في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء9%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220391 / تحميل: 9261
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الاستضعاف والاستكبار:

ولمّا كانت هذه المهمّة التي يتولّى أمرها الطاغوت لا تتحقّق إلاّ من خلال استضعاف الإنسان، فإنّ الطاغوت يتّبع أساليب كثيرة في استضعاف الإنسان، وانتزاع ما أودع الله تعالى في نفسه مِن القيَم.

يقول تعالى عن فرعون وقوم فرعون:

( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (١) .

ومهما يكن من أمْر فإنّ الصراع بين هذين المحورَين، مِن كُبريات قضايا التاريخ، ومِن أهمّ العوامل المحرّكة لعجَلة التاريخ.

ومِن خلال فهْم هذا الصراع نستطيع أن نفْهم الكثير من أحداث التاريخ وقضاياه الكبرى ومنعطفاته وثوابته ومتغيّراته.

خصائص الصراع:

ونشير هنا إلى بعض خصائص هذا الصراع التاريخي بين هذين المحورَين: (الحقّ والباطل).

إنّ هذه المعركة، معركة عقائدية تستبطن صراعاً عقائدياً ضارياً حَول الشِرك والتوحيد. وقد أشرنا قريباً، أنّ جوهر هذا الصراع يدور حول الشِرك والتوحيد، وإنّ أكثر معاني الشِرك والتوحيد في القرآن، الشِرك في الولاء والتوحيد في الولاء.

ولهذا السبب فهي معركة عقائدية في جوهرها. هذا أوّلاً.

وثانياً: هي معركة حضارية؛ لأنّها تعتبر صِداماً بين حضارتين: الحضارة

____________________

(١) الزخرف / ٥٤.

٢٢١

الربانية والحضارة الجاهلية، ولكلّ منهما خصائصها... والانتماء إلى أيٍّ مِن المحورَين ليس انتماءً سياسياً فقط إلى أحد محاور القوّة والسيادة، وإنّما هو انتماء حضاري، ويستتبع هذا الانتماء خصائص وميّزات حضارية في أسلوب التفكير، والإخلاص، والعمل، والعلاقة مع الله تعالى، ومع النفس ومع الآخَرين ومع الأشياء... والصراع بين هذين المحورَين يعني الصراع بين حضارتين بشكلٍ دقيق.

وثالثاً: إنّ هذا الصراع معركة سياسية على مراكز القوى.

ولا شكّ أنّ كلاًّ من هذين المحورَين يعمل للاستيلاء على مراكز القوى في المجتمع: المال والسلطان، والقوى العسكرية، وثقة الناس ومراكز التوجيه، والإعلام، والثقافة.

وكلٌّ منهما يعمل لاستخدام هذه المراكز في تمكين محوَره وخطِّه.

رابعاً: هذه المعركة تدخل في حتميات التاريخ الكبرى، ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان بحالٍ من الأحوال، فإنّ تعاكس المحاور والخطوط تستدعي بصورة حتمية هذه المعركة في كلّ زمان ومكان. ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان.

إنّ هذا الدِين يصادر كلّ مصالح الطاغوت ووجوده ومراكزه ومواقعه، ولا يمكن أن يتخلّى الطاغوت عن دَوره في الإفساد على وجه الأرض من دون أن يخوض هو وجُنده صراعاً مريراً مع هذا الدِين. وهذا الصراع لم يخلُ منه عصر مِن العصور، منذ أن خلَق الله تعالى الإنسان بهذه التركيبة الخاصّة على وجه الأرض إلى اليوم الحاضر.

والقرآن الكريم يقرّر حتميّة الصراع بين هذين المحورَين بشكلٍ جازم، يقول تعالى:

٢٢٢

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (١) .

خامساً: إنّ هذا الصراع معركة مصيرية تدوم وتطول... ويعمل كلّ من المحورَين على استئصال المحور الآخَر من على وجه الأرض، وإنهائه وتصفيّة وجوده ومراكزه ومواقعه بشكلٍ عام... وليست معركة على قطعةٍ من الأرض، أو حدود برّية أو بحرية، وليست معركة على بضعة آبار من النفط، أو على كمّية من الذهب والفضة... إنّها معركة على الوجود والكيان، ولا يرضى كلّ من الطرفين إلاّ بالتصفية الكاملة للطرف الآخَر.

( وَلَنْ تَرْضَى‏ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى‏ حَتّى‏ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ ) (٢) .

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ للّهِ‏ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) (٣) .

فهذه المعركة تستمرّ حتّى الاستئصال الكامل للفتنة من على وجه الأرض... وبطبيعة الحال لن تكون معركة بسيطة، وإنّما هي معركة شرسة، لا يعرف التاريخ نظيراً لها في الحروب من حيث الشراسة والقسوة.

ولذلك فالتفكير في اللقاء والتفاهم والحلول النصفية مع الكفر والطاغوت، تفكيرٌ فيه كثير من الفجاجة والبساطة والضعف والهزيمة النفسية.

وإنّ بداية كلّ هزيمة ميدانية، هزيمة في النفس... وبداية الهزيمة النفسية التفكير في إمكان اللقاء والتفاهم مع الطاغوت، وإنهاء الصراع، والجلوس مع الطاغوت على موائد الصُلح.

____________________

(١)النساء / ٧٦.

(٢)البقرة / ١٢٠.

(٣)الأنفال / ٣٩ و٤٠.

٢٢٣

إنّ المعركة مع الطاغوت على الوجود، وليس على اختلاف الحدود أو اختلاف في الاعتبار، حتّى يمكن التفاهم والتصافي والتعايش بسلام، وتطبيع العلاقات.

وسادساً: إنّ هذه المعركة التاريخية تتطلّب مِن الأمّة مواقف واضحة، وحدّية وصارخة في إعلان الولاء والبراءة... الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين، والبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

فلابدّ من موقف...

ولابدّ أن يكون الموقف جدّياً...

ولابدّ أن يكون الموقف واضحاً ومعلَناً...

لأنّ المعركة مع أئمّة الكفر جدٌّ لا هزل فيه، ولا يكفي أن يضمر الإنسان الحبّ لله ولرسوله ولأوليائه، من دون موقف، ومن دون أن يعرف الناس عنه ذلك... ولا يكفي أن يكون قلبه مع الله ورسوله وأوليائه، وسيفه وحرابه عليهم(١) .

ولا يكفي أن يعطي لله ورسوله وأوليائه بعض وقته وماله... ليعطي للطاغوت البعض الآخَر...

إنّ الولاء كلٌّ لا يتجزّأ، فإمّا أن يكون الكلُّ لله، أو لا يكون لله منه شيء، فإنّ الله غنيٌ عن العالَمين.

إنّ الولاء يتطلّب الموقف المحدّد، والإشهار بالموقف في الانتماء

____________________

(١)التقى الحسينعليه‌السلام في مسيره إلى العراق بمنزل (الصفاح) بالفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن خبر الناس خلْفه، فقال الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني أُمية، فقال الحسينعليه‌السلام : والقضاء ينزل من السماء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء، بما نُحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتدّ مَن كان الحقّ نسَبُه والتقوى سريرته. مقتل الحسين للمقرّم / ١٨٢، نقلاً عن الطبري ٦ / ٢١٨، وابن الأثير ٤ / ١٦.

٢٢٤

والانفصال... وفي الحبّ والبغض... وفي المودّة والمعاداة... وفي السِلْم والحرب...

وسابعاً: إنّ الولاء والبراءة وجْها حقيقةٍ واحدة في هذه المعركة... ولا ينفع ولاء مِن دون براءة، ولا يؤدّي الولاء دَوره الفاعل في حياة الأمّة، ما لم يقترن بالبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

ولا يتكوّن الموقف هنا مِن الولاء فحسْب، إنّ للموقف وجهَين: وجْه إيجابي ووجه سلبي، سِلمٌ وحرب، وانتماء وانفصال، وحبٌّ وبُغْض، وما لم يجتمع هذا وذاك لن يكون الموقف موقفاً حقيقياً، وإنّما يكون شُعْبة من شُعَب النفاق، وطَوراً من أطوار المجاملة السياسية واللعب على الحبال...

يقول تعالى في هذين الوجهين:

( أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١) .

ثامناً: وكما إنَّ محوَر الولاية، مركز واحد، وخطّ واحد، وامتداد واحد، على طول التاريخ، كذلك محور البراءة.

ونحن لا نفرّق في الولاء بين أنبياء الله وأوليائه، القريب منهم من عصرنا والبعيد منهم عن عصرنا... فكلّهم يحملون رسالة الله ويبلّغون دِين الله، وآتاهم الله من لدُنه النبوّة والإمامة والولاية على عباده... نواليهم جميعاً، ونؤمن بما أنزل الله إليهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم.

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٢) .

____________________

(١)الفتح / ٢٩.

(٢)البقرة / ١٣٦.

٢٢٥

( آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (١) .

كذلك.. نتبرّأ من أعدائهم جميعاً.. نتبرأ من فرعون ونمرود، كما نتبرّأ من أبي جهل ويزيد، وكما نتبرّأ من طُغاة وجلاوزة عصرنا.

وكما أنّ الولاء أمْرٌ واحد، كذلك البراءة أمْر واحد.

ومثلما نتبرّأ من طغاة عصرنا ونلعنهم؛ لنفس الأسباب نلعن الحجّاج ويزيد وأبي جهل ونمرود وفرعون وقابيل.

فإنّ المعركة بين محوَرَي الحقّ والباطل، ليست معركة شخصية، وإنّما هي معركة حضارية، تمتدّ جذورها إلى أعماق التاريخ.

وكما أنّ المعركة في جوهرها واحدة في كلّ مراحلها، كذلك الولاء والبراءة.

عاشوراء مسرح للولاء والبراءة:

وننتقل الآن إلى (عاشوراء)

إنّ وقعة الطف مِن المواقع المؤثّرة، العقائدية والحضارية الكبرى في التاريخ. التي لا يملك الإنسان نفسه مِن أن يمرّ عليها مروراً عابراً، أو يقف عليها وقوفاً متفرّجاً، أو يقرأها بلا مبالاة ولا اكتراث.. ورغم مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على هذه الواقعة المفجعة.. فإنّها لا تزال تملك تأثيراً فوق العادة على النفوس والقلوب والعقول، وتفرض نفسها على كلّ مَن آتاه الله بصيرة ووعْياً في دِينه.

____________________

(١)البقرة / ٢٨٥.

٢٢٦

ولا تزال الأجيال تتلقّى قضية كربلاء بحرارة وحماسة، وتتفاعل معها في الإيجاب والسلب والولاء والبراءة.

فما هو السرّ الكامن في هذه الوقعة، والذي جعل منها مرآة للولاء والبراءة. عِبر هذا التاريخ الطويل.

عاشوراء يوم الفرقان:

إنّ عاشوراء تتميّز بالوضوح الكامل الذي لا يُبقي شكّاً لأحدٍ في طرفَي المعركة.

فلم يكن هناك التباس في أمْر المعركة التي حدثت على أرض الطف، ولم يكن أحدٌ من المسلمين يومئذٍ يشكّ في أنّ الحسينعليه‌السلام ، يدعو إلى الله ورسوله وإلى الاستقامة على صراط الله المستقيم، وأنّ يزيد بن معاوية قد تجاوز حدود الله، وأعلن الحرب على الله رسوله، وأعلن الفسْق والفجور، وهو يجلس مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن احدٌ من المسلمين يومئذٍ يتردّد لحظة واحدة، وهو يقف على ساحة الصراع بين أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويزيد بن معاوية، أنّ الحسين على هدىً، ويزيد على ضلالة.

وعليه فلم يكن في أمر هذه المعركة خفاء أو لبْس.. فمَن وقف مع الحسينعليه‌السلام وقف عن بيّنة، ومَن وقف مع يزيد وقف عن بيّنة...

وقليلٌ مِن مشاهد الصراع بين الحقّ والباطل يمتلك هذا الوضوح، الذي تمتلكه واقعة الطف.

وقف الحسين يوم عاشوراء بين الصفّين، وقال مخاطباً جيش ابن زياد: (أيّها الناس أنبئوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم

٢٢٧

قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي؟ أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ. فو الله ما تعمّدت الكَذِب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرُّ به مَن اخْتلَقه.

وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفْك دمي.

فقال شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: (والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً. وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، وقد طبع الله على قلبك)(١) .

وقال الحسينعليه‌السلام للوليد عامل يزيد على المدينة، لمّا أراد أن يَجبُر الحسينعليه‌السلام على البيعة ليزيد والرضوخ له:

(يا أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة مُعلن الفسْق، ومثْلي لا يبايع مثْله)(٢) .

الفاصل الحضاري بين المعسكرَين في عاشوراء:

لقد كانت الجَبْهتان المتصارعتان في كربلاء متميّزتين في انتمائهما لمحوَر

____________________

(١)تاريخ الطبري ٦: ٢٢٣.

(٢)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم (رضي الله عنه): ص١٢٧ ط النجف.

٢٢٨

الولاية الإلهية، والطاغوت، ولم يكن الأمر يخفى على أحد.

(لقد مضى أصحاب الحسينعليه‌السلام ليلة العاشر ولهم دويّ كدَويّ النحْل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد)(١) .

سِمة العبيد من الخشوع عليهم

لله أن ضمّتهم الأسحار

وإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم

بِيض القواضب أنّهم أحرار

وتقول فاطمة بنت الحسين:(وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلى ربّها.. والله، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة) (٢) .

كذلك كان الأمر في معسكر الحسينعليه‌السلام الشوق إلى لقاء الله و الإعراض عن الدنيا وزخْرفها، والانقطاع عن الدنيا إلى الله حتّى لقد كان بعضهم يداعب أصحابه ويمازحهم في الليلة العاشرة.

فقد هازل بُرَير عبد الرحمن الأنصاري رحمه الله. فقال له عبد الرحمن: (ما هذه ساعة باطل. فقال برير: لقد عَلِم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحُور العِين، إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم.. ولَوَددتُ أنّهم مالوا علينا الساعة)(٣) .

والطرف الآخَر في هذه المعركة كان همّه ما يُصيب مِن الذهب والفضة، والإمارة والجائزة في قتال ابن بنت رسول الله.

فقد تولّى عمَر بن سعد أمْر قتال ابن بنت رسول الله طمعاً في إمارة الرَي.

____________________

(١)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم: ص٢٣٨.

(٢)مثير الأحزان: ص٥٦.

(٣)تاريخ الطبري: ٦ ص٢٤١.

٢٢٩

يقول اليافعي: (ووَعد الأمير المذكور (عمَر بن سعد) أن يملّكه مدينة الرَي، فباع الفاسق الرُشدَ بالغيّ، وفيه يقول:

أأترك ملك الريّ والريّ بُغيَتي

وأرجع مأثوماً بقتل حسين

ثمّ يقول: (وحزّ رأس الحسين بعض الفجَرة والفاسقين، وحمَله إلى ابن زياد ودخل به عليه وهو يقول:

أوقِر ركابي فضةً أو ذهباً

إنّي قتلت الملك المحجّبا

قتلت خير الناس أمّاً وأبا

وخيرهم إذ يذكرون نسَبا

فغضب ابن زياد مِن قوله وقال له: (إذا علِمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا سُلِّمت منّي خيراً أبداً)(١) .

ويتبجّح الأخنس بن مرثد الحضرمي في رضّه للأجساد الطاهرة بعد استشهادهم، وهو يعلم أنّه يعصي الله تعالى في طاعة أميره، ويقول كما يروي الخوارزمي:

نحن رضضنا الظَهر بعد الصدر

بكلّ يعبوب شديد الأسْر

حتّى عصينا الله ربّ الأمر

بصُنعنا مع الحسين الطُهر(٢)

لقد كان همّ الحسين وأصحابه في كربلاء مرضاة الله ولقاء الله... وكان همّ جُند ابن زياد، ما يدفع لهم الأمير مِن الجائزة والإمارة والذهب والفضة.

لم يكن في الأمْر إذن أيّ خفاء. وجميع الذين عاصروا المعركة أو شاهدوها أو وقفوا عليها من قريب أو بعيد... كانوا يُميّزون فيها الحقّ مِن الباطل، ودعوة الله عن دعوة الطاغوت.

____________________

(١)انظر مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٢. روايات السيد المهزبان.

(٢)مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي ٢ / ٣٩.

٢٣٠

ولم يتخلّف أحد عنها عن جهل أو لَبْس، وإنّما عن إيثار العافية والراحة على القتل في سبيل الله... ولم يشهر أحد فيها السيف على ابن رسول الله عن لبْس أو جهل... وإنّما عن وضوح وعِلم بأنّهم يحاربون الله ورسوله وأوليائه بقتال الحسينعليه‌السلام .

وهذا الوضوح في ساحة المعركة يجعل معركة الطف معركة متميّزة مِن بين سائر المواقع التاريخية... إنّها تعكس صورة صارخة من صراع الحقّ والباطل، ومجابهة بين الولاء لله والولاء للطاغوت؛ ولذلك كانت هذه المعركة رمزاً خالداً للصراع بين الحقّ والباطل. ومسرحاً للولاء والبراءة، في حياة المؤمنين.

إنّ وقعة الطف لا تُبقي مجالاً لأحد في التردّد والتأمّل.

فهي المواجهة الصارخة بين الحقّ والباطل، وجُند الله وجُند الشيطان، والهدى والضلال...

... فلابدّ من موقف محدّد واضح في هذه القضية... فإن لم يكن هذا الموقف موقف الولاء لجُند الله والبراءة من أعدائهم... فهو لا محالة موقف الرضا بفِعل يزيد وجُنده، وهو الموقف الذي يستحقّ اللعْن والطرد من رحمة الله، ففي زيارة وارث:

(فلعَن الله أُمّة قتلتك

ولعَن الله أُمّة ظلمتك

ولعن الله أُمّةً سمعت بذلك فرضيَت به)(١) .

إنّ فقدان الموقف في عاشوراء هو بنفسه الموقف الرافض. فمَن لم يقف مع الحسينعليه‌السلام يوم استنصر المسلمين، وخذله، فلابدّ أن يكون راضياً بفِعل يزيد،

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣١

ولو لم يكن راضياً بفِعل يزيد، لَما أبطأ عن تلبية دعوة الحسين ونصرته.

وحدة الولاء والبراءة في زيارة (وارث):

إنّ النصّ المعروف في زيارة الحسينعليه‌السلام باسم زيارة (وارث) نصٌّ حافل بمشاهد الولاء والبراءة.

ومِن أهمّ هذه المشاهد: وحدة الولاء والبراءة، ووراثة الحسينعليه‌السلام للأنبياءعليهم‌السلام ، وربْط الولاء للحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه بالولاء للأنبياء: وربْط قيَم عاشوراء بالقيَم الموروثة من تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام .

ولعلَّ التسليم على الحسينعليه‌السلام في زيارة وارث، بصفته وارثاً للأنبياءعليهم‌السلام للإشارة إلى هذه الحقيقة.

(السلام عليك يا وارث آدم صَفوة الله،

السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله،

السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله،

السلام عليك يا وارث موسى كليم الله،

السلام عليك يا وارث عيسى روح الله،

السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله،

السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين وليّ الله)(١) .

فإنّ هذه الصفْوة مِن أولياء الله وعباده الصالحين امتداد واحد لولاية الله على وجه الأرض، وخطٌّ حضاريّ واحد، يدعون إلى الالتفاف حَول محوَر واحد، ويحملون قضية واحدة، كما أنّ أعداءهم أُمّة واحدة، وخطٌّ حضاري واحد،

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣٢

وحربٌ واحدة، رغم كلّ التباينات والتقاطعات الموجودة بينهم.

فالإحساس بوحدة الولاء، ووحدة البراءة، يُعمّق الشعور بأنّ الأمّة المسلمة على امتداد التاريخ منذ آدمعليه‌السلام إلى اليوم الحاضر أسرة واحدة، تلتفّ حول محوَر واحد، وتُحارب جبهةً واحدة، وتشترك في الحبّ والبغض والسِلم والحرب، وقضيّتها قضية واحدة، ومهمّتها على وجه الأرض مهمّة واحدة، وخطّها واحد، وحضارتها واحدة، وإيمانها واحد.

إنَّ هذا الإحساس بمعيّة الله ومعيّة المؤمنين يُزيل الشعور بالوَحشة عن نفوس الدُعاة إلى الله تعالى، في خِضَمّ الصراع مع الطاغوت، وفي مواجهة شَوكة الطاغوت وجبَروته وكبريائه.

فقد كان إبراهيمعليه‌السلام وحده أُمّة قانتاً لله في مواجهة نمْرود.

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١).

مشاهد الولاء في زيارة (وارث):

مشاهد الولاء في متْن هذه الزيارة ثلاثة:

١ - التسليم: السلام عليك يا وارث آدم صفوت الله..

٢ - الشهادة: أشهد أنّك الإمام البَرّ التقيّ الرضيّ...

٣ - الموقف: قَلْبي لقلْبِكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبِع...

وضِمن هذه المراحل الثلاثة يعبّر الزائر عن ولائه للحسينعليه‌السلام في المعركة الكبرى التي وقف فيها أبو عبد الله في مواجهة طاغية عصْره... ينطلق فيها مِن جذور هذه المعركة التاريخية إلى يومنا هذا.

____________________

(١)النحل / ١٢٠.

٢٣٣

والولاء يتجسّد في هذه الزيارة ضمن هذه المفاهيم الثلاثة وهي:

١ - السلام والأمن والمحبّة (التسليم).

٢ - الثقة المطلقة (الشهادة بالإمامة وإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

٣ - الموقف تجاه محوَر الولاية.

وسنعرض فيما يأتي هذه المشاهد الثلاثة للولاء في زيارة وارث.

السلام في (النفس) و (المجتمع):

وأوّل هذه المشاهد التسليم ضمن ثلاث فقَرات:

(السلام عليك يا وارث آدم صفْوة الله...

السلام عليك يا بن محمّد المصطفى...

السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره...)(١) .

والتسليم مِن أهمّ عناصر الولاء، وهو بمعنى ترك المشاكسة، والمشاققة، والاختلاف، واللجاج، والعناد، داخل النفس وفي السلوك، وإزالة عوامل البغضاء والكراهية والضغينة والاختلاف في الرأي والمخالفة، وإحلال المحبّة والمودّة والانسجام النفسي والطاعة والانقياد والتسليم محلّ المشاققة والمخالفة واللجاج والبغضاء.

وهذه العلاقة في التسليم، تأتي في خاتمة الصلاة، في السلام، (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وكأنَّ حصيلة الصلاة، وحصيلة هذا العروج الروحي إلى الله تعالى هي التسليم والطاعة والانقياد والمحبّة والمودّة لله ولرسوله ولأوليائه.

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣٤

و (السلام) ليس فقط أساساً للعلاقة مع الله ورسوله، وإنّما هو أيضاً أساس للعلاقة مع الأُمّة المسلمة الملتفّة حول هذا المحوَر.

وقد اعتبر الإسلام (السلام) تحيّة بين المؤمنين، وجعل هذه التحية خاتمة للصلاة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

وهذا الاهتمام بنشْر السلام بين أعضاء هذه الأسرة؛ للتأكيد على نوع العلاقة القائمة بين أفراد وأعضاء الأسرة المسلمة، وأنّ هذه العلاقة قائمة على أساس ترك المشاققة والمخالفة وإزالة البغضاء والضغائن والكراهية من النفوس، وبذْل المحبّة والمودّة في النفوس والانسجام والوفاق والتعاون والتناصر في السلوك.

الشهادة للحسينعليه‌السلام بإمامة المسيرة:

تأتي بعد ذلك الشهادة ضمن ثلاثة فقرات:

١ - الشهادة للحسينعليه‌السلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف: (أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمَرت بالمعروف، ونَهَيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين)(١) .

و (إقامة الصلاة) هنا غير أداء الصلاة.

إنّ أداء الصلاة تكليف شخصيّ وفريضة شخصية.

أمّا إقامة الصلاة فهي تثبيت الصلاة، والارتباط بالله، وإعلان الصلاة وتفعيلها في حياة الإنسان.

... ثمّ (وأمرتَ بالمعروف ونهَيت عن المنكر).

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يبتغي من خروجه على يزيد مُلكاً أو سلطاناً أو جاهاً،

____________________

(١)زيارة وارث.

٢٣٥

وإنّما كان يعمل لتثبيت دعائم المعروف وهدْم أُسُس المنكر، وإقامة محوَر الولاية لله وهدْم محوَر الطاغوت.

وقد خطب الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء فقال:

(ألا ترَون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله... وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما)(١) .

وفي منزل (البيضة) خطب الحسينعليه‌السلام في أصحابه فقال: (أيّها الناس إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عِباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفِعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدْخله.

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيّر...)(٢) .

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يطلب سلطاناً أو مالاً... وهو يرى أنّه يستقبل الموت في سَفرِه هذا، وإنّما كان يرى ظالماً جائراً، يفسد في الأرض، ويهلك الحرْث والنسل، ويحلّل حرام الله، ويتجاوز حدود الله.. فنهضعليه‌السلام بالعُصبة المؤمنة التي احتفت به في كربلاء؛ لفضْح الطاغية وكسرِه والتشهير به و تسقيطه أمام الرأي العام الإسلامي المضلّل، وتوعية الرأي العام بحقيقة الطاغية وإفساده في الأرض، وانتزاع الأمّة من محوَر الطاغوت وإعادتها إلى محوَر الولاية الإلهية.

٢ - الشهادة بـ (الطُهر) والنزاهة للحسينعليه‌السلام ، النزاهة مِن كلّ إثْمٍ وذَنْب،

____________________

(١)حلية الأولياء لأبي نعيم ٢ / ٣٩.

(٢)تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٩.

٢٣٦

والعصمة مِن كلّ خطأ وزلَل وعصيان... طهارة النفس والسلوك...( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .

والشهادة بأنّ هذه النزاهة وهذا الطُهر طُهرٌ موروث، خلَفاً عن سلَف. وقد شاء الله تعالى أن يحتفظ بهذا الطُهر في هذه السلالة الطيّبة، عِبر الحضارات الجاهلية التي سادَت حياة الإنسان... وعِبر ظُلمات الحضارات الجاهلية.

استمرّ إشعاع هذا النور الإلهي في ظلمات حياة الإنسان، واستمرّ هذا الطُهر بين أرجاس الجاهلية، لم يتلوّث، ولم يُلبِسْه شيء مِن مدلهمّات ثيابها...

وقد اصطفى الله تعالى هذه السلالة المباركة للإمامة في حياة الإنسان عِبر العصور المختلفة.

( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

ولنقرأ هذه الفقرة من الشهادة في زيارة وارث:

(أشهد أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليةُ بأنجاسها، ولم تُلبِسْك من مدلهمّات ثيابها...)(٣) .

ولا أُحبّ أن أتجاوز هذه الفقرة دون أن أُشير إلى جمال التعبير في هذه الفقرة...

إنّ الطُهر في هذا البيت الطاهر حصيلة اللقاح بين أصلابٍ شامخة وأرحامٍ

____________________

(١)الأحزاب / ٣٣.

(٢)آل عمران / ٣٢. (حُماة الوحي) للشيخ شهاب الدين الإشرافي والشيخ محمّد موحدي فاضل، في تفسير هذه الآية الكريمة وعلاقتها بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام ص١٧٦ - ١٦٨.

(٣)زيارة وارث.

٢٣٧

مطهّرة. أصلابٌ شمخَت وترفَّعت ممّا يتساقط حوله الناس مِن متاعٍ وزُخرُفٍ زائل، وأرحام طَهُرت وسلمت من أوضار وأوساخ وأدناس الحضارات الجاهلية التي تناوبت على حياة الإنسان...

٣ - الشهادة بموقع الحسينعليه‌السلام مِن حياة الأمّة، ومركزه القيادي الذي وضَعه الله فيه، وما آتاه الله تعالى من الإمامة والولاية على المسلمين.

(أشهد أنّك مِن دعائم الدِين وأركان المؤمنين، وأشهد أنّك الإمام البرّ التقيّ، الرضيّ، الزكيّ، الهاديّ، المهديّ.

وأشهد أنّ الأئمّة مِن وُلدك كلمة التقوى، وأعلام الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على أهل الدنيا)(١) .

الـمَوقف:

ثمّ يأتي بعد هذه المرحلة من التعبير عن الولاء: (التسليم)، و (الشهادة) و (الموقف).

والـمَوقف هنا في (الإيمان والرأي) وفي (العمل).

الموقف النفسي في (الإيمان والرأي): (أنّي بكُم مؤمن وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سِلم)(٢) .

والموقف في (العمل): (وأمْري لأمْركم متّبع)(٣) .

مؤمن بولايتكم وإمامتكم وقيادتكم. وأصدق دليل على هذه الدعوة: أنّني

____________________

(١)زيارة وارث.

(٢)زيارة وارث.

(٣)زيارة وارث.

٢٣٨

أُسلّمكم شرائع دِيني وخواتيم عملي.. فليس شيء أعزّ عند الإنسان المؤمن من شرائع دِينه الذي يدين به لله تعالى، وخواتيم عمله، الذي يختم بها حياته، حيث لا يمكن أن يتدارك منه شيئاً.

فإنّ مِن الممكن أن يتدارك الإنسان ما فرّط فيه من أعماله، وإصلاحها بالتوبة.. ومراجعة النفس، وتصحيح العمل... أمّا خواتيم العمل فهي التي تقرّر عاقبة الإنسان ومصيره.. ونحن نأخذ منكم شرائع ديننا وخواتيم أعمالنا... وليس شيء أدَلّ على الثقة والصِدق في الولاء من ذلك.. ومِن خلالكم نأخذ معالم ديننا وبكُم هدانا الله تعالى.

ثمّ هذا التسليم المطلق الذي لا يشوبه شِقاق، ولا يعكّره رَيب في أعماق النفوس: تسليم القلْب للقلْب، (وقَلْبي لقَلْبكم سِلم)، فإنّ انسجام القلوب، وتلاقي القلوب، وتفاهم القلوب مِن أسمى معاني و مصاديق (السِلم).

ثمّ (التبعية المطلقة) والانقياد والتسليم في مقام العمل (وأمْري لأمْركم متّبع)، وهو يؤول إلى التسليم لأمْر الله تعالى.

والموقف هنا إيمان مطلق، وتسليم مطلق، وثقة مطلقة في النفس.. و يستتبعه الالتزام الكامل، والتبعية الكاملة في مقام العمل.

وورَد في زيارة الحسينعليه‌السلام الخاصّة في يوم عَرَفة (إنّي سِلمٌ لـمَن سالَمَكم، وحرب لـمَن حاربكم، ووليٌّ لـمَن والاكم وعدوٌ لـمَن عاداكم إلى يوم القيامة)(١) .

وفي زيارة الأربعين الخاصّة: (أشهدُ أنّي بكم مؤمن، وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلْبي لقلْبكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبع، ونُصرتي لكُم معدّة حتى يأذن الله لكم، فمعكم معكم، لا مع عدوّكم، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسامكم وشاهدكم وغائبكم)(١) .

____________________

(١)انظر زيارة الحسين الخاصّة ليوم عَرفة، وزيارة عاشوراء.

(٢)زيارة الأربعين.

٢٣٩

فالنصرة معدّة وجاهزة، انتظرُ فيها إذن الله تعالى.

معكم، معكم:

ثمّ بعد ذلك يأتي هذا التشييد الولائي الرائع.. وهذه النغمة الإيمانية العذِبة... (فمعكم، معكم، لا مع عدوّكم...).

بالتأكيد، بتكرار المعيّة (فمعكم، معكم...) وبالسلب والإيجاب... والولاء والبراءة (لا مع عدوّكم). نردّد هذه التلبية الولائية لداعي الله، الذي وقف يوم عاشوراء في كربلاء... يدعو البشرية إلى العودة إلى الله وتحطيم الطاغوت، وكسْر كِبريائه وجبَروته، والعودة إلى عبودية الله.

(لبّيك داعيَ الله، إن كان لم يُجبْك بدَني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلْبي..)(١) .

وإنّ أفضل التلبية تّلبية القلب... فإذا فاتتنا تلبية داعيَ الله بأبداننا في كربلاء، فإنّ قلوبنا التي عمّرها الله تعالى بوَلائه ووَلاء أوليائه لا تنفكّ عن الاستجابة لدعوته، وبمقارعة الظالمين، وكسْر شَوكتهم وسلطانهم، وتعبيد الناس لله، وتحكيم شريعة الله تعالى وحدوده في حياة الإنسان، وانتزاع الإنسان من محوَر الطاغوت إلى محوَر الولاء لله تعالى.

البراءة:

والوجه الآخَر لمسألة الولاية البراءة.. ولا ولاية مِن دون البراءة.. والولاء والبراءة وجهان لقضية واحدة.

____________________

(١) الزيارة المخصوصة لأوّل مِن رجب.

٢٤٠

ويصدق الإنسان في ولائه بقدَر ما يصدق في البراءة، فإنّ الولاء وحده لا يُكلِّف الإنسان كثيراً، وأكثر ما يُصيب الإنسان من أذى وعناء في أمره البراءة.

وليس من الصعب من أن يُجامِل الإنسان الجميع، ويمدّ يده إلى الجميع، ويعيش مع الكلّ بسلام، ويُداري كلّ العواطف والأحاسيس، ويلعب على كلّ الحِبال ويتجنَّب الصِدام مع الجميع، ويوزِّع الابتسامة في كلّ مكان، ويُرضي الجميع.

إنّ مثل هذا الإنسان يستطيع أن يعيش في رَغَد وعافية، ويستطيع أن يكسب ودّ الجميع وتعاطفهم، ويستطيع أن يعيش من دون مشاكل ومتاعب، ولكن لا يستطيع أن يرتبط بمِحور الولاية الإلهيّة على وجه الأرض، ولا يستطيع أن ينتمي إلى هذه الأُسرة المسلمة، التي أعطتْ ولاءها لله ولرسوله ولأوليائه.

ولا يستطيع أن يملك موقفاً، ولا يستطيع أن يُحبّ ويُبغِض ويرضى ويسخط بصدق، ولا يستطيع أن يتجاوز حدود الـمُجامَلة السياسيّة والاجتماعيّة في علاقاته.

إنّ الصدق في التعامل، والموقِف من الأحداث، والقوّة والحرّية والصراحة في المواقف، لا تتمّ من دون ولاء، والولاء لا يتمّ من دون براءة، والبراءة تُكلِّف الإنسان الكثير في علاقاته الاجتماعيّة وصِلاته في المجتمع وفي الأُسرة، وفي راحته وعافيته وفي استقراره. وهذه حقيقة من ورائها حقائق كثيرة.

إنّ البراءة ضريبة الولاء والتَعَب والعناء، والأذى ضريبة البراءة، وهذه مُعادَلات أجراها الله تعالى بسُنَّتِه التي لا تَتَبدَّل في حياة الإنسان.

* * *

عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: (عشرٌ مَن لقيَ الله (عزّ وجلّ) بهِنَّ دخل الجنّة:

شهادة أن لا اله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحَجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله، واجتناب كلّ مسكر)(1) .

____________________

(1)خِصال الصدوق: 2 / 52. =

٢٤١

فالفاصلة بين الإسلام والكُفر هي الولاية.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (... إنّ أوثقَ عُرى الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، وتوالي وليّ الله، وتعادي عدوّ الله)(1) .

وعن الرضاعليه‌السلام : (روي أنّ الله أوحى إلى بعض عبّاد بني إسرائيل، وقد دخل قلبه شيء: (أمّا عبادتك لي فقد تَعزّزت بي، وأمّا زُهدك في الدنيا فقد تعجَّلت الراحة، فهل واليت لي وليّاً وعاديت لي عدوّاً؟ ثمّ أمر به إلى النار. نعوذ بالله منها...)(2) .

ولاء (الأعور):

روي أنّ رجلاً قدِم على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي أُحِبُّك وأُحِبُّ فلاناً، وسمّى بعض أعدائه. فقال لهعليه‌السلام : (أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمي وإمّا أن تُبْصِر)(3) .

ورؤية الأعور، نصف الرؤية، فهو يرى بإحدى عينيه فقط.

____________________

= وقد وَرَدَ في رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي - ملك الحبشة -: (وإنّي أدعوك إلى الله وحده ولا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني وتُؤمن بالّذي جاءني، إنّي رسول الله). (مكاتيب الرسول: 120).

وفي رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أسْقَفِ نَجران: (إنّي أدعوكم إلى عبادة الله عن عبادة العِباد، وأدعوكم إلى ولاية الله عن ولاية العِباد، فإن أتيتُم، لا جِزْيَة، وإن أبيتُم، آذنتُكم بحرب). (مكاتيب الرسول: 170).

(1)المحاسن: 165. وبحار الأنوار: 27 / 57.

(2)فقه الرضا: 51. وبحار الأنوار: 27 / 57.

(3)بحار الأنوار: 27 / 58.

٢٤٢

وكذلك ولاء الإنسان الذي يفقد البراءة، ولا يجرأ على البراءة، ويريد أن يجمع يبن الكلّ ويُرضي الجميع.

ومثل هذا النَمَط من الناس، لا يبقى أعوراً إلى آخر عمره بنصف الرؤية، فإمّا يهديه الله تعالى فتَكتَمِل لديه الرؤية، وإمّا أن يفقد هذه الرؤية النصفيّة الضَعيفة فيَعمى ويفقد الولاء مُطلَقاً.

وقيل للصادقعليه‌السلام : إنّ فلاناً يُواليكم، إلاّ أنّه يضعف عن البراءة من عدوِّكم؟ فقالعليه‌السلام : (هيهات. كذبَ مَن ادّعى مَحبَّتنا، ولم يتبرَّأ من عدوِّنا)(1) .

والسائل في هذا الحديث دقيق في طرح السؤال: إنّ الشخص الذي هو موضِع السؤال لا يُشَكّ في ولائه، ولكنّه يضعف عن البراءة، وضعفه يجعل موقفه من البراءة مهزوزاً وضعيفاً، ولا يملك القوّة الكافية في أن يُعلِن عن موقفه في الولاء والبراءة، والوَصْلِ والفَصْل، والارتباط والـمُقاطَعة، بشكلٍ صريح وحاسِم.

فيُجيبه الإمامعليه‌السلام : إنّ الولاء الصادق لا يُمكن أن ينفصل عن البراءة، ومَن يجد في نفسه ضعفاً عن البراءة، فهو كاذب في ولائه.

وفي حديث الأعمش عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال: (حُبّ أولياء الله واجب، والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة... والبراءة من الناكِثين والقاسِطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام وأئمّة الضلال وقادَة الجَور كلّهم، أوّلهم وآخرهم، واجبة)(2) .

وعن أبي محمّد الحسن العسكري عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبعضِ أصحابه ذات يوم: يا عبد الله، أحبّ في الله وأبغض في الله، ووالِ في الله

____________________

(1)بحار الأنوار: 27 / 58.

(2)الخصال: 2 / 153 و 154. وبحار الأنوار: 27 / 52.

٢٤٣

وعادِ في الله، فإنّه لا تُنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجُل طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتّى يكون كذلك.

وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يُغْني عنهم من الله شيئاً.

فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله (عزّ وجلّ)؟ ومَن وليّ الله (عزّ وجلّ) حتّى أُواليه، ومَن عدوّه حتّى أُعاديه؟

فأشار له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّعليه‌السلام ، فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى.

قال: وليّ هذا وليّ الله فوالِه، وعدوّ هذا عدوّ الله فعادِه.

قال: والِ وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدِك، وعادِ عدوّ هذا ولو أنّه أبوك أو ولدُك)(1) .

وهذا المضمون قد وردَ تأكيده في حديث الغدير المعروف، والمروّي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(مَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذلَه).

وقد استوفى العلاّمة حُجّة الحقّ السيّد مير حامد حسين الكهنوي (رحمه الله) في عَبقات الأنوار، والعلاّمة الأميني (رحمه الله) في الغدير، دراسة هذا الحديث الشريف من حيث السَنَد والـمَتْن.

وقد صَدَّر العلاّمة الأميني كتابه القَيّم (الغدير) بحديثٍ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المعنى، نودُّ أن نختم به أحاديث الولاء والبراءة.

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: (مَن سَرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويَسكن

____________________

(1)التفسير للإمام العسكري: 8. معاني الأخبار: 113.

٢٤٤

جنّة عدن الّتي غَرَسَها ربِّي، فليُوالِي عليّاً من بعدي، وليُوالي وَليّه، وليَقتدِ بالأئمّة من بعدي، فإنّهم عِترَتي، خُلِقوا من طينَتي، ورُزقوا فَهْماً وعِلماً، فوَيلٌ للـمُكذِّبين بفضلِهم من أُمَّتي، القاطعين فيهم صِلتي، لا أنالَهم اللهُ شفاعتي)(1) .

الطوائِف الثلاث الـمَلعونة:

وقد وردَ اللعن والبراءة في زيارة وارث لثلاث أُمَم وطوائف:

(فلَعنَ اللهُ أُمّة قَتَلَتكَ.

ولَعَنَ اللهُ أُمّة ظَلَمَتْكَ.

ولَعَنَ اللهُ أُمّة سَمعتْ بذلكَ فرَضيَت به)(2) .

والطائفة الأُولى : هي الطائفة التي باشرتْ قِتال الحسينعليه‌السلام . (لعنَ اللهُ أُمّة أسرَجَت وألجَمَت وتهيَّأت وتَنَقَّبَت لقتالِك يا مولاي، يا أبا عبد الله)(3) .

والطائفة الثانية: هي الطائفة الّتي ظلمت الحسينعليه‌السلام ، وجارَت عليه ومَكَّنَت منه، وشايَعَت وبايَعَت وظاهَرَت عليه، وخالَفَته.

وهذه الطائفة تشمل كلّ أُولئك الذين أعدّوا لقتالِ الحسينعليه‌السلام أو مَكَّنوا منه، أو خالفوه أو ظاهروا عليه، أو ساهموا في الإعداد لقتاله، أو أعانوا الطاغية في قتاله بطريقة أو أُخرى... وأشياع هؤلاء جميعاً وأتباعهم.

وقد ورد اللَعن والبراءة من هذه الطائفة، في طائفة واسعة من الزيارات بصيَغ

____________________

(1)أخرجه الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء): 1 / 86. وأخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في (تأريخه): 4 / 410.

(2)زيارة وارِث.

(3)زيارة وارث الـمُطلَقة. وباختلاف يسير عن زيارة عاشوراء المخصوصة.

٢٤٥

مختلفة.

ففي زيارة عاشوراء المخصوصة: (فلعن الله أُمّة أسّست أساس الظلم والجَور عليكم أهل البيت، ولعنَ الله اُمّة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم الّتي رتَّبكم الله فيها... ولعن الله أُمّة قَتَلتكم، ولعن الله الـمُمَهِّدين لهم بالتَمكين من قتالِكم، برئتُ إلى الله وإليكم منهم ومن أشياعهم وأتباعهم)(1) .

وأيضاً جاء في زيارة عاشوراء: (وأبرأ إلى الله ورسوله ممَّن أسَّسَ أساس ذلك - الظلم والجَور عليكم أهل البيت - وبَنى عليه بُنيانه، وجرى في ظُلمه وجَوره عليكم وعلى أشياعِكم، برئتُ إلى الله وإليكم منهم)(2) .

وهذه الطائفة طائفة واسعة تشمل كلّ أُولئك الذين ساهموا في قتال الحسين أو مكّنوا من قتاله أو أعدّوا له، أو بايعوا الطاغية على قتاله أو شايعوا أو ظاهروا عليه...

الطائفة الثالثة (الشريحة الراضية):

والطائفة الثالثة:هي الطائفة التي سمعَتْ بذلك فرضيَت به.

وهذه الطائفة تستوقِف الإنسان طويلاً، فمَن هم أُولئك الّذين سمعوا بذلك فرضوا به؟

إنّ هذه الطائفة ليست بالتأكيد مُشارِكة في القتال، ولا هي مشاركة في مُمارسة الظلم بصورة عمليَّة، ولا كانت تدخل ضمن الطائفة الأُولى أو الثانية؛ وإلاّ لم يكن من موجب لإفرادها بالذكر ثالثاً.

____________________

(1)زيارة عاشوراء المخصوصة.

(2)زيارة عاشوراء المخصوصة.

٢٤٦

فهذه الطائفة لابدّ أن تكون ممّن سمعوا استنصار الحسينعليه‌السلام ولم ينصروه، وآثروا العافية على الوقوف بجانب سيّد الشهداءعليه‌السلام في معركة الطفّ، وخذلوا سيّد الشهداءعليه‌السلام ولم ينصروه في يوم عاشوراء... وهذه الطائفة لابدّ أن تكون راضية بما حدث في يوم عاشوراء.

فلا يُمكن أن يتمّ هذا الخُذلان والسكوت والقعود عن نصرة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في معركته مع طاغوت عصره، والقعود بعد ذلك عن أخذ ثأره، لولا أنّهم كانوا راضين بما حدث.

إنّ تخلّف هؤلاء عن الالتحاق بالحسينعليه‌السلام ، وتقاعسهم عن نُصرة الحسين، وإيثارهم للعافية في دنياهم على آخرتِهم، ينطوي على الرضا بما قام به يزيد، وإن لم يكن كذلك؛ فإنّ كلّ هذا التخلُّف والتقاعس وإيثار العافية يُؤدِّي أخيراً إلى الرضا بالظلم.

وقد ذُكرَت هذه الطائفة في نصوص أُخرى للزيارة بصِيغ مختلفة، كلّها تصبّ في معنى التخاذل عن نصرة (أبي عبد الله الحسين)عليه‌السلام ، والتقاعس عن الالتحاق به، وإيثار العافية على الوقوف إلى جانب سيّد الشهداءعليه‌السلام .

فقد ورد في الزيارة الـمُطلَقة الثانية: (لُعنَتْ أُمّة قَتَلَتكم، وأُمّة خالَفَتكم، وأُمّة جَحَدَتْ ولايَتكم، وأُمّة ظاهَرَت عليكم، وأُمّة شَهدَت ولم تَستشهِد...)(1) .

وموضع الشاهد الفقرة الأخيرة: (وأُمّة شهدَتْ ولم تَستَشهِد).

ووردَ في الزيارة الـمُطلَقة السابعة: (وأشهدُ أنّ قاتِلك في النار، أَدينُ الله بالبراءة ممَّن قتلَك، وممَّن قاتَلَك وشايَع

____________________

(1)الزيارة الـمُطلَقة الثانية.

٢٤٧

عليك، وممَّن جمعَ عليك، وممَّن سمعَ صوتك ولم يُعِنك)(1) .

وموضع الشاهد: (وممَّن سمعَ صوتَك ولم يُعِنك).

ووردَ في زيارة ليلة القدر وليلة العيدَين: (أشهدُ أن الّذين خالَفوك وحارَبوك، والّذين خَذَلوك والّذين قَتَلوك، ملعونون على لسان النبيّ الأُميّ)(2) .

وواضح في هذا النص أنّ الطوائف الثلاث الملعونة هي:

1- الطائفة التي خالَفَتْ وظَلَمَتْ.

2 - والطائفة التي قاتَلَتْ الحسين وقَتَلَتْ.

3 - والطائفة التي خَذَلَتْ الحسينعليه‌السلام ، ولم تُلَبِّ دعوة الحسينعليه‌السلام ولم تَنصره.

فالذين سمعوا صرخة الحسينعليه‌السلام في وجه يزيد، وسمعوا نداء الحسينعليه‌السلام وهو يستنصر المسلمين فلم يتحرَّكوا، وخذلوا سيّد شباب أهل الجنّة، وآثروا عافية دنياهم على سلامة الآخرة، وتخلَّفوا عن الالتحاق بالحسينعليه‌السلام ... أُولئك من أهل البراءة، ومن الذين يستحقُّون اللَعن.

عاشوراء (يوم الفرقان):

إنّ معركة الطفّ كانت معركة حقيقيّة، في الأبعاد العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة.

ولذلك؛ فهي تتطلَّب مواقف حقيقيّة من الولاء والبراءة، وترفض التفرُّج واللامبالاة.

____________________

(1)الزيارة الـمُطلَقة السابعة.

(2)الزيارة المخصوصة لِلَيلة القَدر وليلة العيدَين.

٢٤٨

فطبيعة المعارك والصراعات الحضاريّة والعقائديّة أنّها تشطر الناس شَطرَين: مُخالِف ومُوافِق، ويجري هذا التشطير والانقسام بصورة مستمرَّة فيما بعد، وإلى ما شاء الله من العصور.

ومعركة الطفّ في القمَّة من هذه المعارك والصراعات؛ نظراً إلى المواجهة والـمُقابَلة العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة الّتي تمَّت في هذه المعركة، ولوضوح الطرفَين في اتّجاهاتهما العقائديّة والحضاريّة، فلم يكن خافياً أمر الحسين ابن بنت رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة على أحد من المسلمين، كما لم يكن خافياً أمر يزيد بن معاوية ابن آكلِةِ الأكباد، وسلالة الشَجرة الملعونة في القرآن على أحد، ولا أحد يشكّ في ماهِيَّة وحقيقة الطَرفَين الـمُتصارعين، ومَن منهما كان يدعو إلى الله، ومَن منهما كان يُخالِف إرادة الله ويعصي الله.

هذه المأساة والمواجهة التاريخيّة شطرت الناس شَطرين مُتميِّزَين:

الشطْر الأول: الموالي والناصر والـمُنتَمي والـمُرتبِط والـمُسانِد.

والشطْر الثاني: الـمُخالِف والـمُعادِي.

وهذا الصراع لم يَدَع أحداً يقف بين الصفَّين ليَتفرَّج على المعركة من دون أن يصيبه غبار من هذا الطرف أو ذاك.

فلابدّ من موقِف مُحدَّد، من ولاء أو براءة.

ولذلك قُلنا: إنّ هذه المعركة شطرَتْ الناس في الولاء والبراءة شطرين مُتميِّزين، من سَنَة إحدى وستّين هجريّة إلى يومِنا الحاضر، وإلى ما شاء الله من العصور.

أبْعادُ وامتداداتُ المواجهة ليوم الفرقان:

ولقد كان يوم بدر (يوم الفرقان) الأوّل في تاريخ الإسلام، يقول تعالى:( يَوْمَ

٢٤٩

الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) (1) .

وهو أوّل مواجهة قتاليّة بين التوحيد والشِرك في تاريخ الإسلام، وعلى نتائج هذه المواجهة الميدانيّة كان يتوقَّف مصير البشريّة جميعاً.

صحيح أنّ الّذين وقفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ثلاثمئة أو يزيدون، وأنّ الّذين وقفوا إلى جانب قريش لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ألف أو يزيدون قليلاً، إلاّ أنّ هذه المواجهة كانت أعمق وأوسع ممّا يتراءى لنا لأوّل مرّة من خلال التاريخ في وادي بدْر، في السَنَة الثانية بعد الهجرة.

فقد كان يقف من وراء المشركين من قريش في بدْر جَبهَة عريضة من الشِرك، في الجزيرة وخارجها؛ وتصاعد الأحداث بعد هذا اليوم أثبتَ هذه الحقيقة، ولقد وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه العصابة الصغيرة أمام جبهة الشِرك العريضة.

فيوم بدر إذن، فرَّق الناس إلى شطرين متمايزين في الولاء:

شطر قِوامه ثلاثمئة وخمسة مقاتِلين.

وشطر قوامه جبهة الشرك العريضة، وبكلّ إمكاناتها الواسعة.

فهو (يوم الفرقان) الأوّل حقّاً في تاريخ الإسلام.

إنّ النظرة الساذجة الأُولى لساحة بدْر - في السنة الثانية من الهجرة - لا تلتقي إلاّ بهذين الجَمعين الصغيرين الـمُتقاتلين، ولكنّ النظرة العميقة الـمُمْعِنة تلتقي في هذه الساحة بحَضارتين وعقيدتين تتصارعان على البقاء، وفي جبهات عريضة واسعة، وليس مع ألف من المقاتِلين أو يزيدون فقط.

ولم يكن يوم بدر (يوم الفرقان) الذي يشطر الناس في الولاء والبراءة إلى

____________________

(1)الأنفال: 41.

٢٥٠

شطرَين في السنة الثانية من الهجرة فقط، وإنّما يظلّ هذا اليوم يوم فرقان في تاريخ الإسلام، إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.

يوم الفرقان الثاني في تاريخ الإسلام:

وإذا كان يوم بدر (يوم الفرقان) الأوّل في تاريخ الإسلام، فإنّ يوم عاشوراء (يوم الفرقان) الثاني في تاريخ الإسلام.

كان يقف فيه الحسينعليه‌السلام مع ثُلّة صغيرة من أهل بيته وأصحابه، وفي الجانب الآخر يقف ابن زياد مع جيش واسع، ومن ورائه يزيد وسُلطانه ومُلكه الواسع وأمواله الكثيرة وإمكاناته، وكلّ الموالين له والـمُستفيدين منه.

ففي يوم عاشوراء إذن، نجد كلّ خصائص (الفرقان)، فقد شُطِرَ الناس إلى شَطرَين متمايزين في الولاء والأخلاق والفكر والخطّ والعقيدة..

ولا يزال هذا اليوم (فُرقاناً) في تاريخ الإسلام، يُفرَّق الناس في الولاء والبراءة، إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.

يوم الفرقان الثالث في تاريخ الإسلام:

وما دُمنا قد أشرنا إلى يومين من أيّام (الفرقان) في التاريخ الإسلامي: (يوم بدر، ويوم عاشوراء)، فلا نستطيع أن نتجاوز هذا الحديث دون أن نُشير إلى اليوم الثالث من أيّام (الفرقان) في تاريخ الإسلام الحديث، والذي يأتي امتداداً ليوم بدر ويوم عاشوراء.

وهو: يوم انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

والذي هو من أيّام الله الكبرى في التاريخ، هدمَ الله تعالى فيه عرشَ أكبر إمبراطوريّة في آسيا، تحمِيه أضخم الأجهزة السِريّة والعَلنيّة، وأكبر قلعة للاستكبار في المنطقة، تحميها سادس قوّة

٢٥١

عسكريّة في العالم، وذلك بقيادة الإمام الخميني (قدس سرّه).

إنّ هذا اليوم لا يعني فقط سقوط نظام أُسرة بهلوي في تاريخ إيران، وإنّما يعني نهاية مرحلة من التاريخ وبداية مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام.

فإنّ سقوط أُسرة بهلوي، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة يُعتبر نهاية لعصر من الخمول والركود والاستضعاف واليأس، والارتماء في أحضان الغرب والشرق، والتخلّف الفكري والثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي، والهزيمة النفسيّة...

وبداية عصر جديد من التحرّك باتّجاه حاكميّة دِين الله على وجه الأرض، وفكّ القيود والأغلال من الأيدي والأقدام، وكَسْر الطَوق السياسي والاقتصادي والعسكري والعلمي والحضاري، الّذي فرضَه الاستكبار الغربي والشرقي على العالم الإسلامي، والعودة إلى الله، وتعبيد الإنسان لله، وتحكيم شريعة الله في حياة الإنسان، وإعادة الأعراف والقِيَم والأخلاق، والحدود الإسلاميّة إلى صُلبِ الحياة من جديد.

وبالإجمال، مرحلة جديدة للتاريخ.

إنّ هذا اليوم امتداد حقيقي ليوم عاشوراء، كما كان يوم عاشوراء امتداداً واقعيّاً ليوم صفِّين وبدر.

انتصار الثورة الإسلاميّة مُنطلَق ثوري وقِيمة حضاريّة:

ونُلخّص فيما يلي أبرز نقاط وعناصر هذه الثورة المباركة:

إنّ هذه الثورة ثورة مبدئيّة بكلّ معنى الكلمة، وهي نوع جديد من العمل والحركة الثوريّة في تاريخنا المعاصر، وحدث سياسي بارِز لا شبيه له في الأحداث المعاصرة، وصراع جديد بين التوحيد والشِرك، بين التوحيد في الولاء والشِرك في الولاء.

فهي تتّجه لفكِّ ارتباط الإنسان المسلم بالاستكبار الشرقي والغربي، وفكّ ارتباطه بمحاور الولاء الـمُصطنَعة: (القوميّة، الوطنيّة، العشائريّة، الحزبيّة...)، وربط ولائه بالله تعالى، ورسوله وأوليائه، وتوحيد الولاء

٢٥٢

لله تعالى، ومُقاطَعة ومُحاربة كلّ المحاور الأُخرى الّتي تعمل لانتزاع الولاء من الناس.

تلك كانت طبيعة الثورة ومحتواها.

إنّ من المهمِّ أن نفْهم نحن مسار الثورة الإسلاميّة المعاصِرة ومحتواها، ومن دون ذلك لا نستطيع أن نُساهِم أو ندعم أو نُسانِد هذه الثورة.

إنّها ليست ثورة على التخلُّف العلمي والتِقَني، ولا هي ثورة على التخلُّف الاقتصادي والفقر الاجتماعي، ولا هي ثورة ضدّ الاستعمار، ولا هي ثورة من أجل تحرير آبار النفط من قَبضةِ ملوك النفط أو من الشركات الاحتكاريّة، ولا هي ثورة طَبَقَة أُخرى (صِراع طَبَقِي)، كما حدثَ في ثورة الزنج في تاريخ الإسلام، وإن كانت تحتوي على كلّ هذه الأُمور، وتَطْمَح لكلِّ هذه المكاسب، وتُحقّق هذه النتائج كلّها إن شاء الله، إلاّ أنّها في جوهرها شيء آخر.

إنّها ثورة الولاء لله تعالى على الولاء للطاغوت، وثورة التوحيد على الشرك، وثورة الإسلام على الجاهليّة الحديثة.

وهي إذا حققَّتْ غايتها على وجه الأرض، فسوف تقضي على التخلُّف العلمي والثقافي والتِقَني، وتقضي على الفقر والتخلُّف الاقتصادي، وتقضي على الاستثمار والاستعمار، وتقضي على الاحتكار، وعلى الشركات الاستعماريّة، وتقضي على التلاعُبِ بأموال المسلمين وثرواتهم، وتقضي على الاستضعاف والاستكبار، وعلى استضعاف طَبَقة لطَبَقة أُخرى، ومُمارسة السيادة لطبقةٍ على أُخرى.

إنّ هذه الثورة سوف تُحقّق كلّ هذه الغايات، وغايات أُخرى أبعد من هذه وأسمى منها إن شاء الله. ولكن، على أن تُحافِظ على جوهرها ومحتواها الحقيق (ثورة التوحيد على الشِرك).

إنّ السِمَة البارزة والأُولى لهذه الثورة هي: (الربّانيّة)، وهذه السِمَة هي الّتي

٢٥٣

تربطها ببدرٍ وصِفّين وعاشوراء، وبحركة الأنبياءعليهم‌السلام ، وبمَسارِ الصالحين من أولياء الله.

ومتى أُفرغت الثورة من هذه السِمة، وتشبَّعت بالأهداف والشعارات الجانبيّة، فقدت كلّ قيمتها، وفقدت تأييد الله تعالى لها.

إنّ هذه الثورة تختلف اختلافاً جوهريّاً عن كلّ الثورات المعاصِرة لنا، كالثورة الفرنسيّة، وثورة أكتوبر، والثورات الّتي قامت في القارَّة الأفريقيّة وفي آسيا بعد الحرب العالميّة الثانية، والثورات في المنطقة العربيّة.

إنّ الكثير من هذه الثورات كانت ثورات طَبَقيّة، ثورة طَبَقة مُستضعَفة على طَبَقة مُستأثِرة. أو ثورات تحرّريّة من الاستعمار وسَيطرة الأجنبي، أو القضاء على أنظمة ديكتاتوريّة.. أو حُكّام مُجرمين.

ولا نستطيع أن نستثني ثورة مُعاصِرة عن هذه الـمُنطلَقات.

والثورة الإسلاميّة هي الوحيدة الّتي انطلقت من مُنطلَق آخر، يختلف اختلافاً نوعيّاً عن هذه الثورات جميعاً.

انطلقت باتّجاه تحرير الإنسان من المحاور البشريّة للولاء، مهما كان نوعها، إن لم يكن مرتبطاً بالله تعالى، وتعبيد الإنسان لله تعالى، وتحكيم شريعته في حياة الإنسان، وترسيخ محوَر الولاية الإلهيّة بكلّ امتداداتها في حياة الإنسان.

تراكُم من الفعل والحراب (الفِعْل والانْفِعال):

إنّ هذه الثورة حصيلة جهود كثيرة وكبيرة، من قِبل كلّ العاملين في سبيل الله وطلائع العمل الإسلامي، من الذين وَعُوا محنة الأُمّة وتحمّلوا المسؤوليّة، ونهضوا بأعباء المسؤوليّة.

إنّ هؤلاء جميعاً لهم دَور في بناء قواعد هذه الثورة، وفي انجاز هذه الحركة الربّانيّة على وجه الأرض، وفي تحريك هذا السَيل

٢٥٤

البَشَري الهادِر الذي زَعزَعَ مكان الطاغوت.

إنّ الطالب الّذي كان يدعو إلى الله ورسوله، وإلى تحكيم شريعة الله بين زُملائه الطلبة، له دَور في بناء هذه الثورة، والعامل الّذي كان يبثّ الوعي الإسلامي في صفوف إخوانه العمّال، له دَور في هذه الثورة، والخطيب الذي كان يخطب في المساجد والاجتماعات، وينشر هَديَ الإسلام ووَعيه، له دور في هذه الثورة، والعالِم، والكاتِب، والشاعر، والأديب، والمعلِّم وكلّ حَمَلَة الرسالة، من النساء والرجال، والّذين وضعوا حَجَراً في أساس هذه الثورة، من مشارق الأرض ومغاربها، لهم دور وحظّ في هذه الثورة المباركة.

إنّ هذه الثورة الّتي زلزلت الأرض تحت أقدام الطُغاة، لم تكن حصيلة فترة زمنيّة محدودة. وجُهْد جماعة من العاملين، وإنّما كانت حصيلة أجيال من العمل في سبيل الله، من قِبل كلّ العاملين في حقول العمل الإسلامي.

كما إنّ هذه الثورة حصيلة كلّ الآلام والحرمان، والاضطهاد والعذاب والعناء الّذي لاقاه المسلمون في مرحلة الركود والضعف.

وساهمَ في هذه الثورة كلّ الشهداء الّذين اضطُهِدوا في سبيل الله، وكلّ مَن التفّتْ السِياط على جسمه في غيابات السجون، وكلّ الدموع والدماء والآهات... وكلّ الهجرات الّتي كانت في سبيل الله.

أجَل، إنّ هذه الثورة كانت انفجاراً هائلاً لكلّ هذه الآلام والمِحن، ولو كان الأمر في هذه الثورة الإسلاميّة يقتصر على العامل الثاني: (ركام الآلام والعذاب)، لكان من الممكن أن تغلب على هذه الثورة الصِفة الانفعاليّة، إلاّ أنّ وجود العامل الأوّل وقوّته وفعاليّته في تحقيق هذه الثورة المباركة، كان عاملاً قويّاً في توجيه الثورة وتصحيح مسارها، والمحافظة عليها من الانحراف.

محاوَلات لأقْلَمَةِ الثورة:

فليست هذه الثورة ثورة إقليميّة، كما يحاول أعداء الإسلام أن يصفوها، وكما

٢٥٥

تنطلي أحياناً على بعض السُذّج من المسلمين، وليست ثورة إسلاميّة إيرانيّة، وإنّما هي ثورة إسلاميّة شاملة، وشاء الله تعالى أن تكون نقطة انفجار هذه الثورة أرض إيران، والشعب الذي يُفجرّ هذه الثورة، الشعب الإيراني المسلم.

وأيّة محاولة لأقلَمَة هذه الثورة وعزلها عن مشاعر وأحاسيس وقلوب المسلمين خيانة لهذه الأُمّة، إن كانت من قِبل أعداء هذه الأُمّة والـمُتربِّصين بها سوءً، أو من أبنائها الّذين لم يعُوا خطورة هذا الدَور.

إنّ عزلَ الثورة الإسلاميّة عن مشاعر المسلمين وعن الرأي الإسلامي، وتطويقها، يُعدُّ خيانة كبرى ومقدّمة للإجهاز عليها. ويجب علينا كمسلمين أن نواجه هذه المؤامرات بوعي وانتباه، وبعيداً عن جوِّ الحساسيّات، وفي جوٍّ من المسؤوليّة الشرعيّة.

إنّ هذه الثورة بداية لانفجار شامل وثورات إسلاميّة كثيرة على وجه الأرض، وليست تلك الثورات شيئاً آخر غير هذه الثورة، ولا امتداداً لها، وإنّما هي مراحل مختلفة لثورة واحدة، شاء الله تعالى أن تتمّ المرحلة الأُولى منها في إيران، وفي أحضان هذا الشعب المسلم الشجاع.

أرأيت خطّ الزلزال ينطلق من نقطة ويمتدّ على منطقة واسعة من الأرض، بفِعل التفاعلات غير المرئيّة في طَبَقات الأرض؟!

كذلك هذه الثورة.

التفاعلات التي كانت تجري في الأعماق غير المرئيَّة لهذه الأُمّة:

لقد تمَّ في عُمق هذه الأُمّة تفاعلات واسعة وكبيرة وقويّة، بتأثير الفِعل (العامل الأوّل) والانفعالات (العامل الثاني)، في غياب مِن رَصدِ الاستكبار العالمي.

وحيث كان الاستكبار العالمي يزهو بانتصاراته الكبرى في العالم الإسلامي، ويعيش في نشوَة هذه الانتصارات على العالم الإسلامي، جرت هذه

٢٥٦

الانفعالات في أعماق الأُمّة الإسلاميّة، وتفاعَلَت وتفاقمت، ثُمّ كانت الثورة الّتي تشبه الزلزال، فاهتزَّت الأرض من تحت أقدام حُكّام الغربِ وأتباعهم، ولم ينتبه هؤلاء الطغاة من نشوة وسكر السلطان إلاّ بعد أن حدث الزلزال.

إنّ الذي حدث في طهران كان شيئاً أكبر بكثير من تصوّراتنا المحدودة، كان تحقيقاً لوعد الله سبحانه وتعالى للصالحين الـمُستضعَفين من عباده في هذه الأُمّة( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) (1) .

وعلينا قبل كلّ شيء، أن نعي بصورة جيّدة الأبعاد الحقيقيّة لهذه الثورة، وأن ننشر هذا الوعي في صفوف المسلمين؛ لنُحبِط المؤامرات الّتي يحيكها أعداء الإسلام لتطويق ومحاصرة الثورة الإسلاميّة.

إنّ الذي يقرأ كتُب ومحاضرات الإمام الخميني (قدس سرّه)، يجد وعياً دقيقاً لهذه المؤامرة، وتوجيهاً عمليّاً لإحباطها، وحُرصاً مسؤولاً لوحدة ومصير المسلمين، ولارتباطهم بالثورة، سواء كانوا سُنّة أمْ شيعة، عرباً وفُرُساً، وتعميم مسؤوليّة المحافظة على هذه الثورة على المسلمين جميعاً.

إنّ هذه الثورة من عملِ وجُهد وعناء كلّ المسلمين الصالحين.

ورسالة هذه الثورة فكّ الأغلال والقيود عن أيدي وأقدام كلّ المسلمين.

ومسؤوليّة المحافظة على هذه الثورة من واجب كلّ المسلمين كذلك.

ومن أجْل هذه الشموليّة الواسعة في هذه الثورة، نجد أنّ فكرة تصدير الثورة رافقت ولادة.

إنّ مَن يعرف طبيعة وجذور وأعماق هذه الثورة، يُدرك أنّ هذه الثورة لا تعترف بالحدود الإقليميّة، ولا بالنزعة القوميّة، وأنّها لا تَقِف من وراء الحدود

____________________

(1)القصص: 5 - 6.

٢٥٧

تستأذن سَدَنة الحدود؛ ليفتحوا إليها الطريق، إنّها السَيل الذي لا يقِف ولا يتردّد ولا ينتظر.

ونحن نضع هذه الحقائق في طريق الثورة، وبين يديّ هذه الأُمّة المؤمنة ومُفكّريها، وقادتها وعلمائها والعاملين في صفوفها؛ ليعرف كلّ واحد منّا مسؤوليّته إزاء هذا الحَدَث الكبير.

الولاء والبراءة بعد الثورة:

وهذه الثورة من أيّام الفرقان في تاريخ الإسلام، انشطر الناس تجاهها إلى شطرين:

شطْر الموالين، وشطْر المعادين.

وليس للثورة ولاء جديد في قِبال الولاء لله ولرسوله ولأوليائه، وإنّما هو امتداد للولاء لله.

إنّ هذه الثورة كانت من الأحداث القليلة والنادرة في التاريخ، التي لم تسمح لإنسان أن يقف منها موقف الـمُتفرِّج واللامبالاة، وإنّما تفرض على كلّ الناس أن يحكموا لها وعليها، ومنذ أيّام بزوغ هذه الثورة، ومنذ أن اندلع لَهيبُها في طهران، وجدنا كلّ القلوب المؤمنة والضمائر الحيّة قد تجمَّعت حول هذه الثورة، وتعاطفت معها.

وكانت تعيش باهتمام بالِغ ساعات ميلاد هذه الدولة المباركة، وحبسَ التاريخ أنفاسه ليُتابع لحظات هذا الميلاد، لحظات (عودة الحضارة الربَّانيّة، وعودة سيادة الإسلام على وجه الأرض) و (حاكميّة الله في حياة الإنسان)، بعد تلك السنوات العُجاف من الركود والخمول والضعف، والهزائم النفسيّة،

٢٥٨

والانصهار الـمُذِلّ في حضارة الاستكبار الشرقي والاستكبار الغربي، ونفوذ وسيطرة الكفر العالمي على بلادنا وأُمّتنا وثرواتنا.

وفي مقابل ذلك، فقد أحسّ كلّ الظالمين العُتاة والجلاّدين والّذين باعوا دينهم وضمائرهم، كلّ أُولئك أحسّوا بالشرِّ وأحسّوا بالخطر، وبأنّ هناك حَدَثاً جديداً، وميلاداً جديداً، وأنّ الّذي يجري في طهران ليس أمراً كسائر الأُمور التي تجري هنا وهناك. إنّه نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة، ونهاية لحضارة وبداية لحاضرة.

لقد أحسّ هؤلاء بالشرِّ، وبالخطر يُفاجئهم على حين غَفلَة، فأعلنوا عدائهم تجاه الثورة منذ اللحظات الأُولى لانطلاقتها، ولم يُخفوا حقدهم وتخوّفهم من هذه الثورة.

لقد استقبلت الثورة طائفتان من الناس:

الطائفة الأُولى: استقبلتها بقلوب مِلؤها العطف والحبّ والحماس، والاندفاع لنصرتها، والدعاء إلى الله بتأييدها.

الطائفة الثانية: استقبلتها بقلوب حاقدة مُتخوِّفة مُتحسِّسة، لم تتمكّن من إخفاء هذا الحقد والخوف والتحسّس.

وهذا الانشطار في الولاء والبراءة في خصائص أيّام الفرقان في التاريخ، ولسوف تبقى هذه الثورة تحتفظ بهذه الخاصيّة المزدوجة في مراحلها المختلفة.

حتميَّة الصراع:

ولقد كان من الطبيعي أن يكون ميلاد هذه الدولة المباركة واستمرارها إيذاناً بصراع مُمتَدّ طويل، بينها وبين الجاهليّة الحديثة،

٢٥٩

فلا يُمكن أن يسكت أو يهدأ الغرب أمام هذه الموجة الربّانيّة، دون إثارة الفتن والمتاعب في طريق دُعاة هذه الثورة، ودون أن يعمل على تطويق ومصادرة هذه الثورة.

إنّ الذي يتفهّم سُنَن الله في التاريخ، يستطيع أن يفهم بوضوح حتميّة هذا الصراع بين هاتين القوّتين: (القوّة الإسلاميّة النامية، وقوّة الكفر العالمي)، وأنّ هذا الصراع سوف يكون من أقسى أنواع الصراع وأطوله؛ ذلك أنّ هذا الصراع صراع من أجْل البقاء، والصراع على البقاء يطول ويَقسو ويستمرّ؛ لأنّه صراع عقائدي حضاري، وليس صراعاً على ماء وطين، وعلى نفط وصُلب ونحاس، حتّى يمكن اللقاء والتفاهم فيه.

ولا يُمكن تجنّب هذا بحالٍ من الأحوال.

إنّ هذه الثورة والدولة قد كسرتا دائرة النفوذ الاستكباري: (الشرقي والغربي) على العالم الإسلامي، وخرجت الدولة الإسلاميّة لأوّل مرّة عن منطقة نفوذ القوى الكبرى بشكلٍ كامل، وتعمل الثورة الآن لفكِّ هذا الحصار عن كلّ العالم الإسلامي.

ومن الطبيعي أن يُواجه الاستكبار هذه الثورة ودولتها الناشئة بكلّ أنواع الضغوط والمؤامرات، من الداخل والخارج؛ لتحجيمها واستهلاكها وتطويقها.

والعاقبة للـمُتّقين:

والعاقبة في هذا الصراع للـمُتّقين.

ومهما نشكّ في شيء فلا نشكّ في هذه الحقيقة، أنّ الأُمّة المؤمنة لا تدافع عن نفسها، وإنّما تدافع عن دين الله، وشريعة الله وحدوده، ولا تواجه أعداءها وإنّما تواجه أعداء الله، ولا تحارب بحَولها وقوّتها وإنّما تحارب بحول الله وقوّته.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402