في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء14%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220229 / تحميل: 9250
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

7 - في قصر بني مقاتل:

وفي قصر بني مقاتل رأى فسطاطاً مضروباً، ورُمحاً مركوزاً، وفرساً واقفاً، فسأل عنه فقيل: هو لعبيد الله بن الحُرّ الجعفي، وبعث إليه الحجّاج بن مسروق الجعفي، فسأله ابن الحُرّ عمّا وراءه؟

قال: هدية إليك وكرامة، إن قبلتها. هذا حسين يدعوك إلى نُصرته، فإن قاتلت بين يديه أُجِرت، وإن قُتلت استشهدت.

فقال ابن الحُرّ: والله ما خرجتُ مِن الكوفة إلاّ لكثرة ما رأيته خارجاً لـمُحاربته، وخذلان شيعته، فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره، ولست أُحبّ أن يراني وأراه(1) .

فأعاد الحجّاج كلامه على الحسين، فقام (صلوات الله عليه) ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحْبه، فدخل عليه الفسطاط فوسَّع له عن صدر المجلس.

يقول ابن الحُرّ: ما رأيت أحداً قطّ، أحسن مِن الحسين ولا أملأ للعَين منه، ولا رققتُ على أحدٍ قطّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حَوله، ونظرت إلى لحيَته فرأيتها كأنّها جناح غراب، فقلت له أَسَواد أم خضاب؟.

قال: (يا ابن الحُرّ، عجَّلَ عليّ الشيب)، فعرفت أنّه خضاب(2) .

ولمّا استقر المجلس بأبي عبد الله، حمَد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال: (يابن الحرّ، إنّ أهل مِصْركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم عليهم، وليس الأمر على ما زعموا(3) . وإنّ عليك ذنوباً كثيرة، فهل لك مِن توبة تُمحي بها ذنوبك؟!).

____________________

(1)الأخبار الطوال: ص 249.

(2)خزانة الأدب للبغدادي: 1 / 298، ط بولاق. وأنساب الأشراف: 5 / 291.

(3)نفس المهموم: ص104.

١٦١

قال: وما هي يا ابن رسول الله؟ فقال: (تنصر ابن بنت نبيّك وتُقاتل معه)(1) .

فقال ابن الحُرّ: والله إنّي لأعلم أنّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك، ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً؟ فأُنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرَسي هذه (الملحقة) - والله - ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلاّ لحِقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ سبقته، فخُذها فهي لك.

قال الحسين: (أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا، فلا حاجة لنا في فرَسك(2) ولا فيك، وما كنتُ مُتّخذ الـمُضلّين عضداً(3) . وأنّي أنصحك كما نصحتني، إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا، فافعل، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم)(4) .

وندِم ابن الحُرّ على ما فاته مِن نصرة الحسينعليه‌السلام فأنشأ:

أيا لَك حسرةً ما دمتُ حيّاً

تردَّد بين صدري والتراقي

غَداة يقولُ لي بالقصر قولاً

أتتـركنا وتعزم بالفِراقِ

حسينٌ حين يطلب بذْل نصري

على أهل العداوة والشِقاقِ

فلو فلَقَ التلهّف قلب حُرٍّ

لهَمَّ اليوم قلبي بانفلاقِ

ولو واسيتُه يوماً بنفسي

لنلتُ كرامة يوم التلاقِ

مع ابن محمّد تُفديه نفسي

فودّع ثُمّ أسرع بانطلاق

لقد فاز الأُلى نصروا حُسيناً

وخاب الآخَرون ذَووا النفاق(5)

____________________

(1)أسرار الشهادة: ص233.

(2)الأخبار الطوال: ص249.

(3)أمالي الصدوق: ص94 (المجلس 30).

(4)خزانة الأدب: 1 / 298.

(5)مقتل الخوارزمي: 1 / 228. وذكره الدينوري في الأخبار الطوال: ص258.

١٦٢

وفي هذا الموضع اجتمع به عمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه، فقال لهما الحسين: (جئتما لنُصرتي؟!) قالا له: إنّا كثيروا العيال، وفي أيدينا بضائع للناس، ولم ندرِ ماذا يكون، ونَكْره أن نُضيِّع الأمانة.

فقال لهماعليه‌السلام : (انطلقا، فلا تسمعا لي واعية ولا ترَيا لي سواداً، فإنّه مَن سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجيبنا، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على مِنْخريه في النار)(1) .

8 - في منزل شراف:

وفي (شراف) طلع عليهم الحُرّ الرياحي بألف فارس، بعثه ابن زياد ليحبس الحسينعليه‌السلام عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده، أو يقْدِم به إلى الكوفة.

فسقاهم الحسينعليه‌السلام ماءً، وكانوا عطاشى، ثُمّ خطب فيهم الحسينعليه‌السلام وقال:

(إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم، وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كُتبُكم، وقدِمت بها عليَّ رُسلُكم، أن اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئنّ به مِن عهودكم ومواثيقكم، وإن كنتم لمقدَمي كارهين، انصرفت عنكم)(2) .

9 - في منزل البيضة:

وفي منزل البيضة، خطب الحسينعليه‌السلام في أصحاب الحُرّ فقال:

(أيّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (مَن رأى سُلطاناً جائراً، مُستحِلاًّ لحرام الله،

____________________

(1)مقتل الحسين: للسّيد عبد الرزاق المقرّم: 202 - 205.

(2)مقتل الحسين: للسيّد عبد الرزاق المقرّم: 195.

١٦٣

ناكثاً عهده، مُخالِفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفِعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مَدخله.

ألا وأنّ هؤلاء قد لزِموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر، وقد أتتني كُتبكم، وقدِمَت عليَّ رسُلُكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني، فإن تممتُم على بيعتكم تصيبوا رُشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وأمّي فاطمة بنت رسول الله. نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ أُسوة، وإن لم تفعلوا، ونقضْتُم عهدكم، وخلعتُم بيعتي مِن أعناقكم، فلَعمري ما هي لكم بنُكر. لقد فعلتموها، بأبي وأخي وابن عمّي مُسلم. فالمغرور مَن اغترّ بكم. فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(1) .

10 - في كربلاء:

وفي كربلاء أقبل حبيب بن مظاهر الأسدي إلى الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، فقال: هاهنا حيّ مِن بني أسد بالقرب منّا، أتأذن لي أن أسير إليهم أدعوهم إلى نصرتك؟ فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره، فقال له الحسينعليه‌السلام : قد أذِنتُ لك يا حبيب.

قال: فخرج حبيب بن مظاهر في جوف الليل متنكّراً حتّى صار إلى أولئك القوم، فحيّاهم وحيّوه وعرفوا أنّه مِن بني أسد، فقالوا: ما حاجتك؟ يا ابن عمّ! فقال: حاجتي إليكم قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه في عصابة مِن المؤمنين، الرجُل منهم خيرٌ

____________________

(1)الطبري 6 / 229. ومقتل الحسين / للمقرّم: ص198.

١٦٤

مِن ألف رجُل، لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عينٌ نظرَت، وهذا عمَر(1) بن سعد قد أحاط به في اثنين وعشرين ألف، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد جئتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالون غداً شرفاً في الآخرة، فإنّي أُقسم بالله أنّه لا يُقتَل منكم رجُل مع ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صابراً محتسباً، إلاّ كان رفيق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى علّيين.

قال: فوَثب رجُل مِن بني أسد يُقال له بشر بن عبيد الله فقال: والله أنا أوّل مَن أجاب إلى هذه الدعوة، ثمّ أنشأ يقول:

قد علِم القوم إذا توَاكلوا

وأحجم الفُرسان أو تناصلوا

إنّي شجاع بطل مقاتل

كأنّني ليث عرين باسل

قال: ثمّ تبادر رجال الحيّ مع حبيب بن مظاهر الأسدي.

قال: وخرج رجُل مِن الحيّ في ذلك الوقت حتّى صار إلى عمَر(2) بن سعد في جوف الليل فخبّره بذلك، فأرسل عمَر رجُلاً من أصحابه يُقال له الأزرق بن حرب الصيداوي، فضمّ إليه أربعة آلاف فارس، ووجّه به في الليل إلى حيّ بني أسد مع الرجُل الذي جاء بالخبر.

قال: فبينما القوم في جوف الليل قد أقبلوا يريدون معسكر الحسين، إذ استقبلهم جُند عمَر بن سعد على شاطىء الفرات، قال: فتناوش القوم بعضهم [بعضاً] واقتتلوا قتالاً شديداً، صاح به حبيب بن مظاهر: ويلك يا أزرق ما لك ولنا دعْنا؟ قال: واقتتلوا قتالاً شديداً.

فلمّا رأى القوم ذلك انهزموا راجعين إلى منازلهم، فرجع حبيب بن مظاهر إلى الحسينعليه‌السلام ، فأعلمه بذلك الخبر فقال: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم(3) .

____________________

(1)في النُسخ: عمْرو.

(2)في النُسخ: عمْرو.

(3)كتاب الفتوح لابن الأعثم الكوفي: ج5 / 159 - 162، ط 1.

١٦٥

11 - وفي كربلاء دعا الحسينعليه‌السلام بدَواة وبيضاء، وكتَب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، مِن الحسين بن عليّ إلى سليمان بن صرد الخزاعي(1) .

أمّا بعد فقد علِمتُم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً إلى آخِر ما ذكره في خطبة الأصحاب).

يوم عاشوراء:

وللحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء استنصاران واستغاثة:

وفيما يلي تفصيل كلٍّ مِن الاستنصارين والإستغاثة الحسينية في يوم عاشوراء.

12 - الاستنصار الأوّل يوم عاشوراء:

دعا الحسينعليه‌السلام براحلته يوم عاشوراء، فركِبها ونادى بصوتٍ عال يسمعه جُلُّهم:

(أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعِظكم بما هو حقّ لكم عليّ، وحتّى اعتذر إليكم من مقْدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النَصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النَصف مِن أنفسكم).( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

____________________

(1)نفس المهموم: ص 207، البحار 44 / 382.

١٦٦

وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوا إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونِ ) (1) ( إِنّ وَلِيّيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ ) (2) .

فلمّا سمعْنَ النساء هذا منه صحْنَ وبَكين وارتفعت أصواتهم، فأرسل إليهنّ أخاه العباس وابنه عليّ الأكبر وقال لهما: (سكّتاهن فلَعمري ليكثُر بكاؤهنّ).

ولمّا سكتْنَ، حمَد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك ما لا يُحصى ذِكره، ولم يُسمَع متكلّم قبله ولا بعده أبلَغ منه في منْطقه(3) .

ثمّ قال: (الحمد لله الذي خلَق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته والشقيّ مَن فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيّب طمَع مَن طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم، وأعرَض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتُم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتْلهم، وقد استحوَذ عليكم الشيطان فأنساكم ذِكر لله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين)(4) .

(أيّها الناس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّة وابن عمّه

____________________

(1)يونس / 71.

(2)الأعراف / 196.

(3)تاريخ الطبري: 6 / 242.

(4)مقتل محمّد بن أبي طالب.

١٦٧

وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟

فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحقّ فوَ الله ما تعمّدت الكذِب منذ علِمتُ أنّ الله يمْقت عليه أهله، ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبدالله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، يخبرونكم إنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي).

فقال الشمر: هو يعبُد الله على حرْف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق، ما تدري ما يقول، قد طبَع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام : (فإن كنتم في شكٍّ مِن هذا القول أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوَ الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويْحَكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟) فأخذوا لا يكلّمونه.

فنادى: ياشبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد ابن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدِم قد أينع الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدِم على جُندٍ لك مجنّدة.

فقالوا: لم نفعل.

قال: سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم. ثمّ قال: (أيّها الناس، إذا كرهتموني، فدَعوني أنصرف عنكم إلى مأمَني مِن الأرض، فقال له قيس بن الأشعث: أوَ لا تنزل على حُكم بني عمّك؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه.

١٦٨

فقال الحسينعليه‌السلام : أنت أخو أخيك أتُريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر مِن دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا إفرّ فِرار العبيد (1)، عِباد الله( إنّي عُذْت بربّي وربِّكم أنْ ترْجِمُونِ ) أعوذ بربّي وربّكم مِن كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب(2) .

13 - الاستنصار الثاني في يوم عاشوراء:

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركِبَ فرَسه، وأخذ مصحفاً ونشَره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال: (يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله، وسنّة جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(3) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة، وما عليه من سيف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه وعمامته، فأجابوه بالتصديق. فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

(تبّاً لكم أيّها الجماعة وترَحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجِفين، سللتُم علينا سيفاً لنا في أَيمانكم، وحششتُم علينا ناراً اقتدحناها على

____________________

(1)بالفاء الموحّدة فيما رواه ابن نما في مثير الأحزان: ص26، وهو أصحّ ممّا يمضي على الألسُن، ويوجد في بعض المقاتل بالقاف مِن الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة إلاّ ما أفادته التي قبلها، بخلاف على قراءة (الفرار) فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدّة والقتل كما يصنعه العبيد، وهو معنى غير ما تؤدّي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ ابن الأثير: ج3 ص148، وشرح نهج البلاغة: ج1 ص 104 المطبعة الأميرية: أنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية: ما له فَعل فِعْل السيّد، وفرّ فِرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟

(2)مقتل الحسين للسيّد عبد الرزاق المقرّم: 254 - 257.

(3)تذكرة الخواص: ص143.

١٦٩

عدوّنا وعدوّكم؟ فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدْلٍ أفشَوه فيكم، ولا أمَل أصبح لكم فيهم، فهلاّ لكم الوَيلات، تركتمونا، والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يُستحصف، ولكن أسرعتم كطَيرة(1) الدبا، وتداعيتم عليها، كتهافت الفَراش، ثمّ نفضتموها، فسُحقاً لكم يا عبيد الأمَة وشذّاذ الأحزاب، ونبَذة الكتاب، ومحرّفي الكلِم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السُنن! وَيحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟ أجَل والله غدرٌ فيكم قديم وشِجَت عليه أُصولكم، وتأزّرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمَر، شجىً للناظر وأكْلة للغاصب).

(ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركَز بين اثنتين بين السِلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرَت وأنوفٌ حَمِية ونفوس أبيّة مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر)(2) .

14 - الاستغاثة الأخيرة للحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء:

ولمّا نظر الحسينعليه‌السلام كثرة مَن قُتل مِن أصحابه، قبض على شيبته المقدّسة وقال: (اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبَدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتْل ابن بنت نبيّهم، أما والله لا أُجيبهم

____________________

(1)بالكسر فالفتح (تاج العروس).

(2)نقلناها من اللهوف: ص54، ورواها ابن العساكر في تاريخ الشام: ج4 ص333، والخوارزمي في المقتل: ج2 ص6.

١٧٠

إلى شيءٍ يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي)، ثمّ صاح: أما مِن مغيث يغيثنا، أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، فبكت النساء وعَلا صراخهنّ.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسين واستغاثته وبكاء عياله وكانا مع ابن سعد، فمالا بسيفهما على أعداء الحسين، وقاتلا حتّى قُتلا(2) .

قال السيّد (رضي عنه الله): ولمّا رأى الحسينعليه‌السلام مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمُهجته ونادى: هل مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل مِن موحّد يخاف الله فينا، هل مغيث يرجو الله بإغاثتنا، هل مِن معين يرجو ما عند الله في إعانتنا. فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوليني ولَدي الصغير حتّى أودّعه، فأخَذه وأومأ إليه ليُقبّله، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهْمٍ، فوقع في نحره، فذبحه(3) .

فقالعليه‌السلام لزينب: خُذيه، ثمّ تلقّى الدم بكفّيه، فلمّا امتلأت رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعَين الله(4) .

وحكى السبط في التذكرة عن هشام بن محمّد الكعبي قال: لمّا رآهم الحسينعليه‌السلام مصرّين على قتْله، أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه ونادى: (بيني وبينكم كتاب الله وجدّي محمّد رسول الله، يا قوم بم تستحلّون دمي؟)، فَساقَ الكلام(5) إلى أن قال: فالتفت الحسينعليه‌السلام ، فإذا بطفل له يبكي عطشاً،

____________________

(1)اللهوف: ص57.

(2)الحدايق الوردية (مخطوط).

(3)الملهوف: ص102.

(4)الملهوف: ص103.

(5)هذا كلامهعليه‌السلام الذي ساقه: ألست ابن بنت نبيّكم، ألَم يبلغكم قول جدّي فيَّ وفي أخي =

١٧١

فأخذه على يده وقال: يا قوم إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، فرماه رجُل منهم بسهْم فذبَحه، فجعل الحسينعليه‌السلام يبكي ويقول: (اللهم اُحكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا). فنوديَ مِن الهواء: دعْه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة.

ثمّ قال: ورماه حُصَين بن تميم بسَهْم فوقع في شفتَيه، فجعل الدم يسيل مِن شفتيه وهو يبكي ويقول: (اللهم أشكو إليك ما يُفعل بي وبإخوَتي وولْدي وأهلي - الخ)(1) .

15 - استنصار زهير (رحمه الله) يوم عاشوراء:

وخرج إليهم زهير بن القين على فرَس ذنوب، وهو شاكٍ في السلاح فقال: (يا أهل الكوفة نذار لكم مِن عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دينٍ واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة. إن الله ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عُمر سلطانهما، لَيسملان أعْينكم ويقطّعان أيديَكم وأرْجُلِكم، ويمثّلان

____________________

= (هذان سيّدا شباب أهل الجنة)، إن لم تصدّقوني فاسألوا جابراً وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري، أليس جعفر الطيّار عمّي؟ فناداه شمر: الساعة ترد الهاوية. فقال الحسينعليه‌السلام : الله أكبر أخبرني جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: رأيت كأنّ كلباً وَلغ في دماء أهل بيتي وما أخالك إلاّ إيّاه. فقال شمر: أنا أعبُد الله على حرف إن كنتُ أدري ما تقول. فالتفت الحسين فإذا بطفل له - الخ (منه). تذكره الخواص: 143.

(1)تذكرة الخواص / ص143.

١٧٢

بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه).

فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودَعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سِلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ وُلد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر مِن ابن سميّة، فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجُل وبين يزيد، فلَعمري إنّه لَيرضى من طاعتكم بدون قتْل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكُت أسكَت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقِبَيه ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تُحكِم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إنّ الله قاتِلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فو الله للموت معه أحبّ إليَّ مِن الخُلد معكم، ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عِباد الله لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلَف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرَهم وذبّ عن حريمهم.

فناداه رجُل مِن أصحابه أنّ أبا عبدالله يقول لك: أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت لو نفع النُصح والإبلاغ(1) .

____________________

(1)تاريخ الطبري 6 / 243.

١٧٣

ب - الدلالات

الدلالات الأربعة لخطاب الاستنصار الحسيني

لخطاب الاستنصار الحسيني أربع دلالات:

1 - الدلالة السياسية 2 - الدلالة الحركية 3 - الدلالة الولائية 4 - الدلالة الشمولية.

وفيما يلي توضيح وشرح لهذه الدلالات الأربعة التي يتضمّنها الخطاب الحسيني.

1 - المضمون السياسي لخطاب الاستنصار الحسيني

الاستنصار، والتعبئة، وتحشيد الرأي العام، والإعلام ضدّ الطاغية، مِن مقوّمات كلّ مواجهة سياسية ضد نظام حاكم، يحكم بالظلم.

فإنّ الصراع على الحكم بين الحاكم والمعارضة صراع غير متكافئ من الناحية الميدانية.

ذلك أنّ الحاكم يملك من القوّة والمال والإعلام والسلطان ما لا يتملّكه المعارضة.

ولا غِنى للمعارضة، أيّة معارضة، في معركة من هذا القبيل مِن أن تعمل كلّ جهدها، وتسعى لكسب الرأي العام إلى جانبها، وكسب القوّة والاستنصار،

١٧٤

وتحشيد الرأي العام والتعبئة.

ونحن على يقين أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن يفكّر، يوم أقدم على الخروج... في أن يهزم طاغية عصره في مواجهة عسكرية ميدانية، ولا نحتاج إلى محاسبات عسكرية وسياسية؛ لنعرف أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن بصدد إسقاط يزيد، وانتزاع السلطان والـمُلك والحُكم مِن يده، وهو أَولى به مِن غيره.

وإنّما كان الحسينعليه‌السلام يفكّر في أمرين أحدهما سياسي، والآخَر حرَكيّ.

أمّا الهدف السياسي مِن حركة الحسينعليه‌السلام : وهو إلغاء شرعية الخلافة الأُمَوية وفضْح يزيد، وكسْر هيبته وعزله سياسياً واجتماعياً.

وأمّا الهدف الحرَكي فهو توعية الناس، وكسْر حاجز الخوف، وتحريك الناس وتثويرهم؛ لإسقاط نظام الطاغية، واستنهاض الأمّة، وإعادة إرادتها المسلوبة ووَعيِها المسلوب إليها.

والهدف الأوّل هدف سياسي بالتأكيد، والحسينعليه‌السلام يدخل في مواجهة سياسية مع أعْتى نظام سياسي وأشرسه، والاستنصار جزء مِن هذه المعركة.

والاستنصار دعوة إلى تطويق النظام الأُمَوي ومحاصرته وعزله، وتحجيم دَوره وإلغاء شرعيّته... وهو جزء مِن رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه المعركة الشاملة.

2 - المضمون الحركي لخطاب الاستنصار الحسيني

والدلالة الأخرى لخطاب الاستنصار الحسيني هي الدلالة الحركية...

ولتوضيح ذلك لا بدّ أن نرسم الإطار العام لخروج الحسينعليه‌السلام ، وعناصر هذا الإطار ثلاثة:

1 - رفض البيعة ليزيد: وقد أعلن الحسينعليه‌السلام رفضه لبيعة يزيد عندما أرسَل

١٧٥

الوليد والي بني أُميّة في المدينة، يطالبه بالبيعة بعد هلاك معاوية، وكان ذلك بحضور مروان بن الحكم، فامتنع الحسينعليه‌السلام مِن البيعة، وقال مثْلي لا يبايع سرّاً، فإذا دعوت الناس دعوتنا معهم.

فاقتنع الوليد، لكن مروان ابتدره قائلاً: إن فارقك الساعة، ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عُنقه.

فقال الحسينعليه‌السلام : يابن الزرقاء(1) أنت تقتلني أمْ هو، كذِبتَ وأثِمْت.

ثمّ أقبل على الوليد، وقال: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة، معلِن بالفِسق، ومثْلي لا يبايع مثْله، ولكن نصبح وتصبحون(2) .

وفي كربلاء خطَب الحسينعليه‌السلام وقال: (إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد خيَّر بين السِلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسولُه وحجورٌ طابت وطهُرَت).

2 - إعلان الرفض: لم يتكتّم الحسينعليه‌السلام برفضْه البيعة، وعرَف الناس جميعاً أنّ الحسينعليه‌السلام ممتنع عن البيعة، ونصَحه بعض الناس بالبيعة وآخَرون أن يُخفي نفسه عن الأمصار.

ولكن الحسينعليه‌السلام أعلن أنّه يرفض البيعة ويريد الخروج إلى مكّة، وترَك وصيّته إلى بني هاشم وكافّة المسلمين عند أخيه محمّد بن الحنفية، وغادر المدينة

____________________

(1)الزرقاء جدّة مروان وكانت مِن البغايا المعروفات. الفخرية: 88.

(2)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم، عن الطبري وابن الأثير، والإرشاد، وأعلام الورى، ومثير الأحزان لابن نما الحلّي.

١٧٦

إلى مكّة، سالكاً الطريق العام الذي يسلكه الناس، ويراه الناس فيه، فقيل له لو تنكّبت الطريق الأعظم، كما فعل ابن الزبير قال: لا والله لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ(1) .

ودخل مكّة، وهو يقرأ:

( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (2) .

ونزل دار العباس بن عبد المطّلب(3) ، واختلف إليه أهل مكّة ومَن بها مِن المعتمرين وأهل الآفاق، وكان ابن الزبير يأتي إلى الحسينعليه‌السلام فيمَن يأتيه.

وكان بإمكان الحسينعليه‌السلام أن يأخذ بنصيحة مَن ينصحه، بإخفاء نفسه، فيخفي نفسه عن الأنظار، ويذهب إلى بعض الثغور، ويبتعد عن الأضواء، وبذلك يسلَم مِن أذى بني أُمية وكَيدهم، وكان لا يخفى هذا الوجه على الحسينعليه‌السلام ، كما صرّح بذلك لجُملةٍ مِن الذين نصحوه، ولكنّه أصرّ أن يرفض البيعة، وأصرّ أن يُعلِن رفْضه، ويبقى تحت الأضواء، ويصارح الناس برأيه في يزيد وبيعته، وبأنّه أحقّ بذلك مِن كلّ إنسان آخَر على وجه الأرض.

3 - الخروج والثورة: وأصرّ الحسينعليه‌السلام بعد ذلك أن يخرج مِن الحجاز إلى العراق؛ ليواجه فيه بني أُمية.

وإذا أنعمنا النظر في كلمات أولئك الذين نصحوا الحسينعليه‌السلام بالامتناع عن الخروج إلى العراق، نجد أنّ كلامهم يتضمّن ثلاث نقاط.

الأُولى: إنّ خروج الحسينعليه‌السلام إلى العراق بمعنى الثورة(4) والمواجهة

____________________

(1)إرشاد المفيد.

(2)القصص / 22.

(3)تاريخ ابن العساكر: 4: 328.

(4)انظر نصيحة محمد بن الحنفية للحسينعليه‌السلام في المدينة - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 7، =

١٧٧

بعَينها لنظام بني أُمية.

والثانية: إنّ شيعة الحسينعليه‌السلام في العراق إذا وفَوا للحسينعليه‌السلام بعهودهم ومواثيقهم، فلن يستطيعوا أن يدفعوا عن الحسينعليه‌السلام كيد بني أُمية ومكْرهم وشرّهم، ولن يغلبوا سلطان بني أُمية على العراق.

والثالثة: وبناءً على ذلك فإنّ الحسينعليه‌السلام إذا خرج إلى العراق فهو مقتول لا محالة.

ولم تكن هذه الحقائق تخفى على الإمامعليه‌السلام ، ولم يكن يجهل الإمامعليه‌السلام أنّ خروجه إلى العراق بمعنى الخروج على سلطان بني أُمية علانية، ولم تكن تخفى على الحسينعليه‌السلام عاقبة هذا الخروج.

ولا يصحّ ما يرويه بعض الناس أنّ الحسينعليه‌السلام طلب منهم أن يُخلوا له الطريق إلى بعض الثغور، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن التصدّي والمواجهة، فلا يعطيهم يده للبيعة، ولا يتصدّى للخروج والمواجهة.

روى الطبري وابن الأثير عن عقبة بن سمعان أنّه قال: صحبت حسيناً، فخرجت معه مِن المدينة إلى مكّة ومِن مكّة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتِلعليه‌السلام ، وليس مِن مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق ولا بالعراق، ولا في معسكرٍ إلى يوم قتله إلاّ وقد سمعتُها. لا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون مِن أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن

____________________

ونصيحته له في مكّة - البحار: 44، ونصيحة عبدالله بن جعفر الطيّار له بالامتناع عن الخروج إلى العراق - الطبري 6: 219، ونصيحة عبدالله بن العباس له - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 16، ونحن نشكّ في صدْق كلّ هؤلاء في نصيحتهم للحسينعليه‌السلام ، ولا نشكّ أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن يخفى عليه هذا الوجه مِن الرأي.

١٧٨

يُسيّروه إلى ثغْر مِن ثغور المسلمين، ولكنّه قال: (دعوني في هذه الأرض حتّى ننظر ما يصير أمر الناس)(1) .

وكان مِن رأي محمّد بن الحنفية أن يُخفي الحسينعليه‌السلام نفسه عن الأنظار، ويبتعد عن أجواء المواجهة والتصدّي، ويلتحق بالجبال وشُعَب الجبال، ويخرج مِن بلد إلى آخَر، حتّى ينظر ما يصير إليه أمر الناس(2) .

فأبى الحسينعليه‌السلام وأصرّ على الخروج.

ونصَحه ابن عباس أن يسير إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشِعاباً وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيهعليه‌السلام بها شيعة، وهو عن الناس في عزلة.

فقال له الحسينعليه‌السلام : (يابن العمّ إنّي والله أعلم إنّك ناصح مشفق، وقد أزمعت على المسير)(3) .

إذن فإنّ الحسينعليه‌السلام كان يقصد الخروج ويريده، وهو على عِلم بكلّ لوازمه وتبِعاته وعواقبه.

هذا هو الإطار العام لحركة الإمام الحسينعليه‌السلام وموقفه مِن المدينة إلى كربلاء، وفي هذا الإطار نستطيع أن نفْهم الاستنصار الحسيني.

إنّ الحسين يعلم أنّه إن خرَج إلى العراق يُقتل لا محالة، وكلّ القرائن والدلائل تشير إلى هذه الحقيقة.

إذن فإنّ الحسينعليه‌السلام يطلب النصر بالقتْل والدم. ولم يكن يفطَن يومئذٍ ابنُ عباس وعبدالله بن جعفر الطيّار ومحمّد بن الحنفية لهذه الوسيلة التي اتّخذها

____________________

(1)تاريخ الطبري 7: 314، والكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 15.

(2)تاريخ الطبري 6: 191، وأنساب الأشراف 4: 15.

(3)الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 16.

١٧٩

الحسينعليه‌السلام يومئذٍ طريقاً إلى النصر.

لقد كان الحسينعليه‌السلام شاهداً لنجاح المؤامرة الأُموية، التي قادها آل أبي سفيان للانقلاب على الأعقاب... وقد فقدت الأمّة في عرضها العريض حصانتها تجاه هذه المؤامرة، وعاد الضمير الإسلامي لا يملك الدرجة الكافية من المناعة والمقاومة.

ولا يختلف في ذلك أهل العراق عن أهل الشام، وأهل مصر عن أهل الحجاز، فأراد الحسينعليه‌السلام أن يُحدث هزّة بشهادته وشهادة الثُلّة الطيّبة مِن أهل بيته وأصحابه في الضمير الإسلامي، ويُعيد إليهم ما سلَبه منهم آل أبي سفيان مِن ضمائرهم وعزائمهم ورُشدهم.

وقد كان الذي يريده الحسينعليه‌السلام بمصرعه ومصرع أهل بيته وأصحابه والمأساة التي يتناقلها أهل السِيَر، فأحدث في الضمير الإسلامي هزّةً عنيفة، وصحوة ضميرٍ كانت مبدأ كثير مِن البركات والثورات والوعي واليقظة السياسية في تاريخ الإسلام.

المؤامرة الأُموية على دم الحسينعليه‌السلام

وقد خطّط آل أبي سفيان لإهدار دم الحسينعليه‌السلام في مكّة في موسم الحج، وبلغ الحسينعليه‌السلام أنّ يزيد أنفَذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحج ووَلاّه أمْر الموسم، وأوصاه بالفتْك بالحسين أينما وجدَهُ(1) ، فعجّل الحسين بالخروج مِن مكّة قبل الوقوف بعرَفات يوم الترْوية، ولم يُمكّن بني أُمية مِن اغتياله فيذهب دمه هدراً؛ وبذلك أحبط المؤامرة التي خطّط لها بنو أُمية.

____________________

(1)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم / ص172، والمنتخب / ص172.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الاستضعاف والاستكبار:

ولمّا كانت هذه المهمّة التي يتولّى أمرها الطاغوت لا تتحقّق إلاّ من خلال استضعاف الإنسان، فإنّ الطاغوت يتّبع أساليب كثيرة في استضعاف الإنسان، وانتزاع ما أودع الله تعالى في نفسه مِن القيَم.

يقول تعالى عن فرعون وقوم فرعون:

( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (١) .

ومهما يكن من أمْر فإنّ الصراع بين هذين المحورَين، مِن كُبريات قضايا التاريخ، ومِن أهمّ العوامل المحرّكة لعجَلة التاريخ.

ومِن خلال فهْم هذا الصراع نستطيع أن نفْهم الكثير من أحداث التاريخ وقضاياه الكبرى ومنعطفاته وثوابته ومتغيّراته.

خصائص الصراع:

ونشير هنا إلى بعض خصائص هذا الصراع التاريخي بين هذين المحورَين: (الحقّ والباطل).

إنّ هذه المعركة، معركة عقائدية تستبطن صراعاً عقائدياً ضارياً حَول الشِرك والتوحيد. وقد أشرنا قريباً، أنّ جوهر هذا الصراع يدور حول الشِرك والتوحيد، وإنّ أكثر معاني الشِرك والتوحيد في القرآن، الشِرك في الولاء والتوحيد في الولاء.

ولهذا السبب فهي معركة عقائدية في جوهرها. هذا أوّلاً.

وثانياً: هي معركة حضارية؛ لأنّها تعتبر صِداماً بين حضارتين: الحضارة

____________________

(١) الزخرف / ٥٤.

٢٢١

الربانية والحضارة الجاهلية، ولكلّ منهما خصائصها... والانتماء إلى أيٍّ مِن المحورَين ليس انتماءً سياسياً فقط إلى أحد محاور القوّة والسيادة، وإنّما هو انتماء حضاري، ويستتبع هذا الانتماء خصائص وميّزات حضارية في أسلوب التفكير، والإخلاص، والعمل، والعلاقة مع الله تعالى، ومع النفس ومع الآخَرين ومع الأشياء... والصراع بين هذين المحورَين يعني الصراع بين حضارتين بشكلٍ دقيق.

وثالثاً: إنّ هذا الصراع معركة سياسية على مراكز القوى.

ولا شكّ أنّ كلاًّ من هذين المحورَين يعمل للاستيلاء على مراكز القوى في المجتمع: المال والسلطان، والقوى العسكرية، وثقة الناس ومراكز التوجيه، والإعلام، والثقافة.

وكلٌّ منهما يعمل لاستخدام هذه المراكز في تمكين محوَره وخطِّه.

رابعاً: هذه المعركة تدخل في حتميات التاريخ الكبرى، ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان بحالٍ من الأحوال، فإنّ تعاكس المحاور والخطوط تستدعي بصورة حتمية هذه المعركة في كلّ زمان ومكان. ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان.

إنّ هذا الدِين يصادر كلّ مصالح الطاغوت ووجوده ومراكزه ومواقعه، ولا يمكن أن يتخلّى الطاغوت عن دَوره في الإفساد على وجه الأرض من دون أن يخوض هو وجُنده صراعاً مريراً مع هذا الدِين. وهذا الصراع لم يخلُ منه عصر مِن العصور، منذ أن خلَق الله تعالى الإنسان بهذه التركيبة الخاصّة على وجه الأرض إلى اليوم الحاضر.

والقرآن الكريم يقرّر حتميّة الصراع بين هذين المحورَين بشكلٍ جازم، يقول تعالى:

٢٢٢

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (١) .

خامساً: إنّ هذا الصراع معركة مصيرية تدوم وتطول... ويعمل كلّ من المحورَين على استئصال المحور الآخَر من على وجه الأرض، وإنهائه وتصفيّة وجوده ومراكزه ومواقعه بشكلٍ عام... وليست معركة على قطعةٍ من الأرض، أو حدود برّية أو بحرية، وليست معركة على بضعة آبار من النفط، أو على كمّية من الذهب والفضة... إنّها معركة على الوجود والكيان، ولا يرضى كلّ من الطرفين إلاّ بالتصفية الكاملة للطرف الآخَر.

( وَلَنْ تَرْضَى‏ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى‏ حَتّى‏ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ ) (٢) .

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ للّهِ‏ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) (٣) .

فهذه المعركة تستمرّ حتّى الاستئصال الكامل للفتنة من على وجه الأرض... وبطبيعة الحال لن تكون معركة بسيطة، وإنّما هي معركة شرسة، لا يعرف التاريخ نظيراً لها في الحروب من حيث الشراسة والقسوة.

ولذلك فالتفكير في اللقاء والتفاهم والحلول النصفية مع الكفر والطاغوت، تفكيرٌ فيه كثير من الفجاجة والبساطة والضعف والهزيمة النفسية.

وإنّ بداية كلّ هزيمة ميدانية، هزيمة في النفس... وبداية الهزيمة النفسية التفكير في إمكان اللقاء والتفاهم مع الطاغوت، وإنهاء الصراع، والجلوس مع الطاغوت على موائد الصُلح.

____________________

(١)النساء / ٧٦.

(٢)البقرة / ١٢٠.

(٣)الأنفال / ٣٩ و٤٠.

٢٢٣

إنّ المعركة مع الطاغوت على الوجود، وليس على اختلاف الحدود أو اختلاف في الاعتبار، حتّى يمكن التفاهم والتصافي والتعايش بسلام، وتطبيع العلاقات.

وسادساً: إنّ هذه المعركة التاريخية تتطلّب مِن الأمّة مواقف واضحة، وحدّية وصارخة في إعلان الولاء والبراءة... الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين، والبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

فلابدّ من موقف...

ولابدّ أن يكون الموقف جدّياً...

ولابدّ أن يكون الموقف واضحاً ومعلَناً...

لأنّ المعركة مع أئمّة الكفر جدٌّ لا هزل فيه، ولا يكفي أن يضمر الإنسان الحبّ لله ولرسوله ولأوليائه، من دون موقف، ومن دون أن يعرف الناس عنه ذلك... ولا يكفي أن يكون قلبه مع الله ورسوله وأوليائه، وسيفه وحرابه عليهم(١) .

ولا يكفي أن يعطي لله ورسوله وأوليائه بعض وقته وماله... ليعطي للطاغوت البعض الآخَر...

إنّ الولاء كلٌّ لا يتجزّأ، فإمّا أن يكون الكلُّ لله، أو لا يكون لله منه شيء، فإنّ الله غنيٌ عن العالَمين.

إنّ الولاء يتطلّب الموقف المحدّد، والإشهار بالموقف في الانتماء

____________________

(١)التقى الحسينعليه‌السلام في مسيره إلى العراق بمنزل (الصفاح) بالفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن خبر الناس خلْفه، فقال الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني أُمية، فقال الحسينعليه‌السلام : والقضاء ينزل من السماء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء، بما نُحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتدّ مَن كان الحقّ نسَبُه والتقوى سريرته. مقتل الحسين للمقرّم / ١٨٢، نقلاً عن الطبري ٦ / ٢١٨، وابن الأثير ٤ / ١٦.

٢٢٤

والانفصال... وفي الحبّ والبغض... وفي المودّة والمعاداة... وفي السِلْم والحرب...

وسابعاً: إنّ الولاء والبراءة وجْها حقيقةٍ واحدة في هذه المعركة... ولا ينفع ولاء مِن دون براءة، ولا يؤدّي الولاء دَوره الفاعل في حياة الأمّة، ما لم يقترن بالبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

ولا يتكوّن الموقف هنا مِن الولاء فحسْب، إنّ للموقف وجهَين: وجْه إيجابي ووجه سلبي، سِلمٌ وحرب، وانتماء وانفصال، وحبٌّ وبُغْض، وما لم يجتمع هذا وذاك لن يكون الموقف موقفاً حقيقياً، وإنّما يكون شُعْبة من شُعَب النفاق، وطَوراً من أطوار المجاملة السياسية واللعب على الحبال...

يقول تعالى في هذين الوجهين:

( أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١) .

ثامناً: وكما إنَّ محوَر الولاية، مركز واحد، وخطّ واحد، وامتداد واحد، على طول التاريخ، كذلك محور البراءة.

ونحن لا نفرّق في الولاء بين أنبياء الله وأوليائه، القريب منهم من عصرنا والبعيد منهم عن عصرنا... فكلّهم يحملون رسالة الله ويبلّغون دِين الله، وآتاهم الله من لدُنه النبوّة والإمامة والولاية على عباده... نواليهم جميعاً، ونؤمن بما أنزل الله إليهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم.

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٢) .

____________________

(١)الفتح / ٢٩.

(٢)البقرة / ١٣٦.

٢٢٥

( آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (١) .

كذلك.. نتبرّأ من أعدائهم جميعاً.. نتبرأ من فرعون ونمرود، كما نتبرّأ من أبي جهل ويزيد، وكما نتبرّأ من طُغاة وجلاوزة عصرنا.

وكما أنّ الولاء أمْرٌ واحد، كذلك البراءة أمْر واحد.

ومثلما نتبرّأ من طغاة عصرنا ونلعنهم؛ لنفس الأسباب نلعن الحجّاج ويزيد وأبي جهل ونمرود وفرعون وقابيل.

فإنّ المعركة بين محوَرَي الحقّ والباطل، ليست معركة شخصية، وإنّما هي معركة حضارية، تمتدّ جذورها إلى أعماق التاريخ.

وكما أنّ المعركة في جوهرها واحدة في كلّ مراحلها، كذلك الولاء والبراءة.

عاشوراء مسرح للولاء والبراءة:

وننتقل الآن إلى (عاشوراء)

إنّ وقعة الطف مِن المواقع المؤثّرة، العقائدية والحضارية الكبرى في التاريخ. التي لا يملك الإنسان نفسه مِن أن يمرّ عليها مروراً عابراً، أو يقف عليها وقوفاً متفرّجاً، أو يقرأها بلا مبالاة ولا اكتراث.. ورغم مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على هذه الواقعة المفجعة.. فإنّها لا تزال تملك تأثيراً فوق العادة على النفوس والقلوب والعقول، وتفرض نفسها على كلّ مَن آتاه الله بصيرة ووعْياً في دِينه.

____________________

(١)البقرة / ٢٨٥.

٢٢٦

ولا تزال الأجيال تتلقّى قضية كربلاء بحرارة وحماسة، وتتفاعل معها في الإيجاب والسلب والولاء والبراءة.

فما هو السرّ الكامن في هذه الوقعة، والذي جعل منها مرآة للولاء والبراءة. عِبر هذا التاريخ الطويل.

عاشوراء يوم الفرقان:

إنّ عاشوراء تتميّز بالوضوح الكامل الذي لا يُبقي شكّاً لأحدٍ في طرفَي المعركة.

فلم يكن هناك التباس في أمْر المعركة التي حدثت على أرض الطف، ولم يكن أحدٌ من المسلمين يومئذٍ يشكّ في أنّ الحسينعليه‌السلام ، يدعو إلى الله ورسوله وإلى الاستقامة على صراط الله المستقيم، وأنّ يزيد بن معاوية قد تجاوز حدود الله، وأعلن الحرب على الله رسوله، وأعلن الفسْق والفجور، وهو يجلس مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن احدٌ من المسلمين يومئذٍ يتردّد لحظة واحدة، وهو يقف على ساحة الصراع بين أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويزيد بن معاوية، أنّ الحسين على هدىً، ويزيد على ضلالة.

وعليه فلم يكن في أمر هذه المعركة خفاء أو لبْس.. فمَن وقف مع الحسينعليه‌السلام وقف عن بيّنة، ومَن وقف مع يزيد وقف عن بيّنة...

وقليلٌ مِن مشاهد الصراع بين الحقّ والباطل يمتلك هذا الوضوح، الذي تمتلكه واقعة الطف.

وقف الحسين يوم عاشوراء بين الصفّين، وقال مخاطباً جيش ابن زياد: (أيّها الناس أنبئوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم

٢٢٧

قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي؟ أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ. فو الله ما تعمّدت الكَذِب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرُّ به مَن اخْتلَقه.

وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفْك دمي.

فقال شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: (والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً. وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، وقد طبع الله على قلبك)(١) .

وقال الحسينعليه‌السلام للوليد عامل يزيد على المدينة، لمّا أراد أن يَجبُر الحسينعليه‌السلام على البيعة ليزيد والرضوخ له:

(يا أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة مُعلن الفسْق، ومثْلي لا يبايع مثْله)(٢) .

الفاصل الحضاري بين المعسكرَين في عاشوراء:

لقد كانت الجَبْهتان المتصارعتان في كربلاء متميّزتين في انتمائهما لمحوَر

____________________

(١)تاريخ الطبري ٦: ٢٢٣.

(٢)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم (رضي الله عنه): ص١٢٧ ط النجف.

٢٢٨

الولاية الإلهية، والطاغوت، ولم يكن الأمر يخفى على أحد.

(لقد مضى أصحاب الحسينعليه‌السلام ليلة العاشر ولهم دويّ كدَويّ النحْل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد)(١) .

سِمة العبيد من الخشوع عليهم

لله أن ضمّتهم الأسحار

وإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم

بِيض القواضب أنّهم أحرار

وتقول فاطمة بنت الحسين:(وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلى ربّها.. والله، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة) (٢) .

كذلك كان الأمر في معسكر الحسينعليه‌السلام الشوق إلى لقاء الله و الإعراض عن الدنيا وزخْرفها، والانقطاع عن الدنيا إلى الله حتّى لقد كان بعضهم يداعب أصحابه ويمازحهم في الليلة العاشرة.

فقد هازل بُرَير عبد الرحمن الأنصاري رحمه الله. فقال له عبد الرحمن: (ما هذه ساعة باطل. فقال برير: لقد عَلِم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحُور العِين، إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم.. ولَوَددتُ أنّهم مالوا علينا الساعة)(٣) .

والطرف الآخَر في هذه المعركة كان همّه ما يُصيب مِن الذهب والفضة، والإمارة والجائزة في قتال ابن بنت رسول الله.

فقد تولّى عمَر بن سعد أمْر قتال ابن بنت رسول الله طمعاً في إمارة الرَي.

____________________

(١)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم: ص٢٣٨.

(٢)مثير الأحزان: ص٥٦.

(٣)تاريخ الطبري: ٦ ص٢٤١.

٢٢٩

يقول اليافعي: (ووَعد الأمير المذكور (عمَر بن سعد) أن يملّكه مدينة الرَي، فباع الفاسق الرُشدَ بالغيّ، وفيه يقول:

أأترك ملك الريّ والريّ بُغيَتي

وأرجع مأثوماً بقتل حسين

ثمّ يقول: (وحزّ رأس الحسين بعض الفجَرة والفاسقين، وحمَله إلى ابن زياد ودخل به عليه وهو يقول:

أوقِر ركابي فضةً أو ذهباً

إنّي قتلت الملك المحجّبا

قتلت خير الناس أمّاً وأبا

وخيرهم إذ يذكرون نسَبا

فغضب ابن زياد مِن قوله وقال له: (إذا علِمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا سُلِّمت منّي خيراً أبداً)(١) .

ويتبجّح الأخنس بن مرثد الحضرمي في رضّه للأجساد الطاهرة بعد استشهادهم، وهو يعلم أنّه يعصي الله تعالى في طاعة أميره، ويقول كما يروي الخوارزمي:

نحن رضضنا الظَهر بعد الصدر

بكلّ يعبوب شديد الأسْر

حتّى عصينا الله ربّ الأمر

بصُنعنا مع الحسين الطُهر(٢)

لقد كان همّ الحسين وأصحابه في كربلاء مرضاة الله ولقاء الله... وكان همّ جُند ابن زياد، ما يدفع لهم الأمير مِن الجائزة والإمارة والذهب والفضة.

لم يكن في الأمْر إذن أيّ خفاء. وجميع الذين عاصروا المعركة أو شاهدوها أو وقفوا عليها من قريب أو بعيد... كانوا يُميّزون فيها الحقّ مِن الباطل، ودعوة الله عن دعوة الطاغوت.

____________________

(١)انظر مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٢. روايات السيد المهزبان.

(٢)مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي ٢ / ٣٩.

٢٣٠

ولم يتخلّف أحد عنها عن جهل أو لَبْس، وإنّما عن إيثار العافية والراحة على القتل في سبيل الله... ولم يشهر أحد فيها السيف على ابن رسول الله عن لبْس أو جهل... وإنّما عن وضوح وعِلم بأنّهم يحاربون الله ورسوله وأوليائه بقتال الحسينعليه‌السلام .

وهذا الوضوح في ساحة المعركة يجعل معركة الطف معركة متميّزة مِن بين سائر المواقع التاريخية... إنّها تعكس صورة صارخة من صراع الحقّ والباطل، ومجابهة بين الولاء لله والولاء للطاغوت؛ ولذلك كانت هذه المعركة رمزاً خالداً للصراع بين الحقّ والباطل. ومسرحاً للولاء والبراءة، في حياة المؤمنين.

إنّ وقعة الطف لا تُبقي مجالاً لأحد في التردّد والتأمّل.

فهي المواجهة الصارخة بين الحقّ والباطل، وجُند الله وجُند الشيطان، والهدى والضلال...

... فلابدّ من موقف محدّد واضح في هذه القضية... فإن لم يكن هذا الموقف موقف الولاء لجُند الله والبراءة من أعدائهم... فهو لا محالة موقف الرضا بفِعل يزيد وجُنده، وهو الموقف الذي يستحقّ اللعْن والطرد من رحمة الله، ففي زيارة وارث:

(فلعَن الله أُمّة قتلتك

ولعَن الله أُمّة ظلمتك

ولعن الله أُمّةً سمعت بذلك فرضيَت به)(١) .

إنّ فقدان الموقف في عاشوراء هو بنفسه الموقف الرافض. فمَن لم يقف مع الحسينعليه‌السلام يوم استنصر المسلمين، وخذله، فلابدّ أن يكون راضياً بفِعل يزيد،

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣١

ولو لم يكن راضياً بفِعل يزيد، لَما أبطأ عن تلبية دعوة الحسين ونصرته.

وحدة الولاء والبراءة في زيارة (وارث):

إنّ النصّ المعروف في زيارة الحسينعليه‌السلام باسم زيارة (وارث) نصٌّ حافل بمشاهد الولاء والبراءة.

ومِن أهمّ هذه المشاهد: وحدة الولاء والبراءة، ووراثة الحسينعليه‌السلام للأنبياءعليهم‌السلام ، وربْط الولاء للحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه بالولاء للأنبياء: وربْط قيَم عاشوراء بالقيَم الموروثة من تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام .

ولعلَّ التسليم على الحسينعليه‌السلام في زيارة وارث، بصفته وارثاً للأنبياءعليهم‌السلام للإشارة إلى هذه الحقيقة.

(السلام عليك يا وارث آدم صَفوة الله،

السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله،

السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله،

السلام عليك يا وارث موسى كليم الله،

السلام عليك يا وارث عيسى روح الله،

السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله،

السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين وليّ الله)(١) .

فإنّ هذه الصفْوة مِن أولياء الله وعباده الصالحين امتداد واحد لولاية الله على وجه الأرض، وخطٌّ حضاريّ واحد، يدعون إلى الالتفاف حَول محوَر واحد، ويحملون قضية واحدة، كما أنّ أعداءهم أُمّة واحدة، وخطٌّ حضاري واحد،

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣٢

وحربٌ واحدة، رغم كلّ التباينات والتقاطعات الموجودة بينهم.

فالإحساس بوحدة الولاء، ووحدة البراءة، يُعمّق الشعور بأنّ الأمّة المسلمة على امتداد التاريخ منذ آدمعليه‌السلام إلى اليوم الحاضر أسرة واحدة، تلتفّ حول محوَر واحد، وتُحارب جبهةً واحدة، وتشترك في الحبّ والبغض والسِلم والحرب، وقضيّتها قضية واحدة، ومهمّتها على وجه الأرض مهمّة واحدة، وخطّها واحد، وحضارتها واحدة، وإيمانها واحد.

إنَّ هذا الإحساس بمعيّة الله ومعيّة المؤمنين يُزيل الشعور بالوَحشة عن نفوس الدُعاة إلى الله تعالى، في خِضَمّ الصراع مع الطاغوت، وفي مواجهة شَوكة الطاغوت وجبَروته وكبريائه.

فقد كان إبراهيمعليه‌السلام وحده أُمّة قانتاً لله في مواجهة نمْرود.

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١).

مشاهد الولاء في زيارة (وارث):

مشاهد الولاء في متْن هذه الزيارة ثلاثة:

١ - التسليم: السلام عليك يا وارث آدم صفوت الله..

٢ - الشهادة: أشهد أنّك الإمام البَرّ التقيّ الرضيّ...

٣ - الموقف: قَلْبي لقلْبِكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبِع...

وضِمن هذه المراحل الثلاثة يعبّر الزائر عن ولائه للحسينعليه‌السلام في المعركة الكبرى التي وقف فيها أبو عبد الله في مواجهة طاغية عصْره... ينطلق فيها مِن جذور هذه المعركة التاريخية إلى يومنا هذا.

____________________

(١)النحل / ١٢٠.

٢٣٣

والولاء يتجسّد في هذه الزيارة ضمن هذه المفاهيم الثلاثة وهي:

١ - السلام والأمن والمحبّة (التسليم).

٢ - الثقة المطلقة (الشهادة بالإمامة وإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

٣ - الموقف تجاه محوَر الولاية.

وسنعرض فيما يأتي هذه المشاهد الثلاثة للولاء في زيارة وارث.

السلام في (النفس) و (المجتمع):

وأوّل هذه المشاهد التسليم ضمن ثلاث فقَرات:

(السلام عليك يا وارث آدم صفْوة الله...

السلام عليك يا بن محمّد المصطفى...

السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره...)(١) .

والتسليم مِن أهمّ عناصر الولاء، وهو بمعنى ترك المشاكسة، والمشاققة، والاختلاف، واللجاج، والعناد، داخل النفس وفي السلوك، وإزالة عوامل البغضاء والكراهية والضغينة والاختلاف في الرأي والمخالفة، وإحلال المحبّة والمودّة والانسجام النفسي والطاعة والانقياد والتسليم محلّ المشاققة والمخالفة واللجاج والبغضاء.

وهذه العلاقة في التسليم، تأتي في خاتمة الصلاة، في السلام، (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وكأنَّ حصيلة الصلاة، وحصيلة هذا العروج الروحي إلى الله تعالى هي التسليم والطاعة والانقياد والمحبّة والمودّة لله ولرسوله ولأوليائه.

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣٤

و (السلام) ليس فقط أساساً للعلاقة مع الله ورسوله، وإنّما هو أيضاً أساس للعلاقة مع الأُمّة المسلمة الملتفّة حول هذا المحوَر.

وقد اعتبر الإسلام (السلام) تحيّة بين المؤمنين، وجعل هذه التحية خاتمة للصلاة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

وهذا الاهتمام بنشْر السلام بين أعضاء هذه الأسرة؛ للتأكيد على نوع العلاقة القائمة بين أفراد وأعضاء الأسرة المسلمة، وأنّ هذه العلاقة قائمة على أساس ترك المشاققة والمخالفة وإزالة البغضاء والضغائن والكراهية من النفوس، وبذْل المحبّة والمودّة في النفوس والانسجام والوفاق والتعاون والتناصر في السلوك.

الشهادة للحسينعليه‌السلام بإمامة المسيرة:

تأتي بعد ذلك الشهادة ضمن ثلاثة فقرات:

١ - الشهادة للحسينعليه‌السلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف: (أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمَرت بالمعروف، ونَهَيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين)(١) .

و (إقامة الصلاة) هنا غير أداء الصلاة.

إنّ أداء الصلاة تكليف شخصيّ وفريضة شخصية.

أمّا إقامة الصلاة فهي تثبيت الصلاة، والارتباط بالله، وإعلان الصلاة وتفعيلها في حياة الإنسان.

... ثمّ (وأمرتَ بالمعروف ونهَيت عن المنكر).

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يبتغي من خروجه على يزيد مُلكاً أو سلطاناً أو جاهاً،

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣٥

وإنّما كان يعمل لتثبيت دعائم المعروف وهدْم أُسُس المنكر، وإقامة محوَر الولاية لله وهدْم محوَر الطاغوت.

وقد خطب الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء فقال:

(ألا ترَون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله... وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما)(١) .

وفي منزل (البيضة) خطب الحسينعليه‌السلام في أصحابه فقال: (أيّها الناس إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عِباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفِعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدْخله.

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيّر...)(٢) .

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يطلب سلطاناً أو مالاً... وهو يرى أنّه يستقبل الموت في سَفرِه هذا، وإنّما كان يرى ظالماً جائراً، يفسد في الأرض، ويهلك الحرْث والنسل، ويحلّل حرام الله، ويتجاوز حدود الله.. فنهضعليه‌السلام بالعُصبة المؤمنة التي احتفت به في كربلاء؛ لفضْح الطاغية وكسرِه والتشهير به و تسقيطه أمام الرأي العام الإسلامي المضلّل، وتوعية الرأي العام بحقيقة الطاغية وإفساده في الأرض، وانتزاع الأمّة من محوَر الطاغوت وإعادتها إلى محوَر الولاية الإلهية.

٢ - الشهادة بـ (الطُهر) والنزاهة للحسينعليه‌السلام ، النزاهة مِن كلّ إثْمٍ وذَنْب،

____________________

(١)حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ / ٣٩.

(٢)تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٩.

٢٣٦

والعصمة مِن كلّ خطأ وزلَل وعصيان... طهارة النفس والسلوك...( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .

والشهادة بأنّ هذه النزاهة وهذا الطُهر طُهرٌ موروث، خلَفاً عن سلَف. وقد شاء الله تعالى أن يحتفظ بهذا الطُهر في هذه السلالة الطيّبة، عِبر الحضارات الجاهلية التي سادَت حياة الإنسان... وعِبر ظُلمات الحضارات الجاهلية.

استمرّ إشعاع هذا النور الإلهي في ظلمات حياة الإنسان، واستمرّ هذا الطُهر بين أرجاس الجاهلية، لم يتلوّث، ولم يُلبِسْه شيء مِن مدلهمّات ثيابها...

وقد اصطفى الله تعالى هذه السلالة المباركة للإمامة في حياة الإنسان عِبر العصور المختلفة.

( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

ولنقرأ هذه الفقرة من الشهادة في زيارة وارث:

(أشهد أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليةُ بأنجاسها، ولم تُلبِسْك من مدلهمّات ثيابها...)(٣) .

ولا أُحبّ أن أتجاوز هذه الفقرة دون أن أُشير إلى جمال التعبير في هذه الفقرة...

إنّ الطُهر في هذا البيت الطاهر حصيلة اللقاح بين أصلابٍ شامخة وأرحامٍ

____________________

(١)الأحزاب / ٣٣.

(٢)آل عمران / ٣٢. (حُماة الوحي) للشيخ شهاب الدين الإشرافي والشيخ محمّد موحدي فاضل، في تفسير هذه الآية الكريمة وعلاقتها بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام ص١٧٦ - ١٦٨.

(٣)زيارة وارث.

٢٣٧

مطهّرة. أصلابٌ شمخَت وترفَّعت ممّا يتساقط حوله الناس مِن متاعٍ وزُخرُفٍ زائل، وأرحام طَهُرت وسلمت من أوضار وأوساخ وأدناس الحضارات الجاهلية التي تناوبت على حياة الإنسان...

٣ - الشهادة بموقع الحسينعليه‌السلام مِن حياة الأمّة، ومركزه القيادي الذي وضَعه الله فيه، وما آتاه الله تعالى من الإمامة والولاية على المسلمين.

(أشهد أنّك مِن دعائم الدِين وأركان المؤمنين، وأشهد أنّك الإمام البرّ التقيّ، الرضيّ، الزكيّ، الهاديّ، المهديّ.

وأشهد أنّ الأئمّة مِن وُلدك كلمة التقوى، وأعلام الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على أهل الدنيا)(١) .

الـمَوقف:

ثمّ يأتي بعد هذه المرحلة من التعبير عن الولاء: (التسليم)، و (الشهادة) و (الموقف).

والـمَوقف هنا في (الإيمان والرأي) وفي (العمل).

الموقف النفسي في (الإيمان والرأي): (أنّي بكُم مؤمن وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سِلم)(٢) .

والموقف في (العمل): (وأمْري لأمْركم متّبع)(٣) .

مؤمن بولايتكم وإمامتكم وقيادتكم. وأصدق دليل على هذه الدعوة: أنّني

____________________

(١)زيارة وارث.

(٢)زيارة وارث.

(٣)زيارة وارث.

٢٣٨

أُسلّمكم شرائع دِيني وخواتيم عملي.. فليس شيء أعزّ عند الإنسان المؤمن من شرائع دِينه الذي يدين به لله تعالى، وخواتيم عمله، الذي يختم بها حياته، حيث لا يمكن أن يتدارك منه شيئاً.

فإنّ مِن الممكن أن يتدارك الإنسان ما فرّط فيه من أعماله، وإصلاحها بالتوبة.. ومراجعة النفس، وتصحيح العمل... أمّا خواتيم العمل فهي التي تقرّر عاقبة الإنسان ومصيره.. ونحن نأخذ منكم شرائع ديننا وخواتيم أعمالنا... وليس شيء أدَلّ على الثقة والصِدق في الولاء من ذلك.. ومِن خلالكم نأخذ معالم ديننا وبكُم هدانا الله تعالى.

ثمّ هذا التسليم المطلق الذي لا يشوبه شِقاق، ولا يعكّره رَيب في أعماق النفوس: تسليم القلْب للقلْب، (وقَلْبي لقَلْبكم سِلم)، فإنّ انسجام القلوب، وتلاقي القلوب، وتفاهم القلوب مِن أسمى معاني و مصاديق (السِلم).

ثمّ (التبعية المطلقة) والانقياد والتسليم في مقام العمل (وأمْري لأمْركم متّبع)، وهو يؤول إلى التسليم لأمْر الله تعالى.

والموقف هنا إيمان مطلق، وتسليم مطلق، وثقة مطلقة في النفس.. و يستتبعه الالتزام الكامل، والتبعية الكاملة في مقام العمل.

وورَد في زيارة الحسينعليه‌السلام الخاصّة في يوم عَرَفة (إنّي سِلمٌ لـمَن سالَمَكم، وحرب لـمَن حاربكم، ووليٌّ لـمَن والاكم وعدوٌ لـمَن عاداكم إلى يوم القيامة)(١) .

وفي زيارة الأربعين الخاصّة: (أشهدُ أنّي بكم مؤمن، وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلْبي لقلْبكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبع، ونُصرتي لكُم معدّة حتى يأذن الله لكم، فمعكم معكم، لا مع عدوّكم، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسامكم وشاهدكم وغائبكم)(١) .

____________________

(١)انظر زيارة الحسين الخاصّة ليوم عَرفة، وزيارة عاشوراء.

(٢)زيارة الأربعين.

٢٣٩

فالنصرة معدّة وجاهزة، انتظرُ فيها إذن الله تعالى.

معكم، معكم:

ثمّ بعد ذلك يأتي هذا التشييد الولائي الرائع.. وهذه النغمة الإيمانية العذِبة... (فمعكم، معكم، لا مع عدوّكم...).

بالتأكيد، بتكرار المعيّة (فمعكم، معكم...) وبالسلب والإيجاب... والولاء والبراءة (لا مع عدوّكم). نردّد هذه التلبية الولائية لداعي الله، الذي وقف يوم عاشوراء في كربلاء... يدعو البشرية إلى العودة إلى الله وتحطيم الطاغوت، وكسْر كِبريائه وجبَروته، والعودة إلى عبودية الله.

(لبّيك داعيَ الله، إن كان لم يُجبْك بدَني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلْبي..)(١) .

وإنّ أفضل التلبية تّلبية القلب... فإذا فاتتنا تلبية داعيَ الله بأبداننا في كربلاء، فإنّ قلوبنا التي عمّرها الله تعالى بوَلائه ووَلاء أوليائه لا تنفكّ عن الاستجابة لدعوته، وبمقارعة الظالمين، وكسْر شَوكتهم وسلطانهم، وتعبيد الناس لله، وتحكيم شريعة الله تعالى وحدوده في حياة الإنسان، وانتزاع الإنسان من محوَر الطاغوت إلى محوَر الولاء لله تعالى.

البراءة:

والوجه الآخَر لمسألة الولاية البراءة.. ولا ولاية مِن دون البراءة.. والولاء والبراءة وجهان لقضية واحدة.

____________________

(١) الزيارة المخصوصة لأوّل مِن رجب.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402