في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208488
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208488 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وليس أضرّ على الدعاة من هذا الشعور، ولا شيء يبعث في نفوسهم اليأس والخيبة أكثر من هذا الإحساس.

أمّا عندما يرتبط الداعية نفسيّاً بأُسرة التوحيد، الضاربة في أعماق التاريخ والـمُمتدّة في أعماقه، ويشعر بأنّه عضو في هذه الأُسرة المباركة، وشوط من هذه المسيرة الربّانيّة على وجه الأرض، وصدى لدعوات الأنبياء والمرسلين وامتداد لهم؛ يشعر بالراحة والطمأنينة، والثقة والإلفة والقوّة.

وتتمكّن الثقة من نفوس الدعاة العاملين في سبيل الله، عندما يُراجعون مراحل تاريخ ومعاناة أُسرة التوحيد في التاريخ، فيرون إلى جانب هذه المعاناة والتمحيص، والمطاردة والاضطهاد والتعذيب، والتشهير والتسقيط الّذي يُرافِق حياة هذه الصفوة من الدعاة العاملين في سبيل الله.

يرون إلى جانب هذه الصورة الدامية، وإلى جانب الدموع والدماء، نصر الله تعالى لهذه العُصبة المؤمنة وتأييده، ويرون يد الله القويّة والقاهرة والرحيمة معاً، في كلّ مراحل حياتهم، كلّما نزلت بهم محنة، وكلّما حلّت بهم كارثة، وكلّما ضاقت بهم الأرض بما وَسعتْ، وكلّما قَسَت عليهم الظروف.

ويرون أنّ هذا النصر والتأييد الإلهي للعصبة المؤمنة العاملة في سبيل الله ليس صدفة، ولا حادثاً طارئاً، وإنّما هو سُنّة من سُنن الله الثابتة، الّتي لا تتحوّل ولا تتبدّل.

( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (1) .

____________________

(1)القصص: 5 - 6.

٣٤١

( وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى‏ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُم مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (1) .

( فَإِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) (2) .

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ) (3) .

( كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ) (4) .

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ ) (5) .

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) (6) .

فيزول من نفوس الدعاة العاملين في سبيل الله كلّ شكّ وريب، وكلّ يأس وخوف، وتنشرح صدورهم بالثِقة بالله تعالى ونصره وتأييده.

فمهما تطول معاناة المؤمنين، ويطول عذابهم، وتطول محنتهم، فإنّ الله تعالى لن يتخلّ عنهم، ولن يتركهم لوحدهم في مواجهة الظالمين والطغاة، ولابدّ أن ينصرهم الله، كما نصر الله تعالى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكما نصر الله تعالى الصالحين من عباده.

وهذا الإحساس بمَعيّة الله تعالى وتأييده ونصره لأُسرة التوحيد، يبعث في

____________________

(1)النور: 55.

(2)الانشراح: 5 - 6.

(3)الصافّات: 171 - 173.

(4)البقرة: 249.

(5)آل عمران: 123.

(6)التوبة: 25.

٣٤٢

نفوس الدُعاة إلى الله الثقة والأمل، والطمأنينة والثبات، ويدعم نفوسهم ويربط على قلوبهم، ويشرح صدورهم، ويزيل عنهم الإحساس بالوحشة والغربة في الطريق، مهما قلَّ العاملون على الطريق.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(أيُّها الناس، لا تستوحشوا من طريق الهُدى لقلّة أهله، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعُها قصير، وجوعها طويل)(1) .

وإذا كانت الموائد الّتي تستقطب الناس شبعها قصير، وجوعها طويل، فما أحرى بالدُعاة إلى الله أن يعتزلوا هذه الموائد إلى المائدة الإلهيّة، الّتي يجتمع حولها الأنبياء والدُعاة إلى الله، والصالحون من عباد الله:

( وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏ لِلّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى‏ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ ) (2) .

( وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (3) .

ويكتب أمير المؤمنينعليه‌السلام لأخيه عقيل، وقد آثر الحياة الدنيا على أخيه أبي الحسن:

(ولا يَزيدُني كثرة الناس حولي عزَّةً، ولا تفرُّقُهم عنّي وحشةً. ولا تحسبنَّ ابن أبيك ولو أسلَمَه الناسُ مُتضرّعاً مُتخشّعاً، ولا مُقِرّاً للضيمِ واهِناً، ولا سلِسَ الزِّمام للقائد، ولا وَطيءَ الظهر للرّاكب الـمُتقعِّد)(4) .

وفي هذه المسيرة عملُ الآباء للأبناء ذكرى ودرس، وخبرة الآباء تنتقل إلى الأبناء كدروس، ولا يبدأ الدُعاة إلى الله عملهم من نقطة الصفر، لا في العمل

____________________

(1)نهج البلاغة: خطبة 201.

(2)الشورى: 36.

(3)طه: 131.

(4)نهج البلاغة: الكتاب رقم 36.

٣٤٣

ولا في خبرات العمل.

وإنّما تنتقل خبرات العمل من جيل إلى جيل، وفي كلّ مرحلة يزداد العاملون في سبيل الله نضجاً في العمل، وخبرة في أساليب الدعوة إلى الله، وفي أساليب مواجهة الطغاة، ووعياً للعَقبات وصعوبات الدعوة إلى الله، وفَهماً لأساليب مواجهة هذه الصعوبات والعقبات.

والله تعالى يُعلِّم نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتعلَّم الصبر ممّن سبقه، حتّى أُولي العزم من الأنبياء:

( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَهُمْ ) (1) .

ويقصُّ الله تعالى على نبيّه وعلى المؤمنين قٌصصاً من أنباء الرُسل؛ ليكون لهم عِظة وذكرى:

( وَكُلاًّ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

وبعد، فهذه بعض الإيحاءات التي يُعطيها الإحساس بالانتماء إلى أُسرة إبراهيمعليه‌السلام ، والشعور بوراثة الأنبياء والأولياء والصالحين من عباد الله.

والحمد لله ربّ العالمين.

____________________

(1)الأحقاف: 35.

(2)هود: 120.

٣٤٤

الأبعاد السياسيَّة والحَرَكيّة

لثورة الإمام الحسينعليه‌السلام

* العامل السياسي

الخيار الثالث

* العامل الحركي

التحذير من الخروج إلى العراق

٣٤٥

٣٤٦

الأبعاد السياسية والحركية لثورة الإمام الحسينعليه‌السلام :

حينما نستعرض كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام ومواقفه، حين تولّى (يزيد) الأمر بعد أبيه (معاوية)، ودُعِيَ الإمام من قبل عامل يزيد على المدينة إلى البيعة، إلى أن هبط الإمام أرض كربلاء، ووقف بها في مواجهة جيش بني أُميّة، نجد عاملين اثنين كانا السبب الباعث على الخروج والثورة على الحُكم الأمَوي، والذي انتهى إلى استشهاد الإمامعليه‌السلام في وقعة الطف.

الأول: العامل السياسي.

الثاني: العامل الحركي.

لابدّ لنا من أن ندرس هذين العاملين في كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام ، في هذا المسير (من المدينة إلى كربلاء)؛ لنستطيع أن نُقدِّم تفسيراً وافياً ودقيقاً لحركة الإمام وثورته.

العامِل السياسي:

ونبدأ بدراسة العامل السياسي في هذه القضيَّة.

كان أوّل شيء اهتمّ به يزيد بن معاوية بعد أن تولّى الخلافة من بعد أبيه، هو فرض البيعة على الحَرمين الشريفين. وكان الحرمان الشريفان يُعتبران نقطتي الثقل السياسي في إعطاء الشرعيّة، أو سلب الشرعيّة من مركز الخلافة في الشام.

وأكثر ما كان يهمّ يزيد من أمر البيعة

٣٤٧

ثلاثة أشخاص: الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعبد الرحمان بن أبي بكر، وعبد الله ابن الزبير.

ولذلك فقد كانت بيعة الحرمين الشريفين أوّل ما فكر فيها يزيد بن معاوية، بعد أن تولّى الأمر في الشام.

ولا شكّ أنّ أمر الحسينعليه‌السلام كان يشغل بال الخليفة الجديد ومُستشاريه من بني أُميّة أكثر من أيّ شخص آخر. وكان معاوية قد سعى من قبل لأخذ البيعة من الحسينعليه‌السلام بولاية العهد لابنه يزيد فلم يفلح.

وكان من جواب الإمام الحسينعليه‌السلام له - حين دعاه إلى قبول ولاية العهد لابنه يزيد -:

(وهيهات هيهات يا معاوية، فضحَ الصبحُ فَحْمة الدُجى، وبهرَتْ الشمسُ أنوار السرج، ولقد فضَّلتَ حتّى أفرطت، واستأثرتَ حتّى أجحفتَ، ومنعتَ حتّى مَحَلت، وجُزتَ حتّى جاوزتَ، ما بذلتَ لذِي حقٍّ من اسم حقّه بنصيب، حتّى أخذ الشيطانُ حظَّه الأوفر، ونصيبَه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لأُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن تُوهِم الناس في يزيد، كأنَّك تصف مَحجوباً، أو تنعَت غائباً، وقد دلَّ يزيدُ من نفسه على موقع رأيه، فخُذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب الـمُهارشة عند التهارش، والحَمام السِبق لأترابهنّ، والقِيان ذوات المعازِف، وضربِ الملاهي، تجده باصراً. ودَع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وِزرِ هذا الخلْق بأكثر ممّا أنت لاقيه.

فو الله ما برحت تقدح باطلاً في جَور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقِية. ما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتُقدِم على عملٍ محفوظ في يومٍ مشهود، ولاتَ حين مَناص)(1) .

فلمّا مات معاوية وتولَّى يزيد الأمر، كان أوّل ما فكَّر فيه أن يأخذ البيعة من

____________________

(1)الإمامة والسياسة: ص186، ط مصر - 1969م.

٣٤٨

الحسينعليه‌السلام ، فكتب في ذلك إلى عامله المدينة (الوليد بن عتبة)(1) ، فامتنع الحسينعليه‌السلام امتناعاً شديداً في قصّة طويلة، يذكرها الطَبرى(2) ، وابن أعثم(3) ، وغيرهما من الـمُؤرِّخين.

فقد قال الحسينعليه‌السلام لمروان، وكان حاضراً ذلك المجلس، وكان يحثّ الوليد ألاّ يترك الحسين حتّى يأخذ البيعة منه في ذلك المجلس، وإلاّ فيضرب عنقه، فقال له الإمام الحسين:

(ويلي عليك يا ابن الزرقاء *، أتأمر بضربِ عُنقي؟! كذبتَ والله.

والله، لو رام ذلك أحد من الناس، لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، فرُم ضرب عُنقي إن كنت صادقاً).

ثُمّ أقبل الحسينعليه‌السلام على الوليد بن عتبة فقال:

(أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس الـمُحترَمة، مُعلِن بالفسق، ومثلي لا يُبايع مثله)(4) .

وعندما خرج الحسينعليه‌السلام من عند الوليد، لامَهُ مروان على ذلك لَوماً شديداً، فقال له عامل يزيد:

(ويحك، أتُشير عليّ أن أقتل الحسين؟! فو الله ما يسرّني أنّ لي الدنيا وما فيها،

____________________

(1)الفتوح، لابن أعثم: 5 / 10. وتاريخ الطبري: 7 / 316.

وقد ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسية: (أنّ عامل المدينة حينذاك كان خالد بن الحكم، كتب إليه يزيد يطلب منه أن يأخذ البيعة من الحسينعليه‌السلام )، كتابه الإمامة والسياسة: ص203.

(2)الطبري: 7 / 216 - 219، ط ليدن.

(3)الفتوح: 5 / 10 - 19، ط حيدر آباد - 1968م.

(*) الزرقاء: هي جدّة مروان، وكانت من البغايا المومِسات ذوات الرايات.

(5)الفتوح لابن أعثم: 5 / 18.

٣٤٩

وما أحسب أنّ قاتله يلقى الله بدمه إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة).

فقال له مروان مُستهزئاً:

(إن كنتَ إنّما تركت ذلك لذلك، فقد أصبتَ)(1) .

وقد كان موقف الإمامعليه‌السلام في الامتناع من البيعة ليزيد موقفاً واضحاً، لا يشكّ فيه أحد، وكلمات الإمام في مواقف مُتعدِّدة - في مسيرة من المدينة إلى كربلاء - توضِّح هذه الحقيقة.

يقول الإمامعليه‌السلام لمحمّد بن الحنفيّة (أخيه):

(يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأً ولا مأوىً، لما بايعتُ والله يزيد بن معاوية أبداً)(2) .

وخطب الإمام يوم عاشوراء في جيش بني أُميّة فقال:

(ألا وأنّ الدَعيّ بن الدَعيّ قد رَكزَ بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة. يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهرتْ، تُؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام)(3) .

وقال لأخيه عُمَر الأطرف، عندما دعاه إلى أن يتجنَّب مُجاهَدة يزيد:

(إنّي لا أُعطي الدَنيَّة من نفسي أبداً، ولتلقينّ فاطمة أباها، شاكيةً ممّا لقيَت ذرّيّته من أُمّته)(4) .

وعندما خرج الإمامعليه‌السلام يوم عاشوراء، ليقاتل جيش ابن سعد بنفسه، كان يرتجز ويقول:

____________________

(1)الإمامة والسياسة: ص 205.

(2)الفتوح، لابن أعثم: 5 / 32. والمقتل، للخوارزمي: ص188. ومقتل المقرّم: ص134، ط 2 النجف 1956م. ونفس المهموم، للشيخ عبّاس القمّي: 74.

(3)إثبات الوصيّة، للمسعودي: 142، ط النجف، الحيدريّة.

(4)اللهوف: ص15، ط صيدا.

٣٥٠

الموتُ أوْلى من ركوبِ العَارِ

والعارُ أوْلى من دخولِ النارِ(1)

فلم يكن الإمام - إذن - ليبايع يزيد مهما يكن من أمر.

ومن طرف آخر، لم يكن يزيد ليترك الإمامعليه‌السلام من دون بيعة مهما تكن النتيجة.

وقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام يُؤمن بهاتين القضيّتين معاً، فلا سبيل إلى بيعة يزيد مهما يكن من أمر، ولا يمكن أن يتركه يزيد من دون بيعة أيضاً، وكانت النتيجة الـمُترتّبة على هذين الأمرين واضحة للإمام كلّ الوضوح، لا يشكّ فيها لحظة واحدة.

وقال الإمام لأصحابه، حينما أرادوا الخروج من الحجاز إلى العراق: (وأيم الله، لو كنتُ في جُحر هامَّة لاستخرجوني)(2) .

ولمّا علم عبد الله بن جعفر أنّ الحسين يريد الخروج إلى العراق، كتب إليه يدعوه إلى البقاء، فكتب إليه الحسينعليه‌السلام :

(والله يابن عمّي، لو كنتُ في جُحر هامّة من هوام الأرض لاستخرجوني حتّى يقتلوني. والله يابن عمِّ، لَيعدينَّ عليّ كما عدَتْ اليهودُ على السبت)(3) .

وفي رواية أُخرى، يرويها الشيخ المفيد في الإرشاد عن الإمامعليه‌السلام بنفس المضمون:

(والله لا يَدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العَلقة من جَوفي، فإذا فعلوا، سلَّطَ الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الأُمم)(4) .

____________________

(1)نفس المهموم: ص353، تحقيق الشيخ رضا أُستادي، 1405 هـ - قم.

(2)الطبري: 7 / 276. الكامل لابن الأثير: 4 / 28.

(3)الفتوح لابن أعثم: 5 / 116. مقتل الخوارزمي، ط المفيد - قم: 8 / 2، باختلافٍ يسير.

(4)الإرشاد، للشيخ المفيد: ص206. وفي رواية ابن الأثير في الكامل: 4 / 39 (حتى يكونوا أذلّ من فرام المرأة) أو (الأُمّة في بعض الروايات).

وفرم المرأة: الخرقة الّتي تستعملها المرأة في الحيض.

راجع كذلك: بحار الأنوار: 44 / 375.

٣٥١

إذاً فلم يكن للإمام الحسينعليه‌السلام غير طريق واحد، وهو الشهادة؛ فإنَّ يزيد لا يقبل من الإمام بغير البَيعة، والحسينعليه‌السلام لا يعطي البَيعة ليزيد، مهما تكن الأسباب، فلا طريق للحسين إلاّ الشهادة، ولابدّ أن يكون الحسينعليه‌السلام عازماً على الشهادة، حين خرج من الحجاز إلى العراق.

الخيار الثالث:

وكان هناك طريق آخر ثالث، اقترحه عليه بعض الناصحين، رفَضه الإمام رفضاً قاطعاً، وهو: أن يبتعد عن ساحة المعركة ويعتزل الناس، ويذهب بعيداً إلى اليمن، أو إلى بعض شُعَبِ الجبال، ويحتجب عن الناس، فيكون قد حقّقَ الغاية، وهو الامتناع عن البيعة ليزيد، دون أن يُعرِّض نفسه وأهل بيته وأصحابه للأذى والهلاك من قِبَل يزيد ووُلاته وعُمّاله.

يقول ابن الأثير: لمّا عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج من الحجاز إلى العراق، جاءه ابن عبّاس فقال:

(يا ابن العمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر. إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. إنّ أهل العراق قوم غُدَّر، فلا تقربنّهم. أقِم في هذا البلد (مكّة المكرّمة)، فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثُمّ أقدِم عليهم، فإن أبَيتَ إلاّ أن تخرج، فسِر إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عُزلة)(1) .

وكان ممّن يحمل هذا الرأي أخوه محمّد بن الحنفية؛ إذ جاء إلى الحسينعليه‌السلام ، لمّا عزم على مغادرة المدينة بأهل بيته، فقال له - كما يروي ابن الأثير -:

____________________

(1)الكامل لابن الأثير: 4 / 38 - 39، دار صادر - بيروت 1965.

٣٥٢

(يا أخي، أنت أحبّ الناس إليَّ، وأعزّهم عليّ، ولستُ أدّخِر النصيحة لأحدٍ من الخلْقِ أحقّ بها منك.

تَنَحّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسُلك إلى الناس، فإن بايعوا لك، حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك، لم يُنقِص الله بذلك دِينك ولا عقلك.

قال الحسين عليه‌السلام : فأين أذهب؟قال: انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار، فبسبيل ذلك، وإن نأَتْ بك لحِقتَ بالرمال وشُعَب الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد، حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس) (1) .

وفي العراق، اقترح الطرمّاح بن عدي على الإمام، أن يمتنع عن جيش يزيد بن معاوية بمعاقِل طَيّ المنيعة، فقال للإمام: فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به، حتّى ترى من رأيك وتستبين لك ما أنت صانع، فسِر حتّى أُنزلك مناع جبلنا، الذي يُدعى (أجا). امتنعنا والله به عن ملوك غسّان، وحميَر، ومن النعمان بن الـمُنذر، ومن الأسود والأحمر. والله أن دخل علينا ذلّ قط، فأسير معك حتّى أُنزلك القرية)(2) .

إلاّ أنّ الإمام ردّ هؤلاء جميعاً من دون تردّد، لا لأنّه كان يشكّ في صدْقهم ونُصحهم له، ولا لأنّهم كانوا موضع ارتياب وشكّ عند الإمام، ولكن؛ لأنّ هؤلاء لم يكونوا يفهمون الإمام ورأيه وموقفه بالشكل الصحيح.

فلم يكن همّ الإمام فقط أنّه لا يُبايع يزيد، وألاّ يَضع يده في يد ابن معاوية، ولو كان الإمام يكتفي بهذا الحدّ ما كلّفه ذلك كثيراً، فما كان أيسر على الإمام أن يعتزل الناس ويغادر الحجاز إلى بلدٍ ناءٍ من هذه البلاد النائية، الّتي نصحه بها أخوه محمّد، وابن عمّه عبد الله بن عبّاس، أو نصحه بها الطرمّاح بن عديّ.

إلاّ أنّ الإمام لم يكن يكتفي

____________________

(1)الكامل لابن الأثير: 4 / 16 - 17.

(2)تاريخ الطبري: 7 / 304. وكذلك كتاب نفس المهموم للشيخ عبّاس القمّي: ص194. وكذلك المقتل للسيّد عبد الرزاق الـمُقرّم: ص200. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 369، دار إحياء التراث - بيروت، 1983م.

٣٥٣

بهذا الموقف السلبي في أمر خلافة يزيد بن معاوية، ولم يكن هذا الموقف السلبي في رفض البيعة إلاّ وَجهاً واحداً من وجهَي الموقف، أمّا الوجه الآخر، وهو الأهمّ، والذي كلَّف الإمام نفسه وأهل بيته وأصحابه وشيعته، فهو إعلان هذا الرفض على الـمَلأ من المسلمين.

وهذا الإعلان، هو الّذي أغضب بني أُميّة وأثارهم، فقد اعتبروه تحدّياً صارخاً لسُلطانهم وحُكمهم، وخروجاً على حُكمهم وسلطانهم، ولم يكن بنو أميّة يتحمّلون شيئاً من ذلك في أيّام سطوَتهم وسلطانهم وزهوِّهم.

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يتوخّى من هذا الإعلان مطلباً سياسيّاً، لم يكن يتحقّق لولا إعلان الرفض، وهو: إسقاط شرعيّة خلافة بني أُميّة في نظر العامّة من المسلمين.

فقد كانت الخلافة - رغم كلّ السلبيّات الّتي أحاطت بها إلى هذا الحين - تتمتَّع بالشرعيّة في نظر الأكثريّة من المسلمين، وكانت هذه الشرعية تُمكِّن بني أُميّة من رقاب المسلمين، وتَشلّ عمل ودَور المعارضة، وتُعطي للنظام الأموي قوّة ومقاومة كبيرة.

وأخطر من هذا كلّه، أنّ هذه الشرعيّة كانت تُمكّن بني أُميّة من إدخال الانحرافات الجاهليّة - الّتي جاء بها بنو أُميّة معهم إلى الحكم - إلى الإسلام، فيمسّ الخطر عندئذٍ الإسلام، وتكون مصيبة المسلمين مُصيبتَين: مصيبة في حياتهم ونظام أمورهم، ومصيبة أُخرى، أكبر وأخطر، في دينهم.

وكانت هذه النقطة الثانية تشغل بالَ سيّد الشهداء أكثر من أيّ شيء آخر، فقد بدأ هذا الانحراف يتسرّب إلى هذه النقطة بالذات. يُشير الإمامعليه‌السلام في كلامه مع مروان بن الحكم، صبيحة الليلة الّتي خرج فيها الإمام من بيت الوليد، رافضاً البيعة، حيث التقى مروان بالإمام في الطريق فنصح الإمام بالبيعة ليزيد، فقال الإمام لمروان:

(على الإسلام السلام، إذ بُليَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد. ولقد سمعتُ جدِّي

٣٥٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: الخلافة مُحرَّمة على آل أبي سفيان)(1) .

إذن، كان الإمام يخشى أكثر ما يخشى على الإسلام - بالذات - من أن يدخل عليه ما جاء به بنو أُميّة إلى الحكم، من انحراف وفساد، وإذا كان لا يُمكن إسقاط الخليفة وانتزاع السلطان منه، فإنّ من الـمُمكن انتزاع الشرعيّة من الخلافة، وتجريد الحُكم الأموي من الشرعيّة التي كان يحرص عليها حُكّام بني أُميّة.

ومثل هذا الأمر يتطلّب موقفاً صريحاً مُعلَناً في رفض البيعة، والامتناع عن قبول خلافة يزيد من جانب الإمام في وَسطِ الرأي العام الإسلامي حينذاك، وهذا ما عمد إليه الحسينعليه‌السلام عندما رفض البيعة، ورفض أن يُخفي موقفه السلبي هذا، ويعتزل الوسط السياسي إلى بعض الشعاب والوديان والجبال؛ ليسلم بنفسه وأهل بيته وأصحابه من ملاحقة حُكّام بني أُميّة.

لقد كان الإمام يُخطِّط ليجعل من موقفه هذا موقفاً سياسيّاً صارخاً، واحتجاجاً في وجه حُكّام بني أُميّة، وإعلاناً لسحب الثِقة والشرعيّة من حُكّام بني أُميّة، وإعلام الأُمّة كلّها بذلك، وهذه بعض النماذج من كلمات الإمام ومواقفه الصريحة في هذا الصدَد:

أوّلاً: غادر الإمام المدينة إلى مكّة ليلاً بجميع أهله، وسار على الجادّة الّتي يسلكها الناس، فقال له ابن عمّه مسلم بن عقيل: (لو عَدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادّة، كما فعل عبد الله بن الزبير(2) ، كان عندي الرأي، فإنّا نخاف أن يلحقنا الطلب. فقال له الحسينعليه‌السلام :

____________________

(1)اللهوف للسيّد ابن طاووس: 13. والفتوح لابن أعثم: 5 / 24. مقتل الخوارزمي: 184 - 185.

وليس في المصدرين الأخيرين عبارة (ولقد سمعتُ جدّي رسول الله). ومقتل الـمُقرّم: ص130.

(2)تنكّب عبد الله بن الزبير عند مغادرة المدينة الجادّة العامّة التي يسلكها الناس. راجع: الطبري: 7 / 219 - 220. وكذلك الإرشاد للمفيد: ص203، مكتبة بصيرتي - قم.

٣٥٥

(لا والله يا ابن عمِّ، لا فارقت هذا الطريق أبداً، أو أنظر إلى أبيات مكّة، أو يقضي الله في ذلك ما يحبُّ ويرضى)(1) .

ثانياً: دخل الإمام مكّة بصورة علنيّة، مُتحدّياً بني أُميّة. ويصف الخوارزمي نزول الحسينعليه‌السلام بمكّة فيقول: (وكان قد نزل بأعلى مكّة، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً، ثُمّ تحوّل الحسين إلى دار العبّاس، وحوّلها إليه عبد الله بن عبّاس، فأقام الحسين مُؤذّناً يُؤذِّن، رافعاً صوته، فيُصلي بالناس)(2) .

(دخل الحسين إلى مكّة ففرح به أهلها فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه بكْرَة وعشيّة، واشتدَّ ذلك على عبد الله بن الزبير؛ لأنّه قد كان طمع أن يُبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين شقَّ ذلك عليه، لكنّه كان يختلف إليه [ إلى الحسين ]، ويُصلِّي بصلاته، ويقعد عنده، ويسمع من حديثه، وهو - مع ذلك - يعلم أنّه لا يُبايعه أحد من أهل مكّة والحسين بن علي بها؛ لأنّ الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير)(3) .

وكان عمرو بن سعيد الأشدق يومئذٍ عامل يزيد على مكّة، فهاب الحسين وهرب إلى المدينة، وكتب إلى يزيد بأمر الحسين، يقول الخوارزمي: (وهاب ابن سعيد أن يميل الحُجّاج مع الحسين، لِما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، فانحدر إلى المدينة، وكتب بذلك إلى يزيد)(4) .

ثالثاً: تتَّفق المصادر التاريخيّة أنّ الحسينعليه‌السلام خرج من مكّة إلى العراق

____________________

(1)الفتوح لابن أعثم: 5 / 34 - 35. وكذلك مقتل الخوارزمي: ص189. وكذلك الطبري: 7 / 232.

(2)مقتل الخوارزمي: ص190.

(3)الفتوح لابن أعثم: 5 / 36 - 37.

(4)مقتل الخوارزمي: ص190.

٣٥٦

يوم الثامن من ذي الحجّة (يوم التروية)، عندما كان الحُجّاج يتوجَّهون إلى عرفات، استعداداً ليوم عرفة، وقد أثار خروج ابن بنت رسول الله يوم التروية - من بين الحُجّاج - إلى العراق انتباه عامّة الحُجّاج، الّذين كانوا قد أمّوا البيت الحرام من مختلَف الآفاق، فهذا ابن بنت رسول الله يحلّ من العمرة، ويُغادر مكّة في وقت يتوجَّه فيه الحُجّاج إلى عرفات لأداء الحَجّ.

ولا نحتاج إلى تأمُّل طويل لنكشف أنّ طريقة الحسينعليه‌السلام في الخروج من المدينة إلى مكّة، ثُمّ مقامه في مكّة، ثُمّ مغادرته لها إلى العراق؛ كان بهدف التعبير والإعلان عن رفْضه للبيعة.

ولو كان الإمام يريد أن يتجنَّب البيعة فقط، دون تنبيه وإلفات الرأي العام الإسلامي لهذا الموقف السياسي؛ لما احتاج إلى كلّ هذه الخطوات التي كلَّفته، وكلَّفت أهل بيته وأصحابه كثيراً، وأثارت عليه سُخط بني أُميّة وغضبهم.

ولقد كان بنو أُميّة يكتفون من الحسينعليه‌السلام - في أغلب الظنِّ - أن يحتجب ويبتعد عن الرأي العام، ويخرج إلى ثَغر بعيد من ثغور المسلمين، بعيداً عن الأجواء السياسيّة، لكنّ الحسين أبى أن يبايع إباءً قاطِعاً، وأبى أن يخرج إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ويترك الساحة السياسيّة والاجتماعيّة ومسؤوليَّته الشرعيّة، وإليك النصّ الذي يبيِّن اتّجاه هذه الساحة:

هناك نصّ يرويه الطبري عن عقبة بن سمعان بهذا الشأن، وعقبة هذا كان قد رافق الحسينعليه‌السلام من المدينة إلى كربلاء، ولم يَفته شيء من كلمات الإمام وإشاراته ومواقفه.

يقول ابن سمعان: (صحبتُ حسيناً، فخرجتُ معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتِل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر، إلى يوم مقتله، إلاّ وقد سمعتُها.

لا والله، ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية،

٣٥٧

ولا أن يسيِّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ولكنّه، قال: (دعوني، فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس)(1) .

الخيارات الثلاثة:

إذن، كان أمام الإمام الحسينعليه‌السلام خيارات ثلاثة:

الأوّل: أن يُبايع يزيد بن معاوية.

الثاني: أن يُغادر الساحة السياسيّة ووَسط الرأي العامّ إلى ثَغرٍ ناءٍ من ثغور المسلمين. حتّى لا يكون خطراً على الحكم الأموي.

ونكتشف من كلمة عقبة ابن سمعان أنّ هذا الخيار كان أيضاً ممّا يطرحه عليه بنو أُميّة، على شكلِ الإبعاد والإقصاء، كما فعَل عثمان بن عفّان بأبي ذَرّ من قبل.

وهذه الطريقة من الإقصاء عن الساحة السياسيّة؛ لتعطيل المعارضة وإفشال دورها، كان معمولاً بها في تلك الأيّام. وكلمة عقبة بن سمعان واضحة أيضاً في ذلك: (أن يُسيِّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين).

وأمّا الناصحون للإمام، فكانوا يقترحون عليه أن يختار هذا الشقّ، ويختار الجهة الّتي يعتزل فيها الساحة السياسيّة، دون أن يُسيّروه إليها.

ومهما كان من أمر، فقد رفض الإمام هذا الخيار من بني أُميّة، ومن مُحبِّيه، ورفض أن يترك الساحة ويعتزلها، ولم يقتصر في أمر رفض البيعة على هذا الحدِّ السلبي، الّذي كان لا يرفع التكليف الشرعي والمسؤوليّة عن عاتقه.

فقد كان الإمام يُصرُّ على أن يُترَك لشأنه ليذهب - كما يقول عقبة بن سمعان في كلمته - في هذه الأرض العريضة مُعلِناً عن رأيه في يزيد، ورفضه لبيعته، وعاملاً بتكليفه الشرعي في الحُكم الأموي، وهذا ما كان يرفضه بنو أُميّة رفضاً قاطعاً، وقد عبَّرَ

____________________

(1)تاريخ الطبري: 7 / 314.

٣٥٨

الإمام عن ذلك لأصحابه، حينما أراد الخروج من الحجار إلى العراق بقوله:

(والله لو كنتُ في جُحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني)(1) .

الثالث: هو خيار المواجهة والشهادة. وقد اختاره الإمام - بالذات - من بين هذه الخيارات.

ومن كلمات الإمام في كربلاء، أمام جيش ابن سعد:

(لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد)(2) .

فلا يُعطيهم يده للبيعة، إعطاء الذليل، وهو الخيار الأوّل الّذي تحدّثنا عنه، ولا يفرّ فرار العبيد، وهو الخيار الثاني الذي أقترحه عليه بنو أُميّة، لإلغاء دوره وتعطيل موقفه، عن خُبثٍ ومَكْر، واقترحه عليه بعض الناصحين له عن عدمِ وعي.

وهذا هو العامل الأوّل لثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

العامل الحركي:

العامل الثاني لحركة الإمام وخروجه وثورته هو: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ لتحريك الأُمّة وتوعيتها، وكسر حالة الركود والجمود والاستسلام في الأُمّة.

وقد بيَّنّا - فيما مرّ - كيف عمل حُكّام بني أُميّة على نشر الإرهاب والفساد في المجتمع، وقد تمكَّنوا فيما أرادوا من تمييع المجتمع الإسلامي، والقضاء على

____________________

(1)الطبري: 7 / 276. وكذلك الكامل: 4 / 38.

(2)مقتل الـمُقرّم: 256، وقد أورد النص بعض أرباب المقاتل بصيغة (ولا أقرّ لكم إقرار العبيد). وكذلك مثير الإحزان: 62، ط النجف - الحيدريّة، 1386.

وفي رأينا أنّ النصّ الأوّل أرجَح وأوفق إلى موقف الإمام.

٣٥٩

روح المقاومة والثورة والتمرّد في المسلمين، ونشر روح الاستكانة والاستسلام للواقع الفاسد.

وأبرز دليل على انتشار هذه الحالة السلبيّة في المجتمع الإسلامي - يوم ذاك - هو أن يتولَّى يزيد أُمور المسلمين، ثُمّ لا ترتفع صرخات الاستنكار والاحتجاج في العالم الإسلامي، إلاّ ما كان هنا وهناك، من اعتراضات ضعيفة ومبتورة للمعارضة، لا يسمعها ولا يدعمها أحد.

وكان لابُدّ من حركة قويّة في وسط العالم الإسلامي، تهزّ ضمائر المسلمين هزّة عنيفة، وتبعث في نفوسهم الحياة والإحساس بالمسؤوليّة، وتكسر عنهم طوق الخوف والرُعب الّذي كان يملأ نفوسهم آنذاك، وتُعيد إليهم ثقتهم بالله، ثُمّ بأنفسهم.

لقد كان لابُدّ من تضحية عزيزة نادرة، تهزّ ضمائر المسلمين من الأعماق، وتُعيد إليهم شخصيّتهم وإرادتهم الّتي انتزعها النظام الأموي منهم، وتُشعِرهم بعُمق المأساة، وعُمق المسؤوليّة.

وإنّ للدم والتضحية والفداء من الأثر في تحريك النفوس، وكسر حاجز الخوف، وإعادة الثقة إلى النفوس، والتحسيس بالمسؤوليّة، ما ليس لغيره من عوامل التحريك.

فإقدام الإمام على الخروج والثورة على النظام الأموي، والمواجهة والمجابهة، لم يكن فقط لغَرضِ رفض البَيعة، وإعلان هذا الرفض، وإنّما كان أيضاً لتحريك المسلمين، وتحسيسهم بالمسؤوليّة، وإعلان الموقف الشرعي، ودعوة المسلمين إلى المواجهة والـمُجابهة والمعارضة، والتمرّد على النظام والسُلطة الأمويّة. والإنكار بالعمل والتضحية والقوّة، من أهمّ شُعَب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد رُوى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن رأى منكم مُنكَراً، فليُنكِر بيده إن استطاع، فإن لم يَستطع فبِلسانه، فإن لم يستطع فبقلبِه، فحسْبه أن يعلم الله

٣٦٠