في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء9%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220274 / تحميل: 9253
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قِيمة الوراثة في حياة الإنسان

* تأمُّلات في زيارة وارِث

* ١ - القِيمة التكوينيّة للوراثة

دراسة في الشريحة الحضاريّة

الإطار الاجتماعي للشعائر الإسلاميّة

* ٢ - القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة

كرامة الأُسرة وموقعها الاجتماعي

٣٠١

٣٠٢

قيمة الوراثة في حياة الإنسان

تأمُّلات في زيارة وارث

تمهيد:

للوراثة في حياة الإنسان نوعان من التأثير، لهما قيمة وفاعليّة كبيرة، وهاتان القيمتان هما:

١ - القيمة التكوينيّة للوراثة.

٢ - القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة.

وسوف نستعرض هذين النوعين من التأثير، وما لهما من دَور فاعل ومُؤثِّر في حياة الإنسان.

فنتحدّث أوّلاً عن القيمة التكوينيّة للوراثة، ونقصد بها التأثير الطبيعي والتكويني الّذي تتركه الوراثة في حياة الإنسان، في مقابل التأثير التربوي والإيحائي للوراثة، ونتحدّث ثانياً عن الإيحاءات التربويّة التي تتركها الوراثة في حياة الإنسان، وما لهذه الإيحاءات التربويّة من أثر فعّال في حياة الإنسان.

١ - القِيمة التكوينيَّة للوراثة:

في ضوء دراسة النظريّة الإسلاميّة من التاريخ، والارتباط السَبَبي بين مراحل التاريخ المختلفة، نقول: إنّ الحضارة الواحدة امتداد واحد على مراحل زمنيّة

٣٠٣

مختلفة، وكلّ مرحلة من هذه المراحل ترتبط بالمراحل السابقة، تحكيها وتَرِثها.

ولا يمكن من الناحية العلميّة تفكيك المراحل المختلفة للحضارة الواحدة، واعتبار كلّ شطر منها وحدة قائمة بالذات.

إنّ اليوم الحاضر مرآة للأمس الماضي، وجزء لا يتجزّأ منه، ولا نستطيع أن نفهم اليوم إن لم نربطه بالأمس، ولا نستطيع أن نفْهم الشطر المعاصِر من أيّة حضارة، إذا لم نبحث عن جذورها ومكوّناتها في المراحل السابقة من التاريخ.

دراسة في الشريحة الحضاريّة:

إنّ كلّ شريحة حضاريّة تُعتبَر حصيلة جهود طويلة لأجيال من أبناء هذه الحضارة، في مراحل مختلفة من التاريخ، ووراثة لميراث الأجيال السابقة، في العادات والتقاليد والأعراف، والثقافة والتصورّات، والحبّ والبغض...، وعندما نقتطعُ نحن هذه الشريحة المعاصرة، أو هذا الجيل المعاصر من الحضارة عن جذوره وأُصوله، لا نكاد نستطيع أن نفهمه حقّ الفَهم.

ومن السذاجة أن نتصوّر أنّ هذه الشريحة أو تلك من الشرائح الحضاريّة قد تكوَّنت بصورة عفويّة، وبمَعزل عن التاريخ الّذي ترتبط به.

يقول الدكتور محمّد زكي العشاوي، في بحث له في مجلّة (عالم الفِكر):

(ونحن مع إيماننا الـمُطلَق بحركة التطوّر التي لا تعرف النكوص أو الرجوع إلى الخلف، فإنّنا نؤمن في الوقت ذاته، بأنّ كلّ ما يدَّخره الإنسان ويختزنه من ماضي الحياة البشريّة ليس حياة ميِّتة، بل لا يمكن أن تموت؛ لأنّها جزء لا يتجزّأ من الحياة الكبرى الّتي لا تفنى، والتي لا تهرم ولا تدركها الشيخوخة)(١) .

____________________

(١)مجلّة (عالَم الفكر) / المجلّد الرابع / العدد الأوّل / ص: ١٣ / الحاضر ضمير المستقبل، للدكتور العشماوي.

٣٠٤

البُعْد الأُفقي والبُعْد العمودي لكلِّ حضارة:

إنّ من الخطأ أن نفهم المجتمع والحضارة الإنسانيّة في البُعد السطحي فقط، وأن يغيب عنّا البُعد العمودي الّذي يُعتبَر المصدر والأساس لأيّة حضارة.

فليست الحضارة - بالتأكيد - هي مجموعة التفاعلات الاجتماعيّة الّتي تحدث على مقطع زمني خاصّ، وعلى السطح المرئي من الحضارة فقط، وإنّما هناك من وراء هذا السطح المرئي من الحضارة الأعماق غير المرئيّة للحضارة.

وفي ضوء هذا الارتباط السَبَبي بين الماضي والحاضر، في المقاطع الزمنيّة الـمُتعدِّدة، والتفاعل بين عناصر الحضارة الواحدة في المقطع الزمني الواحد، نستطيع أن نفْهم الحضارة.

التبادل والتفاعل بين عناصر الحضارة الواحدة:

ففي المقطع الزمني الواحد، نجد أنّ عناصر المجتمع الواحد تتفاعل مع بعض في تأثيرٍ وحركة مُتبادَلة.

فالمدرسة تُؤثِّر في العائلة تأثيراً قويّاً، كما أنّ العائلة تُؤثِّر في المدرسة، ولا نستطيع أن نفهم عناصر الحضارة الواحدة إذا لم نفهم هذا التأثير الـمُتبادَل والمتقابل بين عناصر الحضارة الواحدة، وفي مقطع زمني واحد.

الأعماق الحضاريَّة:

وبمقياس أقوى وأبلغ، يكون تأثير الماضي في الحاضر في سلسلة مترابطة من الحلقات، من الأسباب والعِلل.

فمبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً، في القرن السادس الميلادي، له تأثير بليغ وفوق

٣٠٥

حدود التصوّر، في كلّ مراحل حضارتنا، خلال القرون الأربعة عشر التي مرّت على هذه الأُمّة.

ولا يمكن عزل هذا الحادث الكَوني الكبير عن كلّ مراحل تاريخنا وحضارتنا، وليس من الممكن أن تكون أيّة شريحة من شرائح هذه الحضارة معزولة عن هذا السَبب، أو نفهم أيّة شريحة من حضارتنا بمَعزل عنه.

والكلام نفسه يصدق في معركة بدر (يوم الفرقان)، ويوم الأحزاب، وفتح مكّة، ووقعة الطّف، وهكذا...

إنّ لكلّ واحد من هذه الأحداث وغيرها دوراً تأسيسيَّاً في بناء هذه الحضارة، وليس في الإمكان أن تتكوّن هذه الحضارة، بكلّ خصائصها القائمة فعلاً، بمعزل عن العوامل التاريخيّة التي ساهمت في بناء وتكوين تاريخنا ومجتمعنا.

وكلّما يزداد هذا العُمق، كلّما تزداد قيمته الحضاريّة في بناء المجتمع. فالمجتمع الذي تمتدُّ جذوره آلاف السنين، يتمتّع بقوّة وصلابة أكثر من المجتمع والحضارة التي تكوّنت في عدّة مئات من السنين فقط.

ذلك أنّ العمق التاريخي البعيد يُعتبَر تراكماً كبيراً من الأسباب والعلل من وراء المقطع الحضاري الذي نُعاصره.

فقد يكون من السهل أن يتجاوز الإنسان الظروف السياسيّة التي تكوّنت في عصره، من الحبِّ والبغض، والولاء والبراءة، والأخلاق والسلوك والتصوّرات، ولكن من الصعب جدّاً - ولا أقول من المستحيل - أن يتجاوز الإنسان الحبّ والبغض الذي تكوّن خلال ألف سَنة من الزمان.

فإنّ مرور هذه الحُقبة التاريخيّة الطويلة على هذه الحضارة، يُكسِبها الكثير من الصلابة والثبات، ممّا يجعل من الصعب جدّاً أن يتجاوزها الإنسان، وهذا هو (الميراث الحضاري) الّذي نتحدّث نحن عنه في الدراسة.

٣٠٦

عراقة الميراث الحضاري:

كلّما يطول الزمن، فالظاهرة الحضاريّة تزداد تأصّلاً وعراقة وعُمقاً في وجود الأُمّة، وتتمتّع بقوّة وأصالة وقُدرة أكثر على مواجهة التحدّيات؛ ولذلك فإنّ التاريخ تراكم من العمل والجهد والتَبنِّي.

وكلّما يكون التاريخ أطول، يكون الجهد والعمل المبذول في تَبنِّي أيّة ظاهرة اجتماعيّة أكثر، ونتيجة لذلك؛ تكون الظاهرة الاجتماعيّة أقوى وأثبت، وأكثر أصالة وعُقماً ومَتانة، وأقوى على مواجهة التحدّيات.

فـ (الصلاة) مثلاً، ظاهرة حضاريّة عميقة الجذور في التاريخ، وميراث حضاري عريق في الأجيال، تنتقل من جيل إلى جيل، وكلّما يمرّ علينا زمن أطول تزداد أصالة وثباتاً وعمقاً في حياة الإنسان.

فالعراقة الّتي نجدها نحن في حياتنا اليوميّة للصّلاة، ليست حصيلة جهد وعمل فردي، وفي مقطع زمنيٍّ خاصّ، وإنّما هي حصيلة جهود وأعمال كبيرة وكثيرة عبر التاريخ، في تَبنِّي الصلاة وإقامتها، والدعوة إليها وتأكيدها وترسيخها، وهذه الجهود جميعاً تتمثّل اليوم في (الصلاة) التي نقيمها نحن في بيوتنا ومساجدنا.

و (الحجّ) ظاهرة حضاريّة وميراث حضاري، ورثناه نحن من أبي الأنبياء إبراهيم، خليل الرحمانعليه‌السلام .

ولهذه الظاهرة الحضاريّة عراقة وعُمق خاصّ، وأصالة في حياتنا، وجاذبيّه خاصّة في نفوسنا، فإذا حان وقت الحجّ، توجّه مئات الآلاف من المسلمين، من كلّ فجٍّ عميق، رجالاً وعلى كلّ ضامر إلى البيت العتيق؛ لأداء فريضة الحجّ.

يقول تعالى لعبده وخليله إبراهيمعليه‌السلام :

٣٠٧

( وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى‏ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ ) (١) .

التَبنّي الجَمعي والعُمق الحضاري لفريضتَي الصلاة والحَجّ:

وما دُمنا نتحدّث عن (الصلاة) و (الحجّ) كمثالين للظواهر والمواريث الحضاريّة، فلا بأس أن نقف وقفة قصيرة عند هاتين الظاهرتين الربّانيّتين في حياة الإنسان، فنقول:

إنّ القيمة والفاعليَّة والجاذبيَّة الّتي تملكها هاتان الفريضتان في حياتنا، تعود إلى أمرين اثنين:

الجُهد الجمعي الكبير المبذول في إقامة هاتين الفريضتين، في المقطع الزماني الواحد، في اجتماعات كبيرة وحاشِدة.

ولا شكّ أنّ هذا الجهد والاهتمام الجمْعي بهاتين الفريضتين، من قِبل الملايين من المسلمين، ينعكس في الصلاة والحجّ بشكل واضح، ويُكسِب هاتين الفريضتين هذه الجاذبيّة والتعاطف والقيمة والفاعليّة في نفوس جماهير المؤمنين.

وإلى جَنْب هذا البُعد، هناك بُعد آخر للصلاة والحجّ، وهوالبُعد التاريخي الذي تحدّثنا عنه.

فإنّ الإقامة الطويلة للصلاة والحجّ، والـمُمارَسة التاريخيّة الطويلة لهاتين الفريضتين عبر القرون، تمنح هاتين الفريضتين قيمة كبيرة، وفاعليّة وجاذبيّة خاصّة، وهذا هو الّذي نقصده من كلمة (الميراث).

ولهذا السَبب؛ يؤكِّد الإسلام تأكيداً كبيراً على الاهتمام بالإطار الاجتماعي: (البُعد الأوّل)، وبالإطار التاريخي: (البُعد الثاني) للفرائض.

____________________

(١)الحَجّ: ٢٧.

٣٠٨

الإطارُ الاجتماعي للشَعائِر الإسلاميَّة:

ففي الإطار الاجتماعي، وهو الإطار الأوّل، يتفاعل الفرد - تفاعُلاً قويّاً - مع الجوّ الاجتماعي الذي تُقام فيه الفريضة، فإنّ الصلاة جماعة وجُمعة لها تأثير مُتقابل في نفوس المصلِّين، والفرد الذي يُقيم الصلاة في وسط حاشد من جماعة المسلمين، يكتسب من حضور الآخرين اندفاعاً وقوّة وإقبالاً على فريضة الصلاة، وتفاعلاً معها، في الوقت الّذي يُكسِب الآخرين بحضوره نفس الاندفاع والقوّة والتفاعل والإقبال.

وهذا التعاطي والتبادل الـمُتقابَل من قِبل المصلِّين، يُكسب الصلاة في نفوس الجميع أصالة وثباتاً، وقوّة وجاذبيّة.

ولعلّ الاهتمام بالجُمعة والجماعة في الإسلام من هذا الـمُنطلَق.

ورغم أنّ الإنفراد والخَلوة في ذكر الله تفيد الإنسان في الإقبال على الذِكر كثيراً، رغم ذلك تُفضِّل الشريعة إقامة الصلاة جماعة على الصلاة فُرادى، وتُؤكِّدها، حتّى روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (لا صلاة لـمَن لا يُصلِّي في الـمَسجدِ مع المسلمين، إلاّ مِن عِلَّة)(١) .

وروي عن الصادقعليه‌السلام : (أنّ أُناساً كانوا على عهدِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبطأوا عن الصلاة في المسجدِ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لَيُوشك قوم يُدعَون للصلاة في المسجد أن نأمر بحَطَب ليُوضع على أبوابهم، فتُوقد عليهم نار، فتحرق عليهم بيوتهم)(٢) .

____________________

(١)عِلل الشرائع، للصدوق: ص٣٢٥. ووسائل الشيعة: ج ٥ / ص٣٧٧.

(٢)التهذيب، للشيخ الطوسي: ج ٣ / ص ٢٥.

٣٠٩

والجماعة - بحُكم هذا التأثير المتبادَل الذي يتركه كلّ واحد من الجماعة في الآخَرين - ليست كميّة عدديّة فقط، تساوي مجموعة الأفراد، وإنّما يتحوّل هذا الكَم إلى كيف خاصّ، تُعبِّر عنه الروايات بـ (يد الله)، فالجماعة ليست فقط مجموعة الأفراد، وإنّما تساوي (مجموعة الأفراد + يد الله).

يدُ الله على جماعةِ المسلمين:

وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يدُ الله على الجَماعة، والشيطانُ مع مَن خالَفَ الجماعة)(١) .

ويدُ الله هنا هي القوّة والبركة والرحمة، فعندما يجتمع جَمْع من المؤمنين تنزل عليهم رحمة الله وبركاته، ويمنحهم الله القوّة والرحمة.

وهذا هو ما ذكرناه من أنّ الـمُمارَسة الاجتماعيّة للفرائض الإسلاميّة تمنح الفرائض الإسلاميّة كثيراً من الجاذبيّة والقوّة، والصلابة والأصالة، وتشدّ الناس إلى هذه الفرائض شدّاً نفسيّاً وعاطفيّاً قويّاً. وهذا هو بعض السرِّ في قوّة وجاذبيّة فريضة الحجّ، التي تجتذب الناس من كلّ فجٍّ عميق إلى هذا الوادي غير ذي الزرع حول بيت الله الحرام.

وبنفس الملاك، يصحّ أن نقول: إنّ هذه التجمّعات القائمة على ذكر الله تعالى وتقوى الله، تمنح الإنسان تقوى وعصمة، وتعصِم عن الشطَطِ والزَيغ والضّلال، وتُعتبَر الحصن الذي يُحصِّن المؤمنَ من عدوان الهوى والشيطان.

فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يدُ اللهِ على الجَماعة، فإذا اشتَذّ الشَاذّ منهم، اختَطَفَه الشيطانُ، كما يَختَطِفُ الذِئْبُ الشاةَ الشاذَّة من الغَنَم).

____________________

(١)كنز العمّال: الحديث ١٠٣١.

٣١٠

وهذا هو الإطار الأوّل (الاجتماعي)، (الأُفقي) للصلاة والحَجّ.

الإطار التاريخي للشَعائر الإسلاميَّة:

والبُعد الآخر للشعائر والفرائض الإسلاميّة هو: البُعد التاريخي (العمودي).

ولهذا البُعد تأثير كبير في تعميق مشاعر العبوديَّة والإقبال على ذكر الله تعالى في حياة الناس؛ ولهذا الأمر يهتمّ القرآن كثيراً بالبُعد التاريخي للصلاة، والإيمان، والدِّين.

يقول تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدّينِ مَا وَصّى‏ بِهِ نُوحاً وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏ وَعِيسَى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيه ِ ) (١) .

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ ) (٢) .

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٣) .

وانطلاقاً من هذا التصوّر للتاريخ والميراث، نقول: إنّ حَجَّ إبراهيمعليه‌السلام له تأثير في حجِّنا، وصلاة موسى وعيسىعليهما‌السلام لها تأثير في صلاتنا، ودعوة نوحعليه‌السلام لها تأثير مباشر وغير مباشر على دعوتنا إلى الله تعالى.

وأنّ جهاد الحسينعليه‌السلام في كربلاء ووقعة الطّف له تأثير مباشر على مسيرتنا ودعوتنا

____________________

(١)الشورى: ١٣.

(٢)البقرة: ١٣٦.

(٣)الأنبياء: ٧٢ - ٧٣.

٣١١

ومواجهتنا اليوم لطواغيت عصرنا، وأنّ أجزاء هذه المسيرة الواحدة - من آدم ونوحعليهما‌السلام ، إلى اليوم الحاضر - أجزاء مُترابِطة مُتماسكة، السابق منه يدعم اللاحق، واللاحق منه يرِث السابق.

وعلى هذه المسيرة تنتقل القِيم والتُراث، والولاء والبراءة، والحُبّ والبغض، والتصوّرات والأخلاق، من جيل إلى جيل.

وحدة الـمَسيرة ووحدة الـمُعاناة ووحدة الثواب:

ومن أروع ما في هذا التصوّر الإسلامي للميراث، أنّ الأجيال اللاحقة لا ترِث فقط المواريث الحضاريّة من الأجيال السابقة، وإنّما تُشاركها أيضاً في ثواب معاناتها وعنائها الطويل، في صراعها مع الكفر والنفاق؛ لإقامة هذه الفرائض الإسلاميّة وتثبيتها.

فقد تحمّل سَلَفُنا الصالح على هذا الطريق الكثير من العناء والمعاناة في الصراع مع الطاغوت؛ لإقامة هذه الفرائض وتثبيتها، وتعبيد الإنسان لله.

ونحن (الوارثون)، لا تنتقل إلينا فقط هذه القِيم والمواريث - (العبوديَّة، والإيمان، والصلاة) - من سَلَفِنا، وإنّما ينتقل إلينا أيضاً ثواب معاناتهم وصبرهم وعنائهم، دون أن يكون لنا فِعل وتحمُّل في هذه المعاناة والعناء.

والجسر العجيب الذي ينتقل عليه هذا الثواب والأجر - من دون معاناة وعناء، ويُشرِك أُناساً في ثواب أُناس آخرين سبقوهم - هو الولاء والحُبّ.

وعجيب أمر الولاء والحُبّ! فهو يُوحِّد أطراف هذه المسيرة المتباعدة، ويجعلها قطعة واحدة، ويُشرِك اللاحق في ثواب السابق، ويجعل السابق مورداً ومُعيناً للاّحق. وهذا هو البُعد الثالث (المستقبليّ) لمسيرة الدعوة إلى الله.

روى الحكم بن عيينة، قال: لمّا قتلَ أمير المؤمنينعليه‌السلام الخوارجَ يوم

٣١٢

النهروان، قام إليه رجُل فقال: يا أمير المؤمنين، [ طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف، وقتلنا معك هؤلاء الخوارج ]، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) : (والّذي فلقَ الحبّة وبرأ النسمة، لقد شهدنا في هذا الموقف أُناس لم يخلق اللهُ آباءَهم ولا أجدادهم بَعدُ، فقال الرجل: وكيف يشهدنا قوم لم يُخلَقوا؟ قال:بلى، قوم يكونون في آخِر الزمان، يشركوننا فيما نحن فيه، ويسلِّمون لنا، فأُولئك شُركائنا فيما كنّا فيه حقّاً حقّاً)(٢) .

وروى محمّد بن سلَمة، رفَعَه، قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : (إنّما يجمعُ الناسَ الرضا والسُخط، فمَن رضي أمراً فقد دخلَ فيه، ومَن سخطه فقد خرجَ منه)(٣) .

وعن سُليمان بن خالد، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: (لو أنّ أهل السماوات والأرض لم يُحبِّوا أن يكونوا شهداء مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكانوا من أهل النار)(٤) .

وروى أبو جعفر، محمّد بن أبي القاسم الطبري، في كتابه (بِشارة المصطفى)، عن عطيّة العوفي، قال: (خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسينعليه‌السلام ، فلمّا ورَدْنا كربلاء، دَنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل ثُمّ ائتزرَ بإزار وارتدى بآخر، ثُمّ فتح صُرَّة فيها سُعْد، فنشرها على بدنه، ثُمّ لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله تعالى، حتّى دَنا من القبر، قال: ألمسنيه، فألمستُه، فخرَّ على القبر مَغشيّاً عليه، فرَششتُ عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال:

يا حسين، ثلاثاً. ثُمّ قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه، ثُمّ قال: وأنّى لك بالجواب، وقد شَخُبَت أوداجُك على أثباجِك، وفُرِّق بين بدنك ورأسك، فأشهدُ أنّك ابن خاتم النبِّيين، وابن سيِّد

____________________

(١)ما بين المعقوفتين زيادة من المصدر.

(٢)المحاسن: ص٢٦٢.

(٣)نفس المصدر.

(٤)نفس المصدر.

٣١٣

المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسَليل الهُدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيِّد النقباء، وابن فاطمة سيِّدة النساء.

وما لك لا تكون هكذا، وقد غَذَّتكَ كفّ سيِّد المرسلين، ورُبِّيت في حِجرِ الـمُتّقين، ورضعتَ من ثديِ الإيمان، وفُطِمتَ بالإسلام.

فطبتَ حيّاً وطبتَ ميِّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيِّبة لفراقِك، ولا شاكَّة في الخِيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه.

وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.

ثمّ جال ببصره حول القبر وقال:

السلام عليكم - الشهداء من أصحاب الحسين وأهل بيته - أيّتها الأرواح التي حلَّت بفناء الحسين، وأناخَتْ برَحلِه، وأشهد أنّكم أقمتُم الصلاة، وآتيتُم الزّكاة، وأمرتُم بالمعروف ونهيتُم عن الـمُنكَر، وجاهدتُم الـمُلحِدين، وعبَدتُم الله حتّى أتاكم اليقين.

والذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتُم فيه.

قال عطيّة: فقلت له يا جابر: كيف ولم نهبط وادِياً، ولم نعلُ جَبَلاً، ولم نضرِب بسيف، والقوم قد فُرِّقَ بين رؤوسهم وأبدانهم، وأُوتمتْ أولادهم، وأُرملَتْ أزواجهم؟!

فقال: يا عطيّة، سمعتُ حبيبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (مَن أحبَّ قوماً حُشِرَ معَهم، ومَن أحبّ عمل قوم أُشرِكَ في عملِهم).

والذي بعثَ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ، إنّ نيَّتي ونيَّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابهعليهم‌السلام )(١) .

المواريث الحضارية والمواريث المدنية:

إنّ ما يُقال عن الظواهر الحضاريَّة كـ (الصلاة) و (الحجّ) و (التقوى) و (الإيمان) و (العفاف)، يُقال عن الظواهر المادّيّة للحضارة كـ (المسجد) و

____________________

(١)بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ص٧٤ - ٧٥، ط النجف ١٣٨٣ هـ.

٣١٤

(المنبر) و (المدرسة)، وغير ذلك من الظواهر والأدوات المادّيَّة للحضارة، أو ما يُطلَق عليها أحياناً بـ (الـمَدنيّة)، في مقابِل (الحضارة).

فانّ لهذه الظواهر المادِّيَّة - أيضاً - أبعاداً اجتماعيّة وتاريخيّة، كما للظواهر الحضاريّة، وكُلّما تتَّسع أبعادُها الاجتماعيّة، وتتعمَّق أبعادها التاريخيّة، تزداد أصالة وعُمقاً ورسوخاً في ضمير الأُمّة.

فـ (المساجد) مثلاً، تمتلك عُمقاً قيميّاً تاريخيّاً في حياة هذه الأُمّة، وهذا العمق التاريخي يمنح (المسجد) قيمة خاصّة في حياتنا الاجتماعيّة، ومركزاً حسّاساً، يجعل من الصعب تجاوزه أو تحدِّيه من قِبَل أعداء الإسلام.

وهذه القيمة والأصالة والرسوخ في ضمير الأُمّة، هي الّتي حفظت المساجد في تاريخ العدوان على الأُمّة وتراثها من اعتداء الـمُعتَدين.

وهكذا (الحجاب) للمرأة المسلمة، يمتلك بفضل هذا العُمق التاريخي قيمة كبيرة واحتراماً في ضمير الأُمّة، كما يُضفي احتراماً خاصّاً على شخصيّة المرأة.

وسوف نرى أنّ العُمق التاريخي لهذه الظواهر المادِّيَّة تجعل منها قِلاعاً، تحمي وتُحصِّن الكثير من القِيم الحضاريّة في الأُمّة، وتحميها من الاعتداء.

فالحجاب يحمي العفاف عند المرأة المسلمة...

والمسجد والمنبر يحميان الصلاة...

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحميان الفرائض والحدود الإلهيّة...

والحركة والثورة يحميان النظام الإسلامي وسيادته...

وللـمُحافظة على هذه القِيَم الحضاريّة، ينبغي أن نحافظ على الأدوات المادِّيّة لهذه الظواهر، وأحياناً نحرص على إبقائها على شكلها وهندَستِها الخاصّة.

فنحافظ على العِمارة التقليديَّة للمساجد، وعلى التصميم التقليدي للمنابر، وعلى الصورة التقليديّة المعروفة للمصاحف في طباعة المصاحف.

٣١٥

وبهذا الترتيب، نحرص على المحافظة حتّى على الوسائل المادِّيّة للحضارة الإسلاميّة - قدر الإمكان -، على صورتها التاريخيّة التي تتمتّع باحترام وتقدير خاصّ في ضمير الأُمّة(١) .

وهذا بعض سِرّ قوّة المواريث الحضاريّة في حياتنا.

وفشل أعداء الإسلام في إزالة هذه المواريث من الحياة، فليس الجُهد الذي يبذله أعداء الإسلامي في القضاء على الفرائض الإسلاميّة كالصلاة والحَجّ باليَسير، وليس الجُهد الّذي بذلوه للقضاء على الشَعائِر والشعارات والأعراف الإسلاميّة، كالحجاب، ومجالس عزاء الحسين، والتحيّة والسلام، بالشيء الهَيِّن.

فقد استخدم أعداءُ الإسلام كلّ الوسائل الـمُمكنة، من إغراء، وإرهاب، وترغيب، في اجتثاث هذه الأُمّة من جذورها، وتمييع أصالتها ومَسخ شخصيَّتها الحقيقية، واستيراد الأفكار والتصوّرات والظواهر الحضاريّة الشرقيّة والغربيّة، من هنا وهناك.

ولكنّ هذه الأعمال كانت تبوء غالباً بالفَشل، ولا يَجني منها أصحابها إلاّ القليل.

لقد بذلَ (رضا خان بهلوي) في إيران، و (مصطفى كمال أتاتورك) في تركيا، جُهداً ليس بالقليل في مكافَحة المواريث الإسلاميَّة، كالصلاة والحجّ، وحتّى أنّ رضا بهلوي منع الحجَّ، بحُجَّةٍ أو بأُخرى، لعدّة سنوات، وحارب الحجاب، وألزم النساء المؤمنات بالسفور، وحارب شعائر العزاء الحسيني الذي يُمارِسه المسلمون

____________________

(١)ينبغي ألاّ نُسيء فَهْم هذه الجملة، ونفسِّرها بما لا يريد الكاتب، فإنّني أقصد بهذا الكلام المحافظة على الصور التي تختزنها ذاكرة الأُمّة، وتتمتّع باحترام وتقدير خاصّ في ضمير الأُمّة، والاستفادة من هذه الصورة في تحصين وحماية القِيَم الحضاريّة الإسلاميّة.

٣١٦

الشيعة في كلّ أقطار العالم الإسلامي.

لكنّ بهلوي أخفق في تحقيق أكثر طموحاته، واستعادت الأُمّة رُشدها ووعيها، وارتباطها الرسالي التاريخي بالإسلام، وسُرعان ما طُهِّرت ساحة البلاد من مُخلَّفات بهلوي ونظامه.

ومن أسباب ذلك عراقة هذه الظواهر الحضاريّة في تاريخ الأُمّة.

مواقِع الثورة والمناعة في حياة الأُمّة:

إنّ هذه النقاط (المواريث الحضاريّة)، تُعتبَر نقاط القوّة ومراكز المناعة في حياة الأُمّة، وتشبه تماماً الجذور العميقة التي تحفظ الشجرة الباسقة من السقوط.

إنّ هذه الجذور هي الّتي تمدّ الشجرة بالغذاء والماء، وتحفظ الشجرة من السقوط، كذلك المواريث الحضاريّة، تُعتبَر الجذور والامتدادات العميقة، الّتي تحفظ الأُمّة وتمنحها المناعة وتحصّنها ضدّ الغزو الأجنبي(١) .

____________________

(١)روى أحد العلماء عن بعض السياسيِّين، أنّ الانجليز كانوا مندفعين بقوّة للقضاء على الإسلام في إيران، وكانوا يعملون لاستبدال الحضارة الإسلاميّة في إيران - في عهد بهلوي - بالحضارة الغربية، وربط البلد بعَجَلَة الحضارة الغربيّة بشكل كامل.

ولمّا توفّي السيِّد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله) - أحد كبار مراجع التقليد في النجف الأشرف -، أحدثت وفاته هزّة عميقة في كلّ إيران، ولبست إيران الحداد أربعين يوماً لوفاة هذا العالم الجليل، وأُقيمت له مجالس العزاء على مساحة واسعة جدّاً في إيران، فبدأ الانجليز يُراجِعون حساباتهم من جديد، في إمكانيّة القضاء على الإسلام بشكل كامل، في بلد يهتزّ من أقصاه بهذا الشكل القوي العنيف، لوفاة عالم من علماء الإسلام.

فكيف يُمكن القضاء على الإسلام، واجتثاث جذوره من قلوب وصدور هذه الأُمّة؟!

يقول هذا السياسي - وكان من الـمُرتبطين بعَجَلَة الاستكبار الغربي -: إنّ حادث وفاة السيّد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله) أثّرَ في تخفيف الضغط الـمُناوئ للإسلام من قبل الانجليز على إيران، لفترة من الوقت.

٣١٧

وفي تأريخنا السياسي المعاصر، كلّما تحرّك أعداء الإسلام لغزو المنطقة الإسلاميّة، فكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، اصطدموا بواحد من هذه المراكز - (مراكز القوّة والمناعة في حياة الأُمّة) - وتراجعوا أمامه.

فقد احتلّ العدوّ القلاع والحصون والقواعد العسكريّة الضخمة، ولكنّه عندما اصطدم بالمسجدِ اضطرّ للتراجع والانسحاب. وقد احتلّ العدوّ الإذاعة والتلفزيون والصحافة، وأخضعها جميعاً لحركة التغريب، ولكنّه عندما اصطدم بصَخرةِ المِنبَر والحوزات والمدارس الدينيَّة، والمساجد والأذان والصلاة، ومجالس العزاء الحسيني، اضطرّ للتراجع والانسحاب.

والسرّ كلّ السرّ في هذه القوّة، هو الامتداد التاريخي العميق لهذه المواريث الحضاريّة والمدنيّة في ضمير الأُمّة، ممّا يجعل من الصعب جدّاً مُداهَمة هذه المراكز من قِبل الأعداء واحتلالها والقضاء عليها.

المحافظة على المواريث الحضارية:

ومن هذا المنظور، يجب علينا نحن الدّعاة إلى الله تعالى، المحافظة على هذه المواريث الحضاريّة في حياة الأُمّة، وحمايتها وتَبنِّيها؛ لتحصين شخصيّة الأُمّة وتَثْبِيتها، والمحافظة على أصالتها وعراقتها.

وبعكس ذلك؛ فإنّ تعريض المواريث الحضاريّة العريقة للإهداء والضياع، يُعرِّض شخصيّة الأُمّة للـمَسخِ والضّياع.

ففي سورة مريم بعدما يستعرض القرآن الكريم شطراً من قصّة إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريسعليهم‌السلام ، يقول تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ

٣١٨

خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) (١) .

هؤلاء الخَلف الذين يذمُّهم القرآن الكريم، هُم الذين أضاعوا الصلاة - ميراث الآباء والسَلَف - واتّبعوا الشهوات. ويُنذرهم القرآن الكريم بأنّهم سوف يلقون غَيّاً.

إنّ من الناس مَن يحفظ الأمانة في مواريث السَلَف، ويستلمها ويُحافظ عليها من الضياع والدسّ والانحراف، ثُمّ يسلِّمها إلى الخَلف الّذين يلُونَهم من الجيل الجديد، وهؤلاء هم الخَلفُ الصالح للسَلَف الصالح، وحمَلَة الأمانة، الذين يصلون الرحِم، ولا يقطعونه.

ومن الناس مَن لا يحفظون الأمانة والعهد، وتضيع على أيديهم مواريث السلف. هؤلاء هم الذين تَعنِيهم الآية الكريمة:( ... فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ... ) .

إنّ من الناس مَن يكون جسراً بين جِيلَين: جِيل سابق عليه، وجيل يلحقه، ينقل مواريث الصالحين من الآباء والأسلاف إلى الجيل الذي يلي جيله، وهؤلاء هم الأُمناء.

ومن الناس مَن يُشكِّل فجوَة وقطيعة وحاجزاً بين جيلين، الجيل السابق والجيل اللاحق، فيفصل هذا الجيل عن ذلك الجيل، ويقطع الخَلفَ عن السَلَفِ، وهذه القطيعة هي أبرز صور الخيانة، والعقوق، وقطيعة الرّحم.

السُنّة والبُدْعَة:

وقد ورد التعبير في النصوص الإسلاميّة عن حالَتي الارتباط بالسّلف

____________________

(١)مريم: ٥٨ - ٥٩.

٣١٩

والقطيعة اللَّتَين تَحدَّثنا عنهما بالعمل بـ (السُنّة) و (البُدعَة).

فالعمل بـ (السُنّة) هو: الارتباط السلوكي بالسَلف الصالح، وحالة الاقتداء والتبعيّة الواعية.

في مقابل (البدعة) وهي: حالة القطيعة عن السلف وقطع الجسور، والانحراف عن مسيرة السلف الصالح إلى الأنماط الجاهليّة الـمُستحدَثة والقديمة.

إنّ الاهتمام الكبير في النصوص الإسلاميّة بمسألة السُنّة، قد ينشأ من هذه النظرة، ويُعبِّر عن اهتمام الإسلام بربطِ الأجيال الـمُتعاقِبة بميراث الأنبياء والـمُرسلين من السَلف الصالح، وشَدّهم بالأنبياء والأولياء والصالحين من سَلفنا.

والقرآن الكريم يدعو المسلمين إلى التأسّي بالأنبياء والصالحين بشكل عامّ، وبأبي الأنبياء إبراهيمعليه‌السلام ، وبخاتم الأنبياء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل خاصّ:

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ ) (١) .

( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ ) (٢) .

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ) (٣) .

وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(عَمَلٌ قليل في سُنّة، خَير من عَمَلٍ كثير في بُدعَة)(٤) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١)الممتحنة: ٦.

(٢)الممتحنة: ٤.

(٣)الأحزاب: ٢١.

(٤)بحار الأنوار: ج ٢ / ص ٢٦١.

٣٢٠

(لا يُقبَل قول إلاّ بعَمَل، ولا يُقبَل قول وعَمل ونيّة إلاّ بإصابة السُنّة)(1) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: (سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: عليكم بالسُنّة، فعَمَل قليل في سُنّة، خَيْر من عمل كثير في بُدْعة)(2) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن تَمسّك بسُنّتي في اختلاف أُمّتي، كان له أجر مئة شهيد)(3) .

وعن عليّ بن مَهزيار، عن منصور بن أبي يحيى، قال: سمعتُ أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: (صعدَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المنبرَ فتغيّرَت وَجْنتاه والتمع لَونُه، ثُمّ أقبل بوجهه فقال: يا معشرَ المسلمين، إنّما بعثْتُ أنا والسّاعة كهاتين، ثُمّ ضمّ السبّاحتين(4) .

ثُمّ قال: يا معشر المسلمين، إنّ أفضل الهُدى هدى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير الحديث كتاب الله، وشرّ الأُمور مُحدَثاتها. ألا وكلّ بُدعَة ضلالة، ألا وكلّ ضلالة في النار)(5) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (في القلب نور لا يضيء إلاّ من اتّباع الحقّ وقَصْدِ السبيل، وهو نور من المرسلين الأنبياء يُودَع في قلوب المؤمنين)(6) .

وعن ابن حميد، رَفعَه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين فقال: أخبرني عن

____________________

(1)بحار الأنوار: ج2 / ص261.

(2)المصدر السابق: ص262.

(3)المصدر السابق: ص262.

(4)السبّاحة: الإصبع التي تلي الإبهام.

(5)بحار الأنوار: ج2 / ص263.

(6)بحار الأنوار: ج2 / ص265.

٣٢١

(السُنّة) و (البُدعَة)، وعن (الجماعة) وعن (الفُرقة).

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ((السُنّة) ما سَنّ رسول الله، و (البُدعَة) ما أُحدِث من بعده، و (الجماعة) أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً، و (الفُرقة) أهل الباطل وإن كانوا كثيراً)(1) .

وعن موسى الكاظمعليه‌السلام : (ثلاثُ مُوبِقات: نكث الصَفقة، وترك السُنّة، وفِراق الجماعة)(2) .

وفي النصّين الأخيرين تتبيَّن أبعاد التلاحم العضوي الوثيق في بناء الأُمّة، في الارتباط بمنابع التشريع (السُنّة)، والارتباط بالقيادة (البَيعة)، والارتباط العضوي بالأُمّة (الجماعة).

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (رحمَ اللهُ خُلفائي، فقيل: يا رسول الله، ومَن خلفاؤك؟ قال: الّذين يُحيون سُنّتي، ويُعلّمونها عباد الله)(3) .

والارتباط بين الخلافة والسُنّة يُلفت النظر في هذا الحديث، فالخلافة تتحقّق باتّباع سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأيضاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أمّا بعد، فإنّ خير الأُمور كتاب الله، وخير الهُدى هدى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشرّ الأُمور مُحدَثاتها، وكلّ بُدعَة ضلالة)(4) .

____________________

(1)بحار الأنوار: ج2 / ص266.

(2)بحار الأنوار: ج2 / ص266.

(3)بحار الأنوار: ج2 / ص25.

(4)سنن ابن ماجة: ج1 / ص17 / الحديث 45.

٣٢٢

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن أحيى سُنّة من سُنّتي، فعمل بها الناس، كان له مثل أجر مَن عمل بها، لا ينقص من أُجورِهم شيئاً، ومَن ابتدعَ بُدعَة، فعُمل بها، كان عليه أوزار مَن عمل بها، لا ينقص من أوزار مَن عمل بها شيئاً)(1) .

وكأنّ الذي يبتدع في الدِين ويقطع الأجيال اللاحقة عن اتّباع السُنّة، يتحمّل وزر كلّ الذين ينقطعون عن المسيرة والخطّ، دون أن ينقص من أوزارهم شيء.

بين التقليد والثوابت:

يُلاحظ كثيراً: أنّ بعض علماء الاجتماع يضعون علامة الاستفهام أمام حالة النزوع إلى السُنّة، ورفض البدَع في الأديان، وبشكل خاصّ في الإسلام، ويُفسِّرون هذه الحالة بالنزوع إلى القديم، والميل إلى التقليد، ورفض التجديد والتحرّك.

ومن هذه الزاوية يُدرِجون المجتمعات الدينيّة في قائمة المجتمعات المحافِظة، التي ترفض التحرّك والتجديد والتطوّر، في قِبال النوع الآخر من المجتمعات، وهي المجتمعات الّتي تَتَّسِم بالحركيّة، وترفض الجمود على القديم والركود والتقليد.

يقول الباحثان الاجتماعيّان (W. F. Ogburn) و (M. F. Nimkoff): (المجتمعات الجامِدة - بعكس المجتمعات الحركيَّة - لا تستجيب للتحوّلات الاقتصاديّة، وترفض التجديد، وتخضع الحياة في هذه المجتمعات لنظام ثابت تقريباً، والسُنَن والأعراف تتحكّم في حياة الناس بصورة قاهرة. والإنتاج

____________________

(1)سُنَن ابن ماجة: ج1 / ص76.

٣٢٣

الاقتصادي يجري بصورة تقليديَّة.

ولا تتبدّل التصوّرات والأفكار الدِينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

والموقع العائلي والطَبقي والاجتماعي لأيّ شخص يُحدِّد دَوره الاجتماعي، وموقعه في المجتمع، وحتّى زواجه وموته، ويتحكّم العرفُ والتقليد على الأخلاق، ويندر الخروج على القواعد والأعراف والأساليب الحاكمة في المجتمع، وإذا حدث شيء من ذلك، يواجه ردود فعل قويّة مُعاكسة.

والطاعنون في السنِّ يُشكِّلون مصادر السُنَن والأعراف التقليديّة، ويتحكّمون في حركة المجتمع.

إنّ البيئة الاجتماعيّة لا تُمارس أيّ دور تحريكي على الأفراد، ولا تدفعهم إلى الإبداع والتجديد، ويجري كلّ شيء تقريباً بشكل تقليدي وثابت. حتّى الزيّ واللباس والأكل، يتحدَّد شكله بصورة مُسبَقة، ولا أمل يساور أحداً في أن تتطوّر مثل هذه المجتمعات وتتحرّك للأمام، وتجري في جوّ قائم ثابت غير مُتطوِّر.

هؤلاء الناس يعيشون للطموحات وللأفراح والمسرّات الصغيرة في مسير حياتهم اليوميّة، وسُعداء من ناحية أُخرى بالحياة الأبديّة السعيدة التي ينتظرونها بعد الموت)(1) .

مثل هذا التصوّر عن المجتمعات الخاضعة للسُنَن أمر شائع في الكتب الاجتماعيّة، وعلماء الاجتماع - في الغالب - ينظرون إلى المجتمعات المرتبطة بالسُنن والمواريث الحضاريّة بهذه النظرة السلبيّة والقاتِمة.

وبطبيعة الحال، فإنّ هذا التصوّر يشمل المسيرة الإلهيّة على وجه الأرض في التاريخ، فإنّ هذه المسيرة مُرتبطة بسُنن ثابتة، تتوارثها جيلاً بعد جيل، وتحكمها ضوابِط وحدود، وأعراف وقِيم وأخلاق ثابتة وغير مُتغيِّرة، وتحرص أجيال هذه

____________________

(1)نقلاً عن كتاب (علم الاجتماع)، لـ أ. ج. آريان بور: ص478 - 479.

٣٢٤

المسيرة أن لا تنحرف عن الخطِّ والطريق، وأن لا تُستبدَل المواريث الحضاريّة التي ورِثوها من السلف بالأعراف والقِيم والتصوّرات الجاهليّة التي استحدثها الناس، ويعتبرون أيّ انحراف عن طريق السَلف من البدعة الـمُحرَّمة، وكلّ اتّباع لمسيرة السّلف الصالح من السُنّة الواجبة والمندوبة.

وهذا التصوّر في حساب هذه الفئة من علماء الاجتماع، يُدخِل المجتمع ضمن التصنيف المذكور، في عداد المجتمعات الجامدة وغير الحركيّة.

ولابدّ أن نُشير هنا إلى المفارقة العلميّة الّتي يقع فيها كثيراً من الباحثين من هذا النمط. يختلط لديهم حساب الثوابت القائمة في حياة الإنسان، بحساب القديم وتقليد القديم والجمود على القديم، وهذا الخلط هو سَبب المفارقة الّتي يقع فيها هؤلاء.

إنّ في حياة الإنسان ثوابت لن تتغيَّر، ولا تخضع لحسابات الزمن، وهذه الثوابت هي الأبعاد الرئيسيّة للإنسان، والقِيم الحقيقيّة لشخصيّة الإنسان، وتجاوز هذه الثوابت يُؤدِّي إلى مَسخ شخصيّة الإنسان وتشويهه.

وللمحافظة على شخصيّة الإنسان بأبعاده الحقيقيّة، لابدّ من المحافظة على هذه الثوابت، وقد تكون هذه الثوابت في المحتوى فقط، وقد تكون في المحتوى والشكل معاً.

فالحاجة الجنسيّة من الحاجات الثابتة في حياة الإنسان، وطريقة تصريف هذه الحاجة أيضاً من العناصر الثابتة في حياة الإنسان، فلا يمكن أن يتجاوز الإنسان الحاجة الجنسيّة من حيث المحتوى والمضمون، كما لا يمكن أن يتجاوز الزواج وبناء العائلة من حيث الشكل.

ويصحّ أيضاً في حاجة الإنسان إلى المعاشرة الاجتماعيّة، من حيث المضمون أحياناً فقط دون الشكل، ومن حيث المضمون والشكل أحياناً

٣٢٥

ويصحّ أيضاً في الجانب الاقتصادي من حياة الإنسان.

وهذه المجوعة من الثوابت، تُشكّل مجموعة كبيرة وواسعة من الحاجات الأساسيّة في شخصيّة الإنسان، لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها أو يستبدلها بشكل من الأشكال، وأيّ محاولة لتخطّي هذه الحاجات، تجرّ الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه.

وهذه الأبعاد الأساسيّة الثابتة لشخصيّة الإنسان، هي الّتي ترسمها الأديان الإلهيّة بالإجمال والتفصيل، ويدعو إليها ويعمل بها الأنبياء والمرسلون، وعباد الله الصالحونعليهم‌السلام ، وهي ما أسميناه بالتُراث والمواريث والسُنَن، في مقابل البُدَع التي تُعبِّر عن تجاوز الإنسان للسُنن الإلهيّة الثابتة في حياة الإنسان.

وإزاء هذه الحالة (حالة الالتزام بالثوابت الإلهيّة في حياة الإنسان)، هناك حالة أُخرى، وهي حالة التبعيّة والجمود على القديم، والتهيّب من تجاوز كلّ شيء قديم، والتعصّب للآباء.

والقرآن الكريم يذمّ هذه الطائفة من الناس:

( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) (1) .

( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) (2) .

( قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُهْتَدُونَ ) (3) .

( وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى‏ مِمّا وَجَدْتّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم

____________________

(1)الأعراف: 28.

(2)يونس: 78.

(3)الزخرف: 22.

٣٢٦

قَالُوا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) (1) .

وهذه هي حالة الجمود والتبعيّة والتقليد غير الواعي، وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن حالة اتّباع السُنَن الإلهيّة التي يأمر بها الإسلام، والتي تُشكِّل العُمق الحقيقي للإنسان وأصالته، والثوابت الإلهيّة في حياته.

الثوابت والفطرة والصِبغَة:

وهذه الثوابت في شخصيّة الإنسان، هي التي يُعبِّر عنها القرآن الكريم بـ (الفطرة)، كما يبدو:

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ) (2) .

ويظهر من الآية الكريمة أنّ الفطرة هي: مجموعة الخصائص التي أودَعها الله تعالى في الإنسان(3) ، والتي خلَق الله الإنسان عليها.

وهذه الخصائص تُشكِّل الجانب الثابت من شخصيّة الإنسان، وتُعقِّب الآية الكريمة على ذلك بقوله تعالى:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ، أي: لا يمكن التلاعب والتغيير والتبديل في خلْق الله بشكلٍ من الأشكال.

وإنّما (الدِين) استجابة تشريعيّة لهذه الحاجات والأبعاد التكوينيّة الثابتة في شخصيّة الإنسان، والإنسان عندما يستجيب لسُنَن الله التشريعيّة، ومنهجه الذي

____________________

(1)الزخرف: 23 - 24.

(2)الروم: 30.

(3)معنى الفطرة: الخلْق والإبداع، ومعنى الآية الكريمة على هذا تكون كما يلي: لا تبديل لخلق الله في الكيفيّة والشكل الذي خلَق الله الناس وأبدعهم عليها.

٣٢٧

سلَكَه الأنبياء والمرسلون، يستجيب لهذا الجانب الثابت من شخصيّته.

وقد ورد التعبير عن هذه الثوابت في شخصيّة الإنسان في القرآن بـ (صِبغَة الله):(صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (1) .

وهو تعبير بديع عن الجانب الثابت في الإنسان.

فإنّ الله تعالى قد خلق الإنسان بلَونه وصِبغته الخاصّة التي ميّزه بها، وهذه الصبغة واللون الذي يتميّز به الإنسان صِبغة من صِبغِ الله، صبغَ بها شخصيّة الإنسان، والدِين، هو الآخر، الجانب التشريعي من هذه الصِبغة، الذي يتناسق مع الصِبغة الإلهيّة في جانبه التكويني، وهما معاً صِبغة الله، أحدهما الوجه التكويني والأُخرى الوجه التشريعي لها؛ ولذلك فهما متناسِقان مُنسجمان.

أمّا الأصباغ والألوان الجاهليّة الّتي يصبغون بها حياة الإنسان، في الأخلاق والأعراف والقوانين والتصوّرات والرؤى، فهي لَمّا كانت صِبغة غير صِبغة الله؛ تأتي غير مُتناسقة لهذه الصِبغة الإلهيّة التي صبغَ الله تعالى شخصيّة الإنسان بها في التكوين.

روي عن رسول الله قال: (يا عباد الله، أنتم كالـمَرضى، وربّ العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعلَمه الطبيب، وتدبيره به، لا فيما يشتهيه المريض ويَقترحه، ألا فَسلِّموا لله أمره تكونوا من الفائزين)(2) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام للـمُفضّل بن عُمَر:

____________________

(1)البقرة: 138.

(2)مجموعة ورّام: ج2 / ص117.

٣٢٨

(ولكنّه خلقَ الخلقَ، فعلـمَ ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلَّه لهم وأباحه، تفضُّلاً منه عليهم، لـمَصلحتِهم، وعَلِم ما يضرّهم، فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم)(1) .

2 - القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة:

تُعطي التربية الإسلاميّة أهمِّيّة خاصّة للوراثة في بناء شخصيّة الإنسان المسلم؛ ذلك أنّ تعميق الإحساس بالوراثة للأنبياء والشهداء والصدِّيقين، والارتباط بهذه المسيرة المباركة، يمنح الإنسان حالة الاستعلاء على الحياة الدنيا وزُخارفها، والترفّع عن الهوى والأنا والشهوات.

فإنّ الإنسان إذا عمّقَ في نفسه الإحساس بالارتباط الأُسري، لا يسمح لنفسه التفريط في ما أعطاه الله من المواهب والنِعَم.

كرامة الأُسرة وموقعها الاجتماعي:

وهذا هو سرّ تأثير الوضع العائلي للإنسان في سلوكه ومعيشته، فإذا شَعَر الإنسان بأنّه يرتبط بأكرمِ أُسرة في حضارةِ الإنسان، وهي أُسرة الأنبياءعليهم‌السلام ، وأنّه خَلَف هذه الأُسرة، وحلقة الارتباط بين أجيال هذه الأُسرة، فليس من شكٍّ أنّ هذا الإحساس يبعث في نفسه قدرة كبيرة على الترفّع على الـمُنكَرات والـمُرْديات، ويمنحه القدرة على مكافحة الشهوات والأهواء، ويضعه في موضع الاستعلاء على اللذّات والشهوات التي حرَّمها الله عليه.

إنّ الشعور بالبنوَّةِ والوراثة لأُسرة التوحيد والارتباط بها، يمنح الإنسان

____________________

(1)وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة / ص 236. عن المصدر السابق.

٣٢٩

إحساساً قويّاً بقيمته التاريخيّة والحضاريّة، فلا يُفرِّط في قِيَمِه وموقعه.

وهذا هو سرّ اهتمام الإسلام بالأساليب التي تشدّ الإنسان بهذا المحور الحضاري الربَّاني.

فالقرآن الكريم يعتبر إبراهيمعليه‌السلام أباً للمؤمنين:( مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) .

ولاشكّ أنّ هذه البنوّة ليست هي البنوّة النسبيَّة، وإنّما هي بنوّة العمل، ووراثة العقيدة والرسالة.

وعن هذه النبوّة والانتماء يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمان الفارسيّ: (سلمانُ منّا أهل البيت).

وينفي القرآن الكريم أن يكون ابن نوحعليه‌السلام من أهلِه:( إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

والأهليّة هنا تساوي العمل، والعمل وحده هو الّذي يرفع الإنسان، ويضع الإنسان، ويربطه بإبراهيم خليل الرحمانعليه‌السلام وأُسرته من الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، ويقطعه عنهم، ويجعله في امتداد هذه المسيرة المباركة ويَبتره عنها.

إذن، فهناك تَداعي مباشر بين الوراثة والعمل، فالعمل يُحقّق الوراثة الصالحة، والإحساس بالوراثة يعدّ الإنسان للعمل الصالح.

ومن هنا تأتي قيمة زيارة الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام بعد وفاتهم، وخطابهم بالنصوص الواردة في الزيارات.

فإنّ السعي لزيارة الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام يُعمِّق في نفس الإنسان الإحساس بالارتباط بهم باستمرار، ويغذّي هذا الشعور بصورة مُستمرّة، كما أنّ إحياء مناسباتهم يُؤدِّي دوراً فعّالاً في تحقيق هذه الصلة الروحيّة، بين الإنسان المؤمن وهذه المسيرة الحضاريّة الربّانيّة المباركة.

٣٣٠

وبشكلٍ خاصّ، تؤكِّد النصوص على زيارة الحسينعليه‌السلام ، سيّما زيارة عاشوراء، وفي كلّ يوم؛ للموقع الحسّاس الّذي يحتلّه سيِّد الشهداء الحسينعليه‌السلام في هذه المعركة المصيريّة بين مُعسكَر الرحمان ومُعسكَر الشيطان، ولأجل تعميق الصِلة بالموقف الحسيني الشامخ والصلب في كربلاء.

والذين يُحرِّفون ويُكافحون هذه الشعائر الإسلاميّة، يفهمونها ويتعاملون معها بسطحيَّة ظاهرة، وباسم الشريعة.

إنّ الارتباط بالأنبياء والمرسلين والأئمّة والصالحينعليهم‌السلام ، بالوسائل والطُرق المشروعة، من المسائل الّتي يتّخذها الإسلام أداة للتربية، وشدّ الإنسان المسلم بالمسيرة الإسلاميّة الكبرى في التاريخ؛ ولذلك يُذكِّر القرآن بقصص الأنبياء والصالحين، وبصورة مُكثَّفة، وبتكرار وتأكيد بليغ.

ولاشكّ أنّ توفير هذا المناخ الحضاري للإنسان المسلم، والارتباط بهذا الجوّ، منذ آدمعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أهمِّ أهداف القرآن الكريم في التذكير بقصص الأنبياء والصالحين.

والإحساس بالوراثة يُعمِّق شعور الإنسان بالمسؤوليّة، بصورة مؤثِّرة وقويّة؛ ذلك أنّ الإنسان عندما يشعر أنّه جزء لا يتجزّأ من مسيرةٍ طويلة، ذات جذور بعيدة في التاريخ، يستشعر بمسؤوليّة الـمُحافَظَة على خطِّ الآباء والأسلاف ومكاسبهم وإنجازاتهم، وتثمينها ودعمها، ويشعر أنّ عليه مسؤوليّة نقل هذه الأمانة الّتي استلمها من الجيل السابق إلى الأجيال التي تأتي من بعد، وأنّه حَلَقَة من حلقات هذه السلسلة الطويلة، يربط الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، والجسر الّذي يمتدّ بين الأجيال، يصل فيما بينها.

إنّ هذه المحاسبة في المواريث تُعمّق شعور الإنسان بالمسؤوليّة، وتبعث في نفسه الغيرة على مواريث السَلف، والوفاء لهم، والحرص على الأجيال الـمُقبِلة، وتُشعِره أنّه جزء لا يتجزّأ من سلسلة طويلة مُمتدَّة، وليس من حقِّه أن يُفرِّط في

٣٣١

هذا الميراث الكبير الذي ورثه من أسلافه وآبائه الصالحين.

وهذه الحالة تختلف كثيراً عمّا لو كان الإنسان يشعر أنّه لوحده مشروع مُستقلّ، غير مرتبط بمَن قبله ومَن بعده، وهو كيان قائم بنفسه، ولا يرتبط بمسؤوليّة تجاه الآباء، ولا بمسؤولية تجاه الأبناء.

وشتّان ما بين هذين الشعورين، وما ينشأ عنهما من مواقف.

إنّ النمط الأوّل هو النمط المسؤول من الناس، والنمط الثاني هو النمط اللامسؤول من الناس. والإحساس من النوع الأوّل هو الإحساس الّذي يبني في نفس الإنسان الشعور العميق بالمسؤوليّة، والإحساس من النوع الثاني يرفع الإحساس بالمسؤوليّة عن كاهل الإنسان.

والإحساس من النوع الأوّل يبني في نفس الإنسان شعوراً بأنّه جزء من كلّ مُترابِط ومُتضامن على البُعدين، الزماني والمكاني. والإحساس من النوع الثاني يخلق في نفس الإنسان شعوراً بأنّه شيء مُنفصِل عن التاريخ، وعن المستقبل، ولا يحمل أيّ مسؤوليّة عن الماضي والمستقبل، وإنّما يعيش لنفسه، وفي حدود إطار ذاته وشخصيّته.

وهكذا نجد أنّ الإحساس بالارتباط بالسَلف يحمي الإنسان عن سلطان الهوى والشهوات، ويمنحه المناعة ويُحصِّنه ضدّ الشيطان ووساوسه ووسائله ومَكْره، ويُعطي الإنسان قدرة على الصمود والثبات أمام الضغوط الّتي يمارسها الطاغوت على المؤمنين لحرفهم عن مسيرة السَلف.

ونذكر هنا بعض الشواهد التاريخيّة على هذه النقطة:

موقف الحسينعليه‌السلام من البيعة ليزيد:

لمّا مات معاوية، أرسل يزيد إلى الوليد بن عتبة، عامله على المدينة، ليأخذ

٣٣٢

البيعة من الحسينعليه‌السلام ، وعبد الله بن عمر، وعبد الرّحمان بن أبي بكر، وعبد الله ابن الزبير.

فأرسل الوليد إلى الحسينعليه‌السلام وابن الزبير منتصف اللّيل، فصار إليه الحسينعليه‌السلام في ثلاثين من مواليه وأهل بيته وشيعته، شاكِّين الأسلحة؛ ليكونوا على الباب فيمنعوه إذا علا صوته، وبيده قضيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا استقرّ المجلس بأبي عبد اللهعليه‌السلام ، نعى الوليد إليه معاوية، ثُمّ عرضَ عليه البيعة ليزيد، فقال له الحسينعليه‌السلام :

(مثلي لا يُبايِعُ سرّاً، فإذا دعوتَ الناس إلى البيعة، دعوتنا معهم، فكان أمراً واحداً).

فاقتنع الوليد منه، لكنَّ مروان ابتدرَ قائلاً: إنْ تركته وفارقك الساعة ولم يُبايِع، لم تقدر منه على مثلها حتّى تَكثُر القتلى بينكم، ولكنْ احبس الرّجل حتّى يُبايِع أو تضرب عُنقه.

فقال الحسينعليه‌السلام : (يا ابن الزرقاء(1) ، أنتَ تقتُلني أم هو؟! كذبتَ وأثمتَ).

ثُمَّ أقبل على الوليد وقال:

(أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومُختلَف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسِق شارب الخَمر، قاتل النفس الـمُحترَمة، مُعلِن بالفِسق، ومثلي لا يُبايِعُ مثله، ولكن نُصبِح وتُصبِحون، ونَنظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة).

____________________

(1)نقل سبط ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص: ص218، ط النجف) عن الأصمعي، عن ابن إسحاق: أنّ أُمّ مروان اسمها أُميّة، وكانت من البغايا في الجاهليّة، وكان لها راية مثل راية البيطار تُعرَف بها، وكانت تُسمَّى (أُمّ جبتل الزرقاء)، وكان مروان لا يُعرَف له أب، وإنّما نُسِب إلى الحَكمِ كما نُسِب عمرو إلى العاص.

٣٣٣

فأغلظَ الوليد في كلامه وارتفعت الأصوات، فهجمَ تسعة عشر رجلاً قد انْتَضَوا خناجرهم، وأخرجوا الحسينعليه‌السلام من منزلِه قَهراً(1) .

والذي يتأمّل في الحوار الّذي جرى بين الحسينعليه‌السلام ومروان، يلمس بوضوح خلفيّات كلام كلّ منهما. أنّ مروان يتسلَّح بقوّة الأمير (الوليد)، وقُدرته على السجن والقتل والبطش: (ولكن احبس الرّجل حتّى يُبايِع، أو تضرب عُنقه).

وأمّا الحسينعليه‌السلام ، فهو يتحدَّث عن خلفيَّة تاريخيّة ذات جذور راسخة وعميقة، وأصالة، ويقول:

(إنّا أهلُ بيت النبوّة) من بيت النبوّة وأُسرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(ومعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة) والنبع الصافي.

وللرسالة والنبوّة جذور عميقة في هذه الأُسرة، كما أنّ للـمَعدن جذور عميقة في الأرض.

(بِنا فتح الله وبِنا يختم) وقد فتح الله تعالى الرسالة بهذه الأُسرة، وختمها بها.

ومن الأُسرة أبو الأنبياءعليه‌السلام ، ومن هذه الأسرة خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يقول:

(ويزيد شارب الخَمر، قاتِل النفس الـمُحترَمة، مُعلِن بالفسق) فالفاصلة بين هاتين الأُسرتين كبيرة، ولا يمكن أن يُصافِح الحسينعليه‌السلام يزيد، أو يبايعه ويعترف بإمارته، وهو الفاسق الـمُعلِن للفسق، شارب الخمر، وقاتل الأنفس البريئة، (ومثلي لا يُبايع مثله).

الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء:

وللحسينعليه‌السلام كلام آخر في يوم عاشوراء، خاطب به جيش عُمَر بن سعد، ننقل منه الجملة التي نُريد أن نستشهد بها فقط.

____________________

(1)مقتل الحسينعليه‌السلام ، للسيّد عبد الرزّاق المقرّم: ص127 - 128. نقلاً عن ابن الأثير، الكامل: ج4 / ص6. ومقتل الخوارزمي: ج1 / ص183. والطبري: ج6 / ص189. ومناقب ابن شهر آشوب.

٣٣٤

(ألا وأنّ الدَّعيَّ قد ركَزَ بين اثنتين: بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذِلّة، يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحُجور طابَت وطَهُرت، وأُنوف حَميّة ونفوس أبيَّة، مِن أن نُؤثِر طاعة اللئام على مَصارِع الكرام)(1) .

وما أروع الصورة التي يرسمها الحسينعليه‌السلام - وهو في قلب الأعداء يوم عاشوراء - لهذه المعركة.

إنّه يُشخِّص أوّلاً العدوّ تشخيصاً دقيقاً، ويُشخِّص موضعه وأصله ونَبعه، أنّه على وجه الدّقّة (الدعيّ ابن الدعيّ)، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من هذا التشخيص والتوضيح، ويَصفع الطاغية بهذا الكلام أمام جُنده وقُوّاته، وهو في قبضتهم، ويُعلِن أنّ الدعيّ ابن الدعيّ يُخيِّره بين (الذِلّة) ومبايعة يزيد بن معاوية الفاسق، وبين (سِلَّة) البطش والقتل.

ثُمّ يعلِن موقفه من هذا الخيار الصعّب: (وهيهات منّا الذِلّة).

يقول لهم: إنّ هذا الموقف ليس موقفاً شخصيّاً، يمكن أن يتزلزل أو يخضع للإغراء والوعود، أو للضغط والإرهاب، وإنّما هو موقف يفرضه عليه (الله) و (رسوله)، وهذا هو البُعد الأوّل لموقف الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، ينبع من الولاء (لله) و (الرسول)، والإيمان بالله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ يقولعليه‌السلام : (والمؤمنون)، وهذا هو البُعد الثاني للموقف.

فالمؤمنون في كلّ مكان يرفضون له الاستسلام والانقياد للفاسق يزيد بن معاوية، ويطلبون منه الثبات والصمود، وعدم الخضوع للإغراء والإرهاب.

____________________

(1)نقلَ الخطبة السيّد عبد الرزّاق المقرّم في مقتله: ص262 - 263، عن اللُهوف، للسيّد ابن طاووس: ص54. وابن عساكر في، تاريخ الشام: ج4 / ص334. والخوارزمي في، المقتل: ج3 / ص6.

٣٣٥

ثُمّ يقولعليه‌السلام : (وحُجور طابَتْ وطَهرتْ وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة). وهذا هو البُعد التاريخي الثالث، والجذور التاريخيّة العميقة لهذا الموقف.

وكأنّ الحسينعليه‌السلام يريد أن يقول لجيش ابن زياد يومئذٍ: إنّه ليس كسائر الناس؛ خَشَبة عائمة على مجرى الماء، يأخذه التيّار حيث يتَّجه، وإنّما هو جزء من بُنيان كبير وعريق وأصيل، يرتبط بالله ورسوله من جانب، ويرتبط بالمؤمنين من جانب آخر، ويرتبط بأُسرة طاهرة نقيّة، أبيَّة للضَيم رافضة للظلم من جانب ثالث، فلا يمكن أن يختار طاعة اللئام على مصارع الكرام.

محمّد بن أبي عُمير في سجون العبّاسيِّين:

وأودّ أن أذكر نموذجاً آخر من نماذج الصمود والثبات من تاريخنا، من المؤمنين الذين تعرّضوا للفتنة، فحماهم الله تعالى بمواقف آبائهم وإخوانهم الذين سبقوهم في الإيمان والابتلاء، فلم يخضعوا للإرهاب والتعذيب، وهو (محمّد بن أبي عمير (رحمه الله)).

كان من خِيار أصحاب الإمام موسى بن جعفر، والإمام الرضا (عليّ بن موسى)، والإمام الجواد محمّد بن عليّعليهم‌السلام ، وقد أدرَكهم جميعاً، وروى عن الإمام الرضا والجوادعليهما‌السلام .

ذكر ابن بطّة: أنّ له أربعاً وتسعين كتاباً(1) .

يقول النجاشي: (رُوي أنّه حبسَه المأمون، وقيل أنّ أُخته دفنَت كُتبَه في حالة اختفائه، وكونه

____________________

(1)معجم رجال الحديث، لآية الله السيّد الخوئي: ج14 / ص281.

٣٣٦

في الحبسِ أربع سنين، فهلكت الكتب. فحدَّث مِن حفْظِه، وممّا كان سَلَف له في أيدي الناس؛ فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله. وقد صنَّفَ كُتباً كثيرة)(1) .

وقد كان (رحمه الله) طويل السجود، كثير الذِكر والعبادة.

روى الكشّي عن الفضل بن شاذان، قال: (دخلتُ العراقَ فرأيتُ واحداً يُعاتِب صاحبه ويقول له: أنت رجل عليك عيال وتحتاج أن تكسب عليهم، وما آمن عليك أن تذهب عيناك لطولِ سجودك.

فلمّا أكثر عليه، قال: أكثرتَ عليّ، ويحك، لو ذهبت عين أحد من السجود، لذهبت عين ابن أبي عمير. ما ظنَّك برجل سجدَ سجدة الشكر بعد صلاة الفجر، فما يرفع رأسه إلاّ زوال الشمس؟!)(2) .

ويقول فضل بن شاذان: أخذ يوماً شيخي بيدي، وذهب إلى ابن أبي عمير، فصعدنا في غرفة وحوله مشايخ له يُعظِّمونه ويُبجِّلونه. فقلت لأبي: مَن هذا؟ قال: هذا ابن أبي عمير.

قلت: الرجل الصالح العابد؟ قال: نعم(3) .

وقد ألقى هارون عليه القبض (وضُرِبَ ابن أبي عمير مئة خشبة، وعشرين خشبة بأمر هارون - تولَّى ضربه السندي بن شاهك - على التَشيّع)(4) .

وروى الفضل بن شاذان قال: (سُعِيَ بمحمّد بن أبي عمير إلى السلطان، أن يُعرِّف أسامي الشيعة بالعراق،

____________________

(1)رجال النجاشي: ص229، الطبعة الحجرية.

(2)رجال الكشّي: ص494، طبعة النجف.

(3)المصدر السابق.

(4)المصدر السابق.

٣٣٧

فأمَره السلطان أن يُسمِّيهم، فامتنع، فجُرِّد وعُلِّق بين القفّازين، فضُرِبَ مئة سوط.

قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لمّا ضُربتُ فبلغَ الضربُ مئة سوط، أبلغ الضرب الألم إليّ، فكدتُ أن أُسمِّي، فسمعت نداء محمّد بن يونس بن عبد الرحمان يقول: يا محمّد بن أبي عمير، اذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقوَّيتُ بقوله وصبرت، ولم أُخبر، والحمد لله)(1) .

والإنسان العامل، عندما يشعر أنّه جزء لا يتجزّأ من مسيرة مُتّصلة، بعيدة الأغوار في التاريخ، مُمتدَّة على امتداد الزمان، لا يشعر بالفشل والانكسار والضّعف.

فإنّ الفشل يُصيب الإنسان، إذا كان لوحده مشروعاً قائماً بالذات، يموت العمل بموته، ويعيش بحياته، وينجح بنجاحه ويسقط بفَشلِه.

وأمّا حينما يكون الإنسان جزءاً من مسيرة مُترابِطة متماسكة، تمتدّ عبر الزمان، فلن تتوقّف المسيرة إذا مات، ولن تفشل إذا فشل، ولن يكون الفشل إلاّ انتكاسة في المسيرة، سرعان ما تستطيع المسيرة أن تتجاوزه، وأن تجبر الخسارة.

إنّ هذه المسيرة قد جاوزت نمرود وفرعون، وقوم عاد وثمود، ومئات الجبابرة والطغاة الـمُستكبرين على وجه الأرض، الذين كانوا يتحدّون الأنبياء والمرسلينعليهم‌السلام ، فلم تتوقّف المسيرة، وواصلت عملها وتقدّمها.

ومن هذه الزاوية، فليس في حساب هذه المسيرة الفشل والهزيمة، بالمعنى الذي يعرفه الناس، وأكثر ما فيها انتكاسة، أو كما يقول القرآن الكريم: قرح، قد أصاب العدوّ مثله أو أكثر منه.

وسُرعان ما تتجاوز المسيرة الانتكاسة، ويَندمِل

____________________

(1)تنقيح المقال في علم الرجال للعلاّمة المامقاني / ج2، حرف الميم، ص62.

٣٣٨

القَرح، وتنشط المسيرة، ولن يكون القَرح إلاّ تمحيصاً وتزكية للّذين آمنوا، وهذا هو شعور الدُعاة إلى الله، العاملين في سبيل الله، إذا أصابهم قرح في المعركة، أو أصابتهم انتكاسة في ساحات القتال والصراع.

ولنتأمّل هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران:

( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (1) .

لم تنزل هذه الآيات بعد معركة ظافرة، وبعد نشوة من نشوات النصر، وإنّما نزلت بعد مرارة نكسة أُحد بالذات.

بعد هذه النكسة الـمُرَّة يقول الله تعالى للمؤمنين:( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ) .

وليس من مُوجِب للإحساس بالوَهنِ والحُزن؛ فإنّ ما أصابهم في أُحُد لن يزيد على أن يكون قرحاً قد أصاب العدوّ مثله.

( وأنتم الأعلَون ) ، ومسيرتكم هي الظافرة الـمُؤيَّدة من عند الله، والنصر لا يتجاوزكم.

وما أصابكم من قرح في (أُحد) فهو لكم تمحيص وتطهير وتزكية، ويريد الله أن يزكّيكم به، ولن تدخلوا الجنّة ما لم يصبكم أمثاله، وما لم يُطهِّركم الله ويزكِّيكم ويمحِّصكم به.

إنّ الإنسان العامل الداعية إلى الله يشعر أنّ هذه المسيرة لن تُبتَدأ به، ولن تُختَم به، ولن يكون جهده وعمله إلاّ جزءً من المجهود الكبير المتواصل الّذي تبذله

____________________

(1)آل عمران: 139 - 142.

٣٣٩

الأجيال من المؤمنين.

وهذا المجهود عتيد ومُتّصل عبر الأجيال والزمان، ولن ينقطع.

فإذا نصره الله خلال تحرّكه وعمله، فسوف يُضيف على مكاسِب السَلف مكسباً جديداً، وعلى إنجازاتهم إنجازاً جديداً في حساب النصر.

وإذا ابتلاه الله بقَرح وانتكاسة، فسوف يكون سَبَباً في تمحيصه وتمحيص المؤمنين، وتمحيص المسيرة جميعاً، ويُطهِّر المسيرة والصفّ من نشوات النصر، وما يلحق هذه النشوات من الغرور والبَطر والرياء.

فلا مُوجِب إذن للإحساس بالوَهن والحزن، ولا موجب للشعور باليأس والخوف.

إنّ الداعية عندما يندمج في المسيرة، ويتحوَّل من مشروع مُستقلّ قائم بذاته إلى جزء من هذه المسيرة، لا يكاد أن يُساوره شعور بالخوف واليأس، والوهن والضعف، إلاّ عندما تنتابه حالات ضعف الإنسان، فيُدركه الله تعالى برحمته ونوره وقوّته، ويبعث في نفسه الأمل والقوّة والثقة بالله تعالى، ويشرح صدره ويُذهب عنه الخوف واليأس والشكّ.

وممّا يُصيب العاملين في سبيل الله، عندما ينهضون برسالة الله في أجواء الجاهليّة، الإحساس بالوَحشة والغُربة.

الغُربة في كلّ شيء، في التصوّرات والأفكار والعقائد، والأعراف والـمُصطلحات، والأخلاق والتقاليد، والصلاة والصيام وذكر الله.

والشعور بالوحشة والغربة، عندما يتعمَّق في نفس الداعية، يعزله ويَزويه، ويبعث في نفسه اليأس والوَهن، وأحياناً الخوف.

إنّه يتحرّك على عكس التيّار، وماذا تراه يستطيع أن يفعل في وسط هذا الجوّ الحاشد بمظاهر الجاهليّة والفساد.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402