في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208446
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208446 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في

رِحَابِ عَاشُورَاء

تأليف:

سماحة العلاّمة

الشيخ محمّد مهدي الآصفي

١

٢

(في هذا الكتاب)

* عاشوراء في مرآة التاريخ

* ثأر الله

* خطاب الاستِنصار الحُسيني

* الولاء والبراءة في مرآة عاشوراء

* الـمُتَخلِّفون عن ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام

* قِيمَة الوراثة في حياة الإنسان

* الأبعاد السياسيَّة والحَركيَّة لثورة الإمام الحسينعليه‌السلام

* عاشوراء (ودٌّ) و (قُدْوة)

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك يا وارث آدم صِفوة الله

السلام عليك يا وارث نوحٍ نبيّ الله

السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله

السلام عليك يا وارث موسى كَليم الله

السلام عليك يا وارث عيسى روح الله

السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله

السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين وليِّ الله

٤

مُقدّمة المؤلِّف

هذه الحلقة الثانية من كتاب(وارث الأنبياء عليهم‌السلام ) ، تحدّثت فيها عن (ثقافة عاشوراء)، وهي ثقافة (الصِراع) و (التحدِّي) و (العَمَل).

ونحن اليوم في ساحة مواجهةٍ وصراع وتَحدِّي.

وهذه الثقافة الّتي ورثناها من الحسينعليه‌السلام ، والّتي ورثها الحسينعليه‌السلام من الأنبياءعليهم‌السلام ، هي من أهمِّ ما يجب أن نُقدّمه لشبابنا في هذه الساحة.

فإنّ ثقافة الصراع والمواجهة من أهمِّ أسباب مقاومة (الفئة القليلة الـمُستَضعَفة، للفئة الـمُستكبِرة والظالمة)، ومن دون هذه الثقافة لا نتمكَّن أن نُحقِّق أهداف رسالة الله، في هذه المعركة الضارية بين التوحيد والشرك.

وهذه الثقافة نجدها في القرآن، وفي يوم عاشوراء.

ويوم عاشوراء حافِل بثقافة المواجهة والتحدّي والمقاومة والصبر، وتجسيد لِما في القرآن من وعيٍ وثقافة في هذا الشأن.

وفي(رحاب عاشوراء) نجد نحن الكثير ممّا نحتاجه من وعي المعركة والمواجهة.

ويوم عاشوراء مِرآة صافية للتاريخ، نرى من خلال هذه المرآة صراع الحقِّ والباطل، ومقاومة الحقِّ واندحار الباطل، وقِيَم الحقِّ وسقوط

٥

الباطل، وسُنَن الله في هذا الصراع.

ولابدّ أن يتناول (المِنبَر الحسيني) الـمُعاصِر هذه الدروس الّتي نستوحيها من يوم عاشوراء، بصورة تحليليّة دقيقة، تتطابق مع حياتنا السياسيّة الـمُعاصِرة، وصراعنا السياسي والحضاري.

وهذه المقالات الّتي يجمعها هذا الكتاب، محاولة بهذا الصدَد، أسأل الله تعالى أن ينفع به المِنبر الحسيني الّذي لا يزال سِراجاً لجمهورنا، ونِبراساً لهم في صراعهم مع الباطل، ورفضهم لسُلطان الظلم.

محمّد مَهدي الآصفي

قم المقدَّسة

1 رجب / 1419 هـ. ق

٦

عاشوراء في مرآة التاريخ

* عاشوراء في وَعي الجمهور ووَعي النُخبة

* موقف السلاطين والحُكّام من عاشوراء

* عاشوراء مرآة للتاريخ

* كلُّ أرضٍ كربلاء وكلُّ يومٍ عاشوراء

٧

٨

بسم الله الرحمن الرحيم

عاشوراء في مِرآة التاريخ

عاشوراء في وعْيِ الجمهور ووَعْيِ النُخبة:

فيما يلي نُحاول أن نقف وقْفة تأمُّل في رحاب يوم عاشوراء، ونبحث عن العناصر والقِيَم والآفاق الواسعة لهذا اليوم العجيب، هذه الساعات القليلة والمعدودة من يوم العاشر من مُحرَّم تنطوي على آفاق واسعة جدّاً، وعلى معاني وقِيَم تستحقّ أن يتوقّف الإنسان عندها طويلاً، ويتأمّل فيها كثيراً.

هذه الآفاق لم تَلْقَ بَعْدُ العناية الكافية من قِبل الباحثين والـمُفكِّرين الّذين أَولَوا (عاشوراء) اهتمامهم، رغم كثرة الدراسات والأبحاث والجهود الفكريّة، الّتي تصبّ في الأحداث الّتي جرتْ على أرض كربلاء يوم العاشر من محرّم من سنة (61 هـ. ق).

وإنّني لا أشكّ أنّ وعي الجمهور لعاشوراء وعُمقه وآفاقه، أكثر بكثير من وعي الـمُفكِّرين الّذين تناولوا هذا اليوم العجيب من التاريخ بالدراسة والبحث.

إنّ الّذي يُدرِكه جمهور الناس بوَعيه الفِطري، شيء أعمق بكثير ممّا يَتلََقَّاه الباحثون والـمُفكِّرون من هذا اليوم، ولو أمعنّا النظر في وعي الجمهور ليوم

٩

عاشوراء، وجدنا أنّ الجمهور يسبق الباحثين والمفكِّرين في وَعي هذا اليوم وآفاقه الواسعة، وما ينطوي عليه من القِيم والمفاهيم.

وأنا من الّذين يثقون بوعْيِ الجمهور المؤمن وحِسّه الـمُرهَف الدقيق في التشخيص والتقييم، وأُعارض الّذين ينتقصون من وعْيِ الجمهور المؤمن وفهْمه وتشخيصه. فالجمهور يملك حسَّاً مُرهَفاً ووَعياً فطريَّاً وبصيرةً نافذة - في حالات السلامة والصحوة - لا يملكه أولئك الّذين يتتبَّعون الأحداث من خلال التأمّلات الفكريّة والدراسات العلميّة.

وهذا الحسّ الفطري الـمُرهَف يجعل الجمهور سبّاقاً إلى درك ووعي هذه الآفاق الربّانيّة في حياة الإنسان.

وكثيراً ما يتّفق أنّ الباحثين والمفكّرين يتتبّعون خُطى الجمهور، ويقتفون أثره في الوعي والتفسير والتشخيص، ومع ذلك فإنّ الوعي الفطري للجمهور يبقى مُحتفِظاً لنفسه بقُدرة كبيرة جدّاً على التشخيص، والتقسيم، ونفاذ البصيرة، تقصر عنه أفكار وتفسيرات الباحثين والمفكّرين.

وهذا هو ما يتراءى لي فعلاً في (عاشوراء)، فكلّما يُمعِن الإنسان النظر في التعاطف الوجداني الكبير من قِبل جماهير المسلمين مع حادث الطفِّ في يوم عاشوراء، وقياس ذلك إلى التفسير والتقييم العلمي المطروح على الصعيد الفكري؛ يزداد إيماناً بأنّ الجمهور كان أقدر على استيعاب الآفاق الواسعة لهذا اليوم من الباحثين والمفكّرين، الذين تناولوا هذا الموضوع الخطير بالدراسة والبحث.

ويبدو أنّ الحسّ الفطري لدى جمهور المؤمنين، أسرع إلى فهْمِ ووَعْيِ الحقائق من أولئك الباحثين، الّذين يعتمدون (عصا) التفسير والتحليل العلمي بالوسائل العلميّة المعروفة، ويرى الجمهور - في حالة سلامة الفطرة - بنور الله ما لا يراه غيره.

١٠

وهذا ما نراه فِعلاً من حيويّة (عاشوراء) في وجدان جمهور المسلمين وعواطفهم، وتفاعل الجمهور الواسع والعميق مع عاشوراء خلال هذه الفترة الطويلة، والّتي تزيد على ثلاثة عشر قرن من الزمان، وعلى هذه المساحة الواسعة من الأرض.

وهذا أمر فوق العادة بالتأكيد، ولا ينبغي أن نمرَّ عليه مروراً سريعاً من دون وقفة تأمّل وتفكير.

ولا نعرف نحن إلى الآن حَدَثاً، يستقطب عواطف جماهير المسلمين بهذه الصورة من القوّة والفاعليّة كعاشوراء، ولا نعرف أمراً في حياة المسلمين يستقطب الجماهير بهذه الصورة الواسعة والقويّة إلاّ الحَجّ.

وقد رُوي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (إنّ لِقتل الحُسين حَرارَة في قلوبِ المؤمنين لا تَبرد أبداً)(1) .

مَوقف السلاطين والحُكّام من عاشوراء:

ولأمرٍ ما، كان يحسُّ السلاطين والملوك أنّ في مظاهر الحُزن والحِداد على الإمام الشهيد شيئاً يضرّهم، ويسيء إلى سُلطانهم ومُلكِهم، وكانوا يواجهون الجمهور الحسيني بالجَفاء والإنكار، وأحياناً بالإرهاب والـمُطارَدة، تماماً كما كان الجمهور يشعر أنّ في قضيّة الحسينعليه‌السلام شيئاً يرتبط بمصيره ومصير الإسلام.

وفي تاريخنا - منذ العصر الأمويّ وعبر العصر العبّاسيّ إلى اليوم - الكثير من الأمثلة على تَنَكّر السلاطين وامتعاضهم من إقبال الجمهور على زيارة الحسين، والتعاطف مع قضيّة الحسين، حتّى بلغ الأمر أنّ هارون الرشيد أمر بهَدمِ القَبْر

____________________

(1) مُستدرك الوسائل: 2 / 217.

١١

الشَريف وكَرْبه(1) .

كما أمر الـمُتوكّل العبّاسي بهدم القبر وما حوله من المنازل والدُور، وأن يُبْذَر ويُسْقَى موضع القبر، ويُمنَع الناس من الزيارة(2) .

ومع كلّ هذه الضغوط السياسيّة، والإرهاب الّذي كان يُمارسه السلاطين بشأن قضيّة الحسين وعاشوراء، فإنّ عاشوراء كانت تتفاعل ولا تزال مع عواطف الجماهير ومشاعرهم في حركة تصاعديَّة.

وقد وضع علماء البِلاط الأموِي أخباراً وأحاديث كثيرة في يوم عاشوراء، وأنّه يوم بركة؛ (ليَعدل الناس - كما يقول الإمام الصادقعليه‌السلام - من الجَزع والبُكاء والمصيبة والحُزن في هذا اليوم، إلى الفَرَحِ والسُرور والتبرّك)، وقد بذلَ حُكّام بني أُميّة لذلك الجوائز والهدايا(3) .

ومع كلّ هذه الضغوط السياسيّة بشأن هذا اليوم، وبشأن قضيّة الطفّ، فقد بقتْ (عاشوراء) تتفاعل مع عواطف الجماهير ومشاعرهم، في حركة تصاعديّة يستلمها جِيل من جِيل، وتنتقل من جِيل إلى جِيل بنفس الحيويّة والقوّة، وتُضيف إليها الأجيال الـمُقبِلة الكثير من عواطفها ومشاعرها وأحاسيسها.

ولا أكاد أتصوَّر أنّ هذا التعاطف العميق والواسع من قِبل جماهير المسلمين، في رقعة واسعة من الأرض، وعبر تاريخ طويل، تتكوَّن وتستمر وتَشقّ طريقها عبر مُضايَقات الحُكّام والسلاطين، من دون أن يكون الجمهور قد وجد - بوَعيه الفِطري، في هذه الساعات القليلة من يوم عاشوراء - من الآفاق الواسعة

____________________

(1)تاريخ النياحة على الإمام الشهيد، للسيّد صالح الشهرستاني: 2 / 12، نقلاً عن: (نزهة أهل الحرمين، للسيّد حسن الصدر الكاظمي: 27).

(2)الكامل، لابن الأثير: 7 / 55 / في حوادث سَنة 236 هـ.

(3)بحار الأنوار: 44 / 270.

١٢

والصور والمعاني، والقيم الـمَخبوءة، ما لم تتمكّن من التقاطه وتسجيله ورسمه أقلام الباحثين والمفكّرين.

فلا يَسعنا أن نفْهم مثل هذا التعاطف الجماهيري الواسع مع عاشوراء، دون أن نقبل أنّ الجمهور قد تمكَّن أن يرى في هذا اليوم - بحِسّه الفطري - ما لم تتمكّن الدراسات العلميّة أن تُسجِّله وترسمه في هذا اليوم.

والحجم المطروح لعاشوراء من قِبل الباحثين والعلماء لا يُناسِب - بالتأكيد - هذا التعاطف والتفاعل الواسع من قبل الجماهير؛ وهذا هو الّذي يدعو إلى القول بأنّ الجمهور له دور السَبْقِ في اكتشاف آفاق (عاشوراء)، والباحثون - الّذين عملوا في تحليل وتفسير أحداث هذا اليوم - كانوا يتحرَّكون من وراء الجمهور، ويَضعون خُطاهم في التحليل والتفسير، مَوضع خُطى الجمهور.

وليس في هذا ضَيْر، إذا كانت أقلام الباحثين قادرة على مُتابعة ومُلاحَقة الجمهور، في وعيه ودَرْكِه للقضيّة الحسينيّة، وإنّما البأس أن تتوقَّف أقلام الباحثين وأفكارهم عن اكتشاف وتسجيل ما اكتشفه الجمهور، من الآفاق الرَحبة لعاشوراء، بحِسّه الفِطري.

عاشوراء مِرآة للتاريخ:

من خلال هذا اليوم، وساعاته القليلة الحاشِدة بالأحداث الكبيرة، يقرأ الناس التاريخ البشري كلّه.

ومن خلال هذا اليوم، نقرأ سُنَن الله في التاريخ، ونفهم كيف تسقط أُمّة، ويستدرجها الله تعالى، ويُعذّبها ويُهلكها، وكيف يستبدلها بأُمّة أُخرى، وكيف تسمو أُمّة في التاريخ وتسقط أُخرى، وكيف يُجري الله قانون الابتلاء على أُمّة فيُضيِّق عليها لتَنمو وتبلغ رُشدها، وكيف يستدرج أُمّة أُخرى

١٣

ليُحلّ عليها العذاب والنِقمة، وكيف يكون استبدال هذا بذاك.

(عاشوراء) مرآة صافية للتاريخ، تعكس التاريخ بصورة صادقة وأمينة. ومن خلال قراءة هذا اليوم يستطيع أن يقرأ الناس حركة التاريخ كلّها، منذ خلقَ الله تعالى الإنسانَ على وجه الأرض إلى اليوم.

ذلك أنّ التاريخ هو مجموعة (السُنَن الإلهيّة) في حركة الإنسان وصعوده وسقوطه، ولا يجري في التاريخ شيء بصورة اعتباطيّة وعَفَويّة، وإنّما يجري كلّ شيء بمُوجب سُنَن وقوانين دقيقة وبالغة في الدقَّة، كما يجري التغيير في الفيزياء والكيمياء والميكانيك؛ تَبَعاً لمجموعةٍ من القوانين والسُنن الخاصّة بهذه الحقول(1) .

والّذي يفهم هذا القوانين والسُنَن بشكلٍ دقيق، يفهم التاريخ وحركته وما يجري في هذه الحركة من هبوط وصعود، ومن هَلاك واستبدال للأُمم.

والصراع بين الحقّ والباطل، وبين جند الله وجند الشيطان، هو المرآة الّتي تعكس هذه السُنَن والقوانين بصورة دقيقة وكاشِفة.

ذلك أنّ (الصراع بين الحقّ والباطل، وحزب الله وحزب الشيطان) هو العامل الأكبر تأثيراً في حركة التاريخ، بخِلاف النظريّة الماركسيّة، الّتي تعتبر (الصراع الطَبَقِي) هو العامل الـمُحرِّك للتاريخ(2) .

والتاريخ يتلخّص في مُعظَم جوانبه في هذا الصراع، الّذي يقود طَرَفاً منه الأنبياء والمرسَلون، ويقود الطرف الآخَر أئمّة الكُفر.

____________________

(1)بالطريقة الّتي شرحناها في فصل (المذهب التاريخي في الإسلام)، وبيّنّا موضع إرادة الإنسان واختياره في هذه الحركة، في النظريّة الإسلاميّة. من كتاب (في رِحاب القرآن).

(2)والفرْق الآخَر: إنّ النظريّة الماركسيّة تُؤمن بالعامل الواحد في حركة التاريخ، بينما النظريّة الإسلاميّة لا تُؤمن بنظريّة توحيد العامل في حركة التاريخ.

١٤

والصراع الطَبَقِي حقيقة قائمة في ساحة التاريخ لا ننفيها، ولكنّه لا يُعتَبَر العمود الفقري للتاريخ، وإنّما يحتلّ جانباً من جوانب حركة التاريخ، ومهما كانت قِيمة هذه المساحة الّتي يحتلّها الصراع الطبقي في تاريخ الإنسان، فلن يُعتبر العمود الفقري للتاريخ. ولسنا الآن بصَدَد إثبات هذه الحقيقة القرآنيّة.

فالتاريخ - إذن - يتلخّص في مُعظَم جوانبه في هذا الصراع التاريخي، الّذي يقود طَرَفاً منه الأنبياء والمرسَلون والمؤمنون، ويقود الطرفَ الآخر الطاغوت وأولياءُه.

وفي هذا الصراع التاريخي تبرز أهمّ خصائص حركة التاريخ، وتتكشَّف للإنسان جوانب واسعة من التاريخ، لا يكاد يراها إلاّ في هذا الجوِّ من الصراع بين أولياء الله وأولياء الشيطان.

ذلك أنّ الصراع يستخرج بصورة قويّة خصائص كلّ أُمّة وكلّ فِئة من الناس، ويُبرِزها على حقيقتها، ويفرز الناس إلى فئتين مُتمايزتين.

فقد تنزع الأُمّة المؤمنة في حالات اليُسر والرَفاه إلى الدِعَة والتَرفِ، وإيثار العافية في حياتها، وتنسى ذكر الله (عزّ وجلّ). فإذا حلّ بها الابتلاء نزعتْ إلى الله نزوعاً قويّاً وقطعتْ ما بينها و بين هذه الدُنيا من أسباب، وذلك قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ ) (1) .

والعكس أيضاً صحيح، فقد يتمكّن المنافقون والـمُتخلّفون وأولياء الشيطان من إخفاء حقيقتهم، وما تستبطن نفوسهم من حُبّ الدُنيا والانقياد للأهواء، والولاء للطاغوت والخوف والضعف في ساعات اليُسر والأمن، فإذا جَدّ الجِدّ ووقعتْ المواجهة والصِدام، طفحَ على حياتهم ما كانوا يستبطنونه من خوفٍ ونفاق.

____________________

(1)الأعراف: 94.

١٥

يقول تعالى:( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ) (1) .

فيَكشف الصراعُ الخصائص الحقيقيّة لكلّ أُمّة من الناس، ويفرز الناس إلى مِحورين مُتميِّزين، ويعكس التناقضات القائمة في حياة الناس، ويعكس السُنَن الإلهيّة الّتي تجري في حياة الناس وحركتهم، وصعودهم وهبوطهم وسقوطهم، واستبدالهم بأُممٍ أُخرى؛ فإنّ هذه السُنَن جميعاً - أو في مُعظمها - تجري في جوِّ الصراع بين الحقِّ و الباطل، بقوّة ووضوح أكثر من أيّة حالة أُخرى.

ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة الأحزاب، لنَجد كيف تهتزُّ النفوس الضعيفة في القتال، وكيف يجري فيها الزلزال، وكيف تَزيغ الأبصار وتنقلّب القلوب المؤمنة، الّتي لم يستقرّ فيها الإيمان إلى الظنِّ بالله، وكيف يكشف القتال المنافقين ويُلقي عليهم الضوء، بعد أن كانوا يُخفون أنفسهم في صفوف المسلمين، ومع ذلك كيف تتدخّل المشيئة الإلهيّة لإسناد ودعم القِلّة المؤمنة الثابتة، في هذه الساعات العَسِرة والحَرِجة.

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طّائِفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ

١٦

لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً ) (1) .

تَرى كيف يكشف القتالُ والصراع المنافقين؟!

وكيف يدخل النفوس في ساعة القتال الظنّ والرَيب، وكيف يهتزّ المؤمنون - الضعاف - من الأعماق؟!

وكيف يتحوّل دَور المنافقين في ساعة واحدة إلى التهريج والتَثْبيط؟!

وفي مقابل هؤلاء، الصادقون من المؤمنين الّذين تطمئنّ نفوسهم إلى الله، ويثبتون للأعاصير والعواطف، ولا يدخل نفوسهم شكّ أو رَيب، مهما اكفَهَرَّتْ الأجواء، ومهما ضاقتْ الأحوال.

( وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ... ) (2) .

وتتدخّل المشيئة الإلهيّة، ويُؤيَّد المؤمنون بجنودٍ لم يَروها:

( ... اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا... ) (3) .

ويَردّ الله الّذين كفروا بغيظهم، ويقذف في قلوبهم الخوف، ويُورث المؤمنين أرضهم وديارهم:

( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ

____________________

(1)الأحزاب: 9 - 13.

(2)الأحزاب: 22 - 24.

(3)الأحزاب: 9.

١٧

قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الْرّعْبَ فِرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) (1) .

كلّ ذلك يتمّ في أجواء الصراع والمواجهة والقتال.

تهتزّ النفوس ويصيبها الزلزال، ويكشف النفاق عن نفسه، ويجدُ المنافقون فرصةً للتهريج والتَثْبيط، وتثبت النفوس المؤمنة وتطمئنّ إلى وعد الله، ويُنزل الله تأييده ونصره على المؤمنين، ويقذف في قلوب الّذين كفروا الرُعب والخوف، ويُهلكهم بأيدي المؤمنين، ويُورث المؤمنين أرضهم وديارهم.

كلّ هذه التحوّلات والانقلابات، والسُنَن والقوانين، والصعود والسقوط والثبات والانهيار، يحدث في ساحات المواجهة والقتال، وكلّ هذه الحركة القويّة التاريخيّة، والسُنن والقوانين الإلهيّة، والفَرْز والتفريق والكشف، يتمّ في جوِّ الصراع.

إذن، الصراع الحضاري بين الحقّ والباطل، يكاد أن يكون نموذجاً ممثّلاً لمساحة التاريخ، وللسُنَن الإلهيّة الجارية في هذه المساحة بشكلٍ كامل أو غالب. وما يجده الإنسان في امتداد التاريخ الطويل وعرضه العريض، يجده بصورة مُختَزلة ومُصغَّرة في الصراعات الحضاريّة الحقيقية، الّتي يقف جند الله في مواجهة جند الشيطان.

... تماماً كما أنّ قَدَحاً من ماء المحيط يستطيع أن يعكس لنا بصورةٍ مُصغَّرة ومُختزلة مُعظم الخصائص الموجودة في مياه المحيطات الكبيرة، من التبخير والتجميد والتموّج والتحرّك، وما يرسَب فيه من الأجسام وما يعوم فيه، وقانون الـمَدّ والجَزْرِ، والعناصر الّتي تُشكّل الماء، وما إلى ذلك من الخصائص الكيماويّة

____________________

(1)الأحزاب: 25 - 27.

١٨

والفيزياويّة لمياه المحيطات، والمطالعة الدقيقة لقدحٍ من الماء تُغنِي عن مُطالَعة المحيطات الواسعة في مُعظَم الخصائص الكيماويّة والفيزياويّة لمياه البحار.

وما يصحّ عن قانون الاخْتِزال والتمثيل في الفيزياء والكيمياء، يصحّ في التاريخ والـمُجتمَع.

فإنّ شريحة مُمثِّلة من المكان والزمان، يُمكن أن تعكس معظم الخصائص والسُنن القائمة في التاريخ والمجتمع.

وإنّما نقول شريحة زمانيّة ومكانيّة مُمثِّلة؛ لأنّ من الشرائح الزمانيّة والمكانيّة والاجتماعيّة ما لا يحمل هذه الصفة التمثيليّة.

فليس كلّ الشرائح الفيزياويّة الكيماويّة والاجتماعيّة تحمل هذه القوَّة التمثيليّة، الّتي تستطيع أن تعكس بها الخصائِص الموجودة في كلّ المساحة الّتي اقتطفنا منها هذه الشريحة، وهذه هي الشرائح غير الـمُمثِّلة.

أمّا الشريحة الـمُمثِّلة عن الزمان والمكان والتاريخ والمجتمَع، فإنّها تحمل هذه القوّة التمثيليّة، وهي بالذات ما نقصده في هذا الموضع.

ولا شكّ أنّ الصراع الحضاري بين جند الله والطاغوت، من أفضل الشرائح (الزَمَكانيَّة)، الّتي تختزِل وتُمثِّل حركة التاريخ، وتعكس هذه الحركة بقوانينها وسُنَنِها الإلهيّة.

* * *

و (عاشوراء) نموذج نادر من الصراع الحضاري، الّذي تتجسّد فيها سُنَن التاريخ بشكل قوي ومُركّز، وعَيِّنَة مُمثِّلة لـمَساحة التاريخ، بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنى، ومِرآة صافية لحركة التاريخ، يجد فيها الإنسان الصراع القديم بين جُند الله وجند الشيطان، وأسباب ومُوجِبات هذا الصراع، وقِيَم كلّ من طَرَفَي المواجهة، وأساليبهم في هذا الصراع، وحَتْميَّة هذا الصراع، ومُعاناة طَرَفَي

١٩

الصراع في هذه المعركة التاريخيّة، وما يستتبع هذا الصراع من سقوط وثبات، وولادة وهلاك، واستبدال واستِدراج، وتساقط العناصر الضعيفة وصعود وتسامي العناصر القويّة المؤمنة، ونَصْر الله للفئة القليلة المؤمنة وهلاك جُند الشيطان...

كلّ ذلك ينعكس في مرآة عاشوراء، في هذه الساعات القليلة الحافِلة بالأحداث الكبيرة من يوم عاشوراء، والجمهور من المؤمنين يقرؤون كلّ ذلك، وغير ذلك من قوانين وسُنَن التاريخ والمجتمع والصراع في مرآة عاشوراء.

بل ماذا أقول؟! إنّ جمهور المؤمنين يرون أنفسهم في مرآة عاشوراء، فإنّ الإنسان المؤمن ليس نسيج وحده، وليس نبتة طُفيليّة مُجتَثَّة من فوق الأرض ما لها من قرار، وإنّما هو حصيلة هذا الصراع التاريخي بين الحقّ والباطل.

وكلّ هذا الصراع و ما استتبعه من معاناة وآلام، ونصر وتأييد وثبات وصبر، قد ساهم بصورة مَرئيّة أو غير مَرئيّة في ثباته وتكوين شخصيَّته، وعاشوراء امتداد لكلّ هذا الصراع، وتكريس لهذه المعركة التاريخيّة، ومرآة لهذا التاريخ الحافِل بالصراع والمعاناة.

والمؤمنون يرَون أنفسهم في مرآة عاشوراء رؤية صافية صادقة وواضحة؛ ولذلك يجذبهم عاشوراء، ويشعرون بأنّهم مَدينون لعاشوراء، وأنّ عاشوراء تُمثّلهم وتُساهم مساهمة فعّالة في تكوينهم، وتُشكّل المرآة الصافية الّتي تعكس وجودهم وكيانهم.

وهذا هو ما نعنيه عندما نقول: إنّ عاشوراء نافذة على التاريخ، يستطيع الجمهور بوعيه الفِطري البسيط أن يطلّ على التاريخ من خلال هذه الساعات القليلة من يوم عاشوراء.

أرأيت كيف تُمثّل صفحة الخارطة الجغرافيّة، وتعكِس إقليماً واسعاً من مساحة الأرض؟!

كذلك عاشوراء تُمثِّل مساحة واسعة من التاريخ.

ونحن لكي نستوعب عَيِّنَة ما، استيعاباً كاملاً بصورة علميّة، نقوم عادةً بواحد

٢٠