في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208619
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208619 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إسقاط يزيد وإسقاط القناع من وجهه كأمير للمؤمنين، وفضحه ومُصادرة الشرعيّة الّتي حاول أن يَسبغها على نفسه، والقواعد الّتي كان يستند إليها، وإنهاء خَطّه السياسي في تحريف الإسلام عن مجراه الصحيح.

وهذا هو كلّ ما كان يريده سيّد الشهداءعليه‌السلام في صراعه مع يزيد.

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يطلب حُكماً أو سُلطاناً عاجلاً - وقد كان على بَيّنة من أمره هذا - عندما خرج من الحجاز إلى العراق، وإنّما كان يريد أن يُعرِّي يزيد أَمَام المسلمين، ويُسقِط القِناع عن وجهه؛ لئلاّ يتمكّن من تحريف مسيرة الإسلام وتحويله إلى مُلْكٍ عَضُوض، كما يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد استطاع الحسينعليه‌السلام أن يُحقِّق بالدِقّة كلّ ما يبتغيه من خروجه على يزيد.

إنّ المعركة التي خاضها سيّد الشهداء الحسينعليه‌السلام لم تكن تستهدف أهدافاً عسكريّة أو اقتصاديّة؛ لِنَقيس نجاح المعركة وفشلها بما حُقِّق من أغراض عسكريّة أو اقتصاديّة، وإنّما كانت معركة حضاريّة.

فقد استطاعت الجاهليّة الأمويّة التي هزمها الإسلام، أن تتسلّل إلى مراكز القيادة في المجتمع الإسلامي من جديد، بكلّ أبعادِها وتراثها الجاهلي، وكان هدف الحسينعليه‌السلام هو إيقاف هذا الـمَدّ الجاهلي الّذي بدأ يمتدّ إلى جسم الإسلام، وباسمِ الإسلام، وصَدّه وفضحه وتعرِيَته.

وقد حقَّقتْ ثورة الحسينعليه‌السلام كلّ ما كان يريده في هذه الحركة المباركة.

لقد أسقطتْ شهادةُ أبي الشهداءعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه القناعَ عن وجهِ يزيد، وعَرَّته تماماً للمجتمع الإسلامي وللتأريخ، وانتزعتْ منه وممَّن خلفه الشرعيّة الّتي كان يحرص عليها هؤلاء، فلم يَعد يزيد وخَلَفه - من حُكّام بَني أُميّة - يُشكّلون خطراً على أُصول هذا الدِين وفروعه، وخَطِّه ومقاييسه وتُراثه.

وقد تولّى الله تعالى قضيّة هذه الدماء ورسالتها، وثأر لها وحقّق قضيّتها، لو أنّنا

٤١

فهمْنا النصر بمعناه العميق الحضاري والتاريخي، وليس الفوز في جولةٍ عسكريّة، وليس من الصحيح أن نقيس النصر والهزيمة بمقياس النجاح والفشل في جولة عسكريّة.

ولو أردنا أن نفهم النصر والهزيمة في هذه الدائرة الضيِّقة، وبمثل هذا الفَهْمِ المحدود، لم نستطع أن نفهم حركة التاريخ وسُنَن الله في التاريخ؛ فقد يربح أحد الأطراف جولة من المعركة، ولا يكون مُنتصِراً بالمعنى البعيد والحضاري لهذه الكلمة، وقد يخسر أحد الأطراف الجولة والجولَتَين في المعركة، ولن يكون مهزوماً. وقد يربح الطرف الّذي يُحسِن اللعب على الحِبال، ويُحسِن شراء وبَيع الضمائر، ويُحسِن الخيانة وتجاوز القِيَم، ولكنّه لن يكون منتصِراً، وقد يخسر الطرف الذي يثبت عند القِيَم والمبدأ الجولةَ الواحدة والثانية والثالثة في المعركة، وتكون له العاقبة المحمودة والنصر.

إذن، لا يُقاس النصر بهذه المقاييس الآنيّة والوقتيَّة، وإنّما بتحقيق الأهداف والغايات الحضاريّة، والحسينعليه‌السلام - بهذا المقياس - قد انتصرَ على يزيد، وقَبله أخوه الحسن الـمُجتَبىعليه‌السلام على معاوية، وقَبلهما أبوهما عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على معاوية.

وهذا هو المِقياس الصحيح لمعرفة النصر والهزيمة، وهذا الّذي نقصده نحن من النصر في الصراع الخالد بين الإسلام والجاهليّة، الذي يضمنه الله تعالى للصالحين من عباده.

* * *

٤٢

ثأر الله

القِيمَة الذاتيَّة للشَهادة

في هذه النقطة نتناول قيمة الدَم ودَوره في تكامل شخصيّة الشهيد وسلوكه إلى الله تعالى.

إنّ (الدَمَ) في الوقت الّذي يُعتبَر من أقوى عوامل التحريك في المجتمع، يُعدّ من أهمّ عوامل بناء شخصيّة المؤمن وتكامله وسلوكه إلى الله تعالى.

ولكي نفهم قيمة الدم ودَوره في تكامل شخصيّة الإنسان وسلوكه إلى الله، لابُدّ أن نُلِمَّ إلمامَة سريعة بهذه الرحلة الطويلة والعسيرة، الّتي تنقل الإنسان من مِحوَر (الأنا) و (الذات) و (الهوى)، إلى مِحوَر (ولاية الله) وتمثّل حركة الإنسان وسَيرِه التكاملي إلى الله.

رِحلة الإنسان إلى الله:

ويوجز القرآن الكريم هذه الرحلة بقوله تعالى:( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (1) .

وبالتأمّل في هذه الآية الكريمة نلتقي بالنقاط التالية:

____________________

(1)الانشقاق: 6.

٤٣

1 - إنّ هذه المسيرة والنقلَة هي الهدف والغاية من خلقِ الإنسان؛ ولذلك يتوجّه الخطاب في الآية الكريمة إلى (الإنسان).

على غير طريقة القرآن في الخطابات الّتي تترتّب على الإيمان بالله، حيث يُوجّه القرآن فيها الخطاب إلى (الذين آمنوا)، وتوجيه الخطاب هنا إلى الإنسان، دون تخصيص بالّذين آمنوا فقط، ينمّ عن أنّ هذه المسيرة والرحلة هي الهدف والغاية من خلقِ الإنسان.

ومن دون أن يدخل الإنسان في هذه المسيرة، ويتعرَّض لكدحها وعنائها لا يمكن أن يحقّق الغاية والهدف من تكوينه وخَلْقه، ولا يتحقّق النُضج والرشد والكمال المطلوب منه.

2 - وتبدأ هذه المسيرة بـ (الأنا)، بما تَكتَنِف الأنا من الشهوات والأهواء والغرائز، بصورة طبيعيّة، وتنتهي إلى الله:( ... إِلَى‏ رَبّكَ... ). وهذا القوس الصعودي من الأنا إلى الله هو مسار حركة الإنسان ونموّه وتكامله.

3 - ولابُدّ أن تتمّ هذه الحركة بصورة اختياريّة وطوعيّة في حياة الإنسان.

وقيمة هذه الحركة أنّها تتمّ بصورة اختياريّة وطوعيّة وبإرادة الإنسان. ولو أنّ هذه الحركة كانت تتمّ بصورة قهريّة، لم تكن تُحقّق للإنسان هذا التكامل والنموّ الذي سوف نُشير إليه.

إنّ الموت ينتزع الإنسان بصورة قهريّة من مِحوَر (الأنا) ولذّاته وشهواته وأهوائه، وما يملك من متاع الحياة الدنيا، ومن الأبناء والأزواج والأموال، إلاّ أنّ هذا الانفصال - حيث يتمّ بصورة قهريّة - لا يُحقِّق للإنسان لقاء الله الذي تُشير إليه الآية الكريمة.

ولعلّ صعوبة (النَزْعِ) نابعة من هذه الانتزاع القهري من الحياة الدنيا، وكلّما تكون علاقة الإنسان بالحياة الدنيا أكثر وأعمق، تكون نَزعات الموت عليه أصعب وأقسى، وإنّ الإنسان ليَفقد دراهم معدودات من المال أو بعض أعزّائه، أو

٤٤

بعض ما يملك من حُطام الدُنيا فيشقّ عليه ذلك مَشقّةً بالِغة، فكيف إذا قهره الموت؛ ليُنتَزع من كلّ علاقاته في الدنيا على الإطلاق، ومَرّة واحدة.

وهذا الانتزاع القهري الذي يحقِّقه الموت، لا يرفع من درجة الإنسان، ولا يحقّق للإنسان كمالاً؛ لأنّه تمّ بصورة قهريّة ومن دون إرادة الإنسان، وإنّما يتكامل الإنسان عندما يسعى لانتزاع نفسه من التعلّق بالحياة الدنيا ومتاعها ولذّاتها، بصورة اختياريّة، وبشَكلٍ تدريجي، حتّى يتحرّر من حُبّ الدنيا والتعلّق بها، ومن (الأنا) و (الهوى) بشكلٍ كامل.

ولعلّ الحديث المعروف: (موتوا قبل أن تموتوا)(1) يشير إلى هذه الحقيقة، ويكون المقصود بالموت الأوّل هو: الموت الاختياري، وبالموت الثاني هو: الموت القهري والطبيعي.

وهذه الحركة الطوعيّة إلى الله، تتطلّب من الإنسان الكثير من الجهد والمعاناة، وربّما تشير الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة، في قوله تعالى:( ... إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً... ) .

4 - وهذه المسيرة مسيرة كمال الإنسان وعروجه إلى الله، والغاية من هذه المسيرة هي أشرف الغايات وأسماها في حياة الإنسان على الإطلاق، وهي: لقاء الله، وإلى هذه الغاية العُليا تشير الآية الكريمة:( ... فَمُلاَقِيه ) .

فإنّ لقاء الله هو النتيجة الّتي تترتّب على مسيرة الإنسان الكادحة إلى الله، وحَسْب الإنسان في هذه الرحلة الشاقّة والكادحة أن ينال (لقاء الله)، وتلك غاية لا ينالها إلاّ القليل ممَّن ارتضاهم الله تعالى واختارهم.

5 - وهذه المسيرة بقَدر ما تُحقِّق للإنسان الكمال والتسامي، ونَيل لقاء الله - الّذي هو أشرف ما يناله الإنسان في دنياه وآخرته -، تتطلَّب منه الجُهد والعناء والكَدْح.

____________________

(1)بحار الأنوار: 72 / 59 / الحديث الأوّل.

٤٥

وهذه الضريبة الحتميّة في الطريق إلى الله، هي التي تُشير إليها الآية الكريمة:( ... إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً... ) .

دراسةٌ للـمُنطلَق والغاية في حَرَكةِ الإنسان:

مُنطلَق الإنسان في هذه الحركة هو (الأنا)، وغاية الإنسان في هذه الحركة هو (الله) تعالى، والإنسان يكدح بين هذا المنطلَق وتلك الغاية.

والمنطلَق (الأنا) مَحفوف دائماً بالشهوات والأهواء، ويتطلَّب من الإنسان الركون إلى متاع الحياة الدنيا ولذّاتها، والتسليم لها، ويسعى لفرضِ سلطانه على الإنسان، وحَبسِه عن العروج والصعود إلى الله.

والغاية في هذه الرحلة هي الله تعالى، وهو سُبحانه يطلب من عباده الطاعة والانقياد، والتسليم والرضا، والحُبّ، والنصر، وتجتمع هذه المعاني جميعاً في كلمة (الولاء).

والإنسان يتحرّك كادحاً بين هذا المنطلق وتلك الغاية، بين جاذبيّة الـمُنطلَق بما تَحفّه من الشهوات والغرائز، وبين الكدح الشاقّ والعسير إلى الله تعالى.

ولابُدّ أن نقف وقفة قصيرة عند هذا المنطلق وتلك الغاية؛ لنعرف قوانين وسُنَن هذه الحركة الصاعدة (الكادِحة) إلى الله تعالى من (الأنا).

1 - الـمُنْطَلَق:

أوّل شيء يُوقفنا في هذه المسيرة نقطة الـمُنطلَق، وهي: (الأنا) والذات الإنسانيّة.

وتكتنف (الأنا) ثلاثة أنواع من العوامِل: اثنان منهما يتجاذبان الإنسان ويسحقانه كحَجَرَي الرَحى، ويشدّان الإنسان إلى الحياة الدنيا شدّاً وثيقاً، ويُقيِّدانه ويُعرقِلان تحرّكه وانطلاقه، ويُثقلانه بحُبّ الدنيا ومتاعها ولذَّاتها.

٤٦

وأجمل تعبير عن هذا الانشداد هو قوله تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ ) (1) .

وهذان العاملان اللَذان يضغطان على الإنسان، ويشدّان الإنسان إلى الأرض هما:

أ - الشهَوات والغرائز والأهواء والميول النفسيّة: وهذا النوع يكمن داخل النفس، ويصطلِح عليه القرآن بـ (الهوى).

ب - الـمُغريات والـمُثيرات التي تُحرّك الشهَوات وتُهيج الغرائز: وهذا النوع قائم في ساحة الحياة، ويُثير الشهوات والغرائز في نفس الإنسان، كالبَنين والنساء، والقناطير الـمُقنطَرَة من الذَهبِ والفضّة، ويصطلِح القرآن عليه بـ (الفتنة).

وبين هذا العامل وذاك يقعإبليس اللَعين وجنوده من شياطين الجنّ والإنس، الذين يقومون بدَور الوَساطة بين (الأهواء) و (الفِتن)، بتحريك الشهوات في نفس الإنسان بالـمُغريات والـمُثيرات، وجَذْب الشهوات إلى هذه الـمُثيرات.

والإنسان في نقطة (الـمُنطلَق) هذه، يقع تحت تأثير هذه العوامل الثلاثة، الّتي تضغط عليه وتُحدِّد حركته، وتُقيّده عن الانطلاق والصعود.

مُثَلّث الابتلاء في القرآنِ الكريم:

ونعود مرّة أُخرى إلى القرآن الكريم؛ لنتعرَّف على دَور (الأهواء) و (الفِتَن) و (الشيطان) في حياة الإنسان.

ونبدأ الحديث عن الشهوات والأهواء.

____________________

(1)التوبة: 38.

٤٧

أ - الهَوى:

عن الهوى ودَوره التخريبي في حياة الإنسان، يقول تعالى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (1) .

وفى الرواية: إنّ هذه الآيات نزلتْ في (بَلْعَم بن باعوراء) من علماء بَني إسرائيل، الّذي آتاه الله تعالى آياته فانسلخَ منها باتّباعه الهوى.

وسواء صحَّت هذه الرواية أمْ لم تصحّ، فإنّ الآية الكريمة تُشير إلى الدَور التخريبي الواسع لسُلطان الهوى على حياة الإنسان،وأوّل هذه الآثار هو: الخلود إلى الأرض: ( وَلكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) .

والمقصود بالأرض: الحياة الدنيا، والخلود: السقوط.

وهذا هو الأثر الأوّل لسلطان الهوى على النفس، وهو السقوط في لَذّات الدنيا وحطامها، والالتصاق بها، وهذا السقوط - بطبيعة الحال - في مقابل العروج إلى الله، يحبس الإنسان عن الله.

والأثر الثاني هو: الانسلاخ عن آيات الله: ( فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) ، كما تنسلخ الحيَّة من جلدها وينفصل ويَبِين عنها تماماً، فلم تعد لها علاقة به، ولم يعد له علاقة بها. كذلك الإنسان إذا تمكّن منه الهوى، ينسلخ عن آيات الله وتَبِين عنه، ويصبح غريباً عنها وتصبح غريبة عنه، ويفقد كلّ بصيرة ووَعيٍ بآيات الله، ويرفضها كما يرفض المريض الطعام الشهيّ اللذيذ.

والأثر الثالث: إتباع الشيطان: ( فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ ) ، أي: أدركه وتمكَّن منه، ومَن تمكّن منه الشيطان ونشبتْ فيه مَخالِبه، سُلِب منه عقله وقلبه وضميره وفطرته،

____________________

(1)الأعراف: 175 - 176.

٤٨

وكلّ ما آتاه الله تعالى من القِيَم، وذلك أقصى درجات السقوط في حياة الإنسان.

والأثر الرابع: الغِوايَة والضَلالَة: ( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) ، وكيف يُمكن أن يستقيم على هدى الله مَن تمكَّن منه الشيطان، وسلبَ منه عقله وقلبه وضميره وفطرته ومَسَخَه، فلا مَحالة يكون سَعيه كلّه في ضلال وغَيّ.

والأثر الخامس: الجَشَع والحِرْص على حُطام الدنيا: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) ، فلا يروي ظمأهم إلى حطام الحياة الدنيا وزخرفها شيء، ومهما أكثروا منها ازدادوا إليها جشعاً، كما يُصيب الكلاب داء (الكلَب) فلا يرويها ماء، فهي تَلْهَث على كلّ حال، كذلك هؤلاء الّذين اتّبعوا أهواءهم فأخلدوا إلى الأرض، فلا يزيدهم السعي إلى الدنيا إلاّ لهاثاً وظَمأً.

ولست أقول لا تزيدهم الدنيا، وإنّما أقول لا يزيدهم السعي إلى الدنيا، فقد يسعى المؤمن إلى الدنيا فيُصيب منها ما يشاء الله، قَلَّ أو كَثُر، ولكنّه لا يلهث خلف الدنيا، ولا يزيده السعي إلى الدنيا ظمأً ولهاثاً من ورائها.

رُوي أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام قال لرجُلٍ اشتكى إليه حرصه على الدنيا، فقالعليه‌السلام : (إن كان ما يكفيك يُغنِيك، فأدنى ما فيها يُغنِيك، وإن كان ما يكفيك لا يُغنِيك، فكلّ ما فيها لا يُغنِيك)(1) .

تلك صورة عن سلطان الهوى على الإنسان، ودَوره التخريبي في حياة الإنسان، من القرآن الكريم.

ويرسم القرآن، على لسان امرأة العزيز في سورة يوسف، لَوْحَة أُخرى لسلطان الهوى على الإنسان، وهي لوحة مُعبِّرة وناطقة، وذلك في قوله تعالى:( ... إِنّ النّفْسَ لأَمّارَةُ بِالسّوءِ... ) (2) .

وتحمل هذه الآية المباركة، من معاني تأكيد سلطان الهوى على النفس، الشيء العظيم، وكان

____________________

(1)أُصول الكافي: 2 / 139.

(2)يوسف: 53.

٤٩

أساتذتنا - عندما كنّا نقرأ (النحْو) - يستشهدون بهذه الآية الكريمة في تكرار التأكيد وتوكيدها.

فالجملة اسميّة ومُصَدَّرة بـ (إنّ)، و (الأمّارة) صِيغة مُبالَغة معروفة، ومُصَدَّرة بـ (اللام)؛ لتأكيد الـمُبالَغة والتأكيد.

وكلّ هذه التأكيدات؛ لِتُثبِت الدَور التخريبي السيّئ للهوى (الأمارة بالسوء)، ونكتفي بهاتين الآيتين من كتاب الله في تقرير الدَور السلبي لسُلطان الهوى في حياة الإنسان.

ب - الفِتْنَة:

وهذا هو الضِلع الثاني من مُثلَّث الابتلاء، والفِتنة والفِتَن: هي الـمُغريات والـمُثيرات الّتي تُغري الإنسان وتُثِير النفس، وهي تقع خارج النفس وفي الحياة الدنيا، بعَكس الهوى الّذي يَكْمن داخل النفس.

والدنيا فِتنة، وحُطامها فِتنة، وما فيها من الذهبِ والفِضَّة والأموال والأولاد والأزواج فِتنة. وهذه الفِتن تأسر الإنسان وتسلبه إرادته، وتَسْتَذلّه.

يقول تعالى:( ... أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (1) .

وهذه النقاط الّتي تذكرها الآية الكريمة، هي كلّ اهتمامات الإنسان عندما يَحوم حول مِحوَر (الدنيا).

وللشيخ بهاء الدِين العاملي (رحمه الله) التفاتَة طَريفة في

____________________

(1)الحديد: 20.

٥٠

تفسير هذه الآية الكريمة، كما ينقل ذلك العلاّمة الطباطبائي في الميزان(1) .

يقول الشيخ: (إنّ الله تعالى استعرضَ هذه الحالات الخمس، بترتيب وموازاة مراحل عُمْرِ الإنسان المختلفة، فالإنسان يبدأ المرحلة الأُولى من عُمْرِه باللَعب، ثمّ تعقب هذه المرحلة مرحلة الـمُراهَقة، وهي مرحلة اللَهو، ثمّ بعد ذلك تأتي مرحلة الزينة والأناقة في حياة الإنسان، وهي مرحلة اكتمال ونضجِ الشباب، ثمّ في نهاية مرحلة الشباب تَبْرز في الإنسان حالة حُبّ التفاخر والرياء والتظاهر، فإذا تقدّم السِنّ بالإنسان وأشرفَ على الشيخوخة، ظهرت فيه حالة التكاثر في الأموال والأولاد).

ويقول تعالى:( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) (2) .

وهذه النقاط هي أهمّ المسائل الّتي تستثير غرائز الإنسان وتُهيّجها، وتشدّ الإنسان إلى هذه الـمُغريات الّتي يحصي القرآن طرفاً منها في هذه الآية.

ج - الشَيطان:

وإبليس وجنوده من الشياطين هُم الضِلع الثالث من (مُثَلَّثِ الابتلاء)، يُقرِّب البعيد للإنسان، ويُبعِّد القريب، ويُوسوِس في النفسِ، ويُزيِّن للإنسان القبيح ويُقَبِّح له الجميل، ويعرض عليه الفتنه عرضاً؛ ليزيد في إثارتِها وإغرائِها، ويُحرِّك أهواء الإنسان وشهواته، ويَفْتِنه بها:( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ

____________________

(1)الميزان: 19 / 188.

(2)آل عمران: 14.

٥١

أَبَوَيْكُم مِنَ الْجَنّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ) (1) ،( وَلاَ تَتّبِعُوا خُطُواتِ الشّيْطانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ * إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (2) ،( الشّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُم مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً... ) (3) ،( ... وَقَالَ لأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ... ) (4) ،( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ ) (5) ،( فَوَسْوَسَ إِلّيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) (6) .

تلك هي الأضلاع الثلاثة لـمُثَلَّث الابتلاء الرهيب، الّذي يشدّ الإنسان إلى الحياة الدنيا، وتلك هي نقطة الـمُنطلَق في حياة الإنسان.

أعراضُ التَعلُّق بالدنيا في نقطةِ الانطلاقِ:

وينشأ من تعلّق الإنسان بالدنيا وانشداده إليها، ثلاثة أنواع من الأعراض الـمَرَضِيّة الصعبة:

منها: ما يتعلَّق بعلاقته بالدنيا.

ومنها: ما يتعلَّق بعلاقته بالله تعالى.

ومنها: ما يتعلَّق بعلاقته بالآخَرين.

والنوع الأوّل هو: الأمراض الأخلاقيَّة التي تخصّ علاقة الإنسان بالدنيا، مثل:

____________________

(1)الأعراف: 27.

(2)البقرة: 168 - 169.

(3)البقرة: 268.

(4)النساء: 118 - 119.

(5)المجادلة: 19.

(6)طه: 120.

٥٢

(الحِرْص) و (الطَمَع) و (الجَشَع) و (الركون إلى الدنيا) و (البَطَر) و (طول الأمل)... وغير ذلك.

والنوع الثاني : الأعراض التي تخصّ علاقة الإنسان بالله تعالى، وهي كثيرة.

وممّا لاشكَّ فيه، أنّ علاقة الإنسان بالدنيا لها انعكاس مباشر ونسبة عكسيّة على علاقة الإنسان بالله تعالى، وكلّما كان إقبال الإنسان وانشغاله بالدنيا أكثر، قلّ إقباله على الله تعالى وذِكره إيّاه، والقرآن الكريم يُشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى:( كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى‏ * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى ) (1) .

إنّ الإحساس بالاستغناء وَهْمٌ كاذبٌ، ناتج عن تعلّق الإنسان بالدنيا وإقباله عليها واعتماده عليها، وهو ليس من الاستغناء؛ فإنّ الإنسان لا يستغني عن الله تعالى في كلّ حال، يقول تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ... ) (2) ، وإنّما هو تَوَهّم كاذب للاستغناء، وتعبير القرآن عن ذلك دقيق:( أَن رَآهُ اسْتَغْنَى ) ، وليس (أن استغنى)، وبين هذا وذاك فرْق.

إذن، المسألة نفسيّة وليست موضوعيّة، وبتعبير آخر: ليس الغِنى والتمكّن من أسباب الحياة الدنيا، هو الذي يؤدّي بالإنسان إلى الطغيان، إذا كان الإنسان يشعر في قَرارَة نفسه في كلّ الحالات بفَقره وحاجته إلى الله، وإنّما الّذي يُؤدّي إلى الطغيان في علاقته بالله، هو وَهْمُ الاكتفاء بالدنيا عن الله، والاستغناء بالدنيا عن الله، وهو يُؤدّي إلى الشَرَهِ والحِرصِ، ويؤدّي إلى الطغيان والإعراض عن الله تعالى في وقتٍ واحد.

إذن، الإقبال على الدنيا، والاعتماد عليها، والتعلّق بها، يُؤدِّي بالإنسان إلى الإعراض عن الله بدرجات مختلفة، على قدرِ إقباله على الدنيا وتعلّقه بها

____________________

(1)العَلَق: 6 - 7.

(2)فاطر: 15.

٥٣

وانشداده إليها، ويؤدِّي به إلى ضعفِ الثِقة بالله، وضعف التوكّل على الله وضعف اليقين بالله، وينعكس انعكاساً سلبيّاً على يقينه وثِقته وإقباله وتوَكّله على الله، وهذا هو النوع الثاني من الأعراض النابعة عن تعلّق الإنسان بالدنيا.

والنوع الثالث مِن هذه الأعراض: هي الأعراض الناجمة عن الاحتكاك والتنافس، والتزاحم فيما بين الناس على حُطام مَتاع الدنيا، كالحسد والبغضاء وسوء الظنِّ، والغِيْبَة والكذب والـمُمارَاة، والجدال والتقاطع، والتَسقيط والعدوان.

وهذه الأمراض الثلاثة نابعة من حُبِّ الدنيا، وهي من عوامل انحراف الإنسان وسقوطه؛ ولذلك ورَد في الحديث الشريف: (حُبُّ الدُنيا رأسُ كلّ خَطيئة)(1) .

هذا هو - على نحو الإيجاز الشديد - المِحور الأوّل أو الـمُنطلَق في حياة الإنسان، وهو (الأنا)، والأعراض الـمَرضيَّة الناجِمة عن ارتباط الإنسان بهذا المِحوَر، والّتي تَجرّه إلى السقوط والهلاك.

2 - الغايَة:

والمِحور الآخَر في حياة الإنسان هو: (الله).

فعندما ينتقل الإنسان إلى هذا المِحور، يضع نفسه بشكلٍ كامل تحت تصرُّف حُكم الله وإرادته وسلطانه، وأمرِه ونهيِه، وينقاد لسُلطان الله انقياداً كاملاً في كلّ أمرٍ يرتبط بحياته، فيما يتعلّق بجَوارِحِه وأعضائه، وما يتعلّق بجَوانِحِه وحُبِّه وبُغضِه، ويخرج بشكلٍ كامل من

____________________

(1)الدُنيا ليست مذمومة في الفكر الإسلامي، واقتناء مَتاع الدنيا ليس أمراً مذموماً، إنّما المذموم هو التعلّق بمتاع الحياة الدنيا والانشداد إليها، فليس من بأسٍ أن تكون الدنيا بمتاعها ولذَّاتها وطيّباتها في قبضتك، فليست هذه الطيِّبات مُحرَّمة على عباد الله، ولكن البأس كلّ البأس، أن يكون الإنسان في قبضةِ الحياة الدنيا، وتحت تأثيرها.

٥٤

سلطان الهوى والأنا، وينتزع نفسه انتزاعاً كاملاً من سلطان هذا المحوَر، ويدخل في دائرة سلطان ولاية الله بشكل مُطلَق، ومن دون حدود وقيود، فلا يُحِبّ إلاّ ما يُحِبّ الله، ولا يُبغض إلاّ ما يُبغض الله، ويُحِبّ الله، ويُحِبّ لله، ويُحِبّ في الله، ويُبغض في الله وينقاد لأمر الله ونهْيِه، ويستسلم لمشيئة الله وحُكمه استسلاماً كاملاً.

والآية الكريمة التالية من سورة الأنعام تُعطي تصوّراً واضحاً ودقيقاً لهذا المحور الذي نتحدّث عنه، والذي هو دِين إبراهيمعليه‌السلام :( قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ‏ِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وِبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (1) .

فلن يكون الإنسان داخلاً في دائرة ولاية الله، وخاضعاً للمحوَر الربّاني في الحياة، إلاّ عندما يكون كلّ شيء في حياته لله تعالى من دون استثناء، (صلاته ونُسُكه)، (وحياته ومَماته).

الطاعَة والتَسْليم والذِكر والرجاء والرهبَة والحُبّ:

ومن أهمّ مقوِّمات هذا الارتباط: الطاعة والتسليم والذِكر، والرجاء والرهبة والحُبّ، ورأس كلّ ذلك (اليقين)، وهو من أعزِّ ما أنعم الله تعالى على عباده من النِعَم.

ولابدّ أن تجتمع هذه الأمور جميعاً حتّى يخرج الإنسان من دائرة الأنا، ويدخل في دائرة ولاية الله تعالى.

____________________

(1)الأنعام: 161 - 163.

٥٥

ومن الطاعة: التَبَعِيَّة لأحكام الله، والالتزام بحدوده تعالى، والقيام بفرائضه، والتقوى.

ومن التسليم: الرضا بقضائه وقَدَرِه، والتسليم لـمَشيئته وإرادته.

ومن الذِكر: وَعْي حضور الله تعالى، واستحضار سلطان الله في كلّ الحالات، والمراقبة والـمُحاسَبة، وانفتاح القلب على الله، والانصراف إلى الله، وانشغال القلب بالله تعالى وصفاته وأسمائه الحسنى عن كلّ شيء آخر، إلاّ أن يكون في امتدادِ ذِكرِ الله وأمْره.

ومن الرجاء: الدعاء والسؤال والاستغفار.

ومن الرهبة: التَضَرّع والبكاء، والتقوى والخشية والخشوع.

ومن الحبّ: الأُنْس بالله والحُبّ في الله والبغض في الله، والحنين والشوق إلى لقاء الله، والابتهاج بذِكر الله وقضائه.

وسبيل الإنسان إلى حُبّ الله تعالى، الطاعة والتبعيَّة والتقوى والانقياد لأحكام الله، وإذا أحبّ الإنسان ربَّه أحبّه الله.

يقول تعالى:( قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ... ) ، وإذا أحبّ الله عبداً رزقه نوراً في بَصَرِه وسَمْعِه وقَلْبِه، وقوّة في بطشِه، وتسديداً في كلامه ونُطقه وفِعله.

فقد ورد في الحديث القُدْسي: (ما يتقرَّب إليّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إليّ ممّا افترضتُه عليه، وإنّه ليَتَقَرّب إليّ بالنوافل حتّى أُحبّه، فإذا أحببته كنت سَمْعه الّذي به يسمع، وبَصَره الّذي يُبْصِر به، ولسانه الّذي ينطق به، ويده الّتي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)(1) .

____________________

(1)روى الفريقان هذا الحديث بشكلٍ متواتر.

فقد ورد عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام بطُرقٍ متعدِّدة، رواها شيخ الإسلام الكُليني في الكافي، والبرقي في المحاسن، والحرّ العاملي في الأحاديث القدسيّة، وغيرهم.

كما ورَد عن طريق العامَّة بروايات متعدّدة، رواها البُخاري في الصحيح، والغزالي في الإحياء، وغيرهما من الرواة والعلماء.

٥٦

وإذا خرج الإنسان من سلطان الهوى ودخل في دائرة ولاية الله، رزقه الله، كما في هذا الحديث (نوراً في بَصَرِه وسَمْعِه، وتسديداً في كلامه ومَنطقِه وفِعله، وقوّة في بَطْشِه. فيَسْمَع بالله ويُبْصِرُ بالله ويَنطق بتسديد الله ويَبْطش بحول الله وقوَّتِه).

كيف يأخذُ الإنسانُ ويُعطِي باللهِ؟

وبالتأمّل في هذا الحديث، نجد أنّ الإنسان عندما يتحوّل بشكلٍ كامل إلى محوَر الولاية الإلهيّة، يتحوّل إلى أداة طيّعة لتنفيذ مشيئة الله في الأخذ والعطاء معاً، فهو في الجانب الأوّل - الأخذ والتلقّي - يسمع بالله ويُبصر بالله، وفي الجانب الثاني - العطاء والإرسال - ينطق بتسديد الله ويبطش بحَول الله وقوّته، والله تعالى يختار الإنسان في هذه الحالة؛ ليكون أداةً لتنفيذ مشيئته وإرادته على وجه الأرض.

يأخذ بالله ويعطي بالله ولله، فلا يكون للأنا والذات والهوى دَور في عمله وحُبّه وبُغضه، وتحرّكه وكلامه ومَوقفه وسكوته، ولا يكون للأنا والهوى أيّ درجة من درجات السلطان والنفوذ والتأثير على حياته وسلوكه وفِكْرِه ورأيه.

وهذا هو معنى الانسلاخ والانتزاع الكامل من سلطان الأنا، والخضوع والارتباط التامّ بولاية الله تعالى، وهو معنى الانفصال الكامل عن المحور الأوّل، والانتقال الكامل إلى المحور الثاني.

ولهذا الانفصال والانتقال - من محورٍ إلى محورِ آياتٍ وعلاماتٍ في حياة الإنسان - يُشير إلى بعضها حديث الولاية القُدسي السابق: (إن دعاني أجبتُه، وإن سألني أعطيتُه).

هذه هي خلاصة شديدة الاختصار عن المحوَر الثاني في حركة الإنسان.

٥٧

والآن نريد أن نتحدّث عن حركة الإنسان من نقطة البداية (محوَر الذات)، إلى نقطة النهاية والغاية في حركته ونموِّه وتكامله (محوَر الولاية الإلهيّة).

3 - الحَرَكَةُ مِن (الأنا) إلى (الله):

وخلاصة هذه الرِحلة: الانطلاق من الشهَوات والأهواء (المحوَر الأوّل) إلى الله (المحوَر الثاني)، والصعود من حضيض الذات والشهوات، إلى قِمَّة الحُبّ والارتباط بالله والولاء له.

وهذه الحركة ذات شَطرَين:

شَطْرٌ يتعلّق بالانطلاق من (الأنا).

والآخَر يتعلّق بالصعود والعروج إلى الله.

وعلى القاعدة العامّة، فإنّ الانطلاق أصعب من الصعود والحركة، والمعروف أنّ أكثر ما تحتاجه الصواريخ من الوقود والطاقة في الانطلاق من الأرض، والتحرّر من نفوذ جاذبيّة الأرض.

والانطلاق هنا من الذات، وما تكتنِف الذات من الشهوات.

وفي هذا الانطلاق يتحرّر الإنسان من الشهوات والأهواء، ويخرج من دائرة نفوذ الشهوات والأهواء، وهذه الدائرة تُطَوِّق الإنسان عادةً، وتُطبِق عليه وتحصره في نِطاقها، بين الأضلاع الثلاثة لـمُثلَّث الابتلاء الّذي تحدَّثنا عنه، فلا يستطيع الإنسان أن ينفلت من قبضة سلطان هذا المثلَّث الرهيب، ولن يتحرَّر منه إلاّ بمَشقّة بالغة.

فإنّ الشهوات والغرائز الكامنة في النفس تشدّ الإنسان شدّاً وثيقاً ومُحكَماً، بالمال والبنين والأزواج والمواقع، وما يشبه ذلك من زينة الحياة الدنيا، ولا يستطيع أن ينطلق إلى لقاء الله، ويدخل في دائرة ولاية الله قبل أن يتحرّر من هذه

٥٨

القيود الّتي تُعيق تحرّكه وانطلاقه.

ولذلك، فالشطر الأوّل من مهمّة الإنسان هو التحرّر من هذه القيود والتَعَلّقات، والشطر الثاني هو الصعود والتحرّك إلى الله، والدخول في دائرة ولاية الله، ومن دون أن يتحرّر الإنسان من المحور الأوّل لا يستطيع أن يرتبط بالمحور الثاني، ومن دون أن يُنتزَع من سلطان الأنا والهوى لا يستطيع أن يدخل في دائرة سلطان ولاية الله.

(التقوى) و (ذِكر الله) في شَطْرَي الحَرَكة:

وإذا عرفنا أنّ لسَفرِ الإنسان من محوَر (الأنا) إلى محوَر (ولاية الله) مرحلتين:

مرحلة التحرّر من (الأنا)، ومرحلة الارتباط بمحوَر ولاية الله؛ فلابدّ أن نعرف الأداة الّتي تُمَكِّن الإنسان في كلٍّ من هاتين المرحلتين من العمل، وهما أداتان اثنتان:

(التقوى)، في التحرّر من أسرِ الشهوات ومكافحة الأهواء، (للمرحلة الأُولى).

(والذِكر)، في السَير إلى الله والارتباط بالله، والانضمام إلى محوَر (ولاية الله)، (للمرحلة الثانية).

وهاتان الأداتان هما قِوام كلّ التعليمات الإسلاميّة؛ لإعداد الإنسان وتربيته وتأهيله للتكامل.

وقد ورَد فيما أوصى الإمام أمير المؤمنين ابنه الحسنعليهما‌السلام : (أُوصيك (بتقوى) الله يا بُنيّ، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذِكره)(1) .

ولنتحدّث أوّلاّ عن الأداة الّتي تُمكِّننا من التحرّر من الهوى والذات في المرحلة الأُولى، وهي (التقوى)، وبعد ذلك نتكلّم عن الأداة الّتي تربطنا بمحور الولاء لله تعالى، وتقرّبنا من الله.

____________________

(1)بحار الأنوار: 77 / 199.

٥٩

التقوى للتَحَرّرِ من الهوى:

إنّ العقبة الكبرى الّتي يواجهها الإنسان في حركته إلى الله هي (الهوى (.

قال الله تعالى:( ... وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ( (1) .

يقول الصادقعليه‌السلام : (احذروا أهواءَكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائِد ألسنتهم)(2) .

ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (إنّ أخْوَف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، وطول الأمل.

فأمّا اتّباع الهوى فيَصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنْسِي الآخرة)(3) .

وكما أنّ تجاوز الهوى هو المرحلة الأُولى والأهمّ في حركة الإنسان التكامليّة إلى الله، كذلك في الاستجابة للهوى السقوط والتردّي الكامل للإنسان.

ودرجة سقوط الإنسان وانحطاطه الروحي والخُلقي، تتناسب تناسباً طرديّاً مع درجة استجابته واستسلامه للهوى.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (إنّكم إن أمَّرْتُم عليكم الهوى، أصمَّكم وأعماكم وأرداكم)(4) .

وعن الجوادعليه‌السلام : (مَن أطاعَ هواه، أعطى عدوَّه (الشيطان) مُناه)(5) .

وقد عدَّ الإسلامُ مكافحة (الهوى) الجهاد الأكبر، في الوقت الّذي يعدّ فيه مكافحة (الطاغوت) الجهاد الأصغر.

عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام قال: (إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سَرِيَّة، فلمّا رجعوا

____________________

(1)ص: 26.

(2)سفينة البحار: 1 / 728 (هوى).

(3)نهج البلاغة: الكلام 42 / ص 83.

(4)غُرَر الحِكَم: 292.

(5)الـمَحجَّة البيضاء: 5 / 49.

٦٠