في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208534
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208534 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنّ الضحّاك استجاب لدعوة الحسين، استجابةً محدودة ومُقيَّدة ومشروطة، بعد أن اعتذر أوّلاً، وأمّا صاحبه الأرحبي، فلم يَستجب مُطلَقاً لدعوته.

وفي هذا الاعتذار والاستجابة المشروطة، من التعقيد ما ليس في موقف صاحبه، وقد كان أحرى به أن يستجيب استجابة محدودة ثمّ يعتذر. فلماذا قدّم الاعتذار على الاستجابة؟

إنّ في الأمر لسرّاً كامناً في أعماق نفس الضحّاك، فعندما طلب الحسينعليه‌السلام منه النصرة، تزاحمت في نفسه حالة الشُحّ وحالة الإنفاق، فغلبت حالة الشحّ حالة الإنفاق، وسبقتها إلى البروز، ولكن لم تُصادِر الحالة الأُخرى تماماً، كما كان في موقف مالك بن النضر الأرحبي.

ولنتأمّل إذن في اعتذار الضحّاك بعياله وديونه.

إنّ الابتلاء بالدَين والعيال من سُنَن الله في حياة الإنسان، وقلّما يشذّ عنه إنسان، شأنهما في ذلك شأن غيرهما من سُنَن الله تعالى في حياة الإنسان.

فلابدّ للإنسان من عيال، ولابدّ أن يدخل مع الناس في بيع وشراء، فيكون دائناً ومَديناً، يطلب الناس ويطلبونه.

وجها الحياة الدنيا:

والدَين والعيال هما وجهان مُختلفان للدنيا، فالعيال تعبير عن تعلّق الإنسان بالدنيا، وهو أحد وجهَي الدنيا، وهو ما يُسمّيه القرآن الكريم بـ (الشهَوات)، وتجمع هذه الآية الكريمة طائفة من هذه التعلّقات:

( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَه ُ

٢٨١

حُسْنُ الْمَآبِ ) (1) .

والدَين هو الوجه الآخر للدنيا، وهو وجه التَبعات والمسؤوليّات.

والدنيا هي عبارة عن تعلّقات وتَبعات، ومن أجل لذّة التعلّقات يتحمّل الإنسان مرارة التَبعات، ولابدّ لكلّ إنسان من هذه التعلّقات ومن هذه التبعات، ولا يشذّ عن هذه السُنّة الإلهيّة في الحياة إلاّ القليل.

وهذه (التعلّقات) و (التَبعات) بمجموعها، هي العوائق في طريق الإنسان وحركته إلى الله تعالى، تُعيق الإنسان عن الله سبحانه، وقد أعاقتا - في هذه القضيّة - مالك بن النضر الأرحبي، إعاقة كاملة، وأعاقتا الضحّاك بن عبد الله المشرقي إعاقة ناقصة.

فكيف نتعامل نحن في الدنيا مع هذه العوائق؟ وما هو موقف الإسلام منها؟

إنّ الحلّ الذي يُعطيه الإسلام للتعامل مع هذه العوائق (التعلّقات والتَبعات) دقيق في غاية الدقّة، وأكثر الّذين شَطّوا في فهْمِ الحلّ الإسلامي لمسألة الدنيا بوجهيها، كانوا ضحيّة عدم الدقّة في تناول هذا الحلّ بأبعاده الكاملة.

فليس في الإسلام أن يتخلّى الإنسان عن عيال أو دَين، أو حتّى أن يتخفّف عنهما، والتخلّي أو التخفّف من العيال والمال من الرهبانيّة الّتي يرفضها الإسلام.

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش مع الناس، ويتزوّج ويتعامل مع الدنيا، كما يتعامل غيره، وكان له عيال وعليه ديون وتبِعات كما كان لغيره، وكان له بيت يضمّ عياله، وكان يدخل السوق في حاجاته وشؤونه كما كان الآخرون يعملون.

وقِوام الحلّ الإسلامي هو: أن يتحرَّر الإنسان من أسرِ العيال والمال، وليس أن يتخلّى أو يتخفّف منهما، وبين الأمرين بَوْن بعيد، فليس من الإسلام أن يتخلّى

____________________

(1)آل عمران: 14.

٢٨٢

الإنسان أو يتخفّف من عياله وماله، ولكن من صلبِ الإسلام وتعليماته وتوجيهاته أن يتحرَّر الإنسان من سلطان عياله وماله.

فلا يرفض الإسلام البيت أو السوق في حياة الإنسان، ولا يأمره أن يعتزل هذا أو ذاك، ولكن يرفض أن يتحوَّل البيت أو السوق إلى سجن في حياة الإنسان، يقيِّدان حركته ويمنعانه عن الانطلاق، ويحجزانه ويُعيقانه عن الله تعالى.

وبشكل أوضح وتعبير أدقّ، إنّ الإسلام يرفض أن يتحولّ العيال والمال في حياة الإنسان إلى عوائق، تعيق حركة الإنسان، كما أعاقت حركة مالك بن النضر الأرحبي، والضحّاك بن عبد الله المشرقي.

كيف تتحوّل العوائق إلى مُنطلَقات؟:

ومن عجَبٍ أنّ الطريقة الإسلاميّة الصحيحة للتعامل مع وجهي الحياة الدنيا، تحوُّل هذين الوجهين من الدنيا (التبِعات والتعلّقات) من عوائق إلى مُنطلَقات، فتكون الدنيا للإنسان مُنطلَقاً إلى الله سبحانه وليست عائقاً، ويكون ماله وعياله مادّة لحركته إلى الله تعالى، ومُنطلَقاً لعروجه إليه عزّ وجلّ.

وإلى هذه الحقيقة يُشير الإمام عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلمته، وقد سمع رجلاً يذمّ الدنيا، فقال له فيما قال:

(إنّ الدنيا دار صدقٍ لِمَن صَدَقها، ودار عافية لـمَن فَهِمَ عنها، ودار غِنى لـمَن تزوَّد منها، ودار موعظة لـمَن اتّعظَ بها، مسجد أحبّاء الله، ومُصلّى ملائكة الله، ومَهبط وحي الله، ومَتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة، فمَن ذا يذمُّها، وقد آذنت بِبَينِها(1) ، ونادت بفِراقها، ونعَتْ نفسها وأهلها، فمثَّلت

____________________

(1)بَينِها: بُعدها وزوالها عنهم.

٢٨٣

لهم ببلائها البلاء، وشوَّقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية، وابتَكَرَت(1) بفجيعةٍ ترغيباً وترهيباً، وتخويفاً وتحذيراً، فذمَّها رجال غَدَاةَ الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكَّرتهُم الدنيا فتذكّروا، وحدَّثتهم فصدَّقوا، ووَعظتهُم فاتّعظوا)(2) .

ويقولعليه‌السلام في كلمة أُخرى: (الدنيا دار مَمَرٍّ، لا دار مَقرٍّ، والناس فيها رَجُلان، رجلٌ باع نفسه فأوبَقَها، ورجلٌ ابتاعَ نفسه فأعتَقَها)(3) .

مقارنة بين زُهير بن القَين (رحمه الله) والضحّاك:

ولقد كان زهير بن القين (رحمه الله) يملك من المال والعيال ما كان يملكه الضحّاك ابن عبد الله، وكان يعيش في دنياه كما كان يعيش الضحّاك في دنياه، بل قد يكون حظّ زهير من الدنيا أعظم من حظِّ الضحّاك.

فقد كان زهير بن القين (رحمه الله) زعيماً في قومه، وجيهاً في بَلَدِه، ولم يحفل المؤرِّخون بأمر الضحّاك وصاحبه في شأنٍ من شؤون الدنيا، وكان الضحّاك أقرب إلى الحسينعليه‌السلام ، وأكثر مَيلاً إليه من زهير، فقد كان زهير (رحمه الله) عُثمانيّ الهوى، كما يذكر أصحاب السِيَر، وكان يحرص ألاّ يلتقي الحسينعليه‌السلام بمنزلٍ في طريقه إلى العراق، فإذا وجد الحسين قد نزل منزلاً فيه ماء، نزل غيره.

وأمّا الضحّاك وصاحبه مالك بن النضير، فقد قصدا الحسين في كربلاء، وجلسا إليه ودَعوا له، ولم يكن يحدث شيء من ذلك لو لم يكن الضحّاك ومالك بن النضر من شيعة الحسينعليه‌السلام ، وممَّن تميل إليه قلوبهم.

____________________

(1)ابتَكَرَت: أصبحت تبتكر، أي تصيح.

(2)نهج البلاغة: باب الحِكَم / الحكمة رقم: 126.

(3)نهج البلاغة: باب الحِكَم / الحكمة رقم: 128.

٢٨٤

ومع ذلك كلّه، فإنّ (العيال و المال) قد أعاقاهما عن الالتحاق به بشكلٍ كامل، أو بشكلٍ ناقص.

وأمّا زهير بن القَين (رحمه الله)، فقد رجع من عند الحسينعليه‌السلام ، ولم يستغرق اجتماعه بالإمام في أغلب الظنِّ بِضْع دقائق، وقد أعدّ نفسه للوفود على الله مع الحسين، والانصراف الكامل عن الدنيا، فأقبل إلى زوجته (دَلْهم) بنت عمرو (رحمها الله) وقال لها بقوّة وعزم، وفي نفس الوقت بسهولة وراحة: (الحقي بأهلك، فانّي لا أُحبّ أن يُصيبك بسببي إلاّ خيراً)، ثُمّ قال لـمَن معه: (مَن أحبَّ منكم نصرة ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ فهو آخر العهد)(1) ، ولم يَعقه عن ذلك مال ولا عيال.

وقد كانت زوجته (دلْهم) (رحمها الله) هي الّتي دفعته وشجَّعته على الاستجابة لدعوة الحسينعليه‌السلام ، فقد أصابه وأصاب رِفاقه ذُعر غريب عندما جاء رسول الحسين، وهو على الطعام يدعوه إلى زيارة الإمام، فصمتَ وصمتوا، وكأنّ على رؤوسهِم الطير.

فاخترقت المرأة المؤمنة الشجاعة (دلهم بنت عمرو) (رحمها الله) هذا الصمت والذعر بقوّة، وقالت لزوجها - ورسول الحسين يسمعها ويشهد الموقف -: (سبحان الله، أيبعث إليك ابن بنت رسول الله ثُمَّ لا تأتيه، لو أتيته فسمعت كلامه؟!)(2) .

ومع ذلك، فلم يَتَوان زهير - عندما قرَّر الوفود على الله تعالى مع الحسين - أن يقول لزوجته دلهم - هذه المرأة الشجاعة -: (الْحقي بأهلك).

إذن، ليست المسألة مسألة المال والعيال، وإنّما المسألة في أمر آخر، في طريقة

____________________

(1)مقتل الحسينعليه‌السلام ، للسيّد عبد الرزاق المقرّم: ص 188.

(2)حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ، للشيخ القرشي: ج 3 / ص 67.

٢٨٥

التعامل مع المال والعيال.

والفرْق بين الضحّاك وزهير (رحمه الله) لم يكن في أنّ الأوّل كان يملك من المال والعيال ما لا يملكه الثاني، وإنّما كان في طريقة تعاملهما مع المال والعيال.

فقد كان الضحّاك وصاحبه الأرحبي أسيرَين للمال والعيال، فأعاقهما عن الانطلاق مع الحسين، وكان زهير بن القَين مُتحرِّراً من أَسرِ المال والعيال، فلم يُعيقاه عن الحركة مع الحسينعليه‌السلام للوفود على الله.

النقطة الثانية: (الاستجابة الـمَشروطة):

والنقطة الثانية في جواب الضحّاك أنّه لم يرفض القتال إلى جانب الحسينعليه‌السلام ، ولم يعتذر بصورة مُطلَقة، كما اعتذر صاحبه مالك بن النضر، بل قاتل مع الحسين، وضربَ الأعداء بين يديه، ودعا له الحسينعليه‌السلام .

وهذه نقطة أُخرى مُشرِقة في موقف الضحّاك من الحسين، فهو ليس من الذين وصفَهم الفرزدق الشاعر بقوله: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)، وإنّما كان قلبه وسيفه مع الإمام الحسين، وهو صادق في هذا وذاك، إلاّ أنه لم يعط سيفه للحسينعليه‌السلام ، ولم يضع سيفه تحت أمر الحسين إلاّ بمقدار، وحدَّد لذلك شَرطَين: (إذا لم أجد مُقاتلاً، قاتلت عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً)، وهذا شرط غريب!

إنّ الضحّاك يحصر نصرته للحسينعليه‌السلام بين شرطَين:

1 - أن يكون الحسينعليه‌السلام بحاجة إليه، ولا يُغني عنه غيره.

2 - وأن يكون قتاله دون الحسينعليه‌السلام نافعاً له، فإن لم يكن هذا أو لم يكن ذلك، فإنّ الضحّاك في حلِّ من أمره.

ونحن لا يُعجبنا أنّ نشكِّك في صِدق نيّة الضحّاك في موقفه من الإمام، رَغمَ

٢٨٦

فراره من الزحف في اللحظات الأخيرة، وتركه الإمامعليه‌السلام في أحرجِ اللحظات، وإيثاره للعافية، فإنّ لدينا - مع كلّ ذلك - من الشواهد ما يكفي لإثبات حُسن نيّة الضحّاك، وصِدقه في الوقوف إلى جنبِ الإمام والدفاع عنه، إلاّ أنّنا نجد عنده إحساسا محدوداً بالمسؤوليّة تجاه الموقف، وتَقتِيراً شديداً في العطاء في إطارِ هذه المسؤوليّة، ومحاولة جادّة في إخضاع الإنفاق في سبيل الله لـمُعادَلات دقيقة شديدة التعقيد.

فهو يُعطي من نفسه لله تعالى، ولكنّه عطاء مشروط ومحدود وبحساب، وضمن تقديرات دقيقة، وليس كما يقول الله تعالى:

( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ ) (1) .

والدقّة في المحاسبة، والمحاسبة الدقيقة أمرٌ جيّد، لا نشكّ في حُسنه وفائدته، ولكن عندما يكون طرف المحاسبة هو نفس الإنسان، وقد ورد في الحديث: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا)، وأمّا عندما يكون طرف الحساب هو الله تعالى، فإنّ المحاسبة بهذه الدقّة، وضمن هذه الشروط والقيود أمر قبيح مع الله سبحانه.

والضحّاك هنا يتعامل مع الله تعالى، وإن كان طرف التعامل في ظاهر الأمر هو الحسينعليه‌السلام .

ولا يطلب الحسينعليه‌السلام أمثال الضحّاك في حركته هذه، وإنّما يطلب لنصرته أُولئك الّذين يبذلون كلّ ما عندهم من الأنفُس والأموال لله تعالى، من دون حساب وشروط وحدود وقيود.

فقد خطبعليه‌السلام في الناس لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق وقال:

____________________

(1)التوبة: 111.

٢٨٧

(ألا ومَن كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله)(1) .

ولا شكّ أنّ هذا العطاء الشحيح خير من النضوب على كلّ حال، ولكن أصحاب هذه العطاء المحدود لا يستطيعون أن يُسايروا الحسينعليه‌السلام في مثل هذه المرحلة.

وأعتقد أنّ عبارة (لم يوافق) في هذا الموضوع تساوي عبارة (لم يستطع)؛ فإنّ الضحّاك (لم يوافق) أن يُقاتِل من دون الحسين بلا حدود وقيود، وبنفس الملاك (لم يستطع) أن يُساير الحسين إلى الشوط الأخير من رحلته.

العلاقة بين العمل والجزاء:

إنّ العمل والجزاء نوعان من العطاء.

العمل: ما يقدّمه الإنسان لله تعالى:( اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (2) ، والجزاء: عطاء الله للإنسان في مقابل عمله.

العمل من الإنسان، والجزاء من الله سبحانه، وبين الجزاء والعمل صِلة وعلاقة يستعرضها القرآن الكريم بدقّة وتفصيل، ولسنا الآن بصدَدها، وإنّما نحن بصدَد اختلاف الجزاء من عند الله باختلاف العمل من جانب الإنسان، من حيث الحساب واللاحساب، وهي مسألة جديرة بالاهتمام وموضع الشاهد في حديثنا هذا، فإنّ عطاء الإنسان محدود على كلّ حال، إلاّ أنّه قد يُعطى لله تعالى بحساب ومقدار، وقد يعطى من دون حساب وتقدير.

____________________

(1)مقتل الحسينعليه‌السلام ، للسيّد المقرّم، منشورات مؤسّسة البعثة - طهران: ص 166.

واللهوف على قتلى الطفوف، للسيّد ابن طاووس: ص 33. وابن نما: ص 20.

(2)آل عمران: 97.

٢٨٨

وهاتان طائفتان من الناس:

1 - طائفة تعطي لله بحساب وتقدير، كالضحّاك بن عبد الله المشرقي، يعطي لله شيئاً ويحتفظ لنفسه بشيء، وإذا تواردت على شيء إرادة الله تعالى وهواه، قدّمَ هواه على إرادة الله سبحانه.

2 - وطائفة أُخرى تعطي لله ما آتاها الله تعالى، من غير حساب ولا تقدير، وهؤلاء هم الّذين تقول عنهم الآية الكريمة:

( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ ) (1) .

هؤلاء اشترى منهم الله أنفسهم، وباعوها لله تعالى، وقطعوا علاقتهم بأنفسهم، فهي لله عزّ وجلّ، اشتراها منهم، ولا شأن له بها بعد، يصنع بها ما يشاء، والثمن مقبوض (بأنّ لهم الجنّة).

فقد تمّ البيع وتمّ الشراء، وتمّ استلام الثمن، فلا يملك المؤمن من نفسه وماله إذَن شيئاً، ليملك التقدير والحساب في عطائه وبَذلِه، فهي كلّها لله تعالى، يأخذ منها ما يشاء ويدع منها ما يشاء، والله تعالى يجزي هؤلاء وأُولئك على نحوين من الجزاء: جزاء محسوب ومحدود، وجزاء من غير حساب، وها نحن نشرح تفصيل هذا الأمر:

إنّ الأجْر الذي يعطيه الله لعباده في مقابل أعمالهم كريم وعظيم، وكبير وحسن وغير ممنون، وهذه خمسة أوصاف للأجر الذي يرزق الله عباده على حسناتِهم.

____________________

(1)التوبة: 111.

٢٨٩

1 - فهو أجْر كريم: ( مَن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (1) .

2 - وهو أجر عظيم: ( لِلّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ، ( وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) .

3 - وهو أجر كبير: ( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) (3) ،( فَالّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (4) .

4 - وهو أجر حسَن: ( فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً ) (5) .

5 - وهو أجر غير ممنون: ( وَإِنّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) (6) ،( إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (7) .

وهذه الأوصاف الخمسة عامّة شاملة لكلّ أجْرٍ يرزقه الله عباده، ممَّن يعطي لله بلا حساب أو بحساب، إلاّ أنّ الذين يعطون لله تعالى من دون حساب وتقدير، يُحاسبهم الله في السيّئات حساباً يسيراً:( فَأَمّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (8) .

____________________

(1)الحديد: 11.

(2)آل عمران: 97.

(3)فاطر: 7.

(4)الحديد: 7.

(5)الفتح: 16.

(6)القلم: 3.

(7)التين: 6.

(8)الانشقاق: 7 و 8.

٢٩٠

هذا في حساب السيّئات، أمّا في الحسنات، فإنّ لله تعالى نوعين من الأجر: أجر محدود وبحساب، وأجر غير محدود ومن دون حساب.

والأوّل منهما للّذين يعطون لله تعالى بحساب وتقدير، والثاني منهما للّذين يعطون لله تعالى من أموالهم وأنفسهم بلا حساب وتقدير.

وليس معنى الحساب والتقدير من جانب الله المساواة بين العمل والجزاء، في الحجم والكَم، وإنّما معناه: وجود التناسب بين العمل والأجر.

وأمّا عندما يكون عطاء العبد لله من دون حساب، فإنّ جزاء الله تعالى له يكون من غير حساب وتقدير. يقول سبحانه:

( إِنّمَا يُوَفّي الصّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وتستوقفنا هذه الآية المباركة من سورة النور طويلاً في شأن الجزاء، عندما يكون العمل من جانب الإنسان من غير حساب:( رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزيدَهُم مِن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .

وهذه ثلاث خصائص للجزاء الإلهي:

الخاصيّة الأُولى: ( لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ) .

فالجزاء من عند الله ليس بأسوأ ما يعمل العبد، ولا بمتوسّط ما يعمل العبد، وإنّما بأحسن ما يعمله.

ولابدّ من توضيحٍ لهذه الفقرة من الآية الكريمة؛ فإنّ للناس في الجزاء طريقين معروفين:

____________________

(1)الزمر: 10.

(2)النور: 37 - 38.

٢٩١

1 - الجزاء بأسوَأ ما يعمل الطرف الآخر. فقد يُحسِن الإنسان إلى صاحبه عُمْراً طويلاً، ثُمّ يُسيء إليه مرّة واحدة، فيجعل صاحبه هذه الإساءة ميزاناً لعلاقته به، وينسى كلّ ما سبق له من فضل وإحسان إليه، وهذا هو الجزاء بالأسوأ.

2 - وقد يكون الجزاء فيما بين الناس بأوسط ما يفعلون. كما يُقدِّر الـمُدرِّسون درجات طلاّبِهم بأوسط إجاباتهم في الامتحانات، وهو الحساب بالـمُعدَّلات.

والله تعالى لا يجزي عباده بأسوأ ما يعملون، ولا يجزيهم بأوسط ما يعملون، وإنّما يجزيهم بأحسن ما عملوا، وله الحمد ربّ العالمين.

والخاصيّة الثانية للجزاء - في هذه الآية المباركة -هي: ( وَيَزيدَهُم مِن فَضْلِهِ ) .

ولا علاقة لهذا بأعمالهم إطلاقاً، فهو تعالى يزيدهم في الجزاء من فضله بما يشاء وكيفما يشاء.

والخاصيّة الثالثة: ( وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .

وهذا أعظم ما في هذه الآية؛ فإنّ رزق الله تعالى لعباده يوم القيامة في مقابل حسناتهم رزق من غير حساب ولا تقدير، فإنّ العبد لو كان يعطي لربِّه ممّا آتاه من غير حدود ولا حساب، فإنّ الله تعالى أولى بأن يعطي عبده يوم القيامة من غير حدود ولا حساب.

النقطة الثالثة (التَحلّل من الالتزام):

بعد أن يعتذر الضحّاك إلى الحسينعليه‌السلام بديونه وعياله، يطلب من الإمام أن يجعله في حلٍّ من الانصراف إذا شاء، فيقول: (ولكنّك إن جعلتَني في حلٍّ من الانصراف، إذا لم أجد مقاتلاً قاتلتُ عنك).

والحلّ في مقابل الالتزام، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بالتزامين مُتعاكسَين في وقت واحد، فإذا كان الضحّاك مُلتزِماً

٢٩٢

تجاه ديونه وعياله، فمن الطبيعي أنّه لا يستطيع أن يكون مُلتزِماً تجاه الإمام، ولابدّ من أن يتحرَّر من أحد الالتزامَين، وقد آثر أن يتحرَّر من التزامه تِجاه الحسين، دون التزامه تجاه ديونه وعياله، والالتزام تجاه الحسين هو الالتزام تجاه الدعوة والجهاد.

(التزام) و (حِلّ):

والضحّاك يكشف لنا هنا عن موقف غريب، في سلوكه وتعامله مع عياله وماله من طرف، ومع الله تعالى من طرفٍ آخر.

ولابدّ من أن نكشف في هذه الوقفة هذا الموقف؛ لتكتمل عندنا الصورة الّتي نريد أن نرسمها للضحّاك، من خلال جوابه للحسينعليه‌السلام .

فهو يطرح أوّلاً عُذره من خلال التزامه بالنسبة إلى عياله وديونه، ثُمّ يطلب ثانياً منه أن يكون في حِلٍّ من أمره عندما يريد الانصراف، إذا لم يجد قتاله من دونه نافعاً له.

ثُمّ يعرض على الحسينعليه‌السلام استعداده للقتال والدفاع عنه، بصورة محدودة ومُقيَّدة.

فهو حسب هذا التسلسل - الّذي نجده في جوابه للإمام - يُقدِّم التزامه تجاه عياله وديونه أوّلاً، ثُمّ يطلب من الحسينعليه‌السلام أن يكون في حلٍّ من أمرهِ ثانياً.

وواضح أنّ هذا الالتزام الّذي يحرص عليه الضحّاك تجاه الدنيا، وهذا الحِلّ الّذي يطلبه الضحّاك من الحسين تجاه الله، أمرٌ غريب في شخصيّة الضحّاك، وقد كان أحرى به وأجدر أن يكون حريصاً بهذا الالتزام تجاه الله، وبهذا الحلِّ والتحلُّل والتحرّر تجاه الدنيا.

إنّ تفكير الضحّاك بن عبد الله في هذا الموقف تفكير مُحتاط ومُتحفِّظ بصورة غريبة، فهو في الوقت الذي يستجيب لدعوة الإمام، يُبقي الأبواب من خَلفِه

٢٩٣

مفتوحة، ليتمكّن من العودة إلى الدنيا عندما يبلغ الـمُفترَق الّذي لا يستطيع بعده أن يجمع بين الدنيا والآخرة، ولابدّ من أن يختار أحدهما، إمّا ديونه وعياله، وإمّا الآخرة، فيُبقِي الأبواب من ورائه مفتوحة، ليتمكّن من أن يرجع إلى الدنيا في اللحظة الحَرِجة من الـمَسير.

ونحن إذا استثنينا أُولئك الّذين يتحرَّكون على غير صراط الله، ويَصدّون الناس عن الحركة إلى الله تعالى، نجد أنّ سائر الناس في تحرّكهم إلى الله على طائفتين:

الطائفة الأُولى: تتحرّك إلى الله سبحانه في جدٍّ وعَزم وصدق، تهدم من ورائها جسور العودة إلى الدنيا، لا يطردون الدنيا ولا يهجرونها، ولكنّهم إذا بلغوا الـمُفترَق الّذي لابُدّ لهم من أن يختاروا عنده الدنيا أو الآخرة، لا يُؤثرون على الآخرة شيئاً.

وهؤلاء هم (الصادقون) في التحرّك إلى الله( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) (1) ، وموقعهم من الله عزّ وجلّ في الآخرة( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (2) .

وطائفة أُخرى من الناس : يتحرَّكون إلى الله في حَذرٍ واحتياط، يُحبّون الله ورسوله ولكن، ما لم يُزاحم دنياهم، وما لم يسلبهم دنياهم، فإذا بلغوا الـمُفترَق الذي لابُدّ فيه من الاختيار الصعب، آثروا الدنيا على الآخرة، واختاروا شقَّ الدنيا وعادوا إليها، ولكيلا ينقطع طريق العودة عليهم في اللحظات الأخيرة، لا يهدمون من ورائهم الجسور التي تنقلهم إلى الدنيا.

____________________

(1)الأحزاب: 23.

(2)القمر: 55.

٢٩٤

فهؤلاء يتحرّكون إلى الله سبحانه، ولا نشكّ في نيِّتهم وصدقهم - في هذه الحدود -، ولكن كلّما قطعوا شوطاً من الطريق، مَدّوا من ورائهم بقدره جسراً ينقلهم إلى الدنيا.

وهكذا كان الضحّاك بن عبد الله، اشترط على الحسينعليه‌السلام - قبل كلّ شيء - أن يكون في حلٍّ من الانصراف إلى دَينِه وعياله، فدخل مع الحسين فيما دخل فيه من قتال جيش بني أُمية، وقاتل بين يدي الحسينعليه‌السلام ، وقتل منهم وجرح عدداً، ولكنّه قد تحوَّط لنفسه منذ أوّل ساعة، فأخفى فرسه داخل فسطاط بين البيوت، وقاتلَ راجِلاً بين يدي الحسين، لتُسلَّم له فرسه وليركبها ويفرّ بها إلى خارج ساحة المعركة، ويهرب عن جند ابن زياد، في اللحظة الحَرِجة الّتي لابُدّ له فيها من أن يختار أحد الأمرين.

فلمّا جدَّ الجِدُّ، ذكَّرَ الإمام الحسين بإذنه له في الانصراف متى شاء، ومتى لم ينفعه دفاعه عنه وقتاله من دونه، فصدقه الحسين، فركب فرَسه وهرب من الآخرة إلى الدنيا.

إنّ هذا الرجل دقيق في تقدير المسافة الّتي يستطيع أن يُساير الحسينعليه‌السلام فيها، يضبط حساباته في هذه الحركة بشكلٍ دقيق، ويَتَحوَّط للعودة إلى الدنيا عندما يصل إلى الـمُفترَق الذي يُؤثّر عنده الدنيا على الآخرة.

يُشخِّص الـمُفترَق بدقّة، ويُحدِّد المسافة الّتي يُساير فيها الحسين بدقّة، ويَتَحوّط للعودة من الله إلى الدنيا في اللحظة المناسبة، ويُبقِي من ورائه - وهو يتحرّك مع الحسينعليه‌السلام إلى الله - بابَين مفتوحين، يرجع من خلالهما إلى الدنيا عندما يريد:

أحدهما: مُوافَقة الحسينعليه‌السلام أن يكون في حلّ من أمره عندما يريد الانصراف إلى الدنيا.

٢٩٥

وثانيهما: فَرسه التي احتفظ بها في فسطاط داخل البيوت، عندما حاصر جيش بني أُميّة الحسينعليه‌السلام ؛ ليستطيع أن يركبها في اللحظة المناسبة من الآخرة إلى الدنيا.

ومرّة أُخرى نريد أن نُقارِن - في هذه النقطة من البحث - بين الضحّاك وزُهير.

كلّ منهما أقبلَ على الله تعالى مع الحسينعليه‌السلام .

الضحّاك دخل معركة الطفِّ إلى جنب الإمام، وقاتل وجاهد بين يديه، وزهير (رحمه الله) أقبلَ مع الحسينعليه‌السلام وجاهد وقاتل.

ولكنّ الفرق بين هذا وذاك، أنّ الضحّاك أقبل على الله وأبقى الأبواب مفتوحة من خلفه، بكلّ دقّة واحتياط، وأبقى الجسور قائمة من ورائه إلى الدنيا؛ ليعود إليها في اللحظة التي يريد.

وأمّا زهير، فعندما قرّر الوفود على الله تعالى مع الحسينعليه‌السلام ، قطع كلّ ما كان بينه وبين الدنيا من جسور، وأغلق كلّ باب بينه وبين الدنيا، وقال لزوجته (دلهم) في عزم وقوّة ويُسر: (الْحقي بأهلك).

وإنّنا نتابع تفكير الضحّاك، وما أخذه الضحّاك من احتياط لنفسه في مثل تلك الساعة وتلك المعركة، فنرى أنّ هذه الدقّة في التقدير والضبط في الحساب، والتحفُّظ والاحتياط الشديدَين، جدير بالاحترام لو كان في علاقة الإنسان بنفسه ومحاسبته لها.

أمّا عندما يكون التعامل مع الله تعالى، فمثل هذا التقدير والدقّة والاحتياط للعودة إلى الدنيا، هو من الشُحِّ في العطاء، ومن التردّد في العمل وفقْدان العَزم.

الجسر الذي مدَّه الضحّاك إلى الدنيا من عُمق (الطفّ):

ولنستمع إليه مرّة أُخرى:

٢٩٦

(لمّا رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا، وقد خلُص إليه وإلى أهل بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عُمَر الحنفي، وبشير بن عمرو الحضرمي، قلتُ له: يابن رسول الله، قد علمتَ ما كان بيني وبينك، قلت لك: (أُقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف، فقلتَ لي: (نعم))؟! فقال: (صدقت، وكيف لك النجاة؟ إن قدرتَ على ذلك فأنت في حلٍّ).

فأقبلتُ إلى فرَسي، وقد كنت حيث رأيت خَيل (أصحابنا) (1) تُعقَر، أقبلت بها حتّى أدخلتُها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلتُ أُقاتل معهم راجلاً... فلمّا أذِنَ لي، استخرجتُ الفرَسَ من الفسطاط، ثُمّ استويتُ على متنِها، ثُمّ ضربتُها حتّى إذا قامت على السنابك، رميتُ بها عرض القوم، فأفرجوا لي...) (2) .

إنّ أمر الضحّاك لغريب في نوعه، فهو يمدّ جسور الدنيا إلى عُمقِ معركة الطفّ، وإلى داخل خيام الحسينعليه‌السلام ، حيث لا يوجد فيها غير الآخرة!

فهذه الفرَس التي أخفاها الضحّاك في فسطاط لأصحاب الحسينعليه‌السلام بين البيوت يوم عاشوراء، هي الجسر الذي مدّه الضحّاك لينقله إلى الدنيا.

وقد رأينا وسمعنا كثيراً عن امتداد الدنيا إلى أعماق النفس، في مختلف مراحل الطريق إلى الله سبحانه، ولكنَّنا لم نرَ فيما رأينا، ولم نسمع فيما سمعنا، أنّ الدنيا تنفذ وتمتدّ وتكمُن في نفس الإنسان إلى هذا الحدّ، فيدخل الإنسان معركة

____________________

(1)يقول الضحّاك: خيل (أصحابنا)، وهو عازم على مفارقتهم والانفلات من مصيرهم! وأيّ صُحبة يا تُرى بعد أن فارقَهم وهجَرهم إلى دَينه وعياله، ولَحقَ بصاحبه مالك بن النضر الأرحبي؟!

(2)تاريخ الطبري، الطبعة الأوربيّة: ج7 / ص354 - 355.

ونفس الـمَهموم، للشيخ عبّاس القمّي: ص298 - 300.

٢٩٧

الطفّ مع الإمام، ويسقط أهل بيت الحسينعليه‌السلام وأصحابه صرعى بين يديه، ويُقاتِل بين يديهعليه‌السلام ، ويدعو له الحسين، وهو يرى الإمام واقفاً وحده بين يدي الأعداء، ثُمّ لم يُفارقه حُبّ الدنيا ونفوذ الدنيا، وسلطانها على نفسه، في هذه المراحل جميعاً.

إنّ التصاق الدنيا بنفس الإنسان لَغريب، ومن الخطأ أن يغترَّ الإنسان بنفسه، فيتصوّر أنّه قد تحرَّر من سلطان الدنيا ونفوذها، ولم يعد بحاجة إلى معاناة وتزكية وجهاد للنفس.

إنّ في نفس الإنسان خبايا عميقة وأعماقاً مجهولة، يكمُن فيها حُبّ الدنيا، ويبقى هذا التعلّق يُطارِد الإنسان في حركته إلى الله تعالى، من حيث يعلم الإنسان أو لا يعلم، حتّى إذا بلغ الإنسان نقطة الاختيار الصعب، برزَ حُبّ الدنيا من أعماق النفس المجهولة إلى السطح البارز للنفس، وغيَّر وجْهَة الإنسان وحركته، من الله تعالى إلى الدنيا.

إنّ حُبّ الدنيا يلاحق الإنسان إلى هذه النقطة، الّتي لا يكاد أن يبلغها الإنسان إلاّ بعد أن يخرج من مصفاة الابتلاء عشرات المرّات، ومع ذلك كلّه، يبقى هذا الحُبّ كامناً في نفسه.

إنّنا لا نريد أن نتَّهم الضحّاك في صدقهِ وحُبّه للحسينعليه‌السلام ، وليس من سببٍ يدعونا أن نتّهم هذا الرجل الذي وقف هذا الموقف يوم عاشوراء من الحسينعليه‌السلام في نيّتِه وصدقِه، فلم يطلب الضحّاك من الدفاع عن الحسينعليه‌السلام ومن القتال بين يديه دنيا.

وهذا حقّ يجب أن نقول به ونعترف له به، لكنّه مع ذلك كلّه، لم يتحرَّر من حُبّ الدنيا، ومن التعلّق بالدنيا، ومن تبِعات الدنيا، حتّى عندما ساقه التوفيق والسعادة الإلهيّة إلى هذه المعركة الحاسمة بين الحقّ والباطل

٢٩٨

في التاريخ، ووضَعه الله تعالى في أشرفِ موقِع يتصوّره الإنسان، وهو موقع الدفاع عن الإسلام إلى جنْب ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والآن، بعد هذا التحليل النفسي لموقف الضحّاك بن عبد الله المشرقي، يجب أن نوجز مرّة أُخرى العناصر التي تدخل في تكوين هذا الموقف الغريب، وأهمّ هذه العناصر هي:

1 - حبّ الدنيا والتعلّق بها : وهو رأس هذه العناصر جميعاً، وهو أوّل شيء اعتذر به الضحّاك إلى الحسينعليه‌السلام عن مسايرته ونصرته، فلم يتخفّف ولم يتحرَّر الضحّاك من الدنيا، وهو في وسط هذه المعركة المصيريّة، كما تخفّف وتحرَّر عنها (زهير) من قبل.

2 - شحّة العطاء: وهي غير نضوب النفس، ففي حالة النضوب والجفاف ينقطع كلّ خير عن نفس الإنسان، أمّا في حالة (الشحّ)، فيبقى للإنسان عطاء محدود وشحيح، وقد رأينا كيف وضع الضحّاك نصرته للحسينعليه‌السلام ضمن مجموعة من الشروط، ولم يبذل نصرته بَذلاً كما صنع سائر أصحاب الحسينعليه‌السلام ، ولم يُوطِّن نفسه لقاء الله، كما طلب الإمام الحسين من المسلمين في مكّة المكرَّمة.

3 - التحرّر عن الالتزامات التي تفرضها الدعوة والجهاد: والتحلّل عن القيود والعهود التي يفرضها الولاء لله تعالى، ولرسوله وللأئمّة المسلمين.

وهذه العناصر الثلاثة تؤدِّي إلى ظواهر سلبيّة كثيرة في شخصيّة الإنسان، من قبيل:

الخوف، والجُبن، والخضوع، والانقياد للطاغوت، وانحسار سُلطان الضمير عن حياة الإنسان وسلوكه.

٢٩٩

ولسنا نريد أن نقول: إنّ هذه العناصر كانت موجودة مجتمعة في موقِف الضحّاك بن عبد الله، ولكنَّنا نريد أن نقول: إنّ أمثال هذه المواقف يُمكن أن تنحلَّ إلى هذه المجموعة من العناصر السلبيّة.

وفي ختام هذه التأمُّلات، نعتذر من الضحّاك بن عبد الله المشرقي، إذا كنّا قد أسأنا إليه، وتناولنا موقفه من الحسينعليه‌السلام بالتحليل والنقْد بهذه الصورة، ولا نريد أن نبخسه حقّه، فقد نال ما حُرِمنا منه نحن، من شرفِ القتال بين يدي الحسينعليه‌السلام ، ومن دعاء الحسينعليه‌السلام له...، وإنّما كنّا نريد أن نجعل من نقاط الضَعف في موقفه وسيلة لتقويم نقاط الضعف في مواقفنا وسلوكنا.

٣٠٠