في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208591
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208591 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فإذا استوفت هذه الأُمّة الشروط، ووضعت ثقتها في الله، وأعطت نفسها لله، وابتعدت عن التعلّق بالدنيا وحُبّها، وتخلَّصت من أهوائها، وقامت لله تعالى مثنى وفرادى؛ فإنّ الله تعالى ينصرها، طال عليها الأمر أم قصر، فإنّ ذلك وعْد الله تعالى، ولا يخلف الله وعده.

واستمعوا إلى كتاب الله الكريم وآياته البيّنات:

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ) (1) .

( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

( إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) (3) .

( فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (4) .

( وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِيراً ) (5) .

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (6) .

إنّ المعركة إذا طالَت وإذا قَسَت، فلن يتركنا الله لأعدائنا، ولن يتخلّى الله تعالى عنّا، ولن يخلف وعْده، تبارك وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

( هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (7) .

____________________

(1)الصافّات: 171 - 173.

(2)الروم: 47.

(3)غافر: 51.

(4)المائدة: 56.

(5)النساء: 45.

(6)محمّد: 7.

(7)الأحزاب: 22.

٢٦١

ليُحِقَّ الحَقَّ بكلماته ويقطع دابِر الكافرين:

وإن طالت هذه المحنة؛ فلكي يمتحِن الله قلوب عباده، ويعرف الثابتين منهم عن المهزومين، وهو العالِم بخفايا القلوب، ولكي يُثبّت الله للمؤمنين قدم صدق على أرض المعركة، ولكي يتخفَّف المؤمنون في هذا الصراع من حبِّ الدنيا والتعلّق بها، ولكي يزدادوا يقيناً بالله تعالى في هذا الصراع.

فإنّ الإنسان لا يُرزَق اليقين في ساعات الرخاء والراحة والعافية، مثل ما يناله في الابتلاء.

ولكي يتمرَّس المؤمنون على مواجهة التحدّيات الكبيرة، وتجاوز الصعاب في سبيل الله، ويزدادوا بأساً وقوّة وإيماناً، ولكي يقوى قبولهم الولاء والبراءة؛ فإنّ الولاء يقوى من خلال التضحية والعطاء، والبراءة تقوى من خلال المواجهة والقتال.

وليس هذا الصراع وما يستتبعه من آلام وعناء يخصّ هذه الثورة، أو يخصّ هذا الدِين، وإنّما هو سُنّة الله تعالى في حياة الصالحين من عباده، الذين يرتضيهم الله تعالى لرحمته، والذين يُسكنهم الله تعالى جنّته مع عباده الصادقين.

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (1) .

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ ) (2) .

إنّ نفوسنا الضعيفة لتهوى أن تقتطف النصر من أقرب وأيسر الأسباب، وأن

____________________

(1)التوبة: 16.

(2)البقرة: 214.

٢٦٢

لا يُكلّفها دِينها شيئاً، وأن نمدّ أيدينا فننال النصر والإمامة والخلافة على وجه الأرض.

ولكنّ الله الحكيم يعلم أنّ النصر إذا جاء بيُسر، وعلى غير طريق ذات الشوكة، لا يُؤهَّل الإنسان للإمامة وخلافة الله على وجه الأرض، فيريد الله تعالى لنا أن نتمرَّس ونقوى، ونُحقِّق حاكميّة دين الله في الحياة، على طريق ذات الشوكة.

( وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (1) .

واستمعوا إلى هذه الآيات البيّنات من سورة آل عمران، تشرح الصراع والعناء والمحنة، والنصر والفتح، في تسلسل رائع جميل:( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (2) .

وفي هذه الآيات المباركة من سورة آل عمران إجابات شافية، على كلّ الأسئلة الّتي تخطر على بال المؤمنين، في هذا الصراع الرهيب بين الإسلام والكفر.

تداول النصر والهزيمة في ساحة المعركة:

لقد كان المسلمون يظنّون - بعد أن نصرهم الله تعالى ببدر - أنّ النصر حليف

____________________

(1)الأنفال: 7 - 8.

(2)آل عمران: 139 - 142.

٢٦٣

الفئة المؤمنة دائماً، لا يُفارقهم ولا يعدوهم، وأنّهم إذا آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله، فلن يتخلَّف عنهم النصر في حالٍ من الأحوال.

فلمّا أذاقهم الله مُرَّ الانتكاسة في أُحد، وانتكس المسلمون في هذه المعركة عندما خالف الرُماة أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتخلَّفوا عن مواقعهم بحثاً عن الغنائم، اهتزَّت نفوس المسلمين، واهتزَّت الثقة في نفوسهم بالنصر، وعادوا يشكّون في أن تكون لهم عاقبة الأمر، وغلب الضعف على النفوس، وتمكَّن الحزن في نفوسهم على الذين استشهدوا في هذه المعركة، من سراة المسلمين، ومن الصفوة المؤمنة الذين صدقوا الله وأخلصوا له في العمل والجهاد.

فيعيد الله تعالى إلى نفوسهم الثقة بالنصر أوّلاً، ويُطمئنهم بأنّ العاقبة للمؤمنين، مهما كانت القروح والآلام والانتكاسات والعناء خلال طريق ذات الشوكة.

ويُزيل الضعف والوَهن والحزن عن نفوسهم، ويثبِّت أفئدتهم وقلوبهم بالنصر والعُلوِّ:( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) .

ثُمّ يذكِّرهم الله تعالى أنّ ما مسَّهم من القرح في الحرب لم يخصّهم فقط، وإنّما مسَّ أعداءهم أيضاً، وهذا القرح وما يصيب المقاتلين، من أذى وتعب وخسائر، من مُتطلّبات المعركة، لا يمكن أن يخصّ طرفاً دون الآخر، ولا يمكن أن تجري معركة من دون قروح:( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) .

وقد جرت سُنّة الله تعالى أن يُداول الأيّام بين الناس، فيجعل يوماً للمؤمنين على الكافرين، وآخر للكافرين على المؤمنين، وينصر هؤلاء في يوم، ويُذيقهم مُرّ الانتكاسة في يومٍ آخر، وهكذا يُداول بينهم النصر، على أنّ العاقبة للمؤمنين فقط.

٢٦٤

وهذه المداولة لا تُغيّر مشيئة الله تعالى، وتبقى العاقبة للـمُتّقين.

وإنّما يُداول الأيّام بين الناس، ويذيق المؤمنين الشدّة والرخاء، ونشوة النصر حيناً ومرارة الانتكاسة حيناً آخر؛ ليتميَّز الذين آمنوا وصدقوا في إيمانهم وثبتوا على الإيمان، عن المنافقين وضعاف النفوس وأصحاب النفوس المهزومة.

تَمْحِيص وتَهذيب المسيرة في المجتمع:

إنّ مسيرة الدعوة لو كانت محفوفة بالنصر دائماً، ومفروشة باليُسر والرخاء، تراكمت عليها العناصر المنافقة التي تُحسِن التسلُّق على الجدران العالية، أُولئك الّذين يغيبون حين البأس، ويحضرون حين توزيع الغنائم، وتطول ألسنتهم في المطالَبة بالغنائم:( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

إنّ مسيرة الدعوة إن كانت تخلو من الـمَكاره ومرارة الانتكاسات، تجمَّعت حولها طائفة واسعة من المنافقين وضعفاء النفوس، واحتلّوا منها المواقع الحسّاسة. وإذا ما تولَّت هذه الطائفة أُمور الدعوة والمسيرة، تعطَّل دَورها القيادي في حياة الناس، وفقدت الدعوة قُدرتها على التغيير والقيادة، وتحوَّلت الدعوة من طريق ذات الشوكة في مواجهة الطاغوت، إلى مسيرة مُترَفة، عامرة باللَذات ومُتَع الحياة، وفقدت كلّ إمكاناتها على العمل والتغيير والحركة، كما حصل ذلك في عصر بني أُميّة وبني العبّاس.

فلابدّ في هذه المسيرة - بين حين وآخر - من انتفاضة قويّة، يُطرَد فيها المنافقين وضعفاء النفوس عن موكب هذه الدعوة، وتستخلِص المؤمنين الأقوياء، الّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأخلصوا لله في عملهم.

فليست مسيرة هذه الدعوة كسائر ما يألَفه الناس، من مسيرات الأنظمة

٢٦٥

والحكومات التي تطلب الحياة الوديعة المترفة، والبعيدة عن المتاعب والـمُنغِّصات، فإنّ هذه الحياة الوديعة والـمُترَفة تجعل جوّ الدعوة مَرتعاً للمنافقين وضعفاء النفوس.

فإذا تعرّضت هذه المسيرة للآلام والمِحن والمصائب ومتاعب الطريق والدَم والانتكاسات الـمُرّة، صفا جوّ الدعوة للمؤمنين، وخلُصت هذه المسيرة للصفوة الصادقة من المؤمنين والمجاهدين، ويتميَّز المؤمنون عندها عن غيرهم:( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ) .

متى يتَّخذ الله الشهداء في هذه الأُمّة قيّمِين على المسيرة؟:

وليس هذا فقط فائدة تداول الأيّام، وتناوب النصر والهزيمة والشدّة والرخاء، على المؤمنين، وإنّما يفيدهم عندما يريد الله تعالى أن يتَّخذ منهم شهداء وقدوات وقيّمين على حياة البشريّة.

فمن خلال الابتلاءات والمِحن التي تتناوب عليهم، يُؤهّلهم الله تعالى لموقع الشهادة والقيمومة على الناس، ويتَّخذ منهم شهداء وقيّمين.

ومن خلال هذه المعاناة، ومن خلال مرارة الانتكاسات وقرح الحروب وآلام المواجهة، يتكوّن في هذه الأُمّة شهداء على الناس، وأئمّة وقدوات في المجتمع، وأمثلة في الصبر والثبات والمقاومة.

إنّ النماذج الإيمانيّة الفريدة في تاريخ البشريّة، لا تتكوّن في الحياة الهادئة الوديعة الـمُترَفة، وإنّما تتكوّن في زُحام متاعب الحياة، وفي وسط متاعب العمل، وبين الدماء والدموع.

ولابدّ للمسيرة من هذه النماذج الفريدة في الإيمان والثبات، وهذه النماذج يتَّخذها الله تعالى ويختارها في ظروف المحنة والتداول:( وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ) .

٢٦٦

التَمحيصُ والتَهذيب داخل النفوس:

ولهذا التداول فائدة ثالثة في تكوين هذه الأُمّة وتقويم شخصيّتها، وذلك هو تمحيص المؤمنين وتزكيتهم، وتطهير قلوبهم من رَيب الشكِّ ومن سلطان الهوى، وتخليص نفوسهم من نقاط الضعف؛ فإنّ الشدّة والمعاناة كما تُنقِّي صفوف المؤمنين من المنافقين، كذلك تُنقِّي قلوب المؤمنين من نقاط الضعف والنفاق، والوَهن والشكّ، وتُمحّص المؤمنين.

أمّا بالنسبة إلى الكافرين، فإنّ المعاناة والمحنة تمحقهم وتهلكهم وتبيدهم، فلا يستطيع أُولئك أن يقاوموا المعاناة والمحنة.

( وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .

درجات المؤمنين في الجنّة على قدرِ معاناتهم في الدنيا:

فليس من الصحيح أن نتصوَّر أنّ كلّ مَن شهد الشهادتين وأسلم، أو آمن بالله ورسوله، يدخل الجنّة بدرجة واحدة.

فإنّ في الناس منافقين لا تتجاوز الشهادتان ألسنتهم، ولا تستقرّ في قلوبهم.

والمؤمنون درجات ومراتب في إيمانهم، فليس كلّهم بمستوى واحد من الإيمان والعمل الصالح.

فهناك المؤمنون الّذين يُؤثرون العافية على الجهاد والقتال في سبيل الله، وهناك المؤمنون المجاهدون الصابرون، ومن الخطأ أن نتصوّر أنّ هؤلاء جميعاً في الجنّة في درجة واحدة، فلكلٍّ درجته ومرتبته ومكانته عند الله.

وهذه المرتبة والمكانة تَتَحدّد في ظروف المحنة فقط، حيث يتميَّز المؤمن من المنافق، ويتميّز الصابرون عن غيرهم من المجاهدين.

٢٦٧

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

دولة الـمُوَطِّئين:

وهذه الثورة المباركة بداية انعطاف كبير في تاريخ وحضارة الإنسان، وأمْر ذو وَبال وذو خطر كبير في حياة الإنسان ومستقبله.

والّذي يستقرئ الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أهل بيته، لا يشكّ أنّ هذه الثورة، بخصائصها البارزة وقيادتها، سوف تُمهِّد للانقلاب الكبير في تاريخ الإنسان، وهو ظهور الإمام المهدي من آل محمّد (عجّل الله تعالى فَرَجَه).

وأنّ اليوم الموعود الّذي وعدَنا الله به ورسولُه، بقيام دولة الإسلام الكبرى، وتمكين الـمُستضعَفين من الأرض، وقيام الإمام المهدي بثورته الكبرى في الأرض، لقريب إن شاء الله.

وأنّ هذه الثورة توطّئ الأرض لتلك الثورة الكبرى، وتمهِّد الأُمّة لظهور وقيام القائم من آل محمّدعليه‌السلام .

وفيما يلي ننقل إضمامة من هذه الروايات:

عن عبد الله بن مسعود قال: (أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلينا مُستبشِراً، يُعرَف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلاّ أخبرنا به، ولا سكتنا إلاّ ابتدأنا، حتّى مرَّت فتية من بني هاشم، فيهم الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقُلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئاً تكرهه؟

فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وأنّه سيَلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتّى ترتفع رايات سود من المشرق، فيسألون الحقّ فلا يُعطونَه، ثُمّ يسألونه فلا يعطونَه، ثُمّ يسألونه فلا يعطونَه، فيُقاتِلون

٢٦٨

فيُنصَرون. فمَن أدركهم منكم ومِن أعقابكم، فليأت إمام أهل بيتي ولو حَبْوَاً على الثلج، فإنّها رايات هُدى، يدفعونها إلى رجُل من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، فيملك الأرض فيملؤها قِسطاً وعَدلاً كما مُلئَت جَوراً وظلماً)(1) .

وروى المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، قال: (كأنّي بقومٍ قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحقّ فلا يُعطونه، ثُمّ يطلبونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيُعطَون ما سألوا فلا يقبلونه، حتّى يقوموا، ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم(أي: المهدي عليه‌السلام ) ، قتلاهم شهداء.

أما أنّي لو أدركت ذلك، لأبقيتُ نفسي لصاحب هذا الأمر)(2) .

وروي في البحار عن بعض أصحابنا، قال: (كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالساً، إذ قرأ هذه الآية: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً ) ، فقلنا: جُعلنا فداك، مَن هؤلاء؟

فقال ثلاث مرّات: هُم والله أهل قُم، هُم والله أهل قُم، هُم والله أهل قُم)(3) .

وروي في البحار عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، قال: (رجُل مِن أهل قُم يدعو الناس إلى الحقّ، يجتمع معه قوم كزُبر الحديد، لا تزلّهم الرياح والعواصف، ولا يملُّون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكَّلون، والعاقبة للـمُتَّقين)(4) .

وروي في البحار عن علي بن ميمون الصائغ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال:

____________________

(1)أخرجه الحاكم في الـمُستدرك: ج4 / ص464 و ص553. والـمُتّقي في كنزل العمال: ج7 / ص187. وابن ماجة في سُنَنه: ج2 / ص518 و ص269. وابن حَجَر في الصواعق الـمُحرِقة: ص100. هذا الحديث.

(2)بحار الأنوار: ج51 / ص83، ج52 / ص243.

(3)بحار الأنوار: ج60 / ص216.

(4)البحار: ج60 / ص216 و 446.

٢٦٩

(وسيأتي زمان تكون بَلْدَة قُم وأهلها حُجّة على أهل الخلائق، وذلك في زمان غَيبَة قائمنا إلى ظهوره، ولولا ذلك لساخَتْ الأرضُ بأهلِها).

وروي بأسانيد أُخرى أيضاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه ذَكر الكوفة وقال: (ستَخلو كوفة من المؤمنين، ويَأزر عنها العِلم كما تأزر الحيّة، ثُمّ يظهر العِلم ببلدة يُقال لها قُم، وتصير مَعدناً للعلم والفضل، حتّى لا يبقى في الأرض مُستضعَف في الدِين، حتّى الـمُخدَّرات في الحجال، وذلك عند قُرب ظهور قائمنا.

فيجعل الله قُم وأهله قائمين مَقام الحُجّة، ولولا ذلك لساخَتْ الأرضُ بأهلِها، ولم يبق في الأرض حُجّة، فيفيض العِلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فتتمّ حُجّة الله على الخلقِ، حتّى لا يبقى أحد على الأرضِ لم يبلغ إليه الدِين والعِلم. ثُمّ يظهر القائم ويصير سبباً لنقمة الله وسَخَطه على العباد؛ لأنّ الله لا ينتقم من العباد إلاّ بعد إنكارهم حُجّته)(1) .

وقال صاحب تفسير الكشّاف في تفسير قوله تعالى:( وَإِن تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (2) .

قال: (وسُئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القوم، وكان سلمان إلى جنبِه، فضربَ على فخذه وقال: هذا وقومه)(3) .

هذه إضمامة من الروايات التي تُشير إلى استمراريّة هذه الثورة المباركة، حتّى ظهور الإمام المهدي من آل محمّدعليه‌السلام ، وأنّ هذه الثورة المباركة سوف تُمهِّد لظهور وقيام الإمام المهدي، عجّل الله فرَجه إن شاء الله.

____________________

(1)بحار الأنوار: ج60 / ص213.

(2)محمّد: 38.

(3)تفسير الكشّاف: ج4 / ص331.

٢٧٠

الـمُتخلّفون عن ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام

* الصراع في مرحلتَي التنزيل والتأويل

* خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقي

* تأمّلات في خبر الضحّاك

1 - الاعتذار - وجها الحياة الدنيا -

كيف تتحوّل العوائق إلى الـمُنطلَقات؟

2 - الاستجابة المشروطة

3 - التَحلّل من الالتزام

* الجسر الذي مَدَّه الضحّاك

إلى الدنيا من عُمقِ (الطّف)

٢٧١

٢٧٢

الـمُتخلّفون عن ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام

(الضحّاك بن عبد الله المشرقي)

( وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حَتّى‏ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنّوا أَن لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ) (1) .

الصراع في مرحلتَي التنزيل والتأويل:

مرَّت هذه الدعوة - خلال مسيرتها - بمرحلتَين من الصراع: مرحلة التنزيل، ومرحلة التأويل.

الأُولى : في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والثانية : تبدأ بخلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

في المرحلة الأُولى كان الصراع يدور حول محوَر (التنزيل)، وكانت الجاهليّة الـمُتمثّلة يوم ذاك في مشركي قريش وحُلفائها، واليهود وحُلفاؤهم، يتصدّون لنفي (التنزيل) وإنكار علاقة هذا الدِّين بالله تعالى، ونزول القرآن من لَدُنِ الله تعالى.

____________________

(1)التوبة: 118.

٢٧٣

واستمرَّ هذا الصراع قائماً في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها، وانجلى هذا الصراع عن هزيمة قريش واليهود أمام الدعوة، وانتصارها.

ويبدو لأوّل وَهلة أنّ الجاهليّة انسحبت عن مواقعها الهجوميّة أمام حركة الدعوة، واستسلمت وانقادت، إلاّ أنّنا عندما نُمعِن النظر في تاريخ الإسلام، نجد أنّ الجاهليّة بدأت تُخطِّط - بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - للالتفات على هذه الدعوة، وتحريفها والدَسّ فيها، وتشويه مفاهيمها.

وأحسَّ وَرَثة الثورة بهذه المؤامرة الجديدة، وعرفوا قادة المؤامرة، وبدأت المرحلة الثانية من الصراع حول محوَر (التأويل)، وأبرز المعارك في هذه المرحلة من الصراع: (صِفِّين) و (الطَفّ).

والذي يُنعِم النظر في التأريخ الإسلامي، يجد أنّ (صفّين) و (الطفّ) امتداد لـ (بدر) و (أُحد)، وأنّ الذين حاربوا عليّاً والحسن والحسينعليهم‌السلام ، في صفّين والطفّ، هم الّذين قاتلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل، في بدر وأُحد.

ورحم الله عمّار بن ياسر، فقد كان يقول في صفّين، لبعض مَن أنكر عليه محاربة معاوية وعمرو بن العاص:(هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟! فإنّها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله ثلاث مرّات، وهذه الرابعة، ما هي بخيرِهنّ ولا أبرَّهنّ، بل هي شَرّهنّ وأفجرهُنَّ) .

وقال لـمَن تردَّد يومئذٍ في قتال معاوية مع الإمام عليعليه‌السلام :

(أشهدتَ بدراً وأُحداً وحُنيناً، أو شهدها لك أب فيُخبرُك عنها؟

قال: لا.

قال: فإنّ مراكزنا على مراكز رايات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يوم بدر ويوم أُحد ويوم حُنَين، وإنّ هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب.

هل ترى هذا المعسكر ومَن فيه؟!

فوالله لوَددتُ أنّ جميع مَن أقبل مع

٢٧٤

معاوية، ممَّن يرى قتالنا مُفارقاً للّذي نحن عليه، كانوا خَلقاً واحداً فقطّعتُه وذبحتُه، والله لَدماؤهم جميعاً أحلّ من دم عصفور، أفترى دم عصفور حراماً؟!...) (1) .

شريحة الـمُتخلِّفين عن الصراع:

وفي كلّ صراع ثلاثة أطراف: الطرفان المتصارعان، والطرف الـمُتفرِّج الـمُتخلِّف، والطرف الثالث أكثر تعقيداً من الطرفين الآخَرَين الـمُتقاتلَين في ساحة الصرْع والقتال.

وفَهْم هذا الطرف (الـمُتفرّج) على الساحة أشقّ من فَهمِ الطرفين الآخرَين.

وقد أعطى القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بتحليل هذا الطرف بالذات، والآية المباركة الّتي صَدَّرنا بها الحديث - من سورة التوبة المباركة - واحدة من الآيات القرآنيّة، في استعراض وتحليل هذه الشريحة الـمُتخلّفة من المجتمع الإسلامي يوم ذاك.

ونحن في هذه الدراسة نحاول أن نستعرض نموذجاً من الـمُتخلّفين عن ثورة الحسينعليه‌السلام .

ندرس ونُحلِّل مواقفهم.

ولا يكاد يختلف المتخلّفون عن معركة (الطفّ) عن المتخلّفين عن معركة (حُنين) في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ حُنين تدور حول محور (التنزيل) والطفّ تدور حول محور (التأويل).

والصراع هو الصراع، ليس على أرض ولا على مال، وإنّما هو صراع حضاري حول الإسلام والجاهليّة.

وتعود الجاهليّة هذه المرَّة - بعد أن انكسرت

____________________

(1)وقعة صِفّين لنصر بن مزاحم، تحقيق عبد السلام محمّد هارون: ص321 - 322.

٢٧٥

شوكتها في بدر، وأُحد، والأحزاب، وحُنين - من داخل صفوف المسلمين، لتُعاود الصراع مع الإسلام، بتحريف الإسلام عن مسيره الصحيح، وتشويه مفاهيمه وأفكاره وأُصوله، والدسّ فيه.

والصراع هذه المرّة كأيِّ صراع حضاري، يحمل نفس الضراوة والعُنف، ولا يقبل الهدنة ولا الصلح.

ولمّا كان الصراع في الطفّ نفس الصراع في حُنين، فإنّ الـمُتخلّفين هنا هم من شريحة الـمُتخلّفين هناك، والمواقف نفس المواقف، والقوانين والسُنَن في هؤلاء وأُولئك نفسها.

ولنتأمّل في نموذج مِن هؤلاء الـمُتخلّفين عن الحسينعليه‌السلام .

خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقي:

وهذا نموذج من الـمُتخلّفين عن الحسينعليه‌السلام ، وقصّته معروفة في كُتبِ السيرة:

رافق الإمام الحسينعليه‌السلام إلى ساحة المعركة، ودخل المعركة معه، وقاتل قِتال الأبطال وأبلى بلاءً حسناً في القتال.

استحسَنَه الإمام، ولكنّه اشترط على الإمامعليه‌السلام - منذ أن التحق به - أن يجعله في حلٍّ منه، إذا دارت دائرة الحرب عليه ولم يعد ينفعه قتاله ودفاعه عنه.

فلمّا رأى أنّ المعركة قد دارت على الحسينعليه‌السلام ، ووجد أنّ الحسين وأهل بيته وأصحابهعليهم‌السلام لا مَحالَة مقتولين، ولم يعد ينفع الحسين قتاله ودفاعه، استأذن الحسينعليه‌السلام أن يترك ساحة القتال وينجو بنفسه، فأذنَ له الحسين كما وعَدَه من قبْل، فهرب الضحّاك بن عبد الله المشرقي بنفسه من ساحة المعركة، وترك الإمام ومَن معه من أهل بيته وأصحابه للقتْل في ساحة المعركة، ونَجا بنفسه.

فلنقرأ أوّلاً خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقي برواية الطبري من أبي مَخنَف،

٢٧٦

ثُمّ نحاول أن نُحلِّل هذا الخبر.

روى أبو مَخنَف عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي، قال:(قدمتُ ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين، ثُمّ جلسنا إليه، فردّ علينا فرحّب بنا، وسألَنا عمّا جئنا له.

فقلنا: جئنا لنُسلّم عليك، وندعو الله لك بالعافية، ونُحدِث بك عهداً، ونُخبرك خبر الناس.

وإنّا نُحدِّثك أنّهم قد أجمعوا على حربك، فَرِ رأيك.

فقال الحسينعليه‌السلام : (حَسبي الله ونِعم الوكيل).

قال: فتَذمَّمنا، وسلَّمنا عليه، ودعونا الله له.

قال: (فما يَمنعُكما من نُصرتي؟)

فقال مالك بن النضر: عَلَيَّ دَين ولِي عِيال، فقلتُ له: إنّ عَلَيَّ دَيناً وإنّ ليَ لَعيالاً، ولكنّك إن جَعلتَني في حلٍّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلاً، قاتلتُ عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً.

قال: (فأنت في حلّ))(1) .

قال أبو مَخنَف: حدَّثني عبد الله بن عاصم عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي، قال:(لمّا رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا وقد خلُصَ إليه وإلى أهل بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عمرو بن أبي الـمُطاع الخثعمي، وبشير بن عمرو الحضرمي، قلت له: يا بن رسول الله، قد علمت ما كان بيني وبينك: (قلت لك: أُقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف، فقلت لي: نعم)؟!

فقال: (صدقتَ، وكيف لك بالنجاة؟ إن قدرت على ذلك فأنت في حلّ).

قال: فأقبلت إلى فرَسي، وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقَر، أقبلت بها حتّى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلت أُقاتل معهم راجلاً، فقتلتُ

____________________

(1)تأريخ الطبري، طبعة ليدن: ج7 ص321.

٢٧٧

يومئذٍ بين يدي الحسين رجُلَين وقطعتُ يد آخر.

وقال لي الحسين يومئذٍ مراراً: (لا تشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيّك)،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا أذن لي، استخرجت الفرَس من الفُسطاط ثُمّ استوَيت على متنها ثمّ ضربتها، حتّى إذا قامت على السنابك رميتُ بها عَرض القوم، فأفرجوا لي، وأتبعني منهم خمسة عشر رجُلاً، حتّى انتهيت إلى (شفيّة) - قرية قريبة من شاطئ الفرات - فلمّا لحقوني عطفت عليهم، فعَرفني كثير بن عبد الله الشعبي، وأيّوب بن مشرح الخيواني، وقيس ابن عبد الله الصائدي، فقالوا: هذا الضحّاك بن عبد الله المشرقي، هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لمّا كَفَفتم عنه.

فقال ثلاثة نفَر من بني تميم كانوا معهم: بلى، والله لنُجيبنّ إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبهم.

قال: فلمّا تابع التميميّون أصحابي، كفَّ الآخرون. قال: فنَجّاني الله) (1) .

وقال السماوي في (إبصار العين):(بقيَ الضحّاك بن عبد الله المشرقي مع الحسين عليه‌السلام ، حتّى إذا أمر ابن سعد بالرُماة فرموا أصحاب الحسين، وعقروا خيولهم، أخفى فَرَسه في فُسطاط، ثمّ نظر فإذا لم يبقَ مع الحسين إلاّ سويد بن عمر، وبشر بن عمرو الحضرمي، فاستأذن الحسين، فقال له: (كيف لك النجاة)؟قال: إنّ فرَسي قد أخفيتُه فلم يُصَب، فأركبُه وأنجو، فقال له: (شأنك)، فركب ونجا بَعْد لأيٍ) (2) .

تأمّلات في خبَر الضحّاك:

أقبل الضحّاك بن عبد الله المشرقي، ومالك بن النضر الأرحبي على

____________________

(1)تأريخ الطبري، الطبعة الأوربية: ج 7 / ص 354 - 355.

ونَفَس المهموم للشيخ عباس القمّي: ص 298 - 300.

(2)إبصار العين: ص101.

٢٧٨

الحسينعليه‌السلام ؛ ليُسلّما عليه وليُجدِّدا به العهد - كما في رواية أبي مَخنَف -، ويظهر أنّ هذا اللقاء تمّ في موقع كربلاء (الطف)، بعدما استقرّ الحسينعليه‌السلام بأهله وأصحابه فيه، ولم يكن في الطريق.

وقبل أن يُحاصَر الحسينعليه‌السلام ؛ فقد استأذن مالك بن النضر الأرحبي الحسينعليه‌السلام في الانصراف، وانصرف من دون أن يواجه مشكلة من قِبل الجيش الأُمَوي.

ويظهر من الرواية أنّهما كانا عارفَين بموقع الحسينعليه‌السلام ، وحَقّه وذمّته وحُرمته في الإسلام، وموقعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ففي رواية أبي مَخنَف: (فتذمّمنا، وسلّمنا عليه، ودعونا الله له).

والتذمّم بمعنى: حفظ الذمام، وحفظ العهد والحَقّ والحُرمة، كما في الـمُدوَّنات اللُغويّة.

إذن، فهما قد عظما وأكبرا ما على ذمّتها من حقّ الحسين وحُرمته وعهده، فلمّا أرادا الانصراف، استوقفهما الحسينعليه‌السلام وقال لهما: (فما يمنعكما من نُصرتي؟).

ويُلفِت نظرنا أنّ الإمام يسألهما عمّا يمنعهما من نُصرته، قبل أن يسألهما النصرة ويدعوهما إليها.

وكأنّ في خروج الحسينعليه‌السلام على يزيد - بتلك العصابة القليلة - إلى العراق ما يُغني عن الدعوة والاستنصار، فلا حاجة مع ذلك إلى أن يستنصر أحداً أو يدعوه.

ففي خروج الحسينعليه‌السلام إلى العراق دعوة واستنصار لكلّ المسلمين، وللحسينعليه‌السلام حَقّ وحُرمة على ذمّة كلّ المسلمين.

إذن، يسأل الضحّاكَ وصاحبَه: (فما يمنعكما من نُصرتي؟).

أمّا مالك بن النضر الأرحبي، فقد أراح نفسه وأراحنا بوضوحه وصراحته

٢٧٩

في الاعتذار عن الاستجابة للحُسين والتخلّف عنه، فقال: (عليّ دَين ولِيَ عيال)، فأعرَض عنه الحسينعليه‌السلام ، وانصرف هو لشأنه، فقد أقبلت السعادة والتوفيق عليه فأعرضَ عنها.

وأمّا الضحّاك بن عبد الله المشرقي، فأجاب الحسينعليه‌السلام بجوابٍ مُعقَّد، شديد الالتواء والتعقيد، فلا هو رفضَ دعوة الحسين وأعرَض عنها، كما رفضَها صاحبُه وأعرضَ عنه، ولا هو استجاب للحسينعليه‌السلام وقبِل عنه، كما استجاب له أهل بيته وأصحابه.

ولنتأمّل في جواب الضحّاك، فإنّه يُمثِّل شريحة واسعة من النفوس والمواقف إزاء (الدعوة).

وإنّنا ندرس من خلال الضحّاك بن عبد الله في موقع الطفّ، ومن خلال الـمُتخلّفين في موقع حُنين، شريحة كبيرة في التاريخ الإسلامي، وشريحة كبيرة في تأريخنا المعاصر، ونحاول أن نرسم أبعاد هذه الشريحة في حياتنا المعاصرة، ونُشخِّص نقاط الضعف في شخصيَّتها، عسى أن نقوِّم من سلوكها ما يمكن تقويمه.

وسوف نجعل جواب الضحّاك للحسينعليه‌السلام في موضع التأمّل والدراسة، ضمن مجموعة من النقاط:

النقطة الأُولى (الاعتذار):

قدّم الضحّاك أوّل ما قدّم الاعتذار للإمامعليه‌السلام ، بما عليه من ديون ومال، شأنه في ذلك شأن صاحبه، فقال: إنّ عَلَيَّ دَيناً، وإنّ لي لَعيالاً).

وأوّل ما يُلفِت نظرنا في هذا الجواب: أنّ الضحّاك ومالك بن النضر لم يختلفا في الجواب، فكلّ منهما اعتذر عن تلبية دعوة الحسينعليه‌السلام بالعيال والدَين، غير

٢٨٠