في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء9%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 221808 / تحميل: 9357
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ويصدق الإنسان في ولائه بقدَر ما يصدق في البراءة، فإنّ الولاء وحده لا يُكلِّف الإنسان كثيراً، وأكثر ما يُصيب الإنسان من أذى وعناء في أمره البراءة.

وليس من الصعب من أن يُجامِل الإنسان الجميع، ويمدّ يده إلى الجميع، ويعيش مع الكلّ بسلام، ويُداري كلّ العواطف والأحاسيس، ويلعب على كلّ الحِبال ويتجنَّب الصِدام مع الجميع، ويوزِّع الابتسامة في كلّ مكان، ويُرضي الجميع.

إنّ مثل هذا الإنسان يستطيع أن يعيش في رَغَد وعافية، ويستطيع أن يكسب ودّ الجميع وتعاطفهم، ويستطيع أن يعيش من دون مشاكل ومتاعب، ولكن لا يستطيع أن يرتبط بمِحور الولاية الإلهيّة على وجه الأرض، ولا يستطيع أن ينتمي إلى هذه الأُسرة المسلمة، التي أعطتْ ولاءها لله ولرسوله ولأوليائه.

ولا يستطيع أن يملك موقفاً، ولا يستطيع أن يُحبّ ويُبغِض ويرضى ويسخط بصدق، ولا يستطيع أن يتجاوز حدود الـمُجامَلة السياسيّة والاجتماعيّة في علاقاته.

إنّ الصدق في التعامل، والموقِف من الأحداث، والقوّة والحرّية والصراحة في المواقف، لا تتمّ من دون ولاء، والولاء لا يتمّ من دون براءة، والبراءة تُكلِّف الإنسان الكثير في علاقاته الاجتماعيّة وصِلاته في المجتمع وفي الأُسرة، وفي راحته وعافيته وفي استقراره. وهذه حقيقة من ورائها حقائق كثيرة.

إنّ البراءة ضريبة الولاء والتَعَب والعناء، والأذى ضريبة البراءة، وهذه مُعادَلات أجراها الله تعالى بسُنَّتِه التي لا تَتَبدَّل في حياة الإنسان.

* * *

عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: (عشرٌ مَن لقيَ الله (عزّ وجلّ) بهِنَّ دخل الجنّة:

شهادة أن لا اله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحَجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله، واجتناب كلّ مسكر)(١) .

____________________

(١)خِصال الصدوق: ٢ / ٥٢. =

٢٤١

فالفاصلة بين الإسلام والكُفر هي الولاية.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (... إنّ أوثقَ عُرى الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، وتوالي وليّ الله، وتعادي عدوّ الله)(١) .

وعن الرضاعليه‌السلام : (روي أنّ الله أوحى إلى بعض عبّاد بني إسرائيل، وقد دخل قلبه شيء: (أمّا عبادتك لي فقد تَعزّزت بي، وأمّا زُهدك في الدنيا فقد تعجَّلت الراحة، فهل واليت لي وليّاً وعاديت لي عدوّاً؟ ثمّ أمر به إلى النار. نعوذ بالله منها...)(٢) .

ولاء (الأعور):

روي أنّ رجلاً قدِم على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي أُحِبُّك وأُحِبُّ فلاناً، وسمّى بعض أعدائه. فقال لهعليه‌السلام : (أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمي وإمّا أن تُبْصِر)(٣) .

ورؤية الأعور، نصف الرؤية، فهو يرى بإحدى عينيه فقط.

____________________

= وقد وَرَدَ في رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي - ملك الحبشة -: (وإنّي أدعوك إلى الله وحده ولا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني وتُؤمن بالّذي جاءني، إنّي رسول الله). (مكاتيب الرسول: ١٢٠).

وفي رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أسْقَفِ نَجران: (إنّي أدعوكم إلى عبادة الله عن عبادة العِباد، وأدعوكم إلى ولاية الله عن ولاية العِباد، فإن أتيتُم، لا جِزْيَة، وإن أبيتُم، آذنتُكم بحرب). (مكاتيب الرسول: ١٧٠).

(١)المحاسن: ١٦٥. وبحار الأنوار: ٢٧ / ٥٧.

(٢)فقه الرضا: ٥١. وبحار الأنوار: ٢٧ / ٥٧.

(٣)بحار الأنوار: ٢٧ / ٥٨.

٢٤٢

وكذلك ولاء الإنسان الذي يفقد البراءة، ولا يجرأ على البراءة، ويريد أن يجمع يبن الكلّ ويُرضي الجميع.

ومثل هذا النَمَط من الناس، لا يبقى أعوراً إلى آخر عمره بنصف الرؤية، فإمّا يهديه الله تعالى فتَكتَمِل لديه الرؤية، وإمّا أن يفقد هذه الرؤية النصفيّة الضَعيفة فيَعمى ويفقد الولاء مُطلَقاً.

وقيل للصادقعليه‌السلام : إنّ فلاناً يُواليكم، إلاّ أنّه يضعف عن البراءة من عدوِّكم؟ فقالعليه‌السلام : (هيهات. كذبَ مَن ادّعى مَحبَّتنا، ولم يتبرَّأ من عدوِّنا)(١) .

والسائل في هذا الحديث دقيق في طرح السؤال: إنّ الشخص الذي هو موضِع السؤال لا يُشَكّ في ولائه، ولكنّه يضعف عن البراءة، وضعفه يجعل موقفه من البراءة مهزوزاً وضعيفاً، ولا يملك القوّة الكافية في أن يُعلِن عن موقفه في الولاء والبراءة، والوَصْلِ والفَصْل، والارتباط والـمُقاطَعة، بشكلٍ صريح وحاسِم.

فيُجيبه الإمامعليه‌السلام : إنّ الولاء الصادق لا يُمكن أن ينفصل عن البراءة، ومَن يجد في نفسه ضعفاً عن البراءة، فهو كاذب في ولائه.

وفي حديث الأعمش عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال: (حُبّ أولياء الله واجب، والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة... والبراءة من الناكِثين والقاسِطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام وأئمّة الضلال وقادَة الجَور كلّهم، أوّلهم وآخرهم، واجبة)(٢) .

وعن أبي محمّد الحسن العسكري عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبعضِ أصحابه ذات يوم: يا عبد الله، أحبّ في الله وأبغض في الله، ووالِ في الله

____________________

(١)بحار الأنوار: ٢٧ / ٥٨.

(٢)الخصال: ٢ / ١٥٣ و ١٥٤. وبحار الأنوار: ٢٧ / ٥٢.

٢٤٣

وعادِ في الله، فإنّه لا تُنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجُل طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتّى يكون كذلك.

وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يُغْني عنهم من الله شيئاً.

فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله (عزّ وجلّ)؟ ومَن وليّ الله (عزّ وجلّ) حتّى أُواليه، ومَن عدوّه حتّى أُعاديه؟

فأشار له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّعليه‌السلام ، فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى.

قال: وليّ هذا وليّ الله فوالِه، وعدوّ هذا عدوّ الله فعادِه.

قال: والِ وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدِك، وعادِ عدوّ هذا ولو أنّه أبوك أو ولدُك)(١) .

وهذا المضمون قد وردَ تأكيده في حديث الغدير المعروف، والمروّي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(مَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذلَه).

وقد استوفى العلاّمة حُجّة الحقّ السيّد مير حامد حسين الكهنوي (رحمه الله) في عَبقات الأنوار، والعلاّمة الأميني (رحمه الله) في الغدير، دراسة هذا الحديث الشريف من حيث السَنَد والـمَتْن.

وقد صَدَّر العلاّمة الأميني كتابه القَيّم (الغدير) بحديثٍ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المعنى، نودُّ أن نختم به أحاديث الولاء والبراءة.

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: (مَن سَرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويَسكن

____________________

(١)التفسير للإمام العسكري: ٨. معاني الأخبار: ١١٣.

٢٤٤

جنّة عدن الّتي غَرَسَها ربِّي، فليُوالِي عليّاً من بعدي، وليُوالي وَليّه، وليَقتدِ بالأئمّة من بعدي، فإنّهم عِترَتي، خُلِقوا من طينَتي، ورُزقوا فَهْماً وعِلماً، فوَيلٌ للـمُكذِّبين بفضلِهم من أُمَّتي، القاطعين فيهم صِلتي، لا أنالَهم اللهُ شفاعتي)(١) .

الطوائِف الثلاث الـمَلعونة:

وقد وردَ اللعن والبراءة في زيارة وارث لثلاث أُمَم وطوائف:

(فلَعنَ اللهُ أُمّة قَتَلَتكَ.

ولَعَنَ اللهُ أُمّة ظَلَمَتْكَ.

ولَعَنَ اللهُ أُمّة سَمعتْ بذلكَ فرَضيَت به)(٢) .

والطائفة الأُولى : هي الطائفة التي باشرتْ قِتال الحسينعليه‌السلام . (لعنَ اللهُ أُمّة أسرَجَت وألجَمَت وتهيَّأت وتَنَقَّبَت لقتالِك يا مولاي، يا أبا عبد الله)(٣) .

والطائفة الثانية: هي الطائفة الّتي ظلمت الحسينعليه‌السلام ، وجارَت عليه ومَكَّنَت منه، وشايَعَت وبايَعَت وظاهَرَت عليه، وخالَفَته.

وهذه الطائفة تشمل كلّ أُولئك الذين أعدّوا لقتالِ الحسينعليه‌السلام أو مَكَّنوا منه، أو خالفوه أو ظاهروا عليه، أو ساهموا في الإعداد لقتاله، أو أعانوا الطاغية في قتاله بطريقة أو أُخرى... وأشياع هؤلاء جميعاً وأتباعهم.

وقد ورد اللَعن والبراءة من هذه الطائفة، في طائفة واسعة من الزيارات بصيَغ

____________________

(١)أخرجه الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء): ١ / ٨٦. وأخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في (تأريخه): ٤ / ٤١٠.

(٢)زيارة وارِث.

(٣)زيارة وارث الـمُطلَقة. وباختلاف يسير عن زيارة عاشوراء المخصوصة.

٢٤٥

مختلفة.

ففي زيارة عاشوراء المخصوصة: (فلعن الله أُمّة أسّست أساس الظلم والجَور عليكم أهل البيت، ولعنَ الله اُمّة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم الّتي رتَّبكم الله فيها... ولعن الله أُمّة قَتَلتكم، ولعن الله الـمُمَهِّدين لهم بالتَمكين من قتالِكم، برئتُ إلى الله وإليكم منهم ومن أشياعهم وأتباعهم)(١) .

وأيضاً جاء في زيارة عاشوراء: (وأبرأ إلى الله ورسوله ممَّن أسَّسَ أساس ذلك - الظلم والجَور عليكم أهل البيت - وبَنى عليه بُنيانه، وجرى في ظُلمه وجَوره عليكم وعلى أشياعِكم، برئتُ إلى الله وإليكم منهم)(٢) .

وهذه الطائفة طائفة واسعة تشمل كلّ أُولئك الذين ساهموا في قتال الحسين أو مكّنوا من قتاله أو أعدّوا له، أو بايعوا الطاغية على قتاله أو شايعوا أو ظاهروا عليه...

الطائفة الثالثة (الشريحة الراضية):

والطائفة الثالثة:هي الطائفة التي سمعَتْ بذلك فرضيَت به.

وهذه الطائفة تستوقِف الإنسان طويلاً، فمَن هم أُولئك الّذين سمعوا بذلك فرضوا به؟

إنّ هذه الطائفة ليست بالتأكيد مُشارِكة في القتال، ولا هي مشاركة في مُمارسة الظلم بصورة عمليَّة، ولا كانت تدخل ضمن الطائفة الأُولى أو الثانية؛ وإلاّ لم يكن من موجب لإفرادها بالذكر ثالثاً.

____________________

(١)زيارة عاشوراء المخصوصة.

(٢)زيارة عاشوراء المخصوصة.

٢٤٦

فهذه الطائفة لابدّ أن تكون ممّن سمعوا استنصار الحسينعليه‌السلام ولم ينصروه، وآثروا العافية على الوقوف بجانب سيّد الشهداءعليه‌السلام في معركة الطفّ، وخذلوا سيّد الشهداءعليه‌السلام ولم ينصروه في يوم عاشوراء... وهذه الطائفة لابدّ أن تكون راضية بما حدث في يوم عاشوراء.

فلا يُمكن أن يتمّ هذا الخُذلان والسكوت والقعود عن نصرة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في معركته مع طاغوت عصره، والقعود بعد ذلك عن أخذ ثأره، لولا أنّهم كانوا راضين بما حدث.

إنّ تخلّف هؤلاء عن الالتحاق بالحسينعليه‌السلام ، وتقاعسهم عن نُصرة الحسين، وإيثارهم للعافية في دنياهم على آخرتِهم، ينطوي على الرضا بما قام به يزيد، وإن لم يكن كذلك؛ فإنّ كلّ هذا التخلُّف والتقاعس وإيثار العافية يُؤدِّي أخيراً إلى الرضا بالظلم.

وقد ذُكرَت هذه الطائفة في نصوص أُخرى للزيارة بصِيغ مختلفة، كلّها تصبّ في معنى التخاذل عن نصرة (أبي عبد الله الحسين)عليه‌السلام ، والتقاعس عن الالتحاق به، وإيثار العافية على الوقوف إلى جانب سيّد الشهداءعليه‌السلام .

فقد ورد في الزيارة الـمُطلَقة الثانية: (لُعنَتْ أُمّة قَتَلَتكم، وأُمّة خالَفَتكم، وأُمّة جَحَدَتْ ولايَتكم، وأُمّة ظاهَرَت عليكم، وأُمّة شَهدَت ولم تَستشهِد...)(١) .

وموضع الشاهد الفقرة الأخيرة: (وأُمّة شهدَتْ ولم تَستَشهِد).

ووردَ في الزيارة الـمُطلَقة السابعة: (وأشهدُ أنّ قاتِلك في النار، أَدينُ الله بالبراءة ممَّن قتلَك، وممَّن قاتَلَك وشايَع

____________________

(١)الزيارة الـمُطلَقة الثانية.

٢٤٧

عليك، وممَّن جمعَ عليك، وممَّن سمعَ صوتك ولم يُعِنك)(١) .

وموضع الشاهد: (وممَّن سمعَ صوتَك ولم يُعِنك).

ووردَ في زيارة ليلة القدر وليلة العيدَين: (أشهدُ أن الّذين خالَفوك وحارَبوك، والّذين خَذَلوك والّذين قَتَلوك، ملعونون على لسان النبيّ الأُميّ)(٢) .

وواضح في هذا النص أنّ الطوائف الثلاث الملعونة هي:

١- الطائفة التي خالَفَتْ وظَلَمَتْ.

٢ - والطائفة التي قاتَلَتْ الحسين وقَتَلَتْ.

٣ - والطائفة التي خَذَلَتْ الحسينعليه‌السلام ، ولم تُلَبِّ دعوة الحسينعليه‌السلام ولم تَنصره.

فالذين سمعوا صرخة الحسينعليه‌السلام في وجه يزيد، وسمعوا نداء الحسينعليه‌السلام وهو يستنصر المسلمين فلم يتحرَّكوا، وخذلوا سيّد شباب أهل الجنّة، وآثروا عافية دنياهم على سلامة الآخرة، وتخلَّفوا عن الالتحاق بالحسينعليه‌السلام ... أُولئك من أهل البراءة، ومن الذين يستحقُّون اللَعن.

عاشوراء (يوم الفرقان):

إنّ معركة الطفّ كانت معركة حقيقيّة، في الأبعاد العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة.

ولذلك؛ فهي تتطلَّب مواقف حقيقيّة من الولاء والبراءة، وترفض التفرُّج واللامبالاة.

____________________

(١)الزيارة الـمُطلَقة السابعة.

(٢)الزيارة المخصوصة لِلَيلة القَدر وليلة العيدَين.

٢٤٨

فطبيعة المعارك والصراعات الحضاريّة والعقائديّة أنّها تشطر الناس شَطرَين: مُخالِف ومُوافِق، ويجري هذا التشطير والانقسام بصورة مستمرَّة فيما بعد، وإلى ما شاء الله من العصور.

ومعركة الطفّ في القمَّة من هذه المعارك والصراعات؛ نظراً إلى المواجهة والـمُقابَلة العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة الّتي تمَّت في هذه المعركة، ولوضوح الطرفَين في اتّجاهاتهما العقائديّة والحضاريّة، فلم يكن خافياً أمر الحسين ابن بنت رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة على أحد من المسلمين، كما لم يكن خافياً أمر يزيد بن معاوية ابن آكلِةِ الأكباد، وسلالة الشَجرة الملعونة في القرآن على أحد، ولا أحد يشكّ في ماهِيَّة وحقيقة الطَرفَين الـمُتصارعين، ومَن منهما كان يدعو إلى الله، ومَن منهما كان يُخالِف إرادة الله ويعصي الله.

هذه المأساة والمواجهة التاريخيّة شطرت الناس شَطرين مُتميِّزَين:

الشطْر الأول: الموالي والناصر والـمُنتَمي والـمُرتبِط والـمُسانِد.

والشطْر الثاني: الـمُخالِف والـمُعادِي.

وهذا الصراع لم يَدَع أحداً يقف بين الصفَّين ليَتفرَّج على المعركة من دون أن يصيبه غبار من هذا الطرف أو ذاك.

فلابدّ من موقِف مُحدَّد، من ولاء أو براءة.

ولذلك قُلنا: إنّ هذه المعركة شطرَتْ الناس في الولاء والبراءة شطرين مُتميِّزين، من سَنَة إحدى وستّين هجريّة إلى يومِنا الحاضر، وإلى ما شاء الله من العصور.

أبْعادُ وامتداداتُ المواجهة ليوم الفرقان:

ولقد كان يوم بدر (يوم الفرقان) الأوّل في تاريخ الإسلام، يقول تعالى:( يَوْمَ

٢٤٩

الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) (١) .

وهو أوّل مواجهة قتاليّة بين التوحيد والشِرك في تاريخ الإسلام، وعلى نتائج هذه المواجهة الميدانيّة كان يتوقَّف مصير البشريّة جميعاً.

صحيح أنّ الّذين وقفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ثلاثمئة أو يزيدون، وأنّ الّذين وقفوا إلى جانب قريش لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ألف أو يزيدون قليلاً، إلاّ أنّ هذه المواجهة كانت أعمق وأوسع ممّا يتراءى لنا لأوّل مرّة من خلال التاريخ في وادي بدْر، في السَنَة الثانية بعد الهجرة.

فقد كان يقف من وراء المشركين من قريش في بدْر جَبهَة عريضة من الشِرك، في الجزيرة وخارجها؛ وتصاعد الأحداث بعد هذا اليوم أثبتَ هذه الحقيقة، ولقد وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه العصابة الصغيرة أمام جبهة الشِرك العريضة.

فيوم بدر إذن، فرَّق الناس إلى شطرين متمايزين في الولاء:

شطر قِوامه ثلاثمئة وخمسة مقاتِلين.

وشطر قوامه جبهة الشرك العريضة، وبكلّ إمكاناتها الواسعة.

فهو (يوم الفرقان) الأوّل حقّاً في تاريخ الإسلام.

إنّ النظرة الساذجة الأُولى لساحة بدْر - في السنة الثانية من الهجرة - لا تلتقي إلاّ بهذين الجَمعين الصغيرين الـمُتقاتلين، ولكنّ النظرة العميقة الـمُمْعِنة تلتقي في هذه الساحة بحَضارتين وعقيدتين تتصارعان على البقاء، وفي جبهات عريضة واسعة، وليس مع ألف من المقاتِلين أو يزيدون فقط.

ولم يكن يوم بدر (يوم الفرقان) الذي يشطر الناس في الولاء والبراءة إلى

____________________

(١)الأنفال: ٤١.

٢٥٠

شطرَين في السنة الثانية من الهجرة فقط، وإنّما يظلّ هذا اليوم يوم فرقان في تاريخ الإسلام، إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.

يوم الفرقان الثاني في تاريخ الإسلام:

وإذا كان يوم بدر (يوم الفرقان) الأوّل في تاريخ الإسلام، فإنّ يوم عاشوراء (يوم الفرقان) الثاني في تاريخ الإسلام.

كان يقف فيه الحسينعليه‌السلام مع ثُلّة صغيرة من أهل بيته وأصحابه، وفي الجانب الآخر يقف ابن زياد مع جيش واسع، ومن ورائه يزيد وسُلطانه ومُلكه الواسع وأمواله الكثيرة وإمكاناته، وكلّ الموالين له والـمُستفيدين منه.

ففي يوم عاشوراء إذن، نجد كلّ خصائص (الفرقان)، فقد شُطِرَ الناس إلى شَطرَين متمايزين في الولاء والأخلاق والفكر والخطّ والعقيدة..

ولا يزال هذا اليوم (فُرقاناً) في تاريخ الإسلام، يُفرَّق الناس في الولاء والبراءة، إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.

يوم الفرقان الثالث في تاريخ الإسلام:

وما دُمنا قد أشرنا إلى يومين من أيّام (الفرقان) في التاريخ الإسلامي: (يوم بدر، ويوم عاشوراء)، فلا نستطيع أن نتجاوز هذا الحديث دون أن نُشير إلى اليوم الثالث من أيّام (الفرقان) في تاريخ الإسلام الحديث، والذي يأتي امتداداً ليوم بدر ويوم عاشوراء.

وهو: يوم انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

والذي هو من أيّام الله الكبرى في التاريخ، هدمَ الله تعالى فيه عرشَ أكبر إمبراطوريّة في آسيا، تحمِيه أضخم الأجهزة السِريّة والعَلنيّة، وأكبر قلعة للاستكبار في المنطقة، تحميها سادس قوّة

٢٥١

عسكريّة في العالم، وذلك بقيادة الإمام الخميني (قدس سرّه).

إنّ هذا اليوم لا يعني فقط سقوط نظام أُسرة بهلوي في تاريخ إيران، وإنّما يعني نهاية مرحلة من التاريخ وبداية مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام.

فإنّ سقوط أُسرة بهلوي، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة يُعتبر نهاية لعصر من الخمول والركود والاستضعاف واليأس، والارتماء في أحضان الغرب والشرق، والتخلّف الفكري والثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي، والهزيمة النفسيّة...

وبداية عصر جديد من التحرّك باتّجاه حاكميّة دِين الله على وجه الأرض، وفكّ القيود والأغلال من الأيدي والأقدام، وكَسْر الطَوق السياسي والاقتصادي والعسكري والعلمي والحضاري، الّذي فرضَه الاستكبار الغربي والشرقي على العالم الإسلامي، والعودة إلى الله، وتعبيد الإنسان لله، وتحكيم شريعة الله في حياة الإنسان، وإعادة الأعراف والقِيَم والأخلاق، والحدود الإسلاميّة إلى صُلبِ الحياة من جديد.

وبالإجمال، مرحلة جديدة للتاريخ.

إنّ هذا اليوم امتداد حقيقي ليوم عاشوراء، كما كان يوم عاشوراء امتداداً واقعيّاً ليوم صفِّين وبدر.

انتصار الثورة الإسلاميّة مُنطلَق ثوري وقِيمة حضاريّة:

ونُلخّص فيما يلي أبرز نقاط وعناصر هذه الثورة المباركة:

إنّ هذه الثورة ثورة مبدئيّة بكلّ معنى الكلمة، وهي نوع جديد من العمل والحركة الثوريّة في تاريخنا المعاصر، وحدث سياسي بارِز لا شبيه له في الأحداث المعاصرة، وصراع جديد بين التوحيد والشِرك، بين التوحيد في الولاء والشِرك في الولاء.

فهي تتّجه لفكِّ ارتباط الإنسان المسلم بالاستكبار الشرقي والغربي، وفكّ ارتباطه بمحاور الولاء الـمُصطنَعة: (القوميّة، الوطنيّة، العشائريّة، الحزبيّة...)، وربط ولائه بالله تعالى، ورسوله وأوليائه، وتوحيد الولاء

٢٥٢

لله تعالى، ومُقاطَعة ومُحاربة كلّ المحاور الأُخرى الّتي تعمل لانتزاع الولاء من الناس.

تلك كانت طبيعة الثورة ومحتواها.

إنّ من المهمِّ أن نفْهم نحن مسار الثورة الإسلاميّة المعاصِرة ومحتواها، ومن دون ذلك لا نستطيع أن نُساهِم أو ندعم أو نُسانِد هذه الثورة.

إنّها ليست ثورة على التخلُّف العلمي والتِقَني، ولا هي ثورة على التخلُّف الاقتصادي والفقر الاجتماعي، ولا هي ثورة ضدّ الاستعمار، ولا هي ثورة من أجل تحرير آبار النفط من قَبضةِ ملوك النفط أو من الشركات الاحتكاريّة، ولا هي ثورة طَبَقَة أُخرى (صِراع طَبَقِي)، كما حدثَ في ثورة الزنج في تاريخ الإسلام، وإن كانت تحتوي على كلّ هذه الأُمور، وتَطْمَح لكلِّ هذه المكاسب، وتُحقّق هذه النتائج كلّها إن شاء الله، إلاّ أنّها في جوهرها شيء آخر.

إنّها ثورة الولاء لله تعالى على الولاء للطاغوت، وثورة التوحيد على الشرك، وثورة الإسلام على الجاهليّة الحديثة.

وهي إذا حققَّتْ غايتها على وجه الأرض، فسوف تقضي على التخلُّف العلمي والثقافي والتِقَني، وتقضي على الفقر والتخلُّف الاقتصادي، وتقضي على الاستثمار والاستعمار، وتقضي على الاحتكار، وعلى الشركات الاستعماريّة، وتقضي على التلاعُبِ بأموال المسلمين وثرواتهم، وتقضي على الاستضعاف والاستكبار، وعلى استضعاف طَبَقة لطَبَقة أُخرى، ومُمارسة السيادة لطبقةٍ على أُخرى.

إنّ هذه الثورة سوف تُحقّق كلّ هذه الغايات، وغايات أُخرى أبعد من هذه وأسمى منها إن شاء الله. ولكن، على أن تُحافِظ على جوهرها ومحتواها الحقيق (ثورة التوحيد على الشِرك).

إنّ السِمَة البارزة والأُولى لهذه الثورة هي: (الربّانيّة)، وهذه السِمَة هي الّتي

٢٥٣

تربطها ببدرٍ وصِفّين وعاشوراء، وبحركة الأنبياءعليهم‌السلام ، وبمَسارِ الصالحين من أولياء الله.

ومتى أُفرغت الثورة من هذه السِمة، وتشبَّعت بالأهداف والشعارات الجانبيّة، فقدت كلّ قيمتها، وفقدت تأييد الله تعالى لها.

إنّ هذه الثورة تختلف اختلافاً جوهريّاً عن كلّ الثورات المعاصِرة لنا، كالثورة الفرنسيّة، وثورة أكتوبر، والثورات الّتي قامت في القارَّة الأفريقيّة وفي آسيا بعد الحرب العالميّة الثانية، والثورات في المنطقة العربيّة.

إنّ الكثير من هذه الثورات كانت ثورات طَبَقيّة، ثورة طَبَقة مُستضعَفة على طَبَقة مُستأثِرة. أو ثورات تحرّريّة من الاستعمار وسَيطرة الأجنبي، أو القضاء على أنظمة ديكتاتوريّة.. أو حُكّام مُجرمين.

ولا نستطيع أن نستثني ثورة مُعاصِرة عن هذه الـمُنطلَقات.

والثورة الإسلاميّة هي الوحيدة الّتي انطلقت من مُنطلَق آخر، يختلف اختلافاً نوعيّاً عن هذه الثورات جميعاً.

انطلقت باتّجاه تحرير الإنسان من المحاور البشريّة للولاء، مهما كان نوعها، إن لم يكن مرتبطاً بالله تعالى، وتعبيد الإنسان لله تعالى، وتحكيم شريعته في حياة الإنسان، وترسيخ محوَر الولاية الإلهيّة بكلّ امتداداتها في حياة الإنسان.

تراكُم من الفعل والحراب (الفِعْل والانْفِعال):

إنّ هذه الثورة حصيلة جهود كثيرة وكبيرة، من قِبل كلّ العاملين في سبيل الله وطلائع العمل الإسلامي، من الذين وَعُوا محنة الأُمّة وتحمّلوا المسؤوليّة، ونهضوا بأعباء المسؤوليّة.

إنّ هؤلاء جميعاً لهم دَور في بناء قواعد هذه الثورة، وفي انجاز هذه الحركة الربّانيّة على وجه الأرض، وفي تحريك هذا السَيل

٢٥٤

البَشَري الهادِر الذي زَعزَعَ مكان الطاغوت.

إنّ الطالب الّذي كان يدعو إلى الله ورسوله، وإلى تحكيم شريعة الله بين زُملائه الطلبة، له دَور في بناء هذه الثورة، والعامل الّذي كان يبثّ الوعي الإسلامي في صفوف إخوانه العمّال، له دَور في هذه الثورة، والخطيب الذي كان يخطب في المساجد والاجتماعات، وينشر هَديَ الإسلام ووَعيه، له دور في هذه الثورة، والعالِم، والكاتِب، والشاعر، والأديب، والمعلِّم وكلّ حَمَلَة الرسالة، من النساء والرجال، والّذين وضعوا حَجَراً في أساس هذه الثورة، من مشارق الأرض ومغاربها، لهم دور وحظّ في هذه الثورة المباركة.

إنّ هذه الثورة الّتي زلزلت الأرض تحت أقدام الطُغاة، لم تكن حصيلة فترة زمنيّة محدودة. وجُهْد جماعة من العاملين، وإنّما كانت حصيلة أجيال من العمل في سبيل الله، من قِبل كلّ العاملين في حقول العمل الإسلامي.

كما إنّ هذه الثورة حصيلة كلّ الآلام والحرمان، والاضطهاد والعذاب والعناء الّذي لاقاه المسلمون في مرحلة الركود والضعف.

وساهمَ في هذه الثورة كلّ الشهداء الّذين اضطُهِدوا في سبيل الله، وكلّ مَن التفّتْ السِياط على جسمه في غيابات السجون، وكلّ الدموع والدماء والآهات... وكلّ الهجرات الّتي كانت في سبيل الله.

أجَل، إنّ هذه الثورة كانت انفجاراً هائلاً لكلّ هذه الآلام والمِحن، ولو كان الأمر في هذه الثورة الإسلاميّة يقتصر على العامل الثاني: (ركام الآلام والعذاب)، لكان من الممكن أن تغلب على هذه الثورة الصِفة الانفعاليّة، إلاّ أنّ وجود العامل الأوّل وقوّته وفعاليّته في تحقيق هذه الثورة المباركة، كان عاملاً قويّاً في توجيه الثورة وتصحيح مسارها، والمحافظة عليها من الانحراف.

محاوَلات لأقْلَمَةِ الثورة:

فليست هذه الثورة ثورة إقليميّة، كما يحاول أعداء الإسلام أن يصفوها، وكما

٢٥٥

تنطلي أحياناً على بعض السُذّج من المسلمين، وليست ثورة إسلاميّة إيرانيّة، وإنّما هي ثورة إسلاميّة شاملة، وشاء الله تعالى أن تكون نقطة انفجار هذه الثورة أرض إيران، والشعب الذي يُفجرّ هذه الثورة، الشعب الإيراني المسلم.

وأيّة محاولة لأقلَمَة هذه الثورة وعزلها عن مشاعر وأحاسيس وقلوب المسلمين خيانة لهذه الأُمّة، إن كانت من قِبل أعداء هذه الأُمّة والـمُتربِّصين بها سوءً، أو من أبنائها الّذين لم يعُوا خطورة هذا الدَور.

إنّ عزلَ الثورة الإسلاميّة عن مشاعر المسلمين وعن الرأي الإسلامي، وتطويقها، يُعدُّ خيانة كبرى ومقدّمة للإجهاز عليها. ويجب علينا كمسلمين أن نواجه هذه المؤامرات بوعي وانتباه، وبعيداً عن جوِّ الحساسيّات، وفي جوٍّ من المسؤوليّة الشرعيّة.

إنّ هذه الثورة بداية لانفجار شامل وثورات إسلاميّة كثيرة على وجه الأرض، وليست تلك الثورات شيئاً آخر غير هذه الثورة، ولا امتداداً لها، وإنّما هي مراحل مختلفة لثورة واحدة، شاء الله تعالى أن تتمّ المرحلة الأُولى منها في إيران، وفي أحضان هذا الشعب المسلم الشجاع.

أرأيت خطّ الزلزال ينطلق من نقطة ويمتدّ على منطقة واسعة من الأرض، بفِعل التفاعلات غير المرئيّة في طَبَقات الأرض؟!

كذلك هذه الثورة.

التفاعلات التي كانت تجري في الأعماق غير المرئيَّة لهذه الأُمّة:

لقد تمَّ في عُمق هذه الأُمّة تفاعلات واسعة وكبيرة وقويّة، بتأثير الفِعل (العامل الأوّل) والانفعالات (العامل الثاني)، في غياب مِن رَصدِ الاستكبار العالمي.

وحيث كان الاستكبار العالمي يزهو بانتصاراته الكبرى في العالم الإسلامي، ويعيش في نشوَة هذه الانتصارات على العالم الإسلامي، جرت هذه

٢٥٦

الانفعالات في أعماق الأُمّة الإسلاميّة، وتفاعَلَت وتفاقمت، ثُمّ كانت الثورة الّتي تشبه الزلزال، فاهتزَّت الأرض من تحت أقدام حُكّام الغربِ وأتباعهم، ولم ينتبه هؤلاء الطغاة من نشوة وسكر السلطان إلاّ بعد أن حدث الزلزال.

إنّ الذي حدث في طهران كان شيئاً أكبر بكثير من تصوّراتنا المحدودة، كان تحقيقاً لوعد الله سبحانه وتعالى للصالحين الـمُستضعَفين من عباده في هذه الأُمّة( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) (١) .

وعلينا قبل كلّ شيء، أن نعي بصورة جيّدة الأبعاد الحقيقيّة لهذه الثورة، وأن ننشر هذا الوعي في صفوف المسلمين؛ لنُحبِط المؤامرات الّتي يحيكها أعداء الإسلام لتطويق ومحاصرة الثورة الإسلاميّة.

إنّ الذي يقرأ كتُب ومحاضرات الإمام الخميني (قدس سرّه)، يجد وعياً دقيقاً لهذه المؤامرة، وتوجيهاً عمليّاً لإحباطها، وحُرصاً مسؤولاً لوحدة ومصير المسلمين، ولارتباطهم بالثورة، سواء كانوا سُنّة أمْ شيعة، عرباً وفُرُساً، وتعميم مسؤوليّة المحافظة على هذه الثورة على المسلمين جميعاً.

إنّ هذه الثورة من عملِ وجُهد وعناء كلّ المسلمين الصالحين.

ورسالة هذه الثورة فكّ الأغلال والقيود عن أيدي وأقدام كلّ المسلمين.

ومسؤوليّة المحافظة على هذه الثورة من واجب كلّ المسلمين كذلك.

ومن أجْل هذه الشموليّة الواسعة في هذه الثورة، نجد أنّ فكرة تصدير الثورة رافقت ولادة.

إنّ مَن يعرف طبيعة وجذور وأعماق هذه الثورة، يُدرك أنّ هذه الثورة لا تعترف بالحدود الإقليميّة، ولا بالنزعة القوميّة، وأنّها لا تَقِف من وراء الحدود

____________________

(١)القصص: ٥ - ٦.

٢٥٧

تستأذن سَدَنة الحدود؛ ليفتحوا إليها الطريق، إنّها السَيل الذي لا يقِف ولا يتردّد ولا ينتظر.

ونحن نضع هذه الحقائق في طريق الثورة، وبين يديّ هذه الأُمّة المؤمنة ومُفكّريها، وقادتها وعلمائها والعاملين في صفوفها؛ ليعرف كلّ واحد منّا مسؤوليّته إزاء هذا الحَدَث الكبير.

الولاء والبراءة بعد الثورة:

وهذه الثورة من أيّام الفرقان في تاريخ الإسلام، انشطر الناس تجاهها إلى شطرين:

شطْر الموالين، وشطْر المعادين.

وليس للثورة ولاء جديد في قِبال الولاء لله ولرسوله ولأوليائه، وإنّما هو امتداد للولاء لله.

إنّ هذه الثورة كانت من الأحداث القليلة والنادرة في التاريخ، التي لم تسمح لإنسان أن يقف منها موقف الـمُتفرِّج واللامبالاة، وإنّما تفرض على كلّ الناس أن يحكموا لها وعليها، ومنذ أيّام بزوغ هذه الثورة، ومنذ أن اندلع لَهيبُها في طهران، وجدنا كلّ القلوب المؤمنة والضمائر الحيّة قد تجمَّعت حول هذه الثورة، وتعاطفت معها.

وكانت تعيش باهتمام بالِغ ساعات ميلاد هذه الدولة المباركة، وحبسَ التاريخ أنفاسه ليُتابع لحظات هذا الميلاد، لحظات (عودة الحضارة الربَّانيّة، وعودة سيادة الإسلام على وجه الأرض) و (حاكميّة الله في حياة الإنسان)، بعد تلك السنوات العُجاف من الركود والخمول والضعف، والهزائم النفسيّة،

٢٥٨

والانصهار الـمُذِلّ في حضارة الاستكبار الشرقي والاستكبار الغربي، ونفوذ وسيطرة الكفر العالمي على بلادنا وأُمّتنا وثرواتنا.

وفي مقابل ذلك، فقد أحسّ كلّ الظالمين العُتاة والجلاّدين والّذين باعوا دينهم وضمائرهم، كلّ أُولئك أحسّوا بالشرِّ وأحسّوا بالخطر، وبأنّ هناك حَدَثاً جديداً، وميلاداً جديداً، وأنّ الّذي يجري في طهران ليس أمراً كسائر الأُمور التي تجري هنا وهناك. إنّه نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة، ونهاية لحضارة وبداية لحاضرة.

لقد أحسّ هؤلاء بالشرِّ، وبالخطر يُفاجئهم على حين غَفلَة، فأعلنوا عدائهم تجاه الثورة منذ اللحظات الأُولى لانطلاقتها، ولم يُخفوا حقدهم وتخوّفهم من هذه الثورة.

لقد استقبلت الثورة طائفتان من الناس:

الطائفة الأُولى: استقبلتها بقلوب مِلؤها العطف والحبّ والحماس، والاندفاع لنصرتها، والدعاء إلى الله بتأييدها.

الطائفة الثانية: استقبلتها بقلوب حاقدة مُتخوِّفة مُتحسِّسة، لم تتمكّن من إخفاء هذا الحقد والخوف والتحسّس.

وهذا الانشطار في الولاء والبراءة في خصائص أيّام الفرقان في التاريخ، ولسوف تبقى هذه الثورة تحتفظ بهذه الخاصيّة المزدوجة في مراحلها المختلفة.

حتميَّة الصراع:

ولقد كان من الطبيعي أن يكون ميلاد هذه الدولة المباركة واستمرارها إيذاناً بصراع مُمتَدّ طويل، بينها وبين الجاهليّة الحديثة،

٢٥٩

فلا يُمكن أن يسكت أو يهدأ الغرب أمام هذه الموجة الربّانيّة، دون إثارة الفتن والمتاعب في طريق دُعاة هذه الثورة، ودون أن يعمل على تطويق ومصادرة هذه الثورة.

إنّ الذي يتفهّم سُنَن الله في التاريخ، يستطيع أن يفهم بوضوح حتميّة هذا الصراع بين هاتين القوّتين: (القوّة الإسلاميّة النامية، وقوّة الكفر العالمي)، وأنّ هذا الصراع سوف يكون من أقسى أنواع الصراع وأطوله؛ ذلك أنّ هذا الصراع صراع من أجْل البقاء، والصراع على البقاء يطول ويَقسو ويستمرّ؛ لأنّه صراع عقائدي حضاري، وليس صراعاً على ماء وطين، وعلى نفط وصُلب ونحاس، حتّى يمكن اللقاء والتفاهم فيه.

ولا يُمكن تجنّب هذا بحالٍ من الأحوال.

إنّ هذه الثورة والدولة قد كسرتا دائرة النفوذ الاستكباري: (الشرقي والغربي) على العالم الإسلامي، وخرجت الدولة الإسلاميّة لأوّل مرّة عن منطقة نفوذ القوى الكبرى بشكلٍ كامل، وتعمل الثورة الآن لفكِّ هذا الحصار عن كلّ العالم الإسلامي.

ومن الطبيعي أن يُواجه الاستكبار هذه الثورة ودولتها الناشئة بكلّ أنواع الضغوط والمؤامرات، من الداخل والخارج؛ لتحجيمها واستهلاكها وتطويقها.

والعاقبة للـمُتّقين:

والعاقبة في هذا الصراع للـمُتّقين.

ومهما نشكّ في شيء فلا نشكّ في هذه الحقيقة، أنّ الأُمّة المؤمنة لا تدافع عن نفسها، وإنّما تدافع عن دين الله، وشريعة الله وحدوده، ولا تواجه أعداءها وإنّما تواجه أعداء الله، ولا تحارب بحَولها وقوّتها وإنّما تحارب بحول الله وقوّته.

٢٦٠

فإذا استوفت هذه الأُمّة الشروط، ووضعت ثقتها في الله، وأعطت نفسها لله، وابتعدت عن التعلّق بالدنيا وحُبّها، وتخلَّصت من أهوائها، وقامت لله تعالى مثنى وفرادى؛ فإنّ الله تعالى ينصرها، طال عليها الأمر أم قصر، فإنّ ذلك وعْد الله تعالى، ولا يخلف الله وعده.

واستمعوا إلى كتاب الله الكريم وآياته البيّنات:

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ) (1) .

( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

( إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) (3) .

( فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (4) .

( وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِيراً ) (5) .

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (6) .

إنّ المعركة إذا طالَت وإذا قَسَت، فلن يتركنا الله لأعدائنا، ولن يتخلّى الله تعالى عنّا، ولن يخلف وعْده، تبارك وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

( هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (7) .

____________________

(1)الصافّات: 171 - 173.

(2)الروم: 47.

(3)غافر: 51.

(4)المائدة: 56.

(5)النساء: 45.

(6)محمّد: 7.

(7)الأحزاب: 22.

٢٦١

ليُحِقَّ الحَقَّ بكلماته ويقطع دابِر الكافرين:

وإن طالت هذه المحنة؛ فلكي يمتحِن الله قلوب عباده، ويعرف الثابتين منهم عن المهزومين، وهو العالِم بخفايا القلوب، ولكي يُثبّت الله للمؤمنين قدم صدق على أرض المعركة، ولكي يتخفَّف المؤمنون في هذا الصراع من حبِّ الدنيا والتعلّق بها، ولكي يزدادوا يقيناً بالله تعالى في هذا الصراع.

فإنّ الإنسان لا يُرزَق اليقين في ساعات الرخاء والراحة والعافية، مثل ما يناله في الابتلاء.

ولكي يتمرَّس المؤمنون على مواجهة التحدّيات الكبيرة، وتجاوز الصعاب في سبيل الله، ويزدادوا بأساً وقوّة وإيماناً، ولكي يقوى قبولهم الولاء والبراءة؛ فإنّ الولاء يقوى من خلال التضحية والعطاء، والبراءة تقوى من خلال المواجهة والقتال.

وليس هذا الصراع وما يستتبعه من آلام وعناء يخصّ هذه الثورة، أو يخصّ هذا الدِين، وإنّما هو سُنّة الله تعالى في حياة الصالحين من عباده، الذين يرتضيهم الله تعالى لرحمته، والذين يُسكنهم الله تعالى جنّته مع عباده الصادقين.

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (1) .

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ ) (2) .

إنّ نفوسنا الضعيفة لتهوى أن تقتطف النصر من أقرب وأيسر الأسباب، وأن

____________________

(1)التوبة: 16.

(2)البقرة: 214.

٢٦٢

لا يُكلّفها دِينها شيئاً، وأن نمدّ أيدينا فننال النصر والإمامة والخلافة على وجه الأرض.

ولكنّ الله الحكيم يعلم أنّ النصر إذا جاء بيُسر، وعلى غير طريق ذات الشوكة، لا يُؤهَّل الإنسان للإمامة وخلافة الله على وجه الأرض، فيريد الله تعالى لنا أن نتمرَّس ونقوى، ونُحقِّق حاكميّة دين الله في الحياة، على طريق ذات الشوكة.

( وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (1) .

واستمعوا إلى هذه الآيات البيّنات من سورة آل عمران، تشرح الصراع والعناء والمحنة، والنصر والفتح، في تسلسل رائع جميل:( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (2) .

وفي هذه الآيات المباركة من سورة آل عمران إجابات شافية، على كلّ الأسئلة الّتي تخطر على بال المؤمنين، في هذا الصراع الرهيب بين الإسلام والكفر.

تداول النصر والهزيمة في ساحة المعركة:

لقد كان المسلمون يظنّون - بعد أن نصرهم الله تعالى ببدر - أنّ النصر حليف

____________________

(1)الأنفال: 7 - 8.

(2)آل عمران: 139 - 142.

٢٦٣

الفئة المؤمنة دائماً، لا يُفارقهم ولا يعدوهم، وأنّهم إذا آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله، فلن يتخلَّف عنهم النصر في حالٍ من الأحوال.

فلمّا أذاقهم الله مُرَّ الانتكاسة في أُحد، وانتكس المسلمون في هذه المعركة عندما خالف الرُماة أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتخلَّفوا عن مواقعهم بحثاً عن الغنائم، اهتزَّت نفوس المسلمين، واهتزَّت الثقة في نفوسهم بالنصر، وعادوا يشكّون في أن تكون لهم عاقبة الأمر، وغلب الضعف على النفوس، وتمكَّن الحزن في نفوسهم على الذين استشهدوا في هذه المعركة، من سراة المسلمين، ومن الصفوة المؤمنة الذين صدقوا الله وأخلصوا له في العمل والجهاد.

فيعيد الله تعالى إلى نفوسهم الثقة بالنصر أوّلاً، ويُطمئنهم بأنّ العاقبة للمؤمنين، مهما كانت القروح والآلام والانتكاسات والعناء خلال طريق ذات الشوكة.

ويُزيل الضعف والوَهن والحزن عن نفوسهم، ويثبِّت أفئدتهم وقلوبهم بالنصر والعُلوِّ:( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) .

ثُمّ يذكِّرهم الله تعالى أنّ ما مسَّهم من القرح في الحرب لم يخصّهم فقط، وإنّما مسَّ أعداءهم أيضاً، وهذا القرح وما يصيب المقاتلين، من أذى وتعب وخسائر، من مُتطلّبات المعركة، لا يمكن أن يخصّ طرفاً دون الآخر، ولا يمكن أن تجري معركة من دون قروح:( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) .

وقد جرت سُنّة الله تعالى أن يُداول الأيّام بين الناس، فيجعل يوماً للمؤمنين على الكافرين، وآخر للكافرين على المؤمنين، وينصر هؤلاء في يوم، ويُذيقهم مُرّ الانتكاسة في يومٍ آخر، وهكذا يُداول بينهم النصر، على أنّ العاقبة للمؤمنين فقط.

٢٦٤

وهذه المداولة لا تُغيّر مشيئة الله تعالى، وتبقى العاقبة للـمُتّقين.

وإنّما يُداول الأيّام بين الناس، ويذيق المؤمنين الشدّة والرخاء، ونشوة النصر حيناً ومرارة الانتكاسة حيناً آخر؛ ليتميَّز الذين آمنوا وصدقوا في إيمانهم وثبتوا على الإيمان، عن المنافقين وضعاف النفوس وأصحاب النفوس المهزومة.

تَمْحِيص وتَهذيب المسيرة في المجتمع:

إنّ مسيرة الدعوة لو كانت محفوفة بالنصر دائماً، ومفروشة باليُسر والرخاء، تراكمت عليها العناصر المنافقة التي تُحسِن التسلُّق على الجدران العالية، أُولئك الّذين يغيبون حين البأس، ويحضرون حين توزيع الغنائم، وتطول ألسنتهم في المطالَبة بالغنائم:( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

إنّ مسيرة الدعوة إن كانت تخلو من الـمَكاره ومرارة الانتكاسات، تجمَّعت حولها طائفة واسعة من المنافقين وضعفاء النفوس، واحتلّوا منها المواقع الحسّاسة. وإذا ما تولَّت هذه الطائفة أُمور الدعوة والمسيرة، تعطَّل دَورها القيادي في حياة الناس، وفقدت الدعوة قُدرتها على التغيير والقيادة، وتحوَّلت الدعوة من طريق ذات الشوكة في مواجهة الطاغوت، إلى مسيرة مُترَفة، عامرة باللَذات ومُتَع الحياة، وفقدت كلّ إمكاناتها على العمل والتغيير والحركة، كما حصل ذلك في عصر بني أُميّة وبني العبّاس.

فلابدّ في هذه المسيرة - بين حين وآخر - من انتفاضة قويّة، يُطرَد فيها المنافقين وضعفاء النفوس عن موكب هذه الدعوة، وتستخلِص المؤمنين الأقوياء، الّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأخلصوا لله في عملهم.

فليست مسيرة هذه الدعوة كسائر ما يألَفه الناس، من مسيرات الأنظمة

٢٦٥

والحكومات التي تطلب الحياة الوديعة المترفة، والبعيدة عن المتاعب والـمُنغِّصات، فإنّ هذه الحياة الوديعة والـمُترَفة تجعل جوّ الدعوة مَرتعاً للمنافقين وضعفاء النفوس.

فإذا تعرّضت هذه المسيرة للآلام والمِحن والمصائب ومتاعب الطريق والدَم والانتكاسات الـمُرّة، صفا جوّ الدعوة للمؤمنين، وخلُصت هذه المسيرة للصفوة الصادقة من المؤمنين والمجاهدين، ويتميَّز المؤمنون عندها عن غيرهم:( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ) .

متى يتَّخذ الله الشهداء في هذه الأُمّة قيّمِين على المسيرة؟:

وليس هذا فقط فائدة تداول الأيّام، وتناوب النصر والهزيمة والشدّة والرخاء، على المؤمنين، وإنّما يفيدهم عندما يريد الله تعالى أن يتَّخذ منهم شهداء وقدوات وقيّمين على حياة البشريّة.

فمن خلال الابتلاءات والمِحن التي تتناوب عليهم، يُؤهّلهم الله تعالى لموقع الشهادة والقيمومة على الناس، ويتَّخذ منهم شهداء وقيّمين.

ومن خلال هذه المعاناة، ومن خلال مرارة الانتكاسات وقرح الحروب وآلام المواجهة، يتكوّن في هذه الأُمّة شهداء على الناس، وأئمّة وقدوات في المجتمع، وأمثلة في الصبر والثبات والمقاومة.

إنّ النماذج الإيمانيّة الفريدة في تاريخ البشريّة، لا تتكوّن في الحياة الهادئة الوديعة الـمُترَفة، وإنّما تتكوّن في زُحام متاعب الحياة، وفي وسط متاعب العمل، وبين الدماء والدموع.

ولابدّ للمسيرة من هذه النماذج الفريدة في الإيمان والثبات، وهذه النماذج يتَّخذها الله تعالى ويختارها في ظروف المحنة والتداول:( وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ) .

٢٦٦

التَمحيصُ والتَهذيب داخل النفوس:

ولهذا التداول فائدة ثالثة في تكوين هذه الأُمّة وتقويم شخصيّتها، وذلك هو تمحيص المؤمنين وتزكيتهم، وتطهير قلوبهم من رَيب الشكِّ ومن سلطان الهوى، وتخليص نفوسهم من نقاط الضعف؛ فإنّ الشدّة والمعاناة كما تُنقِّي صفوف المؤمنين من المنافقين، كذلك تُنقِّي قلوب المؤمنين من نقاط الضعف والنفاق، والوَهن والشكّ، وتُمحّص المؤمنين.

أمّا بالنسبة إلى الكافرين، فإنّ المعاناة والمحنة تمحقهم وتهلكهم وتبيدهم، فلا يستطيع أُولئك أن يقاوموا المعاناة والمحنة.

( وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .

درجات المؤمنين في الجنّة على قدرِ معاناتهم في الدنيا:

فليس من الصحيح أن نتصوَّر أنّ كلّ مَن شهد الشهادتين وأسلم، أو آمن بالله ورسوله، يدخل الجنّة بدرجة واحدة.

فإنّ في الناس منافقين لا تتجاوز الشهادتان ألسنتهم، ولا تستقرّ في قلوبهم.

والمؤمنون درجات ومراتب في إيمانهم، فليس كلّهم بمستوى واحد من الإيمان والعمل الصالح.

فهناك المؤمنون الّذين يُؤثرون العافية على الجهاد والقتال في سبيل الله، وهناك المؤمنون المجاهدون الصابرون، ومن الخطأ أن نتصوّر أنّ هؤلاء جميعاً في الجنّة في درجة واحدة، فلكلٍّ درجته ومرتبته ومكانته عند الله.

وهذه المرتبة والمكانة تَتَحدّد في ظروف المحنة فقط، حيث يتميَّز المؤمن من المنافق، ويتميّز الصابرون عن غيرهم من المجاهدين.

٢٦٧

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

دولة الـمُوَطِّئين:

وهذه الثورة المباركة بداية انعطاف كبير في تاريخ وحضارة الإنسان، وأمْر ذو وَبال وذو خطر كبير في حياة الإنسان ومستقبله.

والّذي يستقرئ الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أهل بيته، لا يشكّ أنّ هذه الثورة، بخصائصها البارزة وقيادتها، سوف تُمهِّد للانقلاب الكبير في تاريخ الإنسان، وهو ظهور الإمام المهدي من آل محمّد (عجّل الله تعالى فَرَجَه).

وأنّ اليوم الموعود الّذي وعدَنا الله به ورسولُه، بقيام دولة الإسلام الكبرى، وتمكين الـمُستضعَفين من الأرض، وقيام الإمام المهدي بثورته الكبرى في الأرض، لقريب إن شاء الله.

وأنّ هذه الثورة توطّئ الأرض لتلك الثورة الكبرى، وتمهِّد الأُمّة لظهور وقيام القائم من آل محمّدعليه‌السلام .

وفيما يلي ننقل إضمامة من هذه الروايات:

عن عبد الله بن مسعود قال: (أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلينا مُستبشِراً، يُعرَف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلاّ أخبرنا به، ولا سكتنا إلاّ ابتدأنا، حتّى مرَّت فتية من بني هاشم، فيهم الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقُلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئاً تكرهه؟

فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وأنّه سيَلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتّى ترتفع رايات سود من المشرق، فيسألون الحقّ فلا يُعطونَه، ثُمّ يسألونه فلا يعطونَه، ثُمّ يسألونه فلا يعطونَه، فيُقاتِلون

٢٦٨

فيُنصَرون. فمَن أدركهم منكم ومِن أعقابكم، فليأت إمام أهل بيتي ولو حَبْوَاً على الثلج، فإنّها رايات هُدى، يدفعونها إلى رجُل من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، فيملك الأرض فيملؤها قِسطاً وعَدلاً كما مُلئَت جَوراً وظلماً)(1) .

وروى المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، قال: (كأنّي بقومٍ قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحقّ فلا يُعطونه، ثُمّ يطلبونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيُعطَون ما سألوا فلا يقبلونه، حتّى يقوموا، ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم(أي: المهدي عليه‌السلام ) ، قتلاهم شهداء.

أما أنّي لو أدركت ذلك، لأبقيتُ نفسي لصاحب هذا الأمر)(2) .

وروي في البحار عن بعض أصحابنا، قال: (كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالساً، إذ قرأ هذه الآية: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً ) ، فقلنا: جُعلنا فداك، مَن هؤلاء؟

فقال ثلاث مرّات: هُم والله أهل قُم، هُم والله أهل قُم، هُم والله أهل قُم)(3) .

وروي في البحار عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، قال: (رجُل مِن أهل قُم يدعو الناس إلى الحقّ، يجتمع معه قوم كزُبر الحديد، لا تزلّهم الرياح والعواصف، ولا يملُّون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكَّلون، والعاقبة للـمُتَّقين)(4) .

وروي في البحار عن علي بن ميمون الصائغ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال:

____________________

(1)أخرجه الحاكم في الـمُستدرك: ج4 / ص464 و ص553. والـمُتّقي في كنزل العمال: ج7 / ص187. وابن ماجة في سُنَنه: ج2 / ص518 و ص269. وابن حَجَر في الصواعق الـمُحرِقة: ص100. هذا الحديث.

(2)بحار الأنوار: ج51 / ص83، ج52 / ص243.

(3)بحار الأنوار: ج60 / ص216.

(4)البحار: ج60 / ص216 و 446.

٢٦٩

(وسيأتي زمان تكون بَلْدَة قُم وأهلها حُجّة على أهل الخلائق، وذلك في زمان غَيبَة قائمنا إلى ظهوره، ولولا ذلك لساخَتْ الأرضُ بأهلِها).

وروي بأسانيد أُخرى أيضاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه ذَكر الكوفة وقال: (ستَخلو كوفة من المؤمنين، ويَأزر عنها العِلم كما تأزر الحيّة، ثُمّ يظهر العِلم ببلدة يُقال لها قُم، وتصير مَعدناً للعلم والفضل، حتّى لا يبقى في الأرض مُستضعَف في الدِين، حتّى الـمُخدَّرات في الحجال، وذلك عند قُرب ظهور قائمنا.

فيجعل الله قُم وأهله قائمين مَقام الحُجّة، ولولا ذلك لساخَتْ الأرضُ بأهلِها، ولم يبق في الأرض حُجّة، فيفيض العِلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فتتمّ حُجّة الله على الخلقِ، حتّى لا يبقى أحد على الأرضِ لم يبلغ إليه الدِين والعِلم. ثُمّ يظهر القائم ويصير سبباً لنقمة الله وسَخَطه على العباد؛ لأنّ الله لا ينتقم من العباد إلاّ بعد إنكارهم حُجّته)(1) .

وقال صاحب تفسير الكشّاف في تفسير قوله تعالى:( وَإِن تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (2) .

قال: (وسُئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القوم، وكان سلمان إلى جنبِه، فضربَ على فخذه وقال: هذا وقومه)(3) .

هذه إضمامة من الروايات التي تُشير إلى استمراريّة هذه الثورة المباركة، حتّى ظهور الإمام المهدي من آل محمّدعليه‌السلام ، وأنّ هذه الثورة المباركة سوف تُمهِّد لظهور وقيام الإمام المهدي، عجّل الله فرَجه إن شاء الله.

____________________

(1)بحار الأنوار: ج60 / ص213.

(2)محمّد: 38.

(3)تفسير الكشّاف: ج4 / ص331.

٢٧٠

الـمُتخلّفون عن ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام

* الصراع في مرحلتَي التنزيل والتأويل

* خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقي

* تأمّلات في خبر الضحّاك

1 - الاعتذار - وجها الحياة الدنيا -

كيف تتحوّل العوائق إلى الـمُنطلَقات؟

2 - الاستجابة المشروطة

3 - التَحلّل من الالتزام

* الجسر الذي مَدَّه الضحّاك

إلى الدنيا من عُمقِ (الطّف)

٢٧١

٢٧٢

الـمُتخلّفون عن ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام

(الضحّاك بن عبد الله المشرقي)

( وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حَتّى‏ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنّوا أَن لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ) (1) .

الصراع في مرحلتَي التنزيل والتأويل:

مرَّت هذه الدعوة - خلال مسيرتها - بمرحلتَين من الصراع: مرحلة التنزيل، ومرحلة التأويل.

الأُولى : في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والثانية : تبدأ بخلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

في المرحلة الأُولى كان الصراع يدور حول محوَر (التنزيل)، وكانت الجاهليّة الـمُتمثّلة يوم ذاك في مشركي قريش وحُلفائها، واليهود وحُلفاؤهم، يتصدّون لنفي (التنزيل) وإنكار علاقة هذا الدِّين بالله تعالى، ونزول القرآن من لَدُنِ الله تعالى.

____________________

(1)التوبة: 118.

٢٧٣

واستمرَّ هذا الصراع قائماً في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها، وانجلى هذا الصراع عن هزيمة قريش واليهود أمام الدعوة، وانتصارها.

ويبدو لأوّل وَهلة أنّ الجاهليّة انسحبت عن مواقعها الهجوميّة أمام حركة الدعوة، واستسلمت وانقادت، إلاّ أنّنا عندما نُمعِن النظر في تاريخ الإسلام، نجد أنّ الجاهليّة بدأت تُخطِّط - بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - للالتفات على هذه الدعوة، وتحريفها والدَسّ فيها، وتشويه مفاهيمها.

وأحسَّ وَرَثة الثورة بهذه المؤامرة الجديدة، وعرفوا قادة المؤامرة، وبدأت المرحلة الثانية من الصراع حول محوَر (التأويل)، وأبرز المعارك في هذه المرحلة من الصراع: (صِفِّين) و (الطَفّ).

والذي يُنعِم النظر في التأريخ الإسلامي، يجد أنّ (صفّين) و (الطفّ) امتداد لـ (بدر) و (أُحد)، وأنّ الذين حاربوا عليّاً والحسن والحسينعليهم‌السلام ، في صفّين والطفّ، هم الّذين قاتلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل، في بدر وأُحد.

ورحم الله عمّار بن ياسر، فقد كان يقول في صفّين، لبعض مَن أنكر عليه محاربة معاوية وعمرو بن العاص:(هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟! فإنّها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله ثلاث مرّات، وهذه الرابعة، ما هي بخيرِهنّ ولا أبرَّهنّ، بل هي شَرّهنّ وأفجرهُنَّ) .

وقال لـمَن تردَّد يومئذٍ في قتال معاوية مع الإمام عليعليه‌السلام :

(أشهدتَ بدراً وأُحداً وحُنيناً، أو شهدها لك أب فيُخبرُك عنها؟

قال: لا.

قال: فإنّ مراكزنا على مراكز رايات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يوم بدر ويوم أُحد ويوم حُنَين، وإنّ هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب.

هل ترى هذا المعسكر ومَن فيه؟!

فوالله لوَددتُ أنّ جميع مَن أقبل مع

٢٧٤

معاوية، ممَّن يرى قتالنا مُفارقاً للّذي نحن عليه، كانوا خَلقاً واحداً فقطّعتُه وذبحتُه، والله لَدماؤهم جميعاً أحلّ من دم عصفور، أفترى دم عصفور حراماً؟!...) (1) .

شريحة الـمُتخلِّفين عن الصراع:

وفي كلّ صراع ثلاثة أطراف: الطرفان المتصارعان، والطرف الـمُتفرِّج الـمُتخلِّف، والطرف الثالث أكثر تعقيداً من الطرفين الآخَرَين الـمُتقاتلَين في ساحة الصرْع والقتال.

وفَهْم هذا الطرف (الـمُتفرّج) على الساحة أشقّ من فَهمِ الطرفين الآخرَين.

وقد أعطى القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بتحليل هذا الطرف بالذات، والآية المباركة الّتي صَدَّرنا بها الحديث - من سورة التوبة المباركة - واحدة من الآيات القرآنيّة، في استعراض وتحليل هذه الشريحة الـمُتخلّفة من المجتمع الإسلامي يوم ذاك.

ونحن في هذه الدراسة نحاول أن نستعرض نموذجاً من الـمُتخلّفين عن ثورة الحسينعليه‌السلام .

ندرس ونُحلِّل مواقفهم.

ولا يكاد يختلف المتخلّفون عن معركة (الطفّ) عن المتخلّفين عن معركة (حُنين) في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ حُنين تدور حول محور (التنزيل) والطفّ تدور حول محور (التأويل).

والصراع هو الصراع، ليس على أرض ولا على مال، وإنّما هو صراع حضاري حول الإسلام والجاهليّة.

وتعود الجاهليّة هذه المرَّة - بعد أن انكسرت

____________________

(1)وقعة صِفّين لنصر بن مزاحم، تحقيق عبد السلام محمّد هارون: ص321 - 322.

٢٧٥

شوكتها في بدر، وأُحد، والأحزاب، وحُنين - من داخل صفوف المسلمين، لتُعاود الصراع مع الإسلام، بتحريف الإسلام عن مسيره الصحيح، وتشويه مفاهيمه وأفكاره وأُصوله، والدسّ فيه.

والصراع هذه المرّة كأيِّ صراع حضاري، يحمل نفس الضراوة والعُنف، ولا يقبل الهدنة ولا الصلح.

ولمّا كان الصراع في الطفّ نفس الصراع في حُنين، فإنّ الـمُتخلّفين هنا هم من شريحة الـمُتخلّفين هناك، والمواقف نفس المواقف، والقوانين والسُنَن في هؤلاء وأُولئك نفسها.

ولنتأمّل في نموذج مِن هؤلاء الـمُتخلّفين عن الحسينعليه‌السلام .

خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقي:

وهذا نموذج من الـمُتخلّفين عن الحسينعليه‌السلام ، وقصّته معروفة في كُتبِ السيرة:

رافق الإمام الحسينعليه‌السلام إلى ساحة المعركة، ودخل المعركة معه، وقاتل قِتال الأبطال وأبلى بلاءً حسناً في القتال.

استحسَنَه الإمام، ولكنّه اشترط على الإمامعليه‌السلام - منذ أن التحق به - أن يجعله في حلٍّ منه، إذا دارت دائرة الحرب عليه ولم يعد ينفعه قتاله ودفاعه عنه.

فلمّا رأى أنّ المعركة قد دارت على الحسينعليه‌السلام ، ووجد أنّ الحسين وأهل بيته وأصحابهعليهم‌السلام لا مَحالَة مقتولين، ولم يعد ينفع الحسين قتاله ودفاعه، استأذن الحسينعليه‌السلام أن يترك ساحة القتال وينجو بنفسه، فأذنَ له الحسين كما وعَدَه من قبْل، فهرب الضحّاك بن عبد الله المشرقي بنفسه من ساحة المعركة، وترك الإمام ومَن معه من أهل بيته وأصحابه للقتْل في ساحة المعركة، ونَجا بنفسه.

فلنقرأ أوّلاً خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقي برواية الطبري من أبي مَخنَف،

٢٧٦

ثُمّ نحاول أن نُحلِّل هذا الخبر.

روى أبو مَخنَف عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي، قال:(قدمتُ ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين، ثُمّ جلسنا إليه، فردّ علينا فرحّب بنا، وسألَنا عمّا جئنا له.

فقلنا: جئنا لنُسلّم عليك، وندعو الله لك بالعافية، ونُحدِث بك عهداً، ونُخبرك خبر الناس.

وإنّا نُحدِّثك أنّهم قد أجمعوا على حربك، فَرِ رأيك.

فقال الحسينعليه‌السلام : (حَسبي الله ونِعم الوكيل).

قال: فتَذمَّمنا، وسلَّمنا عليه، ودعونا الله له.

قال: (فما يَمنعُكما من نُصرتي؟)

فقال مالك بن النضر: عَلَيَّ دَين ولِي عِيال، فقلتُ له: إنّ عَلَيَّ دَيناً وإنّ ليَ لَعيالاً، ولكنّك إن جَعلتَني في حلٍّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلاً، قاتلتُ عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً.

قال: (فأنت في حلّ))(1) .

قال أبو مَخنَف: حدَّثني عبد الله بن عاصم عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي، قال:(لمّا رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا وقد خلُصَ إليه وإلى أهل بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عمرو بن أبي الـمُطاع الخثعمي، وبشير بن عمرو الحضرمي، قلت له: يا بن رسول الله، قد علمت ما كان بيني وبينك: (قلت لك: أُقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف، فقلت لي: نعم)؟!

فقال: (صدقتَ، وكيف لك بالنجاة؟ إن قدرت على ذلك فأنت في حلّ).

قال: فأقبلت إلى فرَسي، وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقَر، أقبلت بها حتّى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلت أُقاتل معهم راجلاً، فقتلتُ

____________________

(1)تأريخ الطبري، طبعة ليدن: ج7 ص321.

٢٧٧

يومئذٍ بين يدي الحسين رجُلَين وقطعتُ يد آخر.

وقال لي الحسين يومئذٍ مراراً: (لا تشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيّك)،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا أذن لي، استخرجت الفرَس من الفُسطاط ثُمّ استوَيت على متنها ثمّ ضربتها، حتّى إذا قامت على السنابك رميتُ بها عَرض القوم، فأفرجوا لي، وأتبعني منهم خمسة عشر رجُلاً، حتّى انتهيت إلى (شفيّة) - قرية قريبة من شاطئ الفرات - فلمّا لحقوني عطفت عليهم، فعَرفني كثير بن عبد الله الشعبي، وأيّوب بن مشرح الخيواني، وقيس ابن عبد الله الصائدي، فقالوا: هذا الضحّاك بن عبد الله المشرقي، هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لمّا كَفَفتم عنه.

فقال ثلاثة نفَر من بني تميم كانوا معهم: بلى، والله لنُجيبنّ إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبهم.

قال: فلمّا تابع التميميّون أصحابي، كفَّ الآخرون. قال: فنَجّاني الله) (1) .

وقال السماوي في (إبصار العين):(بقيَ الضحّاك بن عبد الله المشرقي مع الحسين عليه‌السلام ، حتّى إذا أمر ابن سعد بالرُماة فرموا أصحاب الحسين، وعقروا خيولهم، أخفى فَرَسه في فُسطاط، ثمّ نظر فإذا لم يبقَ مع الحسين إلاّ سويد بن عمر، وبشر بن عمرو الحضرمي، فاستأذن الحسين، فقال له: (كيف لك النجاة)؟قال: إنّ فرَسي قد أخفيتُه فلم يُصَب، فأركبُه وأنجو، فقال له: (شأنك)، فركب ونجا بَعْد لأيٍ) (2) .

تأمّلات في خبَر الضحّاك:

أقبل الضحّاك بن عبد الله المشرقي، ومالك بن النضر الأرحبي على

____________________

(1)تأريخ الطبري، الطبعة الأوربية: ج 7 / ص 354 - 355.

ونَفَس المهموم للشيخ عباس القمّي: ص 298 - 300.

(2)إبصار العين: ص101.

٢٧٨

الحسينعليه‌السلام ؛ ليُسلّما عليه وليُجدِّدا به العهد - كما في رواية أبي مَخنَف -، ويظهر أنّ هذا اللقاء تمّ في موقع كربلاء (الطف)، بعدما استقرّ الحسينعليه‌السلام بأهله وأصحابه فيه، ولم يكن في الطريق.

وقبل أن يُحاصَر الحسينعليه‌السلام ؛ فقد استأذن مالك بن النضر الأرحبي الحسينعليه‌السلام في الانصراف، وانصرف من دون أن يواجه مشكلة من قِبل الجيش الأُمَوي.

ويظهر من الرواية أنّهما كانا عارفَين بموقع الحسينعليه‌السلام ، وحَقّه وذمّته وحُرمته في الإسلام، وموقعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ففي رواية أبي مَخنَف: (فتذمّمنا، وسلّمنا عليه، ودعونا الله له).

والتذمّم بمعنى: حفظ الذمام، وحفظ العهد والحَقّ والحُرمة، كما في الـمُدوَّنات اللُغويّة.

إذن، فهما قد عظما وأكبرا ما على ذمّتها من حقّ الحسين وحُرمته وعهده، فلمّا أرادا الانصراف، استوقفهما الحسينعليه‌السلام وقال لهما: (فما يمنعكما من نُصرتي؟).

ويُلفِت نظرنا أنّ الإمام يسألهما عمّا يمنعهما من نُصرته، قبل أن يسألهما النصرة ويدعوهما إليها.

وكأنّ في خروج الحسينعليه‌السلام على يزيد - بتلك العصابة القليلة - إلى العراق ما يُغني عن الدعوة والاستنصار، فلا حاجة مع ذلك إلى أن يستنصر أحداً أو يدعوه.

ففي خروج الحسينعليه‌السلام إلى العراق دعوة واستنصار لكلّ المسلمين، وللحسينعليه‌السلام حَقّ وحُرمة على ذمّة كلّ المسلمين.

إذن، يسأل الضحّاكَ وصاحبَه: (فما يمنعكما من نُصرتي؟).

أمّا مالك بن النضر الأرحبي، فقد أراح نفسه وأراحنا بوضوحه وصراحته

٢٧٩

في الاعتذار عن الاستجابة للحُسين والتخلّف عنه، فقال: (عليّ دَين ولِيَ عيال)، فأعرَض عنه الحسينعليه‌السلام ، وانصرف هو لشأنه، فقد أقبلت السعادة والتوفيق عليه فأعرضَ عنها.

وأمّا الضحّاك بن عبد الله المشرقي، فأجاب الحسينعليه‌السلام بجوابٍ مُعقَّد، شديد الالتواء والتعقيد، فلا هو رفضَ دعوة الحسين وأعرَض عنها، كما رفضَها صاحبُه وأعرضَ عنه، ولا هو استجاب للحسينعليه‌السلام وقبِل عنه، كما استجاب له أهل بيته وأصحابه.

ولنتأمّل في جواب الضحّاك، فإنّه يُمثِّل شريحة واسعة من النفوس والمواقف إزاء (الدعوة).

وإنّنا ندرس من خلال الضحّاك بن عبد الله في موقع الطفّ، ومن خلال الـمُتخلّفين في موقع حُنين، شريحة كبيرة في التاريخ الإسلامي، وشريحة كبيرة في تأريخنا المعاصر، ونحاول أن نرسم أبعاد هذه الشريحة في حياتنا المعاصرة، ونُشخِّص نقاط الضعف في شخصيَّتها، عسى أن نقوِّم من سلوكها ما يمكن تقويمه.

وسوف نجعل جواب الضحّاك للحسينعليه‌السلام في موضع التأمّل والدراسة، ضمن مجموعة من النقاط:

النقطة الأُولى (الاعتذار):

قدّم الضحّاك أوّل ما قدّم الاعتذار للإمامعليه‌السلام ، بما عليه من ديون ومال، شأنه في ذلك شأن صاحبه، فقال: إنّ عَلَيَّ دَيناً، وإنّ لي لَعيالاً).

وأوّل ما يُلفِت نظرنا في هذا الجواب: أنّ الضحّاك ومالك بن النضر لم يختلفا في الجواب، فكلّ منهما اعتذر عن تلبية دعوة الحسينعليه‌السلام بالعيال والدَين، غير

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402