في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208465
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208465 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يُتِمّ الإنسان صفقة بيع ويقبض الثمن، ثمّ لا تسمح له نفسه بالتخلّي عن البضاعة أو يتردّد في تسليمها، أو تُساوِره نفسه بالفَسخِ والتراجع.

النَقْلة الكاملة:

وعمليّة البيع - وهذا هو مَوضع استشهادنا بهذه الآية الكريمة - تُعبِّر عن كلّ المسيرة والرِحلة، وتطوي كلّ المسافة الفاصلة بين المحورَين، (محوَر الأنا) و (المحوَر الإلهي)، فيتخلّى المؤمن عن نفسه ومُشتهياتها، وعلاقاتها ولذَّاتها ومُتَعِها، وعن كلّ علاقاته في هذه الدنيا لله تعالى بصورة كاملة، وينتزع نفسه من هذا المحوَر انتزاعاً كاملاً؛ لِينقلها إلى المحوَر الآخَر، وليضعها تحت سلطان الله تعالى وأمره ونهْيِه.

وهذه النقلة أو البيعة هي كلّ المسيرة الإنسانيّة إلى الله، والمؤمنون في هذه البيعة يطوون كلّ تلك الرحلة الطويلة والشاقَّة.

أمثلة عن النقْلة في حياة المسلمين الأُولى:

ولقد كان المسلمون في صدر الإسلام يتلقّون هذه الحقائق والآيات من كتاب الله، ويفهمونها بوضوح وبساطة ومن غير تعقيد أو التواء، وتتحوّل هذه الآيات والمفاهيم القرآنيّة الجديدة في نفوسهم إلى وعيٍ عميق، وإيمان وسلوك.

وإليكم بعض الصور الـمُشرِقة من هذا التاريخ:

1 - في بيعة العَقَبَة الثانية - وهي التي أنافَ فيها رجال الأنصار على السبعين - اجتمع رجال الأنصار مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند العقبة لمبايعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاتّفاق معه على قرار بخصوص الهجرة والنُصرة، فقال عبد الله بن رواحَه (رحمه الله) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :اشترط لربِّك ولنفسك ما شئتْ.

١٠١

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أشترط لربِّي: أن تَعبدوه ولا تُشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي: أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.

قالوا: فإذا فَعلنا ذلك فما لنا؟

قال:الجنّة .

قالوا: ربح البَيع، لا نقِيْل ولا نَستَقيل (1) .

فنزلت: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) )(2) .

2 - وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، قال: (نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المسجد: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، فكبّر الناس في المسجد، فأقبلَ رجُلٌ من الأنصار ثانِياً طرَفَي ردائه على عاتقه، فقال: يا رسول الله، أنزلتْ هذه الآية؟

قال:نعم .

فقال الأنصاري: بيع رَبيح لا نقِيْل ولا نَسْتَقيل) (3) .

3 - وصورة ثالثة من هذا التفاعل المباشر، والفهْم الواضح الصافي لـمَفاهيم الإسلام وتصوّراته الجديدة على حياة الناس، وهي ما جاء عن عُبادة بن الصامت: (أنّ أسعد بن زُرارَة أخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العَقبة، فقال: أيّها الناس، هل تدرون علامَ تُبايعون محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

إنّكم تبايعونه على أن تُحاربوا العربَ والعَجمَ والجنَّ والإنس كافّة.

فقالوا: نحن حرب لـمَن حارب، وسِلم لـمَن سالَم.

فقال أسعد بن زُرارة: اشترط عليّ.

____________________

(1)الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 8 / 367.

(2)بناءً على أن تكون الآية مكِّيَّة، والأرجح أنّها مدنيّة.

(3)الدُرّ المنثور: 3 / 280.

١٠٢

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : تُبايعوني على أن تشهدوا أن لا اله إلاّ الله وأنّي رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسَمع والطَاعَة، ولا تُنازِعوا الأمر أهله، وتمنعوني ممّا تَمنعون أنفسكم وأهليكم.

قالوا: نعم.

قال قائل من الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟

قال: الجنّة والنَصر)(1) .

4 - وصورة أُخرى، وهي ما أخرجه ابن سَعد عن الشَعْبِي، قال:(انطلَق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعبّاس بن عبد الـمُطّلب، وكان ذا رأي، إلى السبعين من الأنصار عند العَقَبة، فقال العباس: ليَتكلّم مُتَكَلِّمُكم، ولا يُطيل الخُطبة، فإنّ عليكم للـمُشركين عَيْناً، وإن يعلموا بكُم يفضحوكم.

فقال قائلهم، وهو أبو أُمَامَة أسعد: يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سَل لربِّك ما شئتْ، ثمّ سَل لنَفسك ولأصحابك ما شئتْ، ثمّ أخبرنا ما لنا من الثواب على الله، وعليكم، إذا فعلنا ذلك؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أسألُكم لربِّي أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تُؤوونا، وتنصُرُونا وتمنعُونا ممَّا تمنعون منه أنفُسكُم.

قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال: (الجنّة).

فكان الشَعبي إذا حدّث هذا الحديث قال: ما سمعَ الشِيب والشُبّان بخطبةٍ أقصر ولا أبلغ منها) (2) .

ولهذه الصوَر أمثلة كثيرة في تاريخ الإسلام، عن التفاعل المباشر مع مفاهيم وتصوّرات الإسلام، والانصهار والذَوَبان في هذه المفاهيم والتصوّرات،

____________________

(1)الدرّ المنثور: 3 / 280.

(2)الدرّ المنثور: 3 / 280.

١٠٣

والفهْم الواضح لها.

لقد كان المسلمون الأوائل يفهمون هذه الآية الكريمة بهذه البساطة والوضوح، ويتفاعلون معها بمِثل هذه القوّة والعزم، ولعلّنا لا نبعُد عن الحقيقة إذا قلنا: إنّ أبناءنا من هذا الجيل بدؤوا يستعيدون تلك البساطة والوضوح في فهْمِ آيات الله، وأحداث الثورة الإسلاميِّة المعاصرة في إيران والعراق ولبنان...، وجَبَهات القتال الدامية مع النظام العراقي السَفَّاح، شاهِدة على هذه الحقيقة(1) .

تكريمُ الإنسانِ بالبَيع والشِراء:

ومِن عجَبٍ في هذه الشراء أنّ الشاري (سُبحانه وتعالى) له مُلك السماوات والأرض، وله الإنسان وما بيده من أموال، وله أن يتصرَّف في كلّ ذلك من غير بيعٍ ولا شراء، ومن غير سؤال ولا استئذان، والعبد وما في يدهِ لمولاه!

ولكنّه (عزّ وجلّ) شاء أن يُكرِم هذا الإنسان، ويرفعه إلى موضِع التَعاقد والـمُبايَعة معه، وذلك تكريم من لَدُنِ الله تعالى لعباده، بما يُناسب لُطفه وكرمه بهم.

وقد كان الحَسنُ إذا قرأ هذه الآية:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، قال: (أنْفُسٌ هو خَلَقَها، وأموالٌ هو رَزَقها).

فهو سُبحانه خلقَ الإنسان وخلقَ له ما شاء من الطيّبات، وتلك كرامَة، ثم مَلَّكَه ذلك، وتلك كرامة أُخرى، ثمّ اشترى منه ما وهَبه وما ملَّكه، وتلك كرامة ثالثة أن يرفعَه إلى موضِع التعاقُد والـمُبايَعة معه، ثمّ جعل ثَمن ما يأخُذه منه من الـمَتاع الفاني الجنّةَ والخلود في رحمته ورضوانه، وتلك كرامة رابعة.

____________________

(1)كُتِبَ هذا البحث أيّام الحرب العراقيّة الإيرانيّة.

١٠٤

والعطاء جميل على كلّ حال، ولكن أجمل العطاء وأفضله ما يقترن بالتكريم، وقد قرَنَ الله تعالى عطاءه لعباده بالتكريم، وتلك غاية في الكرَمِ والتكريم، والحمد لله ربّنا الذي أكرمنا بكلّ هذه الكرامات، وأكرمنا بالإسلام والتقوى.

البَيْعَة:

والبَيْع والشراء من الله يستدرجنا للحديث عن مصطلحٍ إسلامي عريق، يتَّصل بهذا المفهوم من قريب، وذلك هو: (البَيْعَة).

والبَيْعَة مُشْتَقَّة من مادّة البَيْعِ، ولا نعلم ما إذا كان له في الجاهليّة أصل قريب أم لا؟ إلاّ أنّ الإسلام اتّخذ هذه الكلمة مُصطلَحاً للالتزام والتعهّد الكامل بالطاعة من قِبَل الأُمّة للإمام، فيكون معنى الكلمة الالتزام الكامل بالطاعة.

وذكروا في المناسبة الّتي اقتضَتْ تسمية هذا الالتزام بالبَيْعَة: أنّ العرب كانوا إذا تبايعوا تَصَافَقوا، وضربَ أحدُ الـمُتبايعَين بكفِّه على كفِّ الآخر، وكان ذلك علامة رضاهما بالبيع، والتزامهما به.

وقد أمضت السُنّة هذه الطريقة في التعبير عن التعهّد، والالتزام بالطاعة تجاه الإمام؛ فكان المسلمون إذا بايعوا رسول الله، استلموا كفَّه إيذاناً بالالتزام بالطاعة، ويُسمَّى هذا الالتزام بهذه المناسبة بَيْعَة ومُبايَعة.

ومن غير الـمُستبعَد أن تكون المناسبة في هذا الـمُصطلَح أنّ هذا الالتزام من مَقولَة البَيْعِ، ففي البيع يتخلّى البائع عن المتاع الّذي يملكه بشكل كامل في مقابل ما يتلقّاه من الثَمَن، وإذا أوجب البيع، فلا يحقّ له أن يتراجع عمّا أمضاه.

وكذلك الأمر في الالتزام بالطاعة (البَيْعَة)، فإنّ المرء إذا دخل البيعة والتزم بالطاعة، فليس له أن يتراجع أو يتخلَّى عن عهده والتزامه؛ فقد أمضى البيعَ وقبضَ

١٠٥

الثمن (الجنّة)، وأعطى الله ماله ونفسه والأنفس العزيزة عليه، فلا يحقّ له أن يتراجع أو يتردَّد أو يفسخ الالتزام.

ورحم الله ذلك الرجل الأنصاري الذي قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بَيْع رَبيح، لا نقِيْل ولا نستقيل.

البَيْعَة التجرّد الكامل عن الأنفسِ والأموال:

إنّ حقيقة البيعة التخلّي الكامل عن الأنفُس والأموال، والالتزام الكامل بالتسليم والطاعة في مُقابِل الثمن الكبير وهو الجنّة؛ فإنّ حقيقة الطاعة هي (الولاء) والتسليم لله، ولا يتمّ الولاء لله والتسليم لأمر الله ورسوله والانقياد والطاعة لهما، إلاّ عندما يتخلّى الإنسان المسلم عن كلّ شيء يتعلَّق به، من الأنفُس والأموال، ويتجرَّد من ملكيَّة كلّ شيء وضَعه اللهُ تحت تصرّفه ومُلْكه، ولا يرى لنفسه حقّاً في شيء منه، ويرى أنّ الله ورسوله أَولى بهما منه، وهي عنده وَدِيْعَة إلى حين يسترجعها الله تعالى منه، وهذا هو جوهر البيعة.

وعجيب أمر هذه الوَديعَة الإلهيّة، وعجيب كرم الله تعالى وفضله ورحمته بعباده!

فما بأيدينا من الأنفس والأموال لله تعالى، وليس لنا منه شيء، أودعَها عندنا وهو أَولى بها، وهو خالقها ومالكها، ثمّ يشتريها من عباده بعد ذلك، ويَعِدهُم بالجنّة ثَمَناً لها، ثمّ يُودِعها لدينا إلى حين الدعوة والطَلب، ثمّ إذا شاء بعد ذلك أن يسترجع وديعته.

قال عزّ مَن قائل:( مَن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... ) (1) .

سُبحانك ما أكرمك، وأكرم عطاياك! وما أجملك وأجلّ أسماءك وصفاتك الحُسنى!

وما أبخلنا وألأمَنا! فنحن عبادك الذين نضنّ بأنفسنا وأموالنا عنك! فتَوَلّ اللّهمّ لُؤمنا بكرمِك، وشحّنا برَحمتك.

____________________

(1)البقرة: 245.

١٠٦

البَيْعَة ميثاق (الدعوة) والدولة:

والبَيْعَة ميثاق، وهذا الميثاق يُحمِّل الإنسان المسلم مسؤوليَّتين كبيرتين:

الأُولى: مسؤوليّة الدعوة إلى الله تعالى، والقيام بأعبائها وتحمّل الخسائر الـمُترتِّبة عليها، وتوطين النفس لذلك.

الثانية: مسؤوليّة الدولة الإسلاميّة، وبنائها والدفاع عنها.

وهاتان الـمُهمّتان شاقّتان عسيرتان، ولا ينتهي دَور الإنسان ومسؤوليَّته تجاه الإيمان بالله وبرسوله، ما لم يتعهَّد أمر الدعوة والدولة معاً.

وهذه المهمّة الـمُزدوَجة هي أساس معاناة وابتلاء ومتاعِب الأنبياءعليهم‌السلام ، فلن تستقرّ الدعوة، ولن تتمكّن من العقول والقلوب والحياة من دون التصدِّي والمواجهة، ولن تشقَّ طريقها إلاّ على أنقاضِ الدعوات الجاهليّة، وعلى أجساد الطغاة والجَبابرة الذين يَحولون بين الناس والاستجابة لدعوة الله.

وما يُقال في الدعوةِ يُقال في الدولة بشكلٍ أقوى وأوضح، فإنّ (الدولة) هي سيادة الدعوة وسُلطانها على الأرض، وكلمتها النافذة، ولا تستطيع الدولة أن تفرض سلطان الدعوة على الحياة الاجتماعيّة، دون أن تواجه صنوفاً من العَقَبات والتحدِّيات.

وهذه المواجهة في طريق تَمْكِين الدعوة والدولة وتذليل العَقبات، تتطلَّب البَذل والتضحية والصَبر، وتوطين النفس لكلّ ذلك من قِبل الأُمّة، حامِلة رسالة الدعوة والدولة، فلابدّ من مبايعة قائد المسيرة على البذلِ والعطاء والتضحية والفداء، وأن يُجاهدوا خِفَافَاً وثِقالاً، وألاّ يُعيقهم عن الجهاد في سبيل الله الأزواج والبنون والأموال والتَعلّقات والمواقِع، وأن يتجرَّدوا لله تبارك وتعالى من كلّ ارتباط وتعلُّق، عدا الارتباط بالله والتعلّق بالدعوة وهمومها وآلامها.

١٠٧

البَيْعَة طاعَةٌ وتَضحِية:

ولابدّ في البيعة من أمرين:

1 - الطاعة والانقياد.

2 - التضحية والعطاء.

قال ابن عُمَر: (كنّا نُبايع رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على السَمْعِ والطاعة)(1) .

وعن ابن عُمَر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (على الـمَرءِ المسلم السَمْع والطاعة فيما أحبَّ وكَرِهَ، إلاّ أن يُؤمَر بمَعصيةٍ، فإذا أُمِر بمعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعة)(2) .

وعن يزيد بن أبي عبيد - مولى سَلَمه بن الأكوع - قال: قلتُ لسَلَمه: (على أيِّ شيء بايعتُم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحُديبَّية؟

قال: على الموت)(3) .

فلا تستقيم الدعوة ومسيرتها، ولا تحقِّق أهدافها من دون هذين الأمرين.

والطاعة والتضحية أمران مُتلازمان، وهما يُساويان التخلّي الكامل عن النفس ورغباتها ومشتهياتها لله تبارك وتعالى، والجنّة هي الثَمن الّذي يتقاضاه الإنسان المؤمن إزاء ذلك.

آيةُ البَيْعَة:

والبيعة بهذا الـمُحتوى الرفيع، لن تكون إلاّ مع الله تعالى، وأمّا الذين يُبايعون

____________________

(1)صحيح البُخاري: كتاب الأحكام / باب البيعة.

وصحيح مسلم: كتاب الإمارة / باب البيعة على السَمْعِ والطاعة / 6 / 29، دار الفكر.

(2)مسند أحمد بن حنبل: 2 / 17 و 142.

(3)صحيح مسلم: كتاب الإمارة / باب استحباب مُبايعة الإمام / 6 / 27، دار الفكر.

١٠٨

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّما يُبايعون الله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

فلا تكون البيعة - بالـمُحتوى الّذي شرحناه - مع طرفٍ آخر غير الله، ولا يصحّ أن يتجرّد الإنسان ممّا آتاه الله تعالى لغير الله.

وكلمة (إنّما) في قوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ... ) ذات دلالة عميقة؛ فهي تأتي لحصرِ البيعة والولاء بالبيعة لله تعالى، ونفي أيَّة بَيْعة أُخرى غير البَيْعة لله.

( ... يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... ) ، فاليد الّتي يُصافحونها في البيعة وإن كانت يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها تمثّل يد الله، وعلوّها من علوِّ يد الله، وهذه الجملة تُقرِّر عدّة حقائق إيمانيّة وسياسيّة في وقت واحد.

فلابدّ في هذه البيعة من يدٍ أعلى فوق أيديهم، ومن دون هذا العلوِّ لا تتمّ الولاية والبيعة والطاعة.

ولابدّ أن يكون هذا العلوّ علوّاً حقيقيّاً، فاستعلاء بعض الناس على بعضٍ ليس من ذلك، وإنّما هو من الاستكبار الذي يَمْقته الله تعالى.

و (يد الله) هي العُليا في هذه البيعة( ... يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... ) ، وهي وحدها الحَرِيَّة بالبَيْعة والطاعة والولاء، أمّا يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليست هي المقصود بالذات في هذه البيعة، وإنّما المقصود يد الله، وتكتسبُ العلوّ والولاية من الله.

وهذه الحقائق بمجموعها، ترسم لنا الأبعاد الكاملة لتوحيد الولاء، وهو بعد (توحيد الإيمان بالله) يُعتبَر الأساس والرَكيزة لبناء المجتمع الإسلامي، وتنظيم شبكة العلاقات داخل المجتمع.

فالذي يتأمّل في نسيج (العلاقات) داخل

____________________

(1)الفتح: 10.

١٠٩

المجتمع الإسلامي، سواء ما يتعلّق منها بالعلاقة بالله ورسوله وأوليائه والقيادة الإسلاميّة (العلاقة العَموديّة)، أو العلاقات الّتي تربط أعضاء المجتمع الإسلامي بعضهم ببعض (العلاقات الأُفقيَّة)؛ يجد أنّ هذه العلاقات تُكوِّن جميعاً شبكة واحدة، ونظاماً واحداً يُسمَّى بـ (الولاء)، وليست مجموعة من الشبكات والأنظمة.

وأنّ هذه الشبكة الواحدة تَنْبع من مصدرٍ واحد، وهو الارتباط بالله تعالى والولاء له، (بمعنى الطاعة والنصرة والحُبّ)، ومن هذا المصدر الولاء.

ولابدّ من هذه البيعة في كلّ جولة للدعوة، وفي كلّ مرّة تتصدَّى فيها الدعوة، لإقامة الدولة وتتعرَّض فيها الدولة لتَحديّات الجاهليّة؛ وذلك لتعميق العلاقة بالقيادة، وتعميق الإحساس بالمسؤوليّة الكبيرة في قيام الدعوة والدولة، وتوطين النفوس للطاعة والتضحية والتجرّد لله.

أربعُ بَيْعَات في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين إلى البيعة أربع مرّات في حياته الـمُباركة:

1 - بَيعة العَقَبَة الأُولى.

2 - البَيْعة الكبرى بالعَقبة.

3 - بيعة الرضوان، أو بَيْعة الشجرة(1) .

4 - بَيْعة الغدير.

والبيعة الأُولى كانت تخصّ أمر التعهّد بالدعوة، والتزامها وتَبنِّيها.

والبيعة

____________________

(1)تُراجَع تفاصيل هذه البَيْعات في كتاب: (مَعالِم الـمَدرستَين)، للعلاّمة الـمُحقِّق السيّد مرتضى العسكري: 1 / 88 - 89.

١١٠

الثانية والثالثة والرابعة، كانت تتعلَّق بأمر الدولة وبنائها وحمايتها.

البيعة الأُولى:

قال عبادة بن الصامت: (... بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله) بَيْعَة النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ الْحَرْبُ، عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيه بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَه فِي مَعْرُوفٍ.

فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فأخذتُم بحدِّه في الدنيا، فهو كفّارة له، وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلّ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ)(1) .

البيعة الثانية:

قال كعب بن مالك: (خرجنا من المدينة للحجِّ وتواعدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (العقبة)، أواسط أيّام التشريق، وخرجنا بعد مُضيّ ثُلث الليل، مُتسلِّلين مُستخفين، حتّى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجُلاً وامرأتان.

فجاء رسول الله ومعه عمّه العبّاس، فتكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورَغَّب في الإسلام ثمّ قال: أُبايعكم على أن تَمنعوني ممّا تمنعون نساءَكم وأطفالَكم، فأخذ البَراءُ بن مَعْرُور بيَدِه، ثمّ قال: نعم والذي بعثك بالحقّ، لنمنعك ممّا نمنع به أُزُرَنا (نساءنا).

فبايعنا يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ بيننا وبين الرجال حِبالاً، وإنّا قاطعوها (يعني اليهود)، فهل عَسِيت إن نحن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله أن تَرْجِعَ إلى

____________________

(1)سيرة ابن هشام: 2 / 75، ط، مصطفى البابي الحلبي.

١١١

قومِك وتَدعنا؟

فتبسَّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: بل الدَمَ الدَمَ، والهَدْمَ الهَدْمَ،(أي: ذمّتي ذمّتكم وحُرمتي حُرمتكم)) (1) .

قال ابن قُتيبة: (كانت العرب تقول عند الحِلف والجوار: دَمي دَمك وهَدمي هَدمك، أي: ما هدمتَ من الدماء هدمتُه أنا).

البيعة الثالثة:

وهي بيعة الرضوان أو (بيعة الشجرة).

(في سنة سبع من الهجرة استنفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه للعُمْرة، فخرج معه ألف وثلاثمئة أو ألف وستمئة، ومعه سبعون بُدْنَة، وقال: لستُ أحمل السلاح، إنّما خرجت مُعتمِراً.

وأحرم من ذي الحُلَيْفَة، وصاروا حتّى دنوا من الحُديبيّة، على تسعة أميال من مكّة، فبلغَ الخبر أهل مكّة، فراعَهُم واستنفروا مَن أطاعَهم من القبائل حولهم، وقدموا مئة فارس، عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل، فاستعدّ لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: إنّ الله أمرني بالبَيْعَة، فأقبلَ الناس يُبايعونه على ألاّ يفرّوا، وقيل: بايَعَهُم على الـمَوت) (2) .

البيعة الرابعة:

وهي بَيْعَة الغدير المعروفة، ومنها أخذ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة من المسلمين

____________________

(1)سيرة ابن هشام: 2 / 84 - 85.

(2)إمتاع الأسماع، للمقريزي: 274 - 291. ويُراجَع: ابن هشام: 3 / 330، ط. مصطفى البابي الحَلَبي.

وقد نقلنا نصوص البَيعة كلّها من كتاب (معالم المدرستَين) عن المصادر التي أشرنا إليها في الهامش.

١١٢

- وقد رُوي أنّهم يوم ذاك في غدير خُمّ مئة وعشرون ألف شخص - لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، من بعده بالإمامة وقيادة الدولة من بعده.

والحادث معروف يرويه عدد كبير من أرباب الحديث والسِيَر والتاريخ.

* * *

( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) :

نعود مرّة أُخرى للحديث عن آية الشهادة في القرآن:( ... يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ... ) ، وهذه ثلاث قضايا مُقترِنة ببعضها، لا يُمكن تفكيكها وتجزئتها، ولا يُمكننا أن نفهمَها فهماً صحيحاً إلاّ بهذه الصورة الـمُتّصلِة، وضمن هذا الإطار الواحد الّذي يرسمه القرآن( ... يُقاتِلون... فيَقتُلُون ويُقتَلُون... ) ، وتلك هي القضيّة الأُولى.

وفي سبيل الله، وليس في سبيل الطاغوت، وعلى طريق الدعوة إلى الله، ومن أجْل تقرير أُلوهيَّة الله على وجه الأرض، وبلوغ رضوانه ومَرضاته، وتلك القضيّة الثانية في هذه الكُلِّيّة.

وهذا الوعد بالجنّة، وهذه الدعوة إلى القتال وهذه الـمُبايَعة، لا تخصّ الّذين قاموا مع النبيّ الأُمّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتطهير الأرض من الطاغوت وتقرير أُلوهيَّة الله على وجه الأرض، وإنّما هي سُنّة قديمة لله تعالى في عباده، منذ التوراة والإنجيل، ومنذ حياة الأنبياء السابقين (عليهم السلام ٍ) إلى اليوم.

وشأن هذه الأُمّة اليوم شأنها في زمن موسى وعيسىعليهما‌السلام ، ومَن قبلهما من الأنبياء والـمُرسَلين، لن تنال رحمة الله ورضوانه إلاّ بتحكيم أُلوهيَّة الله وحاكميّته على وجه الأرض، ولن تُحقِّق حاكميّة الله على وجه الأرض إلاّ من خلال هذه الـمُعاناة والقتال والدماء:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا

١١٣

مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ... ) .

مسيرة واحدة مُخضَّبة بالدَم، منذ عهد موسى وعيسىعليهما‌السلام ، ومن قبلهما من الأنبياء، إلى أن يتولَّى المهدي من آل محمّدعليه‌السلام تطهير الأرض من رِجس الطُغاة وعَبثهم وفسادهم، وإلى أن تقوم القيامة ويُنشَر الناس للحساب.

وتلك القضيّة الثالثة في هذه الكلمة الّتي يعرضها هذا النصّ العجيب من كتاب الله تعالى.

حَتميَّة القتال في مَسيرة الدعوة:

ومن هذه النقاط الثلاث، نستطيع أن نُدرِك التصوّر الإسلامي الكامل لمسألة القتال ضرورة حتميّة من ضرورات الدعوة إلى الله تعالى، ولا يُمكن تفكيك مسيرة الدعوة إلى الله عنها، وهذه الضرورة والحتميّة ليست قضيّة جديدة في مسيرة الدعوة، وإنّما هي ضرورة تاريخيّة وحَتْمِيّة من الحتميّات التاريخيّة للدعوة إلى الله.

فإنّ الدعوة إلى الله لا يُمكن أن تشقّ طريقها على وجه الأرض إلى قلوب الناس وعقولهم، ولا يُمكن أن تتحرَّك الدعوة إلى الله لتحرير عقول الناس وقلوبهم من (الإصْرِ) و (الأغلال)، دون أن تُواجه سُخط الجاهليّة وتَحدّيها وغضبها؛ ذلك أنّ الدعوة لا تتحرّك في خَلاء سياسي واقتصادي واجتماعي، وإنّما تتحرّك في المساحة الّتي تحتلّها الجاهليّة من قَبْل، أو تريد احتلالها، وتتحرّك على حساب نفوذ وسلطان وطموحات الجاهليّة في هذه المساحات، ولا يُمكن أن تواجه الجاهليّة تقدّم الدعوة ومسيرتها بالسكوت والاستسلام، وتَفْسَح الطريق لها.

إنّ الّذين يتصوّرون أنّ الدعوة تتحرّك في منطقة فراغٍ سياسيّة واجتماعيّة

____________________

(1)البقرة: 214.

١١٤

واقتصاديّة، بعيدون عن الواقع، وعلى درجة عالية من السذاجة والبساطة في فهْمِ الأمور.

والأمر الواقع أنّ الإنسان الّذي تُحرّره الدعوة من الإصرِ والأغلال، يخسره الطاغوت، ولن يعود أداة طَيّعة له، وموضِعاً لاستثماره.

وعليه، فلا يُمكن أن تتقدّم الدعوة على وجه الأرض من دون أن تواجه تحدّياً قويّاً من الجاهليّة، ومواجهة حادّة من الطاغوت، ومعارَضة بكلّ الوسائل الـمُمكنة من قِبل أقطاب الجاهليّة وأئمّة الكفر.

وللجاهليّة محاور وولاءات كثيرة، لكنّها جميعاً تجتمع عند هذه النقطة في مواجهة محور الولاء لله، وتتناسى كلّ ما لديها من خلافات قديمة وحديثة؛ لمواجهة العدوّ الـمُشترَك الّذي يُصادر وجودها جميعاً.

إنّ الجاهليّة فيما بينها ولاءات متعدِّدة ومُتقاطِعة أحياناً، ولكنّها في مواجهة الإسلام كُتلَة واحدة وبراءة واحدة، وهذه الحقيقة تجعل من الجاهليّة مُواجهة صارمة عَنِيفَة لمسيرة الدعوة.

الـمُواجَهة المصيريَّة بين الإسلام والجاهليَّة:

هذا هو التصوّر الواقعي لمسيرة الدعوة والمواجهة الجاهليّة لها.

ولا تنتهي هذه المواجهة والتحدّي الجاهلي إلاّ عند التَصْفية الكاملة لحركة الدعوة، والـمُصادَرة الكاملة لإرادة الإنسان، والسيطرة الكاملة على كلّ مساحات الدعوة، والإنهاء الكامل لكلّ مراكز ومواقع الدعوة إلى الله، وكلّ مراكز ومواقع الاستجابة لدعوة الله تعالى.

وإلى هذه الحقيقة - في تركيب وبُنْيَة الجاهليّة - يُشير القرآن الكريم:( ... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً... ) (1) .

لا تتوقّف الجاهليّة إلاّ عند تصفية هذه

____________________

(1)الحجّ: 40.

١١٥

المراكز جميعاً (البيَع، والصلوات، والمساجد)، وكلّ موقع ومركز يُذكَر فيه اسم الله ويُدعى فيه إلى الله تعالى.

ولا سبيل إلى إيقاف الجاهليّة وصدّها عن العدوان وعن الفتنة في طريق الدعوة إلاّ بالقتال والجهاد، واستئصال الكفر والجاهليّة( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ... ) (1) .

فالقتال إذن، ضرورة من ضرورات الدعوة، ولا يمكن أن تنطلق مسيرة الدعوة على وجه الأرض من دون قتال ودم، ولا يمكن أن تُؤدّي الدعوة رسالتها على وجه الأرض، دون أن تعدّ الإعداد الكامل لهذه الحرب المصيريَّة والحضاريّة، ودون أن تُوطِّن نفسها لهذه المواجهة العنيفة، التي لا ترحم صغيراً ولا كبيراً.

والتفكير في المصالحة والهُدْنَة والتفاهم مع الجاهليّة تفكير ساذج وغير واقعي، وغير مَبدئي في نفس الوقت، فليس لنا مع الجاهليّة والطاغوت غير خيار واحد، وقرار واحد، وهو الاستمرار في القتال - ضمن مراحل العمل والحركة - حتّى يتمّ القضاء الكامل على الجاهليّة، وبها يتمّ القضاء الكامل على الفتنة على وجه الأرض.( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ... ) .

العلاقة العضويَّة بين أطراف الجاهليّة:

إنّ الجاهليّة الـمُعاصِرة كالجاهليّة في أيّ وقت آخر، ذات ولاءات ومحاور مُختلفة، لكنّها قِبالة الإسلام تجمعها علاقة عضويّة واحدة، وهذه الحقيقة التاريخيّة هي التي تُفسِّر لنا كيف اجتمعت أميركا وروسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول الكبرى على دَعْمِ النظام العراقي في ضرب الثورة الإسلاميّة، والكيد للدولة الإسلامية.

____________________

(1)البقرة: 193.

١١٦

إنّ هذه المسائل السياسيّة تكشف عن طبيعة الجاهليّة وارتباطها العضوي، ووحدة الموقف السياسي عندها في البراءة، وإن كانت هي في داخلها ذات محاور وولاءات مُتعدِّدة ومُتخالِفة.

شَراسَة الجاهليّة في صراعِها مع الإسلامِ:

إنّ الفَتْكَ والبَطش والشراسَة من خصائص الجاهليّة في صراعها مع الإسلام، وتُحاول الكيانات الجاهليّة في صراعها السياسي والعسكري مع الإسلام أن تَتَقَنّعَ بقناع الإنسانيّة والأخلاق، فإذا طال الصراع واستنفذتْ الجاهليّة وسائلها الـمُمكنة، ووجدت نفسها في خطرٍ حقيقي، ألقَتْ هذا القِناع جانباً، وظهرت بكلّ بَشاعَتها للساحة وللرأي العام.

ويطول هذا الصراع ولا يُمكن الوصول فيه إلى تفاهم أو مصالحة، ولا أمَد للحرب غير سقوط الجاهليّة ونهايتها، وإخلاء الساحة الإنسانيّة لحركة الدعوة إلى الله؛ فالصراع هنا ليس صراعاً على أرض وماء أو حقل من حقول النفط، وإنّما الصراع هنا (صراع حضاري) بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من دلالة وعُمق.

وبكلمة موجزة جدّاً: إنّ الصراع هنا صراع الولاءات وليس صراع المصالح، حتّى يُمكن فيه التفاهم والصُلح واللقاء.

الإيمانُ بالله يُساوي التخلِّي عن الأنفُسِ والأموال:

ولابدّ أن نقف وقفة أُخرى عند كلمة:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، فإنّ الآية الكريمة تُقرِّر قضيّة هذا البيع والشراء بصيغة الماضي وليس بصيغة المضارع، ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... ) ، من كلّ المؤمنين دون تَخصِيص.

إنّها لآية عجيبة حقّاً، تهزّ الإنسان من الأعماق وتُشْعِر الإنسان بعُمق معنى

١١٧

الإيمان، وبثُقل الإيمان الكبير.

فكلّ إيمان بَيْعَة مع الله، وكلّ مَن آمنَ فقد باع نفسه لله، وتخلّى عن نفسه وماله له تعالى من دون تردّد.

إنّ القضيّة أعمق من الاستعداد للتخلّي، انّه هو التخلّي الفِعلي عن النفس والمال لله، وهذا هو معنى (البيع) و (الشراء)، وليس الاستعداد للتنازل عن الأنفس والأموال، وإنّما التخلّي الفِعلي عن كلّ شيء يملكه لله تعالى، من دون تردّد ولا تراجع ولا نظرة إلى الوراء، فقد تمّ البيع وتمَّتْ الصفقة وحُسِمَ الأمر، فلا إقالة ولا رَجعة.

وهكذا كان يفهم المسلمون الأوائل هذه الآية الكريمة، عندما كبّروا لمّا تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية عليهم، وقال قائلهم: (بَيْع رَبيْح لا نقيل ولا نستقبل).

وثيقة البيع:

وأمّا الوفاء بالثَمنِ ووثيقة البيع، فإنّ الشاري هو الله تعالى، وهو الـمُتعهّد بالثمنِ، ومَن أوفى بعهدِه من الله؟!

وإنّ المؤمن ليتصوَّر هذا الثمن الكبير الباقي لهذه البضاعة النافذة، ثمّ يعلم أنّ الله تعالى هو الذي يتولَّى الوفاء بهذا العهد، فتمتلئ نفسه غِبْطة وراحة ويقيناً، ويطمئنّ قلبه بعهد الله تعالى وميثاقه.

ومن عجيب أمر هذا البيع والشراء وثيقة هذا البيع، فإنّ وثائق البيوع تختلف باختلاف أهمِّيَّة درجة البيع وقِيمته، وإذا كان الـمُشتري في هذا البيع هو الله تعالى، والبضاعة هي الأنفس والأموال، والثمن الجنّة، فلابدّ أن تكون وثيقة هذا البيع على قَدَر قيمته.

وأعزّ الوثائق كُتُب الله تعالى، وألواح الوحي الـمُرسَلة إلى أنبيائه، ووثيقة هذا البيع من هذا النوع: (التوراة والإنجيل والقرآن)، وناهيك بها عن وثائق تبعث الطمأنينة والثِقة في أضعف النفوس.

ولأمرٍ ما، يأتي في هذه الآية الكريمة تأكيد الـمُوثِّق في هذا البيع، ويأتي ذِكر المواثيق التي سجّل الله تعالى فيها عهده لعباده بالجنّة، ويأتي قوله تعالى:

١١٨

( ... وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ... ) (1) .

فإنّ القلوب كلّما كانت تطمئنّ أكثر لوعد الله، قَدمتْ على هذه المبايَعة مع الله بثِقةٍ ويقين أكبر، والضعف في الاطمئنان لا يُنافي الإيمان، فقد يكون الإنسان مؤمناً، ولكن لم يبلغ في تعامله مع الله تعالى درجة عالية من اليقين والاطمئنان، ومِثل هذا الإيمان، يَشوبه الكثير من الضعف والتخلّف عند المبايَعة والاستجابة لدعوة الله تعالى.

وأمّا عندما ترتفع درجة ثِقة الإنسان بوعد الله تعالى إلى مستوى (الطمأنينة) و (اليقين)، فإنّ الأمر يختلف بالنسبة إليه اختلافاً كبيراً، وتكاد تكون (الجنّة) ثمناً مقبوضاً، والبيع نَقْداً، وليس الثَمَن موعوداً.

إنّ الذين رزقَهم الله الطمأنينة واليقين، يرون وعد الله حاضراً، ويرون الجنّة ماثِلة أمام أعينهم، فلا يشكّون ولا يتردّدون ولا يُحجِمون، ولا يُساورهم شكّ ولا رَيب، ويُقدِمون على المبايعة مع الله من دون خوفٍ أو تراجع، أو نظر إلى الوراء، ويُقدِّمون أنفسهم وأموالهم لله ببساطة وارتياح، ومن غير معاناة.

روى مسلم، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه يوم بدر: (قوموا إلى جنّة عَرْضها السماوات والأرض.

قال عُمَر بن حمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرضها السماوات والأرض؟!

قال:نعم .

قال: بَخٍ بَخٍ.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟.

قال: لا والله يا رسول الله، إلاّ رجاء أن أكون من أهلها.

____________________

(1)التوبة: 111.

١١٩

قال: فإنّك من أهلها.

فأخرج تَمْرات من قِرْبه، فجعل يأكل منهنّ.

ثمّ قال: لئن أنا حَييت حتّى آكل تمراتي هذه، إنّها لحياة طويلة.

قال: فرمى بما كان معه من التَمْرِ، ثمّ قاتلهم حتّى قُتِل ).(1)

وروى مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، قال: (سمعت أبي، وهو بحضرة العدوّ، يقول: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السيوف، فقام رجل رثّ الهَيئة، فقال: يا أبا موسى، أنت سمعتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثمّ كسَرَ جَفن سيفه فألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدوّ، فضربَ به حتّى قُتِل) (2) .

بمثل هذه البساطة والثِقة والطمأنينة، كانوا يتعاملون مع الله تعالى.

وقد هازَلَ بُريْر عبد الرحمان الأنصاري، ليلة عاشوراء، فقال له عبد الرحمان الأنصاري: ما هذه ساعة باطل.

فقال بُرير: لقد علِم قومي، ما أحببتُ الباطل كَهلاً ولا شابّاً، ولكنّي مُستبشِر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العِين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوَدَدت أنّهم مالوا علينا الساعة(3) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحُصين: ما هذه ساعة ضحكٍ يا حبيب!

قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلاّ أن يميل علينا

____________________

(1)الجامع الصحيح لمسلم: 6 / 44 / كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنّة للشهيد، دار الفكر - بيروت.

(2)الجامع الصحيح لمسلم: 6 / 45 / كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنّة للشهيد.

(3)تاريخ الطبري: 6 / 241.

١٢٠