ أولى مَن يقوم بها أولاده المعصومونعليهم‌السلام ، مع العلم أنّه لم يفعل ذلك ولا واحد منهم.

إذاً، فلماذا يجب أن يكون تكليفنا في الأجيال المتأخّرة مثل تكليفه ولا يكون مثل تكليف وعمل أولاده، مع أنّهم جميعاً معصومون، يكفي أنّنا يمكن أن نأخذ بعمل العدد الأكثر من المعصومين وهو الهدوء وليس الثورة، فإنّ أولادهُ المعصومين تسعة وهو واحد.

المستوى الثالث: إنّ الأصوب والأحجى لكلّ جيل: هو أن يَنظر إلى تكليفه الشرعي أمام الله سبحانه،

____________________

(١) نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد، كتاب ٤٥، ج ١٦، ص٢٠٥.

١٠٤

هل هو التضحية أو التقيّة؟ ولا شكّ أنّ التكليف الغالب في عصورنا هذه، عصور الغيبة الكبرى هو: التقيّة وليس التضحية؛ لمدى تألّب الأعداء وترصّدهم في العالَم ضدّنا من كلّ صوبٍ وحَدب، بدون وجود طاقة فعليّة عند ذوي الإخلاص لمقابلتهم ومضادّتهم، ومَن تخيّل هذه القابليّة، فهو متوهِّم سوف يُثبت لهُ الدهر أعني بالتجربة وهمّته، والأفضل لهُ هو العمل بالتكليف الفعلي، وهو التقيّة المنتجة لحفظ أهل الحقّ من الهلاك المحقّق في أيّ نقطة من نقاط هذا العالَم المعروف.

الهدف الثامن: المحتَمل لحركة الحسينعليه‌السلام ، ما يذكرهُ بعض الناس، أو طبقة من الناس: من أنّ الحسينعليه‌السلام قُتل من أجل إقامة المأتم عليه والبكاء عليه، فإنّها من الشعائر الدينيّة المهمّة، التي توجِب هداية الكثير من الباطل إلى الحقّ.

ويمكن أن يُستدلّ على ذلك بما وردَ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّ لولَدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تخمُد إلى يوم القيامة) (١) ، وهذه الحرارة أمرٌ وجداني قائم فعلاً يحسّ بها الفرد المحبّ للحسين في قلبه، وهي التي تدفعهُ إلى التعب في هذا الطريق.

ونتكلّم عن هذا الهدف ضمن المستويات التالية:

المستوى الأوّل: إنّه ينبغي أن يكون واضحاً أنّ هذا الهدف بمجرّده لا يصلح أن يكون هدفاً لكلّ تلك التضحيات التي قام بها الحسينعليه‌السلام ، إلاّ إذا اندرجت تحت عنوان أهمّ وأعمّ، وهو طاعة الله سبحانه، أو هداية الناس، أو الأجيال لهذه الطاعة، أو التضحية في سبيل عقيدة التوحيد، كما أسلفنا ونحو ذلك، ممّا تكون الشعائر والمآتم مصداقاً لها وتطبيقاً لها، وليس النظر إليها نظراً مستقلاً عن غيرها.

____________________

(١) مستدرك الوسائل: ج٢، ص٢١٧، الكافي للكليني: ج٨، ص٢٠٦.

١٠٥

وهذا ما سيتّضح أكثر من المستويات التالية بعونه سبحانه.

المستوى الثاني: إنّني أعتقدُ أنّ الله سبحانه جَعل بإزاء تضحية الحسينعليه‌السلام نوعين مهمّين من الثواب لا نوعاً واحداً،أحدهما: الثواب الأخروي ، وهو المشار إليه بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرواية:(إنّ لك في الجنّة لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة) (١) .

وثانيهما: الثواب الدنيوي : وهي عدّة أمور يسّرها الله سبحانه وتعالى خلال الأعوام والأجيال المتأخّرة عن مقتله (سلام الله عليه)، وأعتقدُ أنّه جلّ جلاله إنّما يسّرها لمصلحة الأجيال، وإلاّ فإنّ الحسينعليه‌السلام أجَلّ مِن أن تنالهُ الفائدة منها بقليلٍ ولا بكثير، وإن كنّا نقول: إنّها تصلح أن تكون جزاءً له على التضحية لمدى أهميّتها البالغة كما سنعرف، إلاّ أنّها دنيويّة أي حاصلة في الدنيا، والحسينعليه‌السلام لم يقصد في تضحيته أيّ شيء من أمور الدنيا ممّا قلّ أو كثُر يقيناً، وإنّما حَصلت لأجل مصلحة هداية الآخرين لا أكثر، ونستطيع أن نعدّ منها الأمور التالية:

الأمرُ الأوّل: إنّ الإمامة في ذريّته لا في ذريّة الحسن أخيهعليه‌السلام .

الأمرُ الثاني: حُسن الظنّ به خلال الأجيال ابتداء من قاتليه أنفسهم إلى الأجيال المتأخّرة عنه إلى يوم القيامة، حتّى في ضمائر الأعداء وغير المسلمين، ولذا نسمع قاتلهُ يقول للحاكم الأموي بعد انتهاء الواقعة على ما ورد:

املأ ركابي فضّةً أو ذَهباً

إنّي قتلتُ السيّد المحجّبا

قتلتُ خيرَ الناس أُمّاً وأباً(٢)

____________________

(١) أمالي الصدوق: مجلس ٣٠، ص١٣٥، الخوارزمي: ج١، ص١٨٥، البحار: ج٤٤، ص٣٢٨.

(٢) العقد الفريد: ج٤، ص٣٨١، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٦١، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٩٦، كشف الغمّة للإربلي: ج٢، ص٢٦٣، مقتل الخوارزمي: ج٢، ص٤٠، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٥٦.

١٠٦

____________________

وقد اختلف المؤرِّخون في قائل الأبيات وبالتالي في قاتل الحسينعليه‌السلام ، ومَن الذين ذَكرهم المؤرّخون في قتل الحسينعليه‌السلام (كما أحصاهم باقر شريف القرشي في حياة الإمام الحسين ج٣) هم:

أوّلاً: سنان بن أنس، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٩٥، مقاتل الطالبيين، اللهوف لابن طاووس، البداية والنهاية: ج٨، ص٨٨ وفيه يقول الشاعر:

وأيّ رزيّةٍ عَدلت حسيناً

غداة يُثيره كفّ سِناني

الاستيعاب: ج١، ص٣٧٩.

ثانياً: شِمر بن ذي الجوشن، الخوارزمي: ج٢، ص٣٦، البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٥٦.

ثالثاً: عُمر بن سعد، خُطط المقريزي: ج٢، ص٢٦٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٥، ص١١٩.

رابعاً: خولي بن يزيد الأصبحي، دُرر الإبكار في وصف الصفوة الأخيار: ص٣٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٥٩، الفتوح لابن أعثم: ج٥ص٢١٨.

خامساً: شبل بن يزيد الأصبحي، تاريخ الخميس: ج٢، ص٣٣٣، الأخبار الطوال للدينوري: ص٢٣١، حيث قيل إنّ خولي بن يزيد الأصبحي نزلَ عن فرسه ليحتزّ رأس الإمامعليه‌السلام ، فارتَعدت يداه فنزل إليه أخوه شبل، فاحتزّ رأسه ودفعهُ لأخيه.

سادساً: الحُصين بن نمير، المعجم الكبير للطبراني، الإفادة في تاريخ الأئمّة السادة.

سابعاً: رجل من مُذحج، تهذيب التهديب: لابن حجر ج٢، ص٣٥٣ (وقد انفرد بنقله).

ثامناً: المهاجر بن أوس، نصّ على ذلك السبط بن الجوزي ولم يذكرهُ غيره (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان).

أقول: والراجح في هذه الأقوال كلّها أنّ قاتل الحسين عليه‌السلام هو: الشِمر بن ذي الجوشن (لعنهُ الله)؛ وذلك لعدّة مرجّحات منها: إنّ الزيارة القائميّة صريحة به، وهي زيارة الناحية والواردة عن الإمام الحجّة (عجّل الله فرجهُ) والتي يقول فيها: (فلمّا رأت النساء جَوادكَ مخزيّاً نظرنَ سَرجك عليه ملويّا.... وإلى مصرعكَ مبادرات، والشمرُ جالسٌ على صدرك واضعاً سيفه على نحرك، قابض على شيبتك بيده، ذابح لك بمهنّده..... إلخ) (مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي: ص٤٥٦).

١٠٧

____________________

وهكذا جملة من الروايات المعتبرة، ومع ذلك لا شكّ في أنّ خولي بن يزيد الأصبحي وسنان بن أنس (لعنهما الله)، ممّن لهُ مدخليّة في قتل الحسينعليه‌السلام ، لذلك قال بعض العلماء: إنّ القاتل كان ثلاثتهم حيث ذَكر البعض أنّ هؤلاء الثلاثة عندما قَدِموا إلى عمر بن سعد ومعهم رأس الحسينعليه‌السلام قال خولي: أنا ضربتهُ بسهم فأرديته عن جواده إلى الأرض، وسنان يقول: أنا ضربتهُ بالسيف ففلقتُ هامتهُ، والشمر يقول: أنا أبنتُ رأسه عن بدنه (أسرار الشهادة للدربندي: ص٤٢٧).

١٠٨

الأمرُ الثالث: تأثير تضحيتهُ الجسيمة في هداية الناس وتكاملهم إيماناً، كلّ حسب استحقاقه، في أيّ مكانٍ وزمان وجِد الفرد إلى يوم القيامة، ومهما كانت نقطة بدايته، حتّى لو كان كافراً، بل حتّى لو كان معانداً أحياناً.

الأمرُ الرابع: هذه الحرارة التي في قلوب المؤمنين من محبّيه، والتي أشرنا إليها فيما سبق، والتي أوجَبت تزايد ذكراه وتزايد اللوعة على ما أدّاه من تضحيات وما عاناه من بلاء.

الأمرُ الخامس: إنّ ذِكر أيّ معصوم غير الحَسنعليه‌السلام بما فيهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليعليه‌السلام ، في أيّ مجلسٍ من مجالس محبّيه، وفي أيّ مناسبة للحديث سواء كانت مأتماً، أو خطبة، أو موعظة أو غيرها؛ فإنّها لا تكاد تكون تامّة ولا مُرضية للقلوب ما لم تقترن بذكر الحسينعليه‌السلام ، والتألّم لمصابه.

الأمرُ السادس: البكاء عليه لدى محبّيه جيلاً بعد جيل وإقامته المآتم والشعائر عليه (سلام الله عليه)، وهذا هو الذي ذَكرهُ بعض الناس كهدفٍ مستقل كما ذكرنا، وهو إنّما يصحّ كنتيجة طبيعيّة وفّقَ الله سبحانه وتعالى محبّيه إليها لأجل مصلحتهم وهدايتهم، وسنتكلّم عنها في المستوى الآتي من الحديث بعونه سبحانه لنفهمها بشكلٍ واضح.

المستوى الثالث: الحديث عن البكاء عليه وإقامة المآتم لذكرى مُصابه، وهنا ينبغي لنا أن نقول: إنّ في قضيّة الحسينعليه‌السلام جانبَين مهمّين لا يكاد أحدهما أن يكون أقلّ أهميّة من الآخر:

الجانبُ الأوّل: جانب النعمة والرحمة، بهذا التوفيق الإلهي العظيم للحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته، بهذه المقامات وهذا الثواب الجزيل والعطاء الهني، وهذا الجانب يقتضي الفرح والاستبشار لا الحُزن والتألّم، بل كلّما كان البلاء الدُنيوي أكثر، كان الثواب الأخروي والتقرّب الإلهي أكثر، فيكون الاستبشار أكثر.

١٠٩

وهذا ما وردَ عن أصحابه المقاتلينَ معهُ أنّه قال أحدهم:(عمّا قليل سنُعانق الحوَر العين) (١) .

وقال آخر:(ليس بيننا وبين الجنّة إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم) (٢) ، وهم يَعلمون أنّهم سيُعانون الجَرح والقتل والبلاء الصارم، ومن ذلك قول الشاعر يصف العبّاسعليه‌السلام أخو الحسين، وقد حاربَ معه وأبلى بلاءً حسناً وعظيماً قال الشاعر:

عَبَست وجوهُ القوم خوفَ الموت

والعبّاسُ فيهم ضاحكٌ يتبسّم(٣)

ومنه قول عليّ بن الحسين الأكبر فيما وردَ عنه:(لا نُبالي أوَقَعنا على الموت أم وقَعَ الموت علينا) (٤) ، يعني: ما دُمنا على الحقّ كما ورد في أوّل الرواية، وعدم المبالاة يعني عدم الحُزن والتألّم لهذا البلاء النازل، وإنّما هو الصبر بإيمانٍ والجلد بيقين، بل الاستبشار برحمة الله ورضوانه.

وإذا كان غير المعصومين يحسّ بذلك، فكيف بالمعصومين ومنهم الحسين نفسه، وإذا كان أصحابه وذووه ممّن هو تحت ذلك البلاء العظيم نفسه، لا يشعرون بالحُزن والألم النفسي بل بالاستبشار، فكيف ينبغي أن يكون حال مَن سواهم من الناس من مُحبّين وأولياء.

الجانبُ الثاني: جانبُ الحُزن والألم لِمَا أصاب الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه ونسائه من: بلاءٍ، وقتلٍ، وتشريد، وسبي، وإذلال، وهي حادثة بمجموعها تُعتبر أعظم ما وقعَ من البلاء الدُنيوي على أيّ مجموعة أخرى من

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٤١، أسرار الشهادة للدربندي: ص٢٤٩.

(٢) نفس المصدر بتصرّف.

(٣) للسيّد جعفر الحلّي، المتوفّى فجأةً في شعبان لسبع بقينَ منه سنة ١٣١٥هـ (أدبُ الطف: ج٨ (ص٩٩ - ١١٥).

(٤) الطبري: ج٦، ص٢٣١، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٨٢، اللهوف: ص٣٠.

١١٠

البشر خلال التاريخ البشري الطويل، ومن هنا كان ردّ فعلها المأساوي أعظم وأجلّ من كلّ حادثةٍ أخرى في العالَم مُماثلة أو غير مُماثلة، ومن هنا قال الشاعر عنها:

وفجائعُ الأيّام تبقى مُدةً

وتزول وهي إلى القيامة باقية(١)

وكلا هذين الجانبين المشار إليهما ناجزان فعلاً في حادثة الحسينعليه‌السلام ، ويحتوي كلّ منهما على نقطة قوّة ونقطة ضُعف، ينبغي أن نلاحظهما لكي نعرف القيمة الحقيقيّة لكلّ منهما أوّلاً، ولماذا اختيرَ الجانب الثاني المأساوي في هذا الصدد؟

ولكلٍّ نقطةٍ قوّة في أحدهما يُقابله نقطة ضعف في الجانب الآخر.

فنقطةُ القوّة في الجانب الأوّل: هي كونه جانباً أُخرويّاً محضاً، تُقابلهُ النقطة في الجانب الآخر، وهو كونه جانباً دنيويّاً؛ لوضوح أنّ البلاء الذي عاناه الحسينعليه‌السلام ومَن معه، بلاءٌ دنيوي خالص لا يشوبه بلاء أخروي إطلاقاً، بل لهُ في الآخرة أعلى المقامات وأرفع الدرجات.

ونقطةُ القوّة في الجانب الثاني: كونهُ سبباً لتربية المجتمع تربية صالحة ومؤكّدة أكثر من الجانب الأوّل بكثير، ذلك المجتمع المتربّي في حالته الاعتياديّة على العواطف الشخصيّة والأُسريّة والدنيويّة عموماً، إذاً فمن المصلحة توجيه هذه العواطف إلى وجهة صالحة ومربّية، فكما يبكي المؤمن على وَلده أو والديه، فليبكِ على الحسينعليه‌السلام وأصحابه؛ لينال في الآخرة ثواباً ويُقيم للدين شعاراً.

____________________

(١) للشيخ عبد الحسين الأعسم بن الشيخ محمّد علي بن الحسين، بن محمّد الأعسم الزبيدي النجفي، ولِدَ في حدود سنة ١١٧٧هـ، وتوفي ١٢٤٧ هـ بالطاعون العام في النجف الأشرف عن عُمرٍ يُناهز السبعين، ودُفن مع أبيه في مقبرة آل الأعسم، وهذا البيت من قصيدة طويلة مطلعها:

قد أوهَنَت جلدي الديار الخالية

مــن أهلـها ما للديار وماليه

 (أدبُ الطف: ج٦، ص٢٨٧ - ٢٩٤).

١١١

ومن هنا يكون توجيه البكاء والحزن للمؤمنين نحو الدين ونتائجه الطيّبة، أكثر بكثير ممّا يوجبهُ الفرح والاستبشار المشار إليه في الجانب الأوّل.

مضافاً إلى أنّ الفهم العام لأيّ شيء بما فيها واقعة الحسينعليه‌السلام ، إنّما هو ظاهرها الدُنيوي وليس واقعها الأخروي، فكان من الأفضل توجيه الناس إلى ما يفهمون والاستفادة لهم بمقدار ما يدركون.

ومن هنا وردَ عن الشريعة المقدّسة وقادتها الأوائل بشكلٍ متواتر لا يقبل الشك، الحثّ على البكاء على الحسين وحادثته المروِّعة(١) ، وكان الطعنُ في ذلك ومناقشته بقصدٍ مُخلص أو مُغرض ناشئ من خطأ فاحش لا يُغتفر.

فمن أمثلة ما ورد: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على الحسينعليه‌السلام عند ولادته(٢) ، وأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ذَكر واقعة الطف، وأنّه نظرَ إلى كفّي ولدهُ العبّاسعليه‌السلام ، وتنبّأ بأنّهما يُقطعان في تلك الواقعة(٣) ، وأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام حين كان على فراش الموت مسموماً سمعَ أخاه الحسين يبكي عليه، فقال له:(أتبكي عليّ أم أنا أبكي عليك، لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، فإنّ لك يوماً أعظم من هذا اليوم) (٤) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: ص١٢٥، مجلس ٢٩، الدمعة الساكبة: م١، ص٣٠٠، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٢٨١.

ومن هذه الأخبار: ما وردَ في البحار ج٤٤، أوّل باب ثواب البكاء ص٢٧٨، بسنده عن عليّ بن الحسين بن فضّال عن أبيه قال: قال الرضا عليه‌السلام : (مَن تذكّر مصابنا وبكى لما ارتُكبَ منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذَكر فبكى وأبكى، لم تبكِ عينهُ يوم تبكي العيون، ومَن جلسَ مجلساً يُحيى فيه أمرنا، لم يمُت قلبه يوم تموت القلوب) .

وفي أمالي الصدوق بسنده عن أبي محمود قال، قال الرضا عليه‌السلام : (المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يُحرِّمون فيه القتال فاستُحلّت فيه دماؤنا وهُتكت في حُرمتنا وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا..... إلى أن قال .... فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام) .

(٢) الخصائص الكبرى للسيويطي: ج٢، ص١٢٥، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٢٥١.

(٣) أسرارُ الشهادة للدربندي: ص٢٦٣.

(٤) مُثير الأحزان لابن نما: ص٣١، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٣٨، البحار: ج٥، ص١٥٤.

١١٢

وأمّا الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، فقد أصبحَ أحد الخمسة البكّائين من البشر، وهم:آدم، ويعقوب، ويوسف، والزهراء، وهو، سلام الله عليهم أجمعين؛ وذلك لكثرة بكائه على أبيه سلام الله عليه، في زمنٍ صعب كان يعيشه من حال المطاردة والتقية، فكان لا يمكنه الدعوة إلى حقّ أبيه وإعلان الاهتمام به إلاّ بالبكاء، ومن هنا كان من البكّائين، حتّى كان يخلط طعامه وشرابه بالدموع(١) .

وأمّا قصيدة دعبل (رحمة الله عليه) التي قرأها على الإمام الرضاعليه‌السلام ، فبكى لها، وجَمَع العَلَويات خلف الستر؛ لكي يسمعنَ ويبكينَ(٢) فهي رواية أشهر من أن تُذكر، وفيها يقول دعبل:

أفاطمُ لو خِلتِ الحُسين مُجدّلاً (٣)

وقد ماتَ عطشاناً بشطِّ فُرات

إذن لَلَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ

وأجريتِ دَمع العين في الوَجَناتِ(٤)

____________________

(١) مناقبُ ابن شهرآشوب: ج٣، ص٣٠٣ ط النجف، أمالي الصدوق: مجلس ٢٩، ص١٢٤.

ويتجلّى هذا الأمر فيما نَقلهُ ابن شهرآشوب عن الإمام الصادق حيث قال: (بكى عليّ بن الحسين عشرين سنة، وما وضِع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال مولىً لهُ: جُعلتُ فداكَ يا بنَ رسول الله، إنّي أخافُ أن تكون من الهالكين، فقال الإمام: إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى  الله، وأعلم من الله  ما لا تعلمون، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ وخَنَقتني العبرة) .

وفي رواية ٍأخرى قال مولىً له: أمَا آنَ لحزنكَ أن ينقضي؟ فقال له: (ويحكَ، إنّ يعقوب النبيّ كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله واحداً منهم فابيضّت عيناهُ من كثرة بكائه عليه، واحدودبَ ظهرهُ من الغمِّ وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرتُ إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حُزني) ابن شهرآشوب: ج٣٢، ص٣٠٣.

(٢) مقتل الخوارزي: ج٢، ص١٣٠، الدمعة الساكبة: ص٧٧ (نقلاً عن الإربلي في كشف الغمّة).

(٣) مُجّدلاً: بمعنى مرمي مُلقى على الأرض قتيلاً (مجمعُ البحرين: ج٥، ص٣٣٦).

(٤) للشاعر دعبل الخزاعي (١٤٨ هـ - ٢٤٦ هـ) وهذان البيتان من قصيدته التائيّة المشهورة التي مطلعها: =

١١٣

وحَسبُ فهمي أنّه لمدى تأثير البكاء في النفوس أوّلاً، وفي الإعلام ثانياً، وفي التربية ثالثاً، حَصَلت هناك من المعصومين (سلام الله عليهم) عدّة أمور ممّا اقتضى التركيز عليها:

منها: أنّه بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موت أولاده، كما وردَ عنه أنّه قال:(يَحزن القلب، وتدمعُ العين، ولا نقول ما يُسخِط الربّ) (١) .

ومنها: أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام كما وردَ، أوصى بمالٍ يُصرف من ثُلثه في نوادب يندُبنَهُ في عرفة عند الحج، عشر سنوات(٢) .

ومنها: أنّ نساء الحسينعليه‌السلام من قريبات وبعيدات، بقينَ على حالة الحزن والبكاء المتواصل وترك الراحة والهدوء عدّة سنوات، حتّى حَصَلت حركة

____________________

=

تجاوبنَ بالأرنان والزَفرات

نوائح عُجم اللفظ والنُطقات

وقد أنشدَها على الإمام الرضاعليه‌السلام ، فلمّا وصلَ إلى قوله:

وقبرٌ ببغداد لنفس زكيّةٍ

تَضمّنها الرحمان في الغُرفاتِ

قال الرضاعليه‌السلام :(أفلا أُلحِق لك بيتين بهذا الموضع بها تمام قصيدتك، فقال: بلى، يا بن رسول الله، فقال الإمام الرضاعليه‌السلام :

وقبرٌ بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ

ألَحّت على الأحشاءِ بالزَفرات

إلى الحشر حتّى يبعث الله قائماً

يُفــرِّجُ عنّا الغمِّ والكُربات

فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبرُ مَن؟ قال الرضاعليه‌السلام : هو قبري) أدبُ الطف: ج١، ص٢٩٥ - ٣٠٩.

(١) الخصائص الحسينيّة للتستري: ص٤٠، ط النجف، تُحف العقول للحسن بن علي البحراني: ص٣٢. =

١١٤

____________________

= (٢) وسائل الشيعة للعاملي: ج٣، ص٢٣٩، ونَقلهُ المرحوم المقرّم في مقتله عن التهذيب للطوسي: ج٢، ص١٠٨، وكتاب المكاسب، والمنتهى للعلاّمة الحلّي: ج٢، ص١١٢، والذكرى للشهيد الأوّل المبحث الرابع من أحكام الأموات، وفي مَن لا يحضرهُ الفقيه: ص٣٦ أنّهعليه‌السلام أوصى بثمانمائة درهم لمأتمهِ، وأن يُندب في المواسم عشر سنين.

وادّعى بعضهم أنّ هذا العمل غير جائز، باعتبار أنّ صوت المرأة عورة ويَحرم على الأجانب سماعه، وقد ردّ هذا القول السيّد المقرّم في مقتله: ص١٠٥ بأفضل جواب، بحيث لم يبقَ شكّ في بطلان هذا القول وصحّة فعل الإمامعليه‌السلام ، فراجع.

١١٥

المختار الثقفي(١) الذي حاولَ قتل المعتدين من قَتَلة الحسينعليه‌السلام وأصحابه في الطف(٢) .

ومنها: أنّ الدعاء الموسوم بالندبة(٣) ، إنّما هو إشعار للنفس بالحزن العميق لغيبة الإمام المهديعليه‌السلام ، فلماذا الحُزن إن كان في غيبته حكمة إلهيّة وتسبّب لانتصاره يوم ظهوره؟ وما ذلك إلاّ لأنّ البكاء شكل من أشكال التربية، وشكل من أشكال الإعلام.

ولنسمع فيما يلي فَقرات من دعاء الندبة هذا؛ لنجد التركيز فيه على الحُزن العميق:(ليتَ شِعري أين استقرّت بكَ النوى؟ (٤) بل أيّ أرضٍ تَقلّك أو ثرى؟ أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى؟ (٥) ، عزيزٌ عليّ أن أرى الخلق ولا تُرى، ولا أسمعُ لك حسيساً ولا نجوى، عزيزٌ عليّ أن تُحيط بكَ دونيَ البلوى

____________________

(١) هو المختار بن أبي عبيد بن عمرو بن عمير، بن عوف بن عقدة بن غبرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، أبو إسحاق، كان أبوه من جُلّة الصحابة، وولِدَ المختار عام الهجرة وليست له صُحبة ولا رواية.

وقد خرجَ يطلب بثأر الحسين بن عليعليه‌السلام ، واجتمعَ عليه كثير من الشيعة بالكوفة فغلبَ عليها وطلبَ قَتَلة الحسينعليه‌السلام ، فَقَتلهم ومنهم: شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وخولي بن يزيد الأصبحي، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص، وهو أمير الجيش الذي قاتلَ الحسين، وقتلَ ابنهُ حَفصاً، وقتلَ عُبيد الله بن زياد، حيث كان ابن زياد بالشام، فأقبلَ في جيش إلى العراق، فسيّر إليه المختار إبراهيم بن الأشتر في جيش فلقيه في أعمال الموصل، فقتلَ ابن زياد وغيره، ولذلك أحبّه كثيرٌ من المسلمين وأبلى في ذلك بلاءً حسناً.

وكان يُرسل المال إلى: ابن عمر، وابن عبّاس، وابن الحنفيّة وغيرهم فيقبلونهُ منه، وكان ابن عمر زوج أخت المختار وهي: صفيّة بنت أبي عُبيد، ثُمّ سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جمعٍ كثير من أهل الكوفة وأهل البصرة، فَقَتلَ المختار بالكوفة سنة ٦٧هـ، وكانت إمارتهُ على الكوفة سنة ونصف، وكان عمرهُ سبعاً وستّين سنة (أُسد الغابة: ج٤، ص٣٣٦).

(٢) تاريخ الطبري: ج٦، ص٣٨، ط مصر.

(٣) انظر في مفاتيح الجنان: ص٥٣٢.

(٤) النوى: البُعد والوجه الذي يذهب فيه وينويه المسافر من قربٍ أو بُعد (أقربُ الموارد: ج٢، ص١٣٦٣).

(٥) ذي طوى: موضع قُرب مكّة (أقربُ الموارد: ج١، ص٧٢٤).

١١٦

ولا ينالُك منّي ضجيجٌ ولا شكوى هل من معُين فأُطيل معهُ العويل والبكاء؟ هل من جزوعٍ فأُساعدُ جَزعهُ إذا خلا؟... هل قَذيت عينٌ فساعَدتها عيني على القذى؟ هل إليك يا بن أحمدٍ سبيل فتلقى؟ هل يتّصل يومنا منك بغدهِ فنحظى إلخ) (١) هذا، وسيأتي مزيد إيضاح وتفصيل حول هذه الفكرة بعون الله تعالى.

____________________

(١) مفاتيحُ الجنان للشيخ عبّاس القمّي: (دُعاء الندبة).

١١٧

١١٨

أسئلةٌ حول شَخص الحُسينعليه‌السلام

نُثير فيما يلي عدداً من الأسئلة عن بعض الجوانب العامّة من واقعة كربلاء، ممّا يرتبط بشخص الحسينعليه‌السلام جهد الإمكان، بصفتهِ الشخص الرئيسي والأهمّ هناك، وكذلك بصفتهِ الشخص الوحيد المعصوم المطلّع على الواقعيّات فيهم، نُثير هذه الأسئلة لكي نستفيد من أجوبتها تاريخيّاً ومعنويّاً:

السؤالُ الأوّل: لا شكّ أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام ، قد حصلَ تاريخيّاً أنّه بعد أن قُتلَ أصحابه وأهل بيته بقى وحيداً فريداً بين الأعداء، لا يجد له ناصراً ولا مُعيناً (١) ، فهل شعرَ بذلك من الناحية المعنويّة؟

جوابهُ: النفي بطبيعة الحال؛ لأنّه يشعُر أنّهُ مع الله جلّ جلاله ومَن كان مع الله كان الله معهُ، وقال تعالى:( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (٢) ، وقال تعالى:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) (٣) ، وما دامَ الحسينعليه‌السلام مع الله سبحانه، إذاً لا يهمّهُ أن يكون أحد من الخلق معهُ على الإطلاق.

وقد يخطر في البال: إنّ هذا الذي قلناه ينافي ما ورد عنهُعليه‌السلام أنّه قال في ذلك الحال:(هل من ناصرٍ ينصُرنا؟ هل من مُعينٍ يُعيننا؟ هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٤) ، وهذا يدلّ على أنّه طلبَ النُصرة من الآخرين على أيّ حالٍ، وهذا هو الفهم العام بكلّ تأكيد لهذه العبارة، من كلّ مَن جَعلَ الدنيا مبلغ علمهُ وأقصى همّه وغاية تفكيره.

____________________

(١) الدمعةُ الساكبة: م١، ص٣٤٠، أسرار الشهادة للدربندي: ص٣٦٩.

(٢) سورة محمّد: آية ٧.

(٣) سورة البقرة: آية ١٥٢.

(٤) اللهوف: ص٤٣، المنتخب للطريحي: ص٣١٢، الدمعةُ الساكبة: ص٣٤٠.

١١٩

وهو لا شكّ يحتوي على سوء فهمٍ فضيع لهذه العبارة، فإنّ الحسينعليه‌السلام إنّما قالها لا لأجل نفسه، وحاشاهُ أن ينظر إلى غير الله عزّ وجل، وهو الذي قيل إنّه استشهدَ ببعض الأبيات ممّا سمعناهُ فيما سبق:

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي أراكا

ولو قطّعتَنني في الحُبّ إرباً

لما مالَ الفؤاد إلى سواكا

والمهمّ أنّ هذا الأمر شَعرَ به عددٌ لا يُستهان به من الناس طول التاريخ، ممّن لا يتّصف بالعصمة فكيف حال المعصوم نفسه، وإنّما نتخيّلُ نحنُ غير ذلك؛ لأنّنا لا نفهم مستوى المعصوم، ولا يخطر في بالنا ما يمكن أن يكون عليه تجاه الله عزّ وجل، وإنّما طَلبُ الناصر من قِبَلهعليه‌السلام كان لفائدة الآخرين بلا شكّ، ولكنّه اتخذ تلك الحالة سبيلاً للنطق بتلك التعبيرات، حتّى لا يضع كلّ موعظة في غير محلّها ولكي يتكلّم مع الناس على قدر عقولهم.

وما يمكن أن يُتصوّر من فوائد لهذه الجملة، عدّة أمور:

الأمرُ الأوّل: طلبُ الناصر ممّن يولَد ويوجد خلال الأجيال، ليكون مُحبّاً للحسينعليه‌السلام ، سائراً في طريقه، مُضحيّاً في سبيل دينه بمقدار ما يقتضيه حاله، وكلّ مَن كان كذلك في أيّ زمانٍ ومكان فقد أجاب الحسينعليه‌السلام للنُصرة.

الأمرُ الثاني: طلبُ الناصر من البشر الموجودين في ذلك العصر، وتذكيرهم بمسؤوليّتهم الكبرى المباشرة في الذبّ عن إمامهم المعصومعليه‌السلام أمام الله عزّ وجل، وذلك يكون موازياً لمضمون ما وردَ من أنّ:(مَن سَمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخرَيه في النار) (١) .

____________________

(١) أسرار الشهادة: ص٢٣٣، البحار: ج٤٤، ص٣١٥، الخوارزمي: ج١، ص٢٢٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250