في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء9%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220296 / تحميل: 9255
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

يُتِمّ الإنسان صفقة بيع ويقبض الثمن، ثمّ لا تسمح له نفسه بالتخلّي عن البضاعة أو يتردّد في تسليمها، أو تُساوِره نفسه بالفَسخِ والتراجع.

النَقْلة الكاملة:

وعمليّة البيع - وهذا هو مَوضع استشهادنا بهذه الآية الكريمة - تُعبِّر عن كلّ المسيرة والرِحلة، وتطوي كلّ المسافة الفاصلة بين المحورَين، (محوَر الأنا) و (المحوَر الإلهي)، فيتخلّى المؤمن عن نفسه ومُشتهياتها، وعلاقاتها ولذَّاتها ومُتَعِها، وعن كلّ علاقاته في هذه الدنيا لله تعالى بصورة كاملة، وينتزع نفسه من هذا المحوَر انتزاعاً كاملاً؛ لِينقلها إلى المحوَر الآخَر، وليضعها تحت سلطان الله تعالى وأمره ونهْيِه.

وهذه النقلة أو البيعة هي كلّ المسيرة الإنسانيّة إلى الله، والمؤمنون في هذه البيعة يطوون كلّ تلك الرحلة الطويلة والشاقَّة.

أمثلة عن النقْلة في حياة المسلمين الأُولى:

ولقد كان المسلمون في صدر الإسلام يتلقّون هذه الحقائق والآيات من كتاب الله، ويفهمونها بوضوح وبساطة ومن غير تعقيد أو التواء، وتتحوّل هذه الآيات والمفاهيم القرآنيّة الجديدة في نفوسهم إلى وعيٍ عميق، وإيمان وسلوك.

وإليكم بعض الصور الـمُشرِقة من هذا التاريخ:

١ - في بيعة العَقَبَة الثانية - وهي التي أنافَ فيها رجال الأنصار على السبعين - اجتمع رجال الأنصار مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند العقبة لمبايعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاتّفاق معه على قرار بخصوص الهجرة والنُصرة، فقال عبد الله بن رواحَه (رحمه الله) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :اشترط لربِّك ولنفسك ما شئتْ.

١٠١

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أشترط لربِّي: أن تَعبدوه ولا تُشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي: أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.

قالوا: فإذا فَعلنا ذلك فما لنا؟

قال:الجنّة .

قالوا: ربح البَيع، لا نقِيْل ولا نَستَقيل (١) .

فنزلت: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) )(٢) .

٢ - وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، قال: (نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المسجد: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، فكبّر الناس في المسجد، فأقبلَ رجُلٌ من الأنصار ثانِياً طرَفَي ردائه على عاتقه، فقال: يا رسول الله، أنزلتْ هذه الآية؟

قال:نعم .

فقال الأنصاري: بيع رَبيح لا نقِيْل ولا نَسْتَقيل) (٣) .

٣ - وصورة ثالثة من هذا التفاعل المباشر، والفهْم الواضح الصافي لـمَفاهيم الإسلام وتصوّراته الجديدة على حياة الناس، وهي ما جاء عن عُبادة بن الصامت: (أنّ أسعد بن زُرارَة أخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العَقبة، فقال: أيّها الناس، هل تدرون علامَ تُبايعون محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

إنّكم تبايعونه على أن تُحاربوا العربَ والعَجمَ والجنَّ والإنس كافّة.

فقالوا: نحن حرب لـمَن حارب، وسِلم لـمَن سالَم.

فقال أسعد بن زُرارة: اشترط عليّ.

____________________

(١)الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: ٨ / ٣٦٧.

(٢)بناءً على أن تكون الآية مكِّيَّة، والأرجح أنّها مدنيّة.

(٣)الدُرّ المنثور: ٣ / ٢٨٠.

١٠٢

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : تُبايعوني على أن تشهدوا أن لا اله إلاّ الله وأنّي رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسَمع والطَاعَة، ولا تُنازِعوا الأمر أهله، وتمنعوني ممّا تَمنعون أنفسكم وأهليكم.

قالوا: نعم.

قال قائل من الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟

قال: الجنّة والنَصر)(١) .

٤ - وصورة أُخرى، وهي ما أخرجه ابن سَعد عن الشَعْبِي، قال:(انطلَق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعبّاس بن عبد الـمُطّلب، وكان ذا رأي، إلى السبعين من الأنصار عند العَقَبة، فقال العباس: ليَتكلّم مُتَكَلِّمُكم، ولا يُطيل الخُطبة، فإنّ عليكم للـمُشركين عَيْناً، وإن يعلموا بكُم يفضحوكم.

فقال قائلهم، وهو أبو أُمَامَة أسعد: يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سَل لربِّك ما شئتْ، ثمّ سَل لنَفسك ولأصحابك ما شئتْ، ثمّ أخبرنا ما لنا من الثواب على الله، وعليكم، إذا فعلنا ذلك؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أسألُكم لربِّي أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تُؤوونا، وتنصُرُونا وتمنعُونا ممَّا تمنعون منه أنفُسكُم.

قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال: (الجنّة).

فكان الشَعبي إذا حدّث هذا الحديث قال: ما سمعَ الشِيب والشُبّان بخطبةٍ أقصر ولا أبلغ منها) (٢) .

ولهذه الصوَر أمثلة كثيرة في تاريخ الإسلام، عن التفاعل المباشر مع مفاهيم وتصوّرات الإسلام، والانصهار والذَوَبان في هذه المفاهيم والتصوّرات،

____________________

(١)الدرّ المنثور: ٣ / ٢٨٠.

(٢)الدرّ المنثور: ٣ / ٢٨٠.

١٠٣

والفهْم الواضح لها.

لقد كان المسلمون الأوائل يفهمون هذه الآية الكريمة بهذه البساطة والوضوح، ويتفاعلون معها بمِثل هذه القوّة والعزم، ولعلّنا لا نبعُد عن الحقيقة إذا قلنا: إنّ أبناءنا من هذا الجيل بدؤوا يستعيدون تلك البساطة والوضوح في فهْمِ آيات الله، وأحداث الثورة الإسلاميِّة المعاصرة في إيران والعراق ولبنان...، وجَبَهات القتال الدامية مع النظام العراقي السَفَّاح، شاهِدة على هذه الحقيقة(١) .

تكريمُ الإنسانِ بالبَيع والشِراء:

ومِن عجَبٍ في هذه الشراء أنّ الشاري (سُبحانه وتعالى) له مُلك السماوات والأرض، وله الإنسان وما بيده من أموال، وله أن يتصرَّف في كلّ ذلك من غير بيعٍ ولا شراء، ومن غير سؤال ولا استئذان، والعبد وما في يدهِ لمولاه!

ولكنّه (عزّ وجلّ) شاء أن يُكرِم هذا الإنسان، ويرفعه إلى موضِع التَعاقد والـمُبايَعة معه، وذلك تكريم من لَدُنِ الله تعالى لعباده، بما يُناسب لُطفه وكرمه بهم.

وقد كان الحَسنُ إذا قرأ هذه الآية:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، قال: (أنْفُسٌ هو خَلَقَها، وأموالٌ هو رَزَقها).

فهو سُبحانه خلقَ الإنسان وخلقَ له ما شاء من الطيّبات، وتلك كرامَة، ثم مَلَّكَه ذلك، وتلك كرامة أُخرى، ثمّ اشترى منه ما وهَبه وما ملَّكه، وتلك كرامة ثالثة أن يرفعَه إلى موضِع التعاقُد والـمُبايَعة معه، ثمّ جعل ثَمن ما يأخُذه منه من الـمَتاع الفاني الجنّةَ والخلود في رحمته ورضوانه، وتلك كرامة رابعة.

____________________

(١)كُتِبَ هذا البحث أيّام الحرب العراقيّة الإيرانيّة.

١٠٤

والعطاء جميل على كلّ حال، ولكن أجمل العطاء وأفضله ما يقترن بالتكريم، وقد قرَنَ الله تعالى عطاءه لعباده بالتكريم، وتلك غاية في الكرَمِ والتكريم، والحمد لله ربّنا الذي أكرمنا بكلّ هذه الكرامات، وأكرمنا بالإسلام والتقوى.

البَيْعَة:

والبَيْع والشراء من الله يستدرجنا للحديث عن مصطلحٍ إسلامي عريق، يتَّصل بهذا المفهوم من قريب، وذلك هو: (البَيْعَة).

والبَيْعَة مُشْتَقَّة من مادّة البَيْعِ، ولا نعلم ما إذا كان له في الجاهليّة أصل قريب أم لا؟ إلاّ أنّ الإسلام اتّخذ هذه الكلمة مُصطلَحاً للالتزام والتعهّد الكامل بالطاعة من قِبَل الأُمّة للإمام، فيكون معنى الكلمة الالتزام الكامل بالطاعة.

وذكروا في المناسبة الّتي اقتضَتْ تسمية هذا الالتزام بالبَيْعَة: أنّ العرب كانوا إذا تبايعوا تَصَافَقوا، وضربَ أحدُ الـمُتبايعَين بكفِّه على كفِّ الآخر، وكان ذلك علامة رضاهما بالبيع، والتزامهما به.

وقد أمضت السُنّة هذه الطريقة في التعبير عن التعهّد، والالتزام بالطاعة تجاه الإمام؛ فكان المسلمون إذا بايعوا رسول الله، استلموا كفَّه إيذاناً بالالتزام بالطاعة، ويُسمَّى هذا الالتزام بهذه المناسبة بَيْعَة ومُبايَعة.

ومن غير الـمُستبعَد أن تكون المناسبة في هذا الـمُصطلَح أنّ هذا الالتزام من مَقولَة البَيْعِ، ففي البيع يتخلّى البائع عن المتاع الّذي يملكه بشكل كامل في مقابل ما يتلقّاه من الثَمَن، وإذا أوجب البيع، فلا يحقّ له أن يتراجع عمّا أمضاه.

وكذلك الأمر في الالتزام بالطاعة (البَيْعَة)، فإنّ المرء إذا دخل البيعة والتزم بالطاعة، فليس له أن يتراجع أو يتخلَّى عن عهده والتزامه؛ فقد أمضى البيعَ وقبضَ

١٠٥

الثمن (الجنّة)، وأعطى الله ماله ونفسه والأنفس العزيزة عليه، فلا يحقّ له أن يتراجع أو يتردَّد أو يفسخ الالتزام.

ورحم الله ذلك الرجل الأنصاري الذي قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بَيْع رَبيح، لا نقِيْل ولا نستقيل.

البَيْعَة التجرّد الكامل عن الأنفسِ والأموال:

إنّ حقيقة البيعة التخلّي الكامل عن الأنفُس والأموال، والالتزام الكامل بالتسليم والطاعة في مُقابِل الثمن الكبير وهو الجنّة؛ فإنّ حقيقة الطاعة هي (الولاء) والتسليم لله، ولا يتمّ الولاء لله والتسليم لأمر الله ورسوله والانقياد والطاعة لهما، إلاّ عندما يتخلّى الإنسان المسلم عن كلّ شيء يتعلَّق به، من الأنفُس والأموال، ويتجرَّد من ملكيَّة كلّ شيء وضَعه اللهُ تحت تصرّفه ومُلْكه، ولا يرى لنفسه حقّاً في شيء منه، ويرى أنّ الله ورسوله أَولى بهما منه، وهي عنده وَدِيْعَة إلى حين يسترجعها الله تعالى منه، وهذا هو جوهر البيعة.

وعجيب أمر هذه الوَديعَة الإلهيّة، وعجيب كرم الله تعالى وفضله ورحمته بعباده!

فما بأيدينا من الأنفس والأموال لله تعالى، وليس لنا منه شيء، أودعَها عندنا وهو أَولى بها، وهو خالقها ومالكها، ثمّ يشتريها من عباده بعد ذلك، ويَعِدهُم بالجنّة ثَمَناً لها، ثمّ يُودِعها لدينا إلى حين الدعوة والطَلب، ثمّ إذا شاء بعد ذلك أن يسترجع وديعته.

قال عزّ مَن قائل:( مَن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... ) (١) .

سُبحانك ما أكرمك، وأكرم عطاياك! وما أجملك وأجلّ أسماءك وصفاتك الحُسنى!

وما أبخلنا وألأمَنا! فنحن عبادك الذين نضنّ بأنفسنا وأموالنا عنك! فتَوَلّ اللّهمّ لُؤمنا بكرمِك، وشحّنا برَحمتك.

____________________

(١)البقرة: ٢٤٥.

١٠٦

البَيْعَة ميثاق (الدعوة) والدولة:

والبَيْعَة ميثاق، وهذا الميثاق يُحمِّل الإنسان المسلم مسؤوليَّتين كبيرتين:

الأُولى: مسؤوليّة الدعوة إلى الله تعالى، والقيام بأعبائها وتحمّل الخسائر الـمُترتِّبة عليها، وتوطين النفس لذلك.

الثانية: مسؤوليّة الدولة الإسلاميّة، وبنائها والدفاع عنها.

وهاتان الـمُهمّتان شاقّتان عسيرتان، ولا ينتهي دَور الإنسان ومسؤوليَّته تجاه الإيمان بالله وبرسوله، ما لم يتعهَّد أمر الدعوة والدولة معاً.

وهذه المهمّة الـمُزدوَجة هي أساس معاناة وابتلاء ومتاعِب الأنبياءعليهم‌السلام ، فلن تستقرّ الدعوة، ولن تتمكّن من العقول والقلوب والحياة من دون التصدِّي والمواجهة، ولن تشقَّ طريقها إلاّ على أنقاضِ الدعوات الجاهليّة، وعلى أجساد الطغاة والجَبابرة الذين يَحولون بين الناس والاستجابة لدعوة الله.

وما يُقال في الدعوةِ يُقال في الدولة بشكلٍ أقوى وأوضح، فإنّ (الدولة) هي سيادة الدعوة وسُلطانها على الأرض، وكلمتها النافذة، ولا تستطيع الدولة أن تفرض سلطان الدعوة على الحياة الاجتماعيّة، دون أن تواجه صنوفاً من العَقَبات والتحدِّيات.

وهذه المواجهة في طريق تَمْكِين الدعوة والدولة وتذليل العَقبات، تتطلَّب البَذل والتضحية والصَبر، وتوطين النفس لكلّ ذلك من قِبل الأُمّة، حامِلة رسالة الدعوة والدولة، فلابدّ من مبايعة قائد المسيرة على البذلِ والعطاء والتضحية والفداء، وأن يُجاهدوا خِفَافَاً وثِقالاً، وألاّ يُعيقهم عن الجهاد في سبيل الله الأزواج والبنون والأموال والتَعلّقات والمواقِع، وأن يتجرَّدوا لله تبارك وتعالى من كلّ ارتباط وتعلُّق، عدا الارتباط بالله والتعلّق بالدعوة وهمومها وآلامها.

١٠٧

البَيْعَة طاعَةٌ وتَضحِية:

ولابدّ في البيعة من أمرين:

١ - الطاعة والانقياد.

٢ - التضحية والعطاء.

قال ابن عُمَر: (كنّا نُبايع رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على السَمْعِ والطاعة)(١) .

وعن ابن عُمَر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (على الـمَرءِ المسلم السَمْع والطاعة فيما أحبَّ وكَرِهَ، إلاّ أن يُؤمَر بمَعصيةٍ، فإذا أُمِر بمعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعة)(٢) .

وعن يزيد بن أبي عبيد - مولى سَلَمه بن الأكوع - قال: قلتُ لسَلَمه: (على أيِّ شيء بايعتُم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحُديبَّية؟

قال: على الموت)(٣) .

فلا تستقيم الدعوة ومسيرتها، ولا تحقِّق أهدافها من دون هذين الأمرين.

والطاعة والتضحية أمران مُتلازمان، وهما يُساويان التخلّي الكامل عن النفس ورغباتها ومشتهياتها لله تبارك وتعالى، والجنّة هي الثَمن الّذي يتقاضاه الإنسان المؤمن إزاء ذلك.

آيةُ البَيْعَة:

والبيعة بهذا الـمُحتوى الرفيع، لن تكون إلاّ مع الله تعالى، وأمّا الذين يُبايعون

____________________

(١)صحيح البُخاري: كتاب الأحكام / باب البيعة.

وصحيح مسلم: كتاب الإمارة / باب البيعة على السَمْعِ والطاعة / ٦ / ٢٩، دار الفكر.

(٢)مسند أحمد بن حنبل: ٢ / ١٧ و ١٤٢.

(٣)صحيح مسلم: كتاب الإمارة / باب استحباب مُبايعة الإمام / ٦ / ٢٧، دار الفكر.

١٠٨

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّما يُبايعون الله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (١) .

فلا تكون البيعة - بالـمُحتوى الّذي شرحناه - مع طرفٍ آخر غير الله، ولا يصحّ أن يتجرّد الإنسان ممّا آتاه الله تعالى لغير الله.

وكلمة (إنّما) في قوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ... ) ذات دلالة عميقة؛ فهي تأتي لحصرِ البيعة والولاء بالبيعة لله تعالى، ونفي أيَّة بَيْعة أُخرى غير البَيْعة لله.

( ... يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... ) ، فاليد الّتي يُصافحونها في البيعة وإن كانت يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها تمثّل يد الله، وعلوّها من علوِّ يد الله، وهذه الجملة تُقرِّر عدّة حقائق إيمانيّة وسياسيّة في وقت واحد.

فلابدّ في هذه البيعة من يدٍ أعلى فوق أيديهم، ومن دون هذا العلوِّ لا تتمّ الولاية والبيعة والطاعة.

ولابدّ أن يكون هذا العلوّ علوّاً حقيقيّاً، فاستعلاء بعض الناس على بعضٍ ليس من ذلك، وإنّما هو من الاستكبار الذي يَمْقته الله تعالى.

و (يد الله) هي العُليا في هذه البيعة( ... يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... ) ، وهي وحدها الحَرِيَّة بالبَيْعة والطاعة والولاء، أمّا يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليست هي المقصود بالذات في هذه البيعة، وإنّما المقصود يد الله، وتكتسبُ العلوّ والولاية من الله.

وهذه الحقائق بمجموعها، ترسم لنا الأبعاد الكاملة لتوحيد الولاء، وهو بعد (توحيد الإيمان بالله) يُعتبَر الأساس والرَكيزة لبناء المجتمع الإسلامي، وتنظيم شبكة العلاقات داخل المجتمع.

فالذي يتأمّل في نسيج (العلاقات) داخل

____________________

(١)الفتح: ١٠.

١٠٩

المجتمع الإسلامي، سواء ما يتعلّق منها بالعلاقة بالله ورسوله وأوليائه والقيادة الإسلاميّة (العلاقة العَموديّة)، أو العلاقات الّتي تربط أعضاء المجتمع الإسلامي بعضهم ببعض (العلاقات الأُفقيَّة)؛ يجد أنّ هذه العلاقات تُكوِّن جميعاً شبكة واحدة، ونظاماً واحداً يُسمَّى بـ (الولاء)، وليست مجموعة من الشبكات والأنظمة.

وأنّ هذه الشبكة الواحدة تَنْبع من مصدرٍ واحد، وهو الارتباط بالله تعالى والولاء له، (بمعنى الطاعة والنصرة والحُبّ)، ومن هذا المصدر الولاء.

ولابدّ من هذه البيعة في كلّ جولة للدعوة، وفي كلّ مرّة تتصدَّى فيها الدعوة، لإقامة الدولة وتتعرَّض فيها الدولة لتَحديّات الجاهليّة؛ وذلك لتعميق العلاقة بالقيادة، وتعميق الإحساس بالمسؤوليّة الكبيرة في قيام الدعوة والدولة، وتوطين النفوس للطاعة والتضحية والتجرّد لله.

أربعُ بَيْعَات في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين إلى البيعة أربع مرّات في حياته الـمُباركة:

١ - بَيعة العَقَبَة الأُولى.

٢ - البَيْعة الكبرى بالعَقبة.

٣ - بيعة الرضوان، أو بَيْعة الشجرة(١) .

٤ - بَيْعة الغدير.

والبيعة الأُولى كانت تخصّ أمر التعهّد بالدعوة، والتزامها وتَبنِّيها.

والبيعة

____________________

(١)تُراجَع تفاصيل هذه البَيْعات في كتاب: (مَعالِم الـمَدرستَين)، للعلاّمة الـمُحقِّق السيّد مرتضى العسكري: ١ / ٨٨ - ٨٩.

١١٠

الثانية والثالثة والرابعة، كانت تتعلَّق بأمر الدولة وبنائها وحمايتها.

البيعة الأُولى:

قال عبادة بن الصامت: (... بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله) بَيْعَة النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ الْحَرْبُ، عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيه بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَه فِي مَعْرُوفٍ.

فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فأخذتُم بحدِّه في الدنيا، فهو كفّارة له، وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلّ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ)(١) .

البيعة الثانية:

قال كعب بن مالك: (خرجنا من المدينة للحجِّ وتواعدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (العقبة)، أواسط أيّام التشريق، وخرجنا بعد مُضيّ ثُلث الليل، مُتسلِّلين مُستخفين، حتّى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجُلاً وامرأتان.

فجاء رسول الله ومعه عمّه العبّاس، فتكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورَغَّب في الإسلام ثمّ قال: أُبايعكم على أن تَمنعوني ممّا تمنعون نساءَكم وأطفالَكم، فأخذ البَراءُ بن مَعْرُور بيَدِه، ثمّ قال: نعم والذي بعثك بالحقّ، لنمنعك ممّا نمنع به أُزُرَنا (نساءنا).

فبايعنا يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ بيننا وبين الرجال حِبالاً، وإنّا قاطعوها (يعني اليهود)، فهل عَسِيت إن نحن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله أن تَرْجِعَ إلى

____________________

(١)سيرة ابن هشام: ٢ / ٧٥، ط، مصطفى البابي الحلبي.

١١١

قومِك وتَدعنا؟

فتبسَّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: بل الدَمَ الدَمَ، والهَدْمَ الهَدْمَ،(أي: ذمّتي ذمّتكم وحُرمتي حُرمتكم)) (١) .

قال ابن قُتيبة: (كانت العرب تقول عند الحِلف والجوار: دَمي دَمك وهَدمي هَدمك، أي: ما هدمتَ من الدماء هدمتُه أنا).

البيعة الثالثة:

وهي بيعة الرضوان أو (بيعة الشجرة).

(في سنة سبع من الهجرة استنفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه للعُمْرة، فخرج معه ألف وثلاثمئة أو ألف وستمئة، ومعه سبعون بُدْنَة، وقال: لستُ أحمل السلاح، إنّما خرجت مُعتمِراً.

وأحرم من ذي الحُلَيْفَة، وصاروا حتّى دنوا من الحُديبيّة، على تسعة أميال من مكّة، فبلغَ الخبر أهل مكّة، فراعَهُم واستنفروا مَن أطاعَهم من القبائل حولهم، وقدموا مئة فارس، عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل، فاستعدّ لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: إنّ الله أمرني بالبَيْعَة، فأقبلَ الناس يُبايعونه على ألاّ يفرّوا، وقيل: بايَعَهُم على الـمَوت) (٢) .

البيعة الرابعة:

وهي بَيْعَة الغدير المعروفة، ومنها أخذ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة من المسلمين

____________________

(١)سيرة ابن هشام: ٢ / ٨٤ - ٨٥.

(٢)إمتاع الأسماع، للمقريزي: ٢٧٤ - ٢٩١. ويُراجَع: ابن هشام: ٣ / ٣٣٠، ط. مصطفى البابي الحَلَبي.

وقد نقلنا نصوص البَيعة كلّها من كتاب (معالم المدرستَين) عن المصادر التي أشرنا إليها في الهامش.

١١٢

- وقد رُوي أنّهم يوم ذاك في غدير خُمّ مئة وعشرون ألف شخص - لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، من بعده بالإمامة وقيادة الدولة من بعده.

والحادث معروف يرويه عدد كبير من أرباب الحديث والسِيَر والتاريخ.

* * *

( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) :

نعود مرّة أُخرى للحديث عن آية الشهادة في القرآن:( ... يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ... ) ، وهذه ثلاث قضايا مُقترِنة ببعضها، لا يُمكن تفكيكها وتجزئتها، ولا يُمكننا أن نفهمَها فهماً صحيحاً إلاّ بهذه الصورة الـمُتّصلِة، وضمن هذا الإطار الواحد الّذي يرسمه القرآن( ... يُقاتِلون... فيَقتُلُون ويُقتَلُون... ) ، وتلك هي القضيّة الأُولى.

وفي سبيل الله، وليس في سبيل الطاغوت، وعلى طريق الدعوة إلى الله، ومن أجْل تقرير أُلوهيَّة الله على وجه الأرض، وبلوغ رضوانه ومَرضاته، وتلك القضيّة الثانية في هذه الكُلِّيّة.

وهذا الوعد بالجنّة، وهذه الدعوة إلى القتال وهذه الـمُبايَعة، لا تخصّ الّذين قاموا مع النبيّ الأُمّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتطهير الأرض من الطاغوت وتقرير أُلوهيَّة الله على وجه الأرض، وإنّما هي سُنّة قديمة لله تعالى في عباده، منذ التوراة والإنجيل، ومنذ حياة الأنبياء السابقين (عليهم السلام ٍ) إلى اليوم.

وشأن هذه الأُمّة اليوم شأنها في زمن موسى وعيسىعليهما‌السلام ، ومَن قبلهما من الأنبياء والـمُرسَلين، لن تنال رحمة الله ورضوانه إلاّ بتحكيم أُلوهيَّة الله وحاكميّته على وجه الأرض، ولن تُحقِّق حاكميّة الله على وجه الأرض إلاّ من خلال هذه الـمُعاناة والقتال والدماء:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا

١١٣

مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ... ) .

مسيرة واحدة مُخضَّبة بالدَم، منذ عهد موسى وعيسىعليهما‌السلام ، ومن قبلهما من الأنبياء، إلى أن يتولَّى المهدي من آل محمّدعليه‌السلام تطهير الأرض من رِجس الطُغاة وعَبثهم وفسادهم، وإلى أن تقوم القيامة ويُنشَر الناس للحساب.

وتلك القضيّة الثالثة في هذه الكلمة الّتي يعرضها هذا النصّ العجيب من كتاب الله تعالى.

حَتميَّة القتال في مَسيرة الدعوة:

ومن هذه النقاط الثلاث، نستطيع أن نُدرِك التصوّر الإسلامي الكامل لمسألة القتال ضرورة حتميّة من ضرورات الدعوة إلى الله تعالى، ولا يُمكن تفكيك مسيرة الدعوة إلى الله عنها، وهذه الضرورة والحتميّة ليست قضيّة جديدة في مسيرة الدعوة، وإنّما هي ضرورة تاريخيّة وحَتْمِيّة من الحتميّات التاريخيّة للدعوة إلى الله.

فإنّ الدعوة إلى الله لا يُمكن أن تشقّ طريقها على وجه الأرض إلى قلوب الناس وعقولهم، ولا يُمكن أن تتحرَّك الدعوة إلى الله لتحرير عقول الناس وقلوبهم من (الإصْرِ) و (الأغلال)، دون أن تُواجه سُخط الجاهليّة وتَحدّيها وغضبها؛ ذلك أنّ الدعوة لا تتحرّك في خَلاء سياسي واقتصادي واجتماعي، وإنّما تتحرّك في المساحة الّتي تحتلّها الجاهليّة من قَبْل، أو تريد احتلالها، وتتحرّك على حساب نفوذ وسلطان وطموحات الجاهليّة في هذه المساحات، ولا يُمكن أن تواجه الجاهليّة تقدّم الدعوة ومسيرتها بالسكوت والاستسلام، وتَفْسَح الطريق لها.

إنّ الّذين يتصوّرون أنّ الدعوة تتحرّك في منطقة فراغٍ سياسيّة واجتماعيّة

____________________

(١)البقرة: ٢١٤.

١١٤

واقتصاديّة، بعيدون عن الواقع، وعلى درجة عالية من السذاجة والبساطة في فهْمِ الأمور.

والأمر الواقع أنّ الإنسان الّذي تُحرّره الدعوة من الإصرِ والأغلال، يخسره الطاغوت، ولن يعود أداة طَيّعة له، وموضِعاً لاستثماره.

وعليه، فلا يُمكن أن تتقدّم الدعوة على وجه الأرض من دون أن تواجه تحدّياً قويّاً من الجاهليّة، ومواجهة حادّة من الطاغوت، ومعارَضة بكلّ الوسائل الـمُمكنة من قِبل أقطاب الجاهليّة وأئمّة الكفر.

وللجاهليّة محاور وولاءات كثيرة، لكنّها جميعاً تجتمع عند هذه النقطة في مواجهة محور الولاء لله، وتتناسى كلّ ما لديها من خلافات قديمة وحديثة؛ لمواجهة العدوّ الـمُشترَك الّذي يُصادر وجودها جميعاً.

إنّ الجاهليّة فيما بينها ولاءات متعدِّدة ومُتقاطِعة أحياناً، ولكنّها في مواجهة الإسلام كُتلَة واحدة وبراءة واحدة، وهذه الحقيقة تجعل من الجاهليّة مُواجهة صارمة عَنِيفَة لمسيرة الدعوة.

الـمُواجَهة المصيريَّة بين الإسلام والجاهليَّة:

هذا هو التصوّر الواقعي لمسيرة الدعوة والمواجهة الجاهليّة لها.

ولا تنتهي هذه المواجهة والتحدّي الجاهلي إلاّ عند التَصْفية الكاملة لحركة الدعوة، والـمُصادَرة الكاملة لإرادة الإنسان، والسيطرة الكاملة على كلّ مساحات الدعوة، والإنهاء الكامل لكلّ مراكز ومواقع الدعوة إلى الله، وكلّ مراكز ومواقع الاستجابة لدعوة الله تعالى.

وإلى هذه الحقيقة - في تركيب وبُنْيَة الجاهليّة - يُشير القرآن الكريم:( ... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً... ) (١) .

لا تتوقّف الجاهليّة إلاّ عند تصفية هذه

____________________

(١)الحجّ: ٤٠.

١١٥

المراكز جميعاً (البيَع، والصلوات، والمساجد)، وكلّ موقع ومركز يُذكَر فيه اسم الله ويُدعى فيه إلى الله تعالى.

ولا سبيل إلى إيقاف الجاهليّة وصدّها عن العدوان وعن الفتنة في طريق الدعوة إلاّ بالقتال والجهاد، واستئصال الكفر والجاهليّة( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ... ) (١) .

فالقتال إذن، ضرورة من ضرورات الدعوة، ولا يمكن أن تنطلق مسيرة الدعوة على وجه الأرض من دون قتال ودم، ولا يمكن أن تُؤدّي الدعوة رسالتها على وجه الأرض، دون أن تعدّ الإعداد الكامل لهذه الحرب المصيريَّة والحضاريّة، ودون أن تُوطِّن نفسها لهذه المواجهة العنيفة، التي لا ترحم صغيراً ولا كبيراً.

والتفكير في المصالحة والهُدْنَة والتفاهم مع الجاهليّة تفكير ساذج وغير واقعي، وغير مَبدئي في نفس الوقت، فليس لنا مع الجاهليّة والطاغوت غير خيار واحد، وقرار واحد، وهو الاستمرار في القتال - ضمن مراحل العمل والحركة - حتّى يتمّ القضاء الكامل على الجاهليّة، وبها يتمّ القضاء الكامل على الفتنة على وجه الأرض.( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ... ) .

العلاقة العضويَّة بين أطراف الجاهليّة:

إنّ الجاهليّة الـمُعاصِرة كالجاهليّة في أيّ وقت آخر، ذات ولاءات ومحاور مُختلفة، لكنّها قِبالة الإسلام تجمعها علاقة عضويّة واحدة، وهذه الحقيقة التاريخيّة هي التي تُفسِّر لنا كيف اجتمعت أميركا وروسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول الكبرى على دَعْمِ النظام العراقي في ضرب الثورة الإسلاميّة، والكيد للدولة الإسلامية.

____________________

(١)البقرة: ١٩٣.

١١٦

إنّ هذه المسائل السياسيّة تكشف عن طبيعة الجاهليّة وارتباطها العضوي، ووحدة الموقف السياسي عندها في البراءة، وإن كانت هي في داخلها ذات محاور وولاءات مُتعدِّدة ومُتخالِفة.

شَراسَة الجاهليّة في صراعِها مع الإسلامِ:

إنّ الفَتْكَ والبَطش والشراسَة من خصائص الجاهليّة في صراعها مع الإسلام، وتُحاول الكيانات الجاهليّة في صراعها السياسي والعسكري مع الإسلام أن تَتَقَنّعَ بقناع الإنسانيّة والأخلاق، فإذا طال الصراع واستنفذتْ الجاهليّة وسائلها الـمُمكنة، ووجدت نفسها في خطرٍ حقيقي، ألقَتْ هذا القِناع جانباً، وظهرت بكلّ بَشاعَتها للساحة وللرأي العام.

ويطول هذا الصراع ولا يُمكن الوصول فيه إلى تفاهم أو مصالحة، ولا أمَد للحرب غير سقوط الجاهليّة ونهايتها، وإخلاء الساحة الإنسانيّة لحركة الدعوة إلى الله؛ فالصراع هنا ليس صراعاً على أرض وماء أو حقل من حقول النفط، وإنّما الصراع هنا (صراع حضاري) بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من دلالة وعُمق.

وبكلمة موجزة جدّاً: إنّ الصراع هنا صراع الولاءات وليس صراع المصالح، حتّى يُمكن فيه التفاهم والصُلح واللقاء.

الإيمانُ بالله يُساوي التخلِّي عن الأنفُسِ والأموال:

ولابدّ أن نقف وقفة أُخرى عند كلمة:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، فإنّ الآية الكريمة تُقرِّر قضيّة هذا البيع والشراء بصيغة الماضي وليس بصيغة المضارع، ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... ) ، من كلّ المؤمنين دون تَخصِيص.

إنّها لآية عجيبة حقّاً، تهزّ الإنسان من الأعماق وتُشْعِر الإنسان بعُمق معنى

١١٧

الإيمان، وبثُقل الإيمان الكبير.

فكلّ إيمان بَيْعَة مع الله، وكلّ مَن آمنَ فقد باع نفسه لله، وتخلّى عن نفسه وماله له تعالى من دون تردّد.

إنّ القضيّة أعمق من الاستعداد للتخلّي، انّه هو التخلّي الفِعلي عن النفس والمال لله، وهذا هو معنى (البيع) و (الشراء)، وليس الاستعداد للتنازل عن الأنفس والأموال، وإنّما التخلّي الفِعلي عن كلّ شيء يملكه لله تعالى، من دون تردّد ولا تراجع ولا نظرة إلى الوراء، فقد تمّ البيع وتمَّتْ الصفقة وحُسِمَ الأمر، فلا إقالة ولا رَجعة.

وهكذا كان يفهم المسلمون الأوائل هذه الآية الكريمة، عندما كبّروا لمّا تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية عليهم، وقال قائلهم: (بَيْع رَبيْح لا نقيل ولا نستقبل).

وثيقة البيع:

وأمّا الوفاء بالثَمنِ ووثيقة البيع، فإنّ الشاري هو الله تعالى، وهو الـمُتعهّد بالثمنِ، ومَن أوفى بعهدِه من الله؟!

وإنّ المؤمن ليتصوَّر هذا الثمن الكبير الباقي لهذه البضاعة النافذة، ثمّ يعلم أنّ الله تعالى هو الذي يتولَّى الوفاء بهذا العهد، فتمتلئ نفسه غِبْطة وراحة ويقيناً، ويطمئنّ قلبه بعهد الله تعالى وميثاقه.

ومن عجيب أمر هذا البيع والشراء وثيقة هذا البيع، فإنّ وثائق البيوع تختلف باختلاف أهمِّيَّة درجة البيع وقِيمته، وإذا كان الـمُشتري في هذا البيع هو الله تعالى، والبضاعة هي الأنفس والأموال، والثمن الجنّة، فلابدّ أن تكون وثيقة هذا البيع على قَدَر قيمته.

وأعزّ الوثائق كُتُب الله تعالى، وألواح الوحي الـمُرسَلة إلى أنبيائه، ووثيقة هذا البيع من هذا النوع: (التوراة والإنجيل والقرآن)، وناهيك بها عن وثائق تبعث الطمأنينة والثِقة في أضعف النفوس.

ولأمرٍ ما، يأتي في هذه الآية الكريمة تأكيد الـمُوثِّق في هذا البيع، ويأتي ذِكر المواثيق التي سجّل الله تعالى فيها عهده لعباده بالجنّة، ويأتي قوله تعالى:

١١٨

( ... وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ... ) (١) .

فإنّ القلوب كلّما كانت تطمئنّ أكثر لوعد الله، قَدمتْ على هذه المبايَعة مع الله بثِقةٍ ويقين أكبر، والضعف في الاطمئنان لا يُنافي الإيمان، فقد يكون الإنسان مؤمناً، ولكن لم يبلغ في تعامله مع الله تعالى درجة عالية من اليقين والاطمئنان، ومِثل هذا الإيمان، يَشوبه الكثير من الضعف والتخلّف عند المبايَعة والاستجابة لدعوة الله تعالى.

وأمّا عندما ترتفع درجة ثِقة الإنسان بوعد الله تعالى إلى مستوى (الطمأنينة) و (اليقين)، فإنّ الأمر يختلف بالنسبة إليه اختلافاً كبيراً، وتكاد تكون (الجنّة) ثمناً مقبوضاً، والبيع نَقْداً، وليس الثَمَن موعوداً.

إنّ الذين رزقَهم الله الطمأنينة واليقين، يرون وعد الله حاضراً، ويرون الجنّة ماثِلة أمام أعينهم، فلا يشكّون ولا يتردّدون ولا يُحجِمون، ولا يُساورهم شكّ ولا رَيب، ويُقدِمون على المبايعة مع الله من دون خوفٍ أو تراجع، أو نظر إلى الوراء، ويُقدِّمون أنفسهم وأموالهم لله ببساطة وارتياح، ومن غير معاناة.

روى مسلم، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه يوم بدر: (قوموا إلى جنّة عَرْضها السماوات والأرض.

قال عُمَر بن حمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرضها السماوات والأرض؟!

قال:نعم .

قال: بَخٍ بَخٍ.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟.

قال: لا والله يا رسول الله، إلاّ رجاء أن أكون من أهلها.

____________________

(١)التوبة: ١١١.

١١٩

قال: فإنّك من أهلها.

فأخرج تَمْرات من قِرْبه، فجعل يأكل منهنّ.

ثمّ قال: لئن أنا حَييت حتّى آكل تمراتي هذه، إنّها لحياة طويلة.

قال: فرمى بما كان معه من التَمْرِ، ثمّ قاتلهم حتّى قُتِل ).(١)

وروى مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، قال: (سمعت أبي، وهو بحضرة العدوّ، يقول: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السيوف، فقام رجل رثّ الهَيئة، فقال: يا أبا موسى، أنت سمعتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثمّ كسَرَ جَفن سيفه فألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدوّ، فضربَ به حتّى قُتِل) (٢) .

بمثل هذه البساطة والثِقة والطمأنينة، كانوا يتعاملون مع الله تعالى.

وقد هازَلَ بُريْر عبد الرحمان الأنصاري، ليلة عاشوراء، فقال له عبد الرحمان الأنصاري: ما هذه ساعة باطل.

فقال بُرير: لقد علِم قومي، ما أحببتُ الباطل كَهلاً ولا شابّاً، ولكنّي مُستبشِر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العِين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوَدَدت أنّهم مالوا علينا الساعة(٣) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحُصين: ما هذه ساعة ضحكٍ يا حبيب!

قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلاّ أن يميل علينا

____________________

(١)الجامع الصحيح لمسلم: ٦ / ٤٤ / كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنّة للشهيد، دار الفكر - بيروت.

(٢)الجامع الصحيح لمسلم: ٦ / ٤٥ / كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنّة للشهيد.

(٣)تاريخ الطبري: ٦ / ٢٤١.

١٢٠

هؤلاء بأسيافهم فنُعانق الحُور(1) .

روي عن جابر، أنّ رجلاً قال - في ساحة المعركة -: (أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟

قال: في الجنّة. فألقى تمرات كنّ في يده، ثمّ قاتل حتّى قُتل) (2) .

والثَمن هو الجنّة:

ثمّ إنّ الجنّة هي الثمن في هذه المبايعة( ... بأنّ لهم الجنّة ) ، ويستتبع الوعد بالجنّة البُشرى السارَّة الّتي يزفُّها القرآن إلى المجاهدين:( ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، الجنّة والبشرى والفوز العظيم.

وتنتهي الآية الكريمة مرّة أُخرى بالبشارة( ... وبشّر المؤمنين ) .

إنّ جوّ الآية يطفح بالبُشرى والسرور والفوز، وهكذا يشعر الإنسان عندما يقرأ هذه الآية المباركة أنّه ينتقل فيها من الجنّة إلى البشرى، ومن البشرى إلى الفوز العظيم، ومن الفوز العظيم إلى البُشرى ثانية.

الفوز العظيم:

وأودّ أن أقف قليلاً عند هذه الكلمة( ... الفوز العظيم ) ، فهو مصطلَح محدّد في كتاب الله، والّذي يتتبَّع مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن، يجد أنّها تستعمل في موارد مُتقاربة مفهوماً ومترابطة أو متَّحدة مصداقاً، فالجنّة من الفوز العظيم( لكِنِ الْرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا

____________________

(1)مقتَل الـمُقرّم: 238.

(2)صحيح مسلم: 6 / 43.

١٢١

ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، والمبايعة مع الله من الفوز العظيم:( فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) .

وطاعة الله وطاعة رسوله (ولاية الله) من الفوز العظيم:( ... وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (3) .

ورضوان الله وتبادل الرضا بين العبد وربّه من الفوز العظيم:( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (4) .

ويُطلَق على الجنّة ورضوان الله معاً:( وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (5) .

ويُطلَق على الـمَغفرة والرحمة الإلهيّة، والوقاية من السيّئات( وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (6) .

وإجمال هذه المعاني: الرحمة، والـمَغفرة الإلهيّة، ورضوان الله وطاعة الله ورسوله (ولاية الله والجنّة).

وهذه النقاط كما هي واضحة، تُعتبَر بمجموعها المحور الثاني الّذي تحدّثنا عنه في هذه التأمّلات في مسيرة الإنسان إلى الله، والّذي يُقابِل محور (الأنا) و (الذات).

____________________

(1)التوبة: 88 - 89.

(2)التوبة: 111.

(3)الأحزاب: 71.

(4)المائدة: 119.

(5)التوبة: 72.

(6)المؤمن: 9.

١٢٢

وعليه، فإنّ الثمن في هذه الآية الكريمة من جنس الـمَبيع وهو (الفوز العظيم)، وليس من نوعٍ آخر كما في سائر البيوع، حيث يختلف الـمَبِيعُ عن الثمن، وهذه من لطائف ورِقاق القرآن في هذه الآية الكريمة.

فالفوز العظيم - في الحقيقة - هو: التجرّد من محور الأنا والارتباط بمحور ولاية الله، والخروج من دائرة نفوذ سلطان الأنا والدخول في دائرة ولاية الله وطاعته ورحمته ومغفرته.

وهذا هو الفوز العظيم - في رحلة الإنسان الكبرى إلى الله - في الدنيا وفي الآخرة، وهو يشمل الإنسان في الآخرة كما يَناله في الدنيا على نحوٍ سواء.

والـمُتأمِّل في هذه الآية الآية المباركة:( الّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى‏ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، يجد أنّ الفوز العظيم هو تحرّر الإنسان وانطلاقه من أسْرِ (الأنا) والشهوات وارتباطه بالله تعالى، وهو لا يخصّ الآخرة، وإنّما يشمل الإنسان في الدنيا والآخرة.

فإنّ الجنّة هي الفوز العظيم، وهي مآل الفائزين برحمة الله، والمنزل الذي أعدّه الله تعالى لهم في الآخرة، فالفوز العظيم إذن هو: مُبايَعة الله تعالى وتسليم الأنفُس والأموال له، وهو في نفسِ الوقت ثَمن هذا البيع(2) .

صفة الّذين باعوا أنفُسهم لله:

ثمّ تصف الآية الكريمة هؤلاء الّذين باعوا أنفسهم لله بأنّهم: (التّائِبُونَ

____________________

(1)يونس: 63 - 64.

(2)لست أُريد أن أقول إنّ الجنّة هي مبايعة الله تعالى وتسليم الأنفس والأموال لله، وإنّما أُريد أن أقول: إنّ المبايعة لله هي الفوز العظيم، فيتَّحد البيع والثَمن، والجنّة هي الدار الّتي أعدّها الله تعالى في الآخرة للفائزين الصالحين من عباده.

١٢٣

الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(1) .

تائبون عائدون إلى الله، أقلعوا عن الذنوب وفرّوا إلى الله تعالى.

عابدون حامدون، شوقاً إلى الله تعالى وأُنْساً بذِكره وعبادته؛ لأنّهم وجدوا الله أهلاً للعبادة فعبدوه، وأهلاً للحَمدِ والثناء فحمدوه.

وسائحون، وقد اختلفَ الـمُفسِّرون في تفسير هذه الكلمة، فقالوا: إنّها بمعنى الصيام، وقيل: إنّها بمعنى الجهاد، وقيل: إنّها بمعنى التأمّل والسياحة الفكريّة في آيات الله، وهو المعنى الّذي أُرجِّحه هنا.

الراكعون الساجدون لله، والركوع والسجود أقصى درجات الخضوع والتذلّل بين يَدي الله، يُجسّدان حالة الخشوع والخضوع والإخْبَات والإنابة عند المؤمنين:( ... الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ... ) ،( وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ... ) .

والأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكَر هو: الرقابة على تنفيذ أحكام الله ومُراقبتها.

وحِفظ حدود الله هو: تنفيذها، والعمل بها.

فهؤلاء المجاهدون إذن، منفّذون لأحكام الله، عاملون بحدود الله، وفي نفس الوقت يُراقبون تنفيذها، يُنفّذون أحكام الله بأنفسهم ويراقبون تنفيذها في حياة الآخرين، فهم يشعرون بالمسؤوليّة تجاه حدود الله وأحكامه، في حياتهم وفي حياة الآخرين.

____________________

(1)التوبة: 112.

١٢٤

آيةُ (آل عِمْرَان):

وفي سورة (آل عمران)، نلتقي هذه اللوحة القرآنيّة الرائعة عن الشهيد، والتي تستوقِف الإنسان طويلاً، وتُخرِجه من دائرة تصوّراته البشريّة المحدودة عن الموت والحياة، إلى أُفقٍ واسع جديد لم تعهده تصوّراتنا المحدودة عن الموت والحياة، وتُعطي للحياة معنى جديداً لا تعرفه التصوّرات الجاهليّة للإنسان.

وها نحن نتلو معاً هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران:( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الّذِينَ اسْتَجَابُوا للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُؤءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنّمَا ذلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) (1) .

____________________

(1)آل عمران: 169 - 175.

١٢٥

الحياة الطيِّبة:

الحقيقة الأُولى في هذه اللَوحة القرآنيّة:

إنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أحياء وليسوا بأموات، والنهي عن تصوّر أنّ الشهداء أموات:( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً... ) .

إنّ المسألة ليست من المجاز في التعبير، وإنّما هي حقيقة داخلة في حَيِّز النفي والإثبات - النهي عن حُسبان الشهداء أمواتاً، وإثبات أنّهم أحياء -، وهذا تصوّر جديد على الذهنيّة المادِّيّة تماماً.

ليست الحياة هي فقط هذه الفرصة، وهذه الرقعة الضيّقة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا.

وليست الحركة الحيوانيّة الّتي يُمارسها الإنسان في هذه الدنيا من أكل وشرب، وتسابق على متاع الحياة الدنيا وزُخرُفها، ونشاط وحركة في حقلِ الغرائز الحيوانيّة، هي المؤشِّر والمقياس الوحيد للحياة، فهذه رقعة صغيرة للحياة، محدودة الأمد قصيرة الـمَدى، حافلة باللَهو واللعب.

إنّ ما بأيدي الناس هنا سراب بقِيْعَة يحسبه الظمآن ماءً، وليس من الحياة في شيء، أمّا النبع الصافي والزلال للحياة، فشيء آخر يختلف تماماً عمّا يعرفه الناس، والله تعالى ورسوله يدعوانا إلى الحياة الطيّبة الحقيقية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ... ) (1) .

وهذا الذي يدعونا إليه الله تعالى ورسوله من الحياة شيء آخر، غير ما يتنافس عليه الناس من اللَهو واللعب، والتفاخر والزينة، وما يَشُوبه من البعد عن الله

____________________

(1)الأنفال: 24.

١٢٦

والبَغضاء، والمعاصي والذنوب، والاستغراق في مَتاع الحياة الدنيا والتعلّق بها، وحياة الذُلِّ والهَوانِ والعبوديّة لغير الله، والاستسلام للأهواء والشَهوات.

إنّ الحياة في التصوّر الإسلامي انطلاق من القيود والأغلال، وتحرّر من أسْرِ الهوى والشهوات، وخروج من ذلِّ الانقياد والاستسلام للطغاة إلى عزِّ العبوديّة لله تعالى.

والحياة - في هذا التصوّر الجديد على البشريّة - تحرّر من كلّ تعلّق بالدنيا، لا بمعنى ترك الدنيا ولذّاتها، فإنّ الإنسان المؤمن يأخذ نصيبه ممّا خلق الله من الطيّبات، كالآخرين أو أفضل من الآخرين، إلاّ أنّه لا يقع في قَبْضةِ التعلُّق بالدنيا ولا تتحكّم فيه، ولا يكون مصداقاً لقولهعليه‌السلام : (حبُّ الدُنيا رأس كلّ خَطيئة)(1) .

إنّ ما بأيدي الناس من الحياة ليس من الحياة في شيء، وإنّما هي أقرب إلى حياة البَهائِم منها إلى حياة الإنسان، أمّا الحياة الحقيقية، فهي الّتي اختارها الله للصالحين من عباده في الدنيا والآخرة، وهي (الحيوان) في الآخرة:( ... وَإِنّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (2) ، والحيَوان: مبالغة في الحياة، إنّها الحياة الحافِلة بلقاء الله والإيمان، والحُبّ والشهود والصِدق والطَيّبات، وفي أُفقٍ واسعٍ عَريض، وعلى مدى الخُلودِ والأبديّة، حياة الروح والجسم والعقل معاً.

والشهيد في حركته الصاعدة إلى الله، ينتقل من هذه الرقعَةِ الضيِّقة من الحياة الفانية والـمُؤقَّتة إلى ذلك الأُفقِ الرحيب من الحياة، ومن هذه الـمَشوبة بالأكدار والابتلاءات إلى النبع الصافي الزُلال من الحياة، وليس إلى الموت والركودِ والغياب كما يتصوّره الناس.

____________________

(1)بحار الأنوار: 51 / 258.

(2)العنكبوت: 64.

١٢٧

أعلى دَرَجات القُربِ من الله:

(عِندَ رَبّهِمْ)، وهذه الفقرة تدخل لتُكمِل صورة هذه الحياة الحقيقيّة الّتي ينتقل إليها في مسيرته إلى الله تعالى.

إنّها غاية حركة الشهيد إلى الله، وهذه الغاية هي كلّ قيمة الحياة؛ وتكتسب الحياة قِيمتها الحقيقيّة عندما تقترن بالقُرب من الله، وتُوصِل الإنسان إليه وتجعله بجواره، أمّا عندما تنقطع الحياة من التحرّك إلى الله، ومن قربه ومن التوجّه إليه، فهي سَراب وضياع له في متاهات الدنيا، واستغراق في مَتاعها وحُطامها.

إنّ غاية الإنسان في مسيرته وحركته الكادحة الكبرى في الدنيا هي: (القُرب من الله ولقاء الله)، وهي الغاية التي يسعى إليها الشهيد (يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ)(1) .

وما يُحقّق الإنسان في الدنيا من هذه الغاية هو قيمته ودرجته، والقرب من الله هو القياس الّذي يَقيسُ به الإسلامُ أقدارَ الناس ومراتبهم، والناس في القُربِ والبُعدِ من الله درجات ومراتب، حتّى يكون الإنسان (عند الله)، فلا تكون ثمّة درجة أقرب إلى الله منه إلى الله.

ولا تَجد في اللغة تعبيراً أقوى وأبلغ في (القُرب) من كلمة (عند)، وكأنّ الفواصل تنعدم في هذه الدرجة من القرب. وحاشا ربّنا من مُلابَسَة خَلْقِه وعبادِه، وتبارك وتعالى من أن يرتفع عبادُه إلى مستوى كبريائه وعزِّه وجلاله، ولكنّه تعبير بليغ عن أقربِ درجات القرب إلى الله.

وقد ورد في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فوق كلّ بِرٍّ بِرّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتِلَ في سبيل الله عزّ وجلّ، فليس فوقه بِرّ)(2) .

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فوق كلّ ذي بِرٍّ بِرّ

____________________

(1)الانشقاق: 6.

(2)بحار الأنوار: 100 / 10.

١٢٨

حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فليس فوقه برّ)(1) .

إنّ كلمة (عند ربّهم) لتَستوقِف الإنسان طويلاً! أيبلغ الأمر بالعبد الوضيع أن يكون (عند ربّه)، هكذا من دون فواصل ومراحل، وبمِثل هذه الدرجة من القُرب (عند ربّه)، وتعالى الله عن ملابسة مخلوقاته علوّاً كبيراً؟!

وقد ورد مثل هذا التعبير في القرب من الله في سورة القمر، بالنسبة إلى الـمُتّقين:( إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (2) .

وفي الـمُناجاة الشعبانيّة: (... إلهي هَبْ لي كمال الانقطاع إليك، وأنِرْ أبصار قلوبِنا بضياءِ نَظَرِها إليك، حتّى تَخرق أبصار القلوب حُجُب النور، فتصل إلى مَعدنِ العَظَمَة...)(3) .

وحالة (كمال الانقطاع إلى الله تعالى)، هي الّتي تُوصِل الإنسان إلى مَعدنِ العظَمة، وتخرق له حُجب الظلمة والنور إلى الله تعالى.

وفي المناجاة: (إلهي فاسلُك بنا سُبل الوصول إليك، وسَيّرنا في أقربِ الطُرقِ للوفود عليك)(4) .

وليس من أحدٍ تنطبق عليه هذه الفقرات أكثر من الشهيد، فهو يسلك إلى الله تعالى أقرب الطرق، وليس من طريقٍ أقرب إلى الله من الشهادة، ثمّ يَفِد على الله تعالى.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (إنّ لله عباداً في الأرض كأنّما رأوا أهل الجنّة في جَنّتهم، وأهل النار في نارِهم، يَجْأرون إلى الله سُبحانه بأدْعيَتِهم، قد حَلا في أفواههم وحَلا في قلوبهم طَعْمُ مُناجاته، ولَذيذُ الخَلوة به. قد أقسمَ الله على نفسِه بجلاله وعِزّته، لَيُورثنَّهم الـمَقام الأعلى في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنده)(5) .

هؤلاء هم الذين يُورّثهم

____________________

(1)بحار الأنوار: 74 / 61.

(2)القمر: 54 - 55.

(3)مفاتيح الجِنان: 158 / مناجاة الأئمّةعليهم‌السلام في شعبان.

(4)بحار الأنوار: 94 / 147.

(5)تفسير البصائر: 42 / 391.

١٢٩

الله المقام الأعلى، ويرزقهم الله جواره في الجنّة، ويُسكنهم في مقعدِ صدقٍ عنده، وهم الّذين يَفِدون على الله.

( يُرْزَقُونَ ) :

وهذه الكلمة تُشخّص نوع الحياة، إنّها حياة حقيقيّة معنويّة خالصة، بل هي الحياة بكلِّ أبعادها المادِّيّة والمعنويَّة، وهذه الجُملة لا تُبقِي لأحد مجالاً للشكّ في تشخيصِ هذه الحياة بعد حياة الدنيا.

ومن العجب أنّ بعض الـمُفسِّرين يتردَّدون في تفسير هذه الآية بالحياة الحقيقيّة! والآية الكريمة ترسم الحياة بصورة واضحة؛ فالشهداء أحياء عند ربّهم يُرزَقُون في حياتهم الجديدة، ويفرحون بما آتاهم الله من فضلِه، ويستبشرون بالّذين من خلفِهم.

وهل بعد كلّ هذه النقاط غموض في معنى الحياة الّتي تَلِي هذه الحياة، والتي تَسبق الحياة الآخرة؟!

إنّ هذه الثانية ليست هي الحياة الآخرة، فالحياة الآخرة ليست موضع إنكار أحد من المؤمنين، والآية حيث تنهى عن حسبان الشهداء من الأموات، فإنّها تكاد تكون صريحة في أنّ المقصود من هذه الحياة (حياة أُخرى) غير حياة الآخرة، فإنّ أحداً من المؤمنين لا يشكّ في حياة الآخرة للشهيد ولغير الشهيد، فلابدّ أن يكون المقصود حياة أُخرى.

وبين حياة الدنيا وحياة الآخرة - وهي الّتي يجهلها الكثير من المؤمنين - ينتقل إليها الشهيد من الحياة الدنيا مباشرة، ويعيش فيها بجوار ربّه تبارك وتعالى، والناس ينظرون إلى الشهيد جثَّة هامِدة، فيتصوّرون أنّه ميّت، وليس هو بميّت، وإنّما ينعم في جوار ربّه بما أعدّ الله للصالحين من عباده من فضلٍ ورحمةٍ في الجنّة، حتّى ينتقل في الآخرة إلى حيث يختار الله تعالى له من مراتب رحمته وفضله، في جنّة عَرْضها السماوات والأرض.

وفي أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته شواهد كثيرة على هذه الحياة

١٣٠

البَرْزَخية الّتي يحياها الشهداءُ والصالحون من عباد الله في الجنّة، ويَنعمون فيها برحمة الله، قبل الحشر والحياة الآخرة.

ففي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله، فيما جرى للمسلمين في حرب مُؤتة - بعد استشهاد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه الأنصاري (رحمهم الله)، الذين عَيَّنهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قادة للجيش على التوالي، إنْ استُشهد منهم أحد، تولَّى الآخر مَحلّه -، يقول جابر (رحمه الله):

(فلمّا كان اليوم الّذي وقعَ فيه حَرْبُهم، صلّى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله بنا الفجر، ثمّ صعد المنبر، فقال: قد التقى إخوانُكم مع المشركين للمحاربة - فأقبل يُحدِّثنا بكَرَّات بعضهم على بعض -، إلى أن قال:

قُتِل زيد بن حارثة وسقطت الراية، ثمّ قال: وقد أخذ الراية بيده الأُخرى، ثمّ قال: قُطِعَت يده الأُخرى، وقد أخذ الراية في صدره، ثمّ قال: قُتِلَ جعفر بن أبي طالب وسقطت الراية، ثمّ أخذها عبد الله بن رواحه، وقد قُتلَ من المشركين كذا، وقُتِل من المسلمين كذا: فلان وفلان، إلى أن ذكرَ جميع من قُتِلَ من المسلمين بأسمائِهم، ثمّ قال: قُتِلَ عبد الله بن رواحه، وأخذ الراية خالد بن الوليد، فانصرف المسلمون.

ثمّ نزلَ عن المنبر وصار إلى دار جعفر، فدعا عبد الله بن جعفر فأقعده في حِجره وجعلَ يمسح على رأسه، فقالت والدته - أسماء بنت عميس -: يا رسول الله، إنّك لتمسح على رأسه كأنّه يَتيم، قال: قد استشهدجعفرفيهذااليوم، ودمعتْ عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: قُطِعَت يداه قبل أن يستشهد، وقد أبدَله اللهبجناحين من زُمرّد أخضر، فهو الآن يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء)(1) .

____________________

(1)بحار الأنوار: 21 / 54، نقلاً عن الخرائج: 188.

١٣١

( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ... ) (1) :

إنّ فرح الشهيد بما يُؤتيه الله من فضلِه ورحمته الواسعة لا حدَّ له.

إنّه يستقبل الرحمة الإلهيّة الواسعة، ويرى ما أعدّ تعالى من فضلٍ ورحمة قبل أن تفارق الروح جسده، وقبل أن يلفظ آخر أنفاسه.

روى زيد بن علي عن أبيه علي بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام ، عن آبائه، قال: (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : للشهيد سَبع خِصال من الله:

أوّل قطرة من دَمه: مغفور له كلّ ذنب.

والثانية: يقع رأسه في حِجر زوجتيه من الحُور العِين، وتَمسحان الغبار عن وجْهِه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول: هو مثل ذلك لهما.

والثالثة: يُكْسَى من كسوة الجنّة.

والرابعة: يَبْتَدِره خَزنة الجنّة بكلّ ريحٍ طيّبة، أيّهم يأخذه معه.

والخامسة: أن يرى مَنزِله.

والسادسة: يُقال لروحه اسرحْ في الجنّة حيث شِئتْ.

والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لراحة لكلّ نبيّ وشهيد)(2) .

( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ ) (3) :

إنّ الشهداء لم يموتوا، ولم يَنل الموت منهم وَعْياً ودَرْكاً؛ إنّهم يرَون إخوانهم

____________________

(1)آل عمران: 170.

(2)تهذيب الأحكام: 6 / 122.

(3)آل عمران: 170.

١٣٢

المؤمنين الّذين لم يلحقوا بهم بَعد، ويُتابعون حركتهم ومسيرتهم، ويدعون الله تعالى لهم، ويستبشرون بوفودِ إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بعد عليهم.

وإنّ لكلّ لقاء جديد فرحة جديدة وبُشرى جديدة، وفي كلّ يوم لهم بُشرى جديدة، بلقاء أخٍ جديد في الله، يَفِد على الله من بين لَظَى المعركة، ويُقبِل عليهم فيستقبلونه بالابتهاج والسرور.

إنّهم حاضرون و (شهداء) المعركة، لم يغيبوا عنها بالموت، ولم يكن الموت بالنسبة إليهم غياباً، إنّهم عند ربِّهم يشهدون المعركة ويتابعون أحداثها، ويدعون للـمُقاتِلين ويستبشرون بالقادمين منهم إليهم.

وحاشا أن يكون أُولئك أمواتاً، بل هم من شهداء المعركة وحُضّارِها.

إنّما الأموات هم أُولئك الغائبون عن مسيرة التأريخ وحياة الناس، وصراع الحقّ والباطل، وجهاد المؤمنين، وهم أُولئك الّذين يُؤثِرون الحياة الدنيا وعافيتها، ويخلدون إلى الراحة ويعتزلون تيّار العمل والحركة والجهاد، ويعيشون على هامش الحياة والتاريخ، يتفرَّجون على الصراع من بعيد، أُولئك هم الأموات، بالرَغم من أنّهم يستنشقون الهواء ويتحرَّكون.

أُولئك أحياء الأموات الذين لا يعرفون للحياة معنى غير هذه الحياة التي تعيشها البهائم، ولا يعرفون في الحياة لذَّة ومَتاعاً إلاّ ما يعرفه الحيوان من اللَذة والمتاع، ولا تتجاوز اهتماماتهم وطموحاتهم شهوات الحيوانات واهتماماتها، أُولئك هم الغائبون الأموات.

أمّا الشهداء، فلا يَغيبون عن هذه الساحة لحظة واحدة، ويشهدون عن كَثَبٍ من عند ربِّهم كلّ تطوّرات المسيرة وحركتها، وتقدّمها وانتصاراتها وانتكاساتها، وآلامها وآمالها وتَطَلُّعاتها وطموحاتها ومعاناتها، ولكن بنَفَسٍ يختلف عن أنفاسِنا، ورؤية تختلف عن رُؤانا، وتَصوّر يختلف عن تصوّراتنا المحدودة.

١٣٣

لا خوفٌ ولا حزن:

وذلك قوله تعالى:( ... وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) .

فهم ينظرون إلى إخوانهم الّذين لم يلحقوا بهم بعد، وإلى المسيرة الحافلة بالدماء والجهاد والانتصارات والانتكاسات والآلام والمرارات، بهذه الرؤية الربّانية:( وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

أمّا نحن هنا في هذه الدنيا، فرؤيتنا تختلف.

إنّنا ننظر إلى المسيرة من خلال تصوّراتنا البشريّة الّتي يشوبها الضعف وقصر المدى والتشويش، وينتابنا القلق والارتباك كلمّا توقّعنا مصيبة تنزل بنا في حركتنا، وكلّما توقّعنا عاصفة تعصِف بنا ولا تَذَر رَطباً ولا يابساً، وينتابنا الحزن والألم كلّما نزلتْ بنا داهية أو عَمّتنا مصيبة، فتضيق بنا الأرض بسِعتها، وتعتصرنا الآلام، آلام الفراق ومَرارة الانتكاسات، وشدَّة الابتلاء في الأنفس والأموال والأرزاق والأمن.

فالمسيرة بالنسبة إلينا - ومن خلال تصوّراتنا - حافلة بالخوف والحزن، الخوف على ما نتوقَّعه من الابتلاء، والحزن على ما نزل بنا من ابتلاء وشدَّة، وقليل من عباد الله الّذين تصفُو لهم الرؤية، في وسط هذه المسيرة الحافلة بالدماء والآلام، فلا يعيشون خوفاً ولا حزناً.

أمّا الشهداء، فرؤيتهم وتصوّرهم لهذه المسيرة تختلف عن رؤيتنا وتصوّراتنا البشريَّة الـمَشوبة بضعف الإنسان.

إنّها رؤية اكتسبوها من عند الله، صافية بعيدة المدى، مِلؤها الثقة والاطمئنان بالله تعالى، رزقهم الله تعالى إيّاها من عنده، فهُم يرون المسيرة الربَّانيّة على وجه الأرض بهذه الثقة والطمأنينة، وبهذه الرؤية الصافية، من غير خوف ولا قلقٍ ولا حُزن، ومن ثمّ يستبشرون بإخوانهم الذين لم

____________________

(1)آل عمران: 170.

١٣٤

يلحقوا بهم بعد، والّذين يخوضون غِمار المعركة، ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون، ألاّ يخافوا من شيء يستقبلهم ولا يحزنوا على شيء فاتَهم، فلن يتجاوزهم نصر الله الّذي وعد الله به الصالحين من عباده، ولن يتخطّاهم النصر والتأييد والدعم والإمداد من الله، في وسط هذا الصراع الحافل بالدماء والآلام والمرارات والمعاناة.

( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (1) .

فعلامَ الخوف والقلق والارتباك من المستقبل؟!

فلن يُصيبهم أذىً أو تعب في سبيل الله، ولن تقسُ عليهم الابتلاءات، إلاّ كتب الله تعالى لهم بكلِّ ذلك عملاً صالحاً وأجراً.

( ... ذلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَنَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ... ) (2) .

فعلامَ الحزن ممّا يُصيبهم من ابتلاءات ومِحن وآلام، وممّا يعانون في سبيل الله؟

إذن، (لا خوف ولا حزن) في هذه المسيرة، وليس على العاملين في هذه المسيرة الكادحة - ذات الشوكة - حزن أو خوف ممّا أصابهم أو يصيبهم من ابتلاء.

تلك هي الرؤية الربَّانيّة الصافية الواثقة بعيدة المدى للمسيرة، وأنّ علينا - نحن العاملين في سبيل الله، على خُطى الشهداء - أن نتسلَّح بهذه الرؤية، ونُبدّل رؤيتنا القَلِقة والـمُرتبِكة الخائفة بالرؤية الواثقة والـمُطمئنّة بعيدة المدى؛ لنتمكّن من حمل عبء المسؤوليّة الشاقّة ومواصلة السير على طريق الأنبياء والـمُرسَلين.

____________________

(1)القصص: 5 - 6.

(2)التوبة: 120.

١٣٥

ثأرُ الله

رِحلة الشهادة في السُنّة الشريفة

باقة عطرة من الحديث الشريف في قِيمة الشهيد:

وإليكم هذه الباقة العطرة من الروايات في فضل الشهادة وقيمتها:

* عن الصادقعليه‌السلام : (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فوق كلّ بِرٍّ بِرّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فليس فوقه بِرّ، وفوق كلّ عقوقٍ عقوق، حتّى يَقتُل الرجلُ أحدَ والديه، فإذا فعل ذلك فليس فوقه عقوق)(1) .

* عن الـمُقدام بن معدِ يَكرب، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (للشهيد عند الله ستّ خصال:

يُغفَر له من عذاب القبر.

ويَأمَنُ من الفَزعِ الأكبر.

ويحلَّى حِلْيَة الإيمان.

ويُوضَع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها.

ويُزوَّج اثنين وسبعين زوجة من الحُور.

ويُشفَّع في سبعين من أقاربه).

قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب(2) .

____________________

(1)بحار الأنوار: 74 / 61.

الكافي: 2 / 348.

وباختلافٍ يَسير: وسائل الشيعة: 11 / 10.

والتهذيب: 2 / 41.

والخصال: 1 / 8.

ومُستدرَك الوسائل: 2 / 242.

والفروع: 1 / 342.

(2)سُنَن الترمذي: 4 / 187 - 188 / الحديث 1663.

وقريب من هذا المضمون في: سُنَن ابن ماجه: 2 / 935 - 936 / الحديث 3799.

١٣٦

* سأل أبو ذرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(أيّ الأعمال أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله.

قال: فقلت: أيّ الجهاد أفضل؟

قال: مَن عَقَرَ جواده، وأُهْرِيقَ دمه في سبيل الله) (1) .

* العيّاشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر، قال: (أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فجاهِد في سبيل الله، فإنّك إنْ تُقتَل كنت حيّاً عند الله وتُرزَق، وإنْ متَّ فقد وقعَ أجرُك على الله، وإنْ رجعتَ، خرجت من الذنوب إلى الله).هذا تفسير( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً ) (2) .

* عن مسعدة بن صدقة، عن الصادقعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (ثلاثة يُشفَّعون إلى الله عزّ وجلّ فيُشفِّعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء)(3) .

* وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يقول - في مسيرته إلى كربلاء -: (إنّي لا أرى الموت إلاّ سَعادَة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما)(4) .

* وعن أنس بن مالك، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاّ الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا

____________________

(1)بحار الأنوار: 100 / 11، عن الخصال: 2 / 30.

وبمضمونه بطريق آخر: سُنَن ابن ماجه: 2 / 934 / الحديث 2794.

ومُستدرَك وسائل الشيعة: 2 / 244.

(2)مُستدرَك وسائل الشيعة: 2 / 244.

(3)مُستدرَك وسائل الشيعة: 2 / 245.

(4)تُحَفُ العقول: 176.

١٣٧

فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى)(1) .

وعن سعيد بن الـمُسيّب، عن أبي هُريرة، قال: سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ)(2) .

* وعن جابر بن عبد الله: (قَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ. فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ)(3) .

* عن ابن إسحاق عن البرّاء، قال:(جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ - قَبِيل مِنْ الأَنْصَارِ - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله): (عَمِلَ هَذَا يَسِيراً، وَأُجِرَ كَثِيراً))(4) .

* وعن أنس بن مالك - في حوادث معركة بدر - قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (قوموا إلى جنَّة عَرضها السماوات والأرض.

قال: يقول عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرْضها السماوات والأرض؟!

قال: نعم.

قال: بَخٍ بَخٍ، فقال رسول الله: ما يَحْملُك على قول (بَخٍ بَخٍ)؟!.

قال: لا والله يا رسول الله، إلاّ رجاء أن أكون من أهلها.

قال: فإنّك من أهلها.

فأخرج تَمرات من قرنه يأكل منهنّ، ثمّ قال: لئن أنا حييتُ حتّى آكل هذه، أنّها لحياة طويلة.

قال: فرمى بما كان معه من التمرِ ثمّ قاتلهم حتّى قُتل) (5) .

____________________

(1)صحيح البخاري: 2 / 112 / كتاب الجهاد.

الترغيب والترهيب: 2 / 311.

سُنَن الترمذي: 4 / 176.

مُستدرَك الوسائل: 2 / 243.

(2)صحيح البخاري: 2 / 112.

والترغيب والترهيب: 2 / 311.

(3)صحيح مسلم بن الحجاج: 6 / 43، طبعة دار الفكر.

(4)صحيح مسلم بن الحجاج: 6 / 44، طبعة دار الفكر.

(5)نفس المصدر السابق.

١٣٨

* وقال محمّد بن المنكدر: إنّه سمع جابراً يقول: (جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله) وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.

فَقَالَ: لِمَ تَبْكِي؟! أَوَ لا تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا)(1) .

* عن مسروق قال: سألنا عبد الله(2) عن هذه الآية:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ)(3) .

* وكان أمير المؤمنين يقول:

(أيّها الناس، إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، ولا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ، ليس عن الـمَوتِ محيد ولا محِيص، مَن لم يُقْتَل مات، إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ، والَّذِي نَفْسُ عَليّ بِيَدِهِ، لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ)(4) .

* وعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء)(5) .

* عن علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، قال: (ما من قطرة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتين:

قطرة دمٍ في سبيل الله.

____________________

(1)صحيح البخاري: 2 / 115.

والترغيب والترهيب: 2 / 313.

(2)الظاهر إنّه عبد الله بن مسعود (رحمه الله).

(3)صحيح مسلم بن الحجّاج: 6 / 38 - 39، طبعة دار الفكر.

ورواه: ابن ماجة في: السُنَن: 2 / 936 / الحديث 2801.

وقريب منه عن كعب بن مالك في: الترغيب والترهيب: 2 / 316.

(4)شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 306.

(5)بحار الأنوار: 100 / 12، نقلاً عن قُرب الإسناد: 31.

والخصال: 1 / 102.

١٣٩

وقطرة دمعة في سواد الليل، لا يريد بها عبد إلاّ الله عزّ وجلّ)(1) .

* وعن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام : (ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرةِ دمٍ في سبيل الله، أو قطرةٍ من دموعِ عينٍ في سواد اللَيل من خشيَة الله.

وما من قدمٍ أحبّ إلى الله من خطوةٍ إلى ذي رَحم، أو خطوة بها زحفاً في سبيل الله.

وما من جُرْعَة أحبّ إلى الله من جُرعَة غيظٍ، أو جُرْعة تردّ بها العبد مُصيبة)(2) .

* عن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ أبخلَ الناسِ مَن بَخلَ بالسلام، وأجودَ الناسِ مَن جادَ بنفسِه وماله في سبيلِ الله)(3) .

* عن الرضاعليه‌السلام ، عن آبائه، عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال: (بينما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يخطب الناس، ويحضّهم على الجهاد، إذ قام إليه شابٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن فضل الغُزاة في سبيل الله.

فقال عليّعليه‌السلام : كنت رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ناقته العَصْباء، ونحن قافلون من غزوة ذات السَلاسل، فسألته عمّا سألتني، فقال:

إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو، كتبَ الله لهم براءة من النار، فإذا تجهَّزوا لغزوٍ، باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودَّعهم أهلوهم، بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحيّة من سِلخها، ويوَكِّل الله (عزّ وجلّ) بهم، بكلِّ رجلٍ منهم، أربعين ألف مَلَك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. ولا يعمل حسنة إلاّ ضُعّفت له، ويكتب له كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون ألف سنة، كلّ سنة ثلاثمئة وستّون يوماً، واليوم مثل عُمْر الدنيا.

وإذا صاروا بحضرة عدوّهم، انقطع عِلم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم، وإذا برزوا لعدوّهم وأُشرعت الأسنّة وفوقَتْ السِهام، وتقدّم الرجلُ إلى الرجلِ، حفَّتهم الملائكة بأجنحتهم، ويدعون الله لهم بالنصر والتَثَبّت

____________________

(1)بحار الأنوار: 100 / 10، نقلاً عن الخِصال: 1 / 31.

(2)بحار الأنوار: 100 / 14.

(3)بحار الأنوار: 100 / 15، نقلاً عن نوادر الراوندي: 5.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402