في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء9%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220316 / تحميل: 9255
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وفي كلّ غَمْرَةٍ من غَمَراتِ السَير والحركة، وعندما تَهبّ العواصف العاتية في وجوه العاملين، وكلّما يتغلَّب اليأس والتعب والخوف على نفوس المؤمنين السائرين، يلتقي العاملون السائرون على طريق ذات الشوكة بهذه القدوات الربّانيَّة.

يلتقون بأنبياء اللهعليهم‌السلام ، إبراهيم ويحيى وعيسى وموسى وأيّوب وهود وصالح ونوح وزكريّا، فيطمئنّون إلى مَعيِّة الله تعالى، وإمداده لهم في وَحشَة الطريق والتباس الأُمور، وظروف الإرهاب والـمُلاحَقة والـمُطارَدة.

يَطمئنُّون إلى مَعيّة الله وإمداده، من خلال حركة وعمل هؤلاء الربّانيّين السائرين على الدرب الطويل، باطمئنان وثِقَة، وصدور مُنشرِحة.

يقول تعالى لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يريد أن يُثبِّت قَدَمه على أرض المعركة:( أُولئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بها هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بها قَوْماً لَيْسُوا بها بِكَافِرِينَ * أُولئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (١) .

ويقول تعالى لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد أن يُذكِّره بمعاناة الأنبياء وقِصصهم وصبرهم، ودأبهم على السَير والعمل - في سورة هود -:( وَكُلاًّ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ به فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

فيُثبِّت الله فؤاد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بسيرة هؤلاء الصالحين.

يا لله! ما هذا الأمر العظيم الّذي يُثبِّت تعالى به فؤاد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ذلك هو القدوة الصالحة والحضور الرسالي الحيّ للربّانيِّين على ساحة المعركة، وعمارة الطريق الطويل بنجوم الهُدى، ومعالم الطريق:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ... ) (٣) ،( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ

____________________

(١)الأنعام: ٨٩ - ٩٠.

(٢)هود: ١٢٠.

(٣)الـمُمتحنة: ٤.

٨١

يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ... ) (١) .

وقد جعل الله تعالى من أنبياء السَلَف قدوات صالحة لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يُثبِّت بهم فؤادهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأفئدتنا، وجعل لنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قدوة صالحة، نستهدي به وتطمئنّ به قلوبنا وأفئدتنا ونفوسنا، في زَحمةِ الصراع، ومخاوف الطريق. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...)(٢) .

إنّ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعناءه وجهاده ومُثابرته وصبره واستقامته، قدوة لكلّ العالَمين.

وعلى الدُعاة إلى الله أن يقرؤوا بإمعان سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحياته العامّة والخاصّة، وعناءه، وحركته في مكّة وبعد الهجرة، وسيرته في الحرب والسِلم، وقبل إعلان الدعوة وبعدها، وقبل إعلان الحرب على الـمُشركين وبعدها، ومع المؤمنين ومع الأعداء؛ فإنّها للعامِلين نور وهدى، وقدوة صالحة ومَثَل أعلى يَحتَذي به المؤمنون.

الشَهيدُ قُدوَة:

و (الشهيد) قدوة صالحة في طريق العامِلين، وهذه الكلمة على وَجازَتها، تُشكِّل كلّ قِيمة الشهيد في حركة التاريخ وتحريك الأُمّة.

والقيمة الحركيّة للشهيد تعود إلى هذه الحقيقة بالذات، فإنّ الشهيد عندما يتحوّل إلى (قدوة) للعمل الصالح وللعطاء والتضحية في حياة الناس، يستطيع أن ينقل هذه القِيَم من جيل إلى جيل.

وهذه خاصّة من خصائص (القدوة) في الحياة الاجتماعيّة، أنّه يُسهِّل ويُسرِّع

____________________

(١)الـمُمتحنة: ٦.

(٢)الأحزاب: ٢١.

٨٢

عمليّة نقل القِيَم الحضاريّة من جيل إلى جيل، ويُعمِّق هذه القِيَم في حياة الناس.

وهذه القِيَم كلّما تنتقل من جيل إلى جيل تتَّسِع دائرتها من الناحية الكمِّية، وتتعمَّق وتترسَّخ من الناحية الكيفيّة.

وهذه الحقيقة تصحّ بشكل دقيق في أصل التضحية والعطاء، فقد يتصوّر بعض الناس أنّ الشهادة تُفقِد الأُمّة النُخبة الصالحة من أبنائها، وما تحمل هذه النُخبَة من قِيَمٍ ومزايا إيمانيّة وأخلاقيّة وجهاديّة.

والأمر على العكس تماماً، فإنّ الشهادة لا تُعتبَر خسارة مهما كانت قِيمة الشهيد وحجم الشهداء وعددهم، بل هي رِبْح ونموّ وبركة في حياة الأُمّة، وحتّى في الحسابات الماديّة.

والحديث التالي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوضّح لنا هذه الرؤية الإيجابيّة للشهادة:

خطبَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين في المدينة، في اليوم الذي اُستشهد فيه زيد وجعفر وعبد الله بن رواحه (رحمهم الله) - في حرب مُؤتَة مع الروم -، وأخبرهم باستشهاد زيد، وجعفر، وعبد الله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(أخذَ اللواءَ زيد، فقاتلَ به فقُتِل، رحِم الله زيداً.

ثمَّ أخذَ اللواءَ جعفر، وقاتلَ وقُتِل، رحِم الله جعفراً.

ثمَّ أخذ اللواءَ عبد الله بن رواحه، وقاتلَ فقُتِل، فرحِم الله عبد الله.

فبكى أصحابُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهُم حَوله، فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يُبكيكم؟

قالوا: وما لنا لا نبكي، وقد ذهبَ خِيارُنا وأشرافنا، وأهلُ الفَضلِ منّا؟!

فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تَبكوا، فإنّما مَثَلُ أُمّتي مَثَلُ حديقة قامَ عليها صاحِبُها فأصلح رواكبها، وبَنى مساكنها، وحَلَقَ سَعْفها، فأطعمتْ عاماً فوجاً، ثمّ عاماً فوجاً، فلعلّ آخِرها طعماً أن يكون أجودها قِنْواناً وأطوَلها شِمْرَاخاً، والذي بَعَثَني بالحقّ نبيّاً، ليَجدنّ عيسى بن مريم في أُمّتي خلَفاً من حواريِّيه)(١) .

____________________

(١)بحار الأنوار: ٢١ / ٥١. ومقاتل الطالبيِّين: ٧ - ٨، طبعة النجف، المكتبة الحيدريّة ١٣٨٥ هـ.

٨٣

الوَعْيُ والعَطاء:

ويتساءل السائل: وفيمَ يكون الشهيد قدوة، وكيف؟

دم الشهيد يُجسّد نقطتين أساسيّتين في حياة الإنسان وفي مسيرة الحركة الإسلاميّة، وهما: (الوعي) و (العطاء).

وهاتان النقطتان تُعتَبران أساسيّتان لقيمة دم الشهيد، وبهما يكون الشهيد قدوة للآخَرين.

فهذا الدم يُجسِّد أوّلاً مستوىً رفيعاً من الوعي والبصيرة واليقين، وهذه هي النقطة البارزة الأُولى في قيمة دم الشهيد، ولا قِيمة للدم من دون هذا اليقين والوضوح، والدم الذي يُراق من غير يقين من الانتحار، وليس من الشهادة في شيء.

إنّ لدم الشهيد جذوراً تاريخيّة ضاربة في عُمقِ التاريخ، وأهدافاً وغايات حضاريّة يرتبط بها الدم.

أمّا الغايات والأهداف الّتي يُحقِّقها دم الشهيد فهي: تحكيمُ شريعة الله وإرادته تعالى على وجه الأرض، ومُجاهَدة الهوى والطاغوت، وتعميق خطِّ الحضارة الربّانيّة في الأرض وفي حياة الإنسان، وإنقاذ الإنسان من شَرَكِ الهوى والطاغوت.

أمّا الأُصول والجذور التاريخيّة لدم الشهيد: فإنّه يجري في امتداد تيَّار عميق وواسع من الدماء والدموع، والجهود والمعاناة والآلام والعذاب، والصمود والصبر والجهاد في التاريخ.

وفي هذا الإطار التاريخي والرسالي، يكتسب دم الشهيد قِيمته الرساليّة والحركيّة.

وهذه الأهداف والغايات والعُمق الحضاري، هي الّتي تمنح الشهيد هذا الوَعي

٨٤

والبصيرة واليقين الّذي تحدَّثنا عنه، وإلاّ فكثير من الناس يبذلون أموالهم ودماءهم، ولن تعود عليهم هذه التضحية بجَدوَى، ولن تُخرِجهم من دائرة نفوذ الهوى، ولن تُدخِلهم في دائرة الهُدى.

( قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (١) .

ولا يشكّ أحدٌ في صدقهم في العطاء والتضحية، وأيّ عطاء وتضحية أكثر من التضحية بالنفس؟! ولكن، من دون أن يكون نابعاً من نَبْعِ الوعي والوضوح واليقين، بل هو الهوى يُزيِّن لهم أعمالهم ويخدعهم ويُريهم الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، ويسلبهم الرؤية والبصيرة، وهؤلاء هُم ضحايا على مذابح الهوى، وهم يتصوّرون أنّهم أصحاب مبادئ وقضايا.

فاليَقين والوعي هو الأساس الأوّل في تقييم دم الشهيد، ومن دون ذلك لا قيمة للدم مهما كانت التضحية.

وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : (نومٌ على يقين، خير من صلاة في شكّ).

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : (إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين)(٢) .

ضحايا انعدام الوعي:

ومن ضحايا انعدام الوعي واليقين في تاريخ الإسلام (الخوارج)؛ كانوا يلتزمون بالحلال والحرام، ويتقيّدون بأحكام الله، ويتورَّعون عن الحرام، ولكنّ ذلك كلّه من دون وعي ولا بصيرة ولا يقين، ولقد كانوا يُريقون الدماء الـمُحرَّمة الزاكية من دون ورع ولا تقوى، ثمَّ يتورَّعون عن أن يأخذ أحدهم ثمرة سقطت من

____________________

(١)الكهف: ١٠٣ - ١٠٤.

(٢)أُصول الكافي: ٢ / ٥٧.

٨٥

نخلة!

يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ولقِيَهم - أي: الخوارج - عبد الله بن الخَبّاب (من أصحاب أمير المؤمنين، وابن الصحابي الجليل الخبّاب (رحمهما الله)) وهو راكب على حمار، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتْلك - وكان يحمل معه قرآناً - فقال لهم: ما أحياه القرآن فأحيوه، وما أماته فأميتوه.

فوثبَ رجُل منهم على رُطبَة سقطتْ من نخلة فوَضعها في فِيه، فصاحوا به، فلفظها تورُّعاً.

وعرضَ لرجُلٍ منهم خنزير، فضربه فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض، وأنكروا قتْل الخنزير.

ثمّ قالوا لابن الخَبّاب: حدِّثنا عن أبيك، فقال: إنّي سمعت أبي يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ستكون بعدي فِتنة يموت فيها قلْب الرجُل كما يموت بدَنه، يُمْسِي مُؤمِناً، ويُصبِح كافراً، فكُن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل، قالوا: فما تقول في عليّعليه‌السلام بعد التحكيم والحكومة؟

قال: إنّ علياً أعلم بالله وأشدّ تَوقّياً على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنّك لست تتّبع الهدى، إنّما تتّبع الرجال على أسمائهم، ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه فذبحوه.

قال أبو العبّاس: وساوموا رجُلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له، فقال: هي لكُم.

فقالوا: ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن.

فقال: واعجباً! أتقتلون مثل عبد الله بن الخَبّاب ولا تأخذون نخلة إلاّ بثمن(١) .

وكان أمير المؤمنين يُخاطِب الخوارج، فيقول لهم: (فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَهَرِ، وبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، ولا سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ...)(٢) .

____________________

(١)شرح نهج البلاغة: ٢ / ٢٨١ - ٢٨٢.

(٢)نهج البلاغة، د. صُبحي الصالح: ٨ / خ ٣٦.

٨٦

ومَرَّ أميرُ الـمُؤمنين بِقَتْلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَ النهروان، فقال: (بُؤْساً لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ.

فَقِيلَ لَهُ: مَنْ غَرَّهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ: الشَّيْطَانُ الْمُضِلُّ، والأَنْفُسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، غَرَّتْهُمْ بِالأَمَانِيِّ وفَسَحَتْ لَهُمْ بِالْمَعَاصِي، ووَعَدَتْهُمُ الإِظْهَارَ، فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ)(١) .

وقُتل رجُل من الأصحاب، فعُرِف بقتيل الحمار؛ وذلك أنّه رأى مُشركاً على حمار فأعجبه الحمار، وبرز له لِيَقتله ويسلب منه حماره، فقُتِل، فعُرِفَ بقتيل الحمار. فلم يظفر بالحمار ولا بالشهادة.

وهذا هو الأساس الأوّل في تقييم دم الشهيد.

العَطاء :

والأساس الثاني في تقييم دم الشهيد: (العطاء والتضحية)، فالشهيد يُعتبَر قِمّة في العطاء والتضحية، وليس بعد هذه القمّة قمّة، فإنّ الجود بالنفس أقصى غاية الجود.

والشهيد يبذل لله تعالى كلّ ما يملك، ولا يدَّخر لنفسه شيئاً، فحَقيق أن يرزقه الله كلّ ما يتمنّى من رحمته.

وما أروع ما نُقلَ عن السيّد مهدي بحر العلوم (رحمه الله)، حيث لفتَ نظره كثرة ما يُروى من الثواب لـمَن زار الحسينعليه‌السلام ، فسأل أُستاذه عن سِرّ ذلك، فقال له: إنّ الحسينعليه‌السلام عبد فقير من عباد الله، أعطى كلّ ما يملك لله من غير تردّد، وحَقيق بالله - وهو الغني الـمُطلَق الّذي لا حدود لخزائن رحمته - أن يعطيه من خزائن رحمته من غير حساب، وفوق حساب الحاسبين.

____________________

(١)نهج البلاغة، د. صُبحي الصالح: ص ٥٣٢ خ ٣٢٣.

٨٧

والعطاء هو التصديق العَمَلي للإيمان، فمِن الناس مَن لا تصدِّق أعمالهم إيمانهم، إذا وقفوا في مواجهة أئمّة الكفر، وفي مواجهة الـمُنكَرات، وليس دائماً ينشأ هذا التَخالف - بين الإيمان والعمل - من الغموض والشكّ - وإن كان يُؤدّي إليه دائماً -، وإنّما ينشأ أحياناً عن ضعف في النفس، وحُبّ للدنيا وإيثار للعافية؛ فيتخلّف الموقف العملي للإنسان عن إيمانه وعقيدته، وتكون نتيجته الشِحّ والبُخل.

والقرآن الكريم دقيق في تعبيره عن العلاقة بين الإيمان النظري، والصدق في الموقف العملي، حيث يقول:( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) .

فليس كلّ المؤمنين صادقين في العمل والفعل، في عهودهم مع الله تعالى، بل منهم الصادقون ومنهم غير ذلك.

رغم أنّهم مؤمنون، لكنّهم لم يصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتخلّفوا في العمل عن الإيمان. وهذا النموذج من الناس شائع في مجتمعنا اليوم، وفي التاريخ.

إنّ التضحية تُعتبَر أعلى درجات التفاعل النفسي والعاطفي مع الإيمان والعقيدة.

إنّ الإيمان قد يكون إيماناً عقليّاً مُجرّداً، ذا صبغة عقليّة رياضيّة خالصة، إيماناً أكاديميّاً لا يغيّر شيئاً من واقع حياة الإنسان، ولا يصنع حُبّاً ولا بُغضاً ولا ولاءً ولا براءة، وليس له جَذْب ولا دَفْع في حياة الناس. وهذا هو إيمان الفلاسفة، الّذين يعرفون الله من خلال الـمُعادَلات والقوانين الفلسفيّة، إيمان الفارابي وابن سينا، وديكارْتْ وأمونوئَيل كَانْتْ.

____________________

(١)الأحزاب: ٢٣.

٨٨

أمّا إيمان الشهداء، فشيء آخَر يختلف عن هذا الإيمان.

إنّه عُملة ذات وجهين: وجه للعقل، ووجه آخَر للعاطفة والحُبّ والشوق، والولاء والحُبّ والعطاء والإيثار والفِعل والانفعال.

ترقُّ العاطفة حتّى تكون حُبّاً، ويسمو البذل حتّى يكون تضحية.

وما أجمل كلام هذا الشاعر الّذي يحدّثنا على لسان الحسينعليه‌السلام ، في مناجاة والِهَةٍ مع الله تعالى يوم عاشوراء، على مسرح الحُبّ والشهادة:

تَرَكْتُ الخَلْقَ طُرّاً في هَواكَا

وأيْتَمْتُ العِيال لِكَي أراكا

فلو قَطَّعْتَنِي في الحُبِّ إرباً

لَما مالَ الفؤادُ إلى سِوَاكا

إيمان الشهيد خليط من هذين الأمرين معاً: إيمان وحُبّ، إيمان يُصدِّق الحُبّ، وحُبّ يُصدِّق الإيمان، مزيج من العقل والعاطفة، يمزج بين منطق الفلاسفة والحُكماء، وعاطفة الـمُحبِّين الوالِهين.

دم الشهيد تعبير رائع عن هذا المزيج الـمُقدّس من العقل والحُبّ، من منطق الحُكماء ووَلَهِ الـمُحبِّين، ومن استحكام العقل وقوَّته وجاذبيّة الحُبّ وفَوَرانه.

وهذا التفاعل النفسي هو الّذي يُؤهّل النفس للعطاء والتضحية.

إنّ العقل وحده، والإيمان وحده، لا يكفي ليَبلغ الإنسان هذا المستوى الرفيع من تجاوز الذات، والإيثار والتضحية.

ولكي يبلغ الإنسان هذه القمّة من الكمال، لابدّ له من مدرسة أُخرى ومنطق آخَر وإعداد آخَر؛ وهي مدرسة الحُبّ ومنطق الـمُحبِّين، والعطاء، الذي يكوّن الشطْر الآخَر من شخصيّة الشهيد، نابع من هذا النَبْعِ.

وهذان الأساسان (اليقين والعطاء) هما الأساس والمفتاح لفَهم قِيمة الشهيد ودَوره في تحريك المجتمع.

ولابدّ من أن نبسط القول في هذه النقطة بعض البسط.

٨٩

التَخَلّف في الوَعْي والعَطاء:

قلنا: إنّ الشهيد قدوة للمجتمع وللأجيال، في مسألتين أساسيّتين هما: الوَعْي والعطاء.

والتخلّف عن الأوّل يُعرِّض الأُمّة للانحراف عن طريق الله، والتخلّف عن الثاني يصيب الأُمّة بالعَجزِ عن التحرّك، والضعف والتعب واليأس.

وأكثر مشاكلنا السياسيّة والفكريّة، والحضاريّة والحركيّة تنبع من هذين، (التخلّف في الوعي، والتخلّف وفي العطاء).

والشهيد قدوة رفيعة للوعي والعطاء معاً.

وقد لا يتبيَّن في النظرة الأُولى أثر كلّ شهيد في مسيرة الحركة، ولكن الذين يرزقهم الله القدرة على رؤية المسيرة الربّانيّة الكبرى على وجه الأرض، يرَون دائماً - إلى جنب كلّ مسيرة حاشدة بالمؤمنين إلى الله - نهراً من الدم ومسيرة حافلة بالشهداء، يُمَوّن هذه المسيرة ويمدّها بالعزم والقدرة على المواصلة وتحدّي الصِعاب.

إنّ دماء الشهداء تَهب الأحياء عَزْماً على الاستمرار، ومواصلة الحركة والسَير، وقوّة على تجاوز العقبات والصِعاب، وتَهبهم القدرة على نُكران الذات وتجاوز النفس، والترفّع عن صغائر الأُمور، وانتزاع حُبّ الدنيا من النفوس، وإيثار الآخرة على الدنيا، واسترخاص الحياة الدنيا في سبيل مرضاة الله.

إنّ دماء الشهداء تعلِّم الأحياء الكثير، ومن أغرب ما في هذه المدرسة العجيبة في حياة الإنسان أنّ تلاميذها أحياء، وأساتذتها أموات!

ولكن، لا كما يتصوَّر الناسُ الأموات، وإنّما كما يقول ربّنا (سُبحانه):( ... أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

٩٠

إنّ كلّ شهيد - في النظرة الكونيّة الشاملة لحركة الدم - يُربّي أجيالاً من العاملين الـمُخلصين لله، وكلّ قطرة من دم الشهيد تتحوَّل إلى أنهار من دم، يُفجِّر براكين من المقاومة والثورة والتمرّد على الظالمين في نفوس المؤمنين.

إنّ الشهادة تُعلّمنا كيف ينتصر المظلوم من الظالم، وكيف يستعيد المظلوم حقّه ومكانه في التاريخ، وكيف ينتصر الـمُستضعَفون على الـمُستكبرين ويستعيدون مواقِعهم في الحياة، وكيف ينتصر الدم على السيف، والحقّ على الباطل، وكيف يرزق الله القلَّة الـمُستضعَفة - التي تخاف أن يتخطَّفها الناس - على الكثرة القويّة من الـمُستكبرين وأضرابِهم وجنودهم.

والشهادة تُعلِّمنا كيف نكسر الأغلال والقيود من أيدينا، ونتمرّد على إرادة الذين يريدون أن يسلبونا الأمْن والإرادة والقدرة، والشهادة تُعلّمنا كيف نعيش أحراراً، وكيف نتحرَّر من القيود والأغلال، وكيف نسترجع كرامتنا وحُرِّيتنا ومواقعنا ومراكزنا على وجه الأرض، وكيف نتحوَّل من عبوديَّة الطغاة والـمُستكبرين إلى عبوديّة الله ربّ العالمين.

الشهادة: عقيدة وإيمان، وحُبّ وعطاء، وتضحية وإيثار في سبيل الله، وإخلاص وإقدام وشجاعة، وحياة جديدة.

وحاشا أن تكون الشهادة عقيمة، أو تكون موتاً كما يفهم الناس الموت.

الطاقة الحرَكيّة لدم الشهيد:

للدمِ قابليَّة كبيرة في تحريك الضمائر الخامِلة، ولا تهتزّ الضمائر الـمَيِّتة والخاملة لأمرٍ كما تهتزّ للتضحية والدم.

إنّ التضحية تُوقِظ العقول وتُنبِّه الضمائر، وتُحرِّك النفوس وتَهزّ الإنسان من الأعماق وتبعث فيه الحياة، وتفتح مغاليق القلوب وتشرح الصدور، وتُفجّر كلّ الطاقات الخيِّرة الكامنة في نفس الإنسان، وتقتلع الإنسان من مُستنقَع الحياة

٩١

الراكد، وتدفعه إلى قممِ الحياة العُليا، وتُمزِّق حُجُب التعلّق بالدنيا من على عينيه وسَمْعه وفؤاده؛ لِتفتح أمامه آفاق الحياة الواسعة، والّتي تمتدّ إلى مرضاة الله؛ ذلك أنّ الإنسان بفِطرته يَنْزعُ إلى الله تعالى ومرضاته.

وليست حقيقة الإنسان هي هذه الكُتلة من الأعصاب والعظام واللحم والجِلد والغرائز والشهوات فقط.

إلاّ أن التعلّق بالحياة الدنيا وأعْراضِها القريبة ومتاعها، يحجبه عن تلك الأهداف والغايات العُليا، فتَحبسه الحياة الدنيا وتَعلّقاتها وتُثْقِله، كما تُثْقل الجاذبيّة الأشياء، فتُعيق تحرّكه وصعوده.

والتعبير القرآني بهذا الصدد دقيق:( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ ) (١) .

وكأنّ التعلّق بالحياة الدنيا يُثقل الإنسان، ويجرّه إلى الأسفل (الأرض)، ويُعيق تحليقه إلى الله تعالى، ويُرضيه من تلك القِمم الرفيعة والآفاق الواسعة في الآخرة بهذا العَرض الزائل القريب من الدنيا:( أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ... ) .

ولكي يُحلّق الإنسان ويرتفع لا يحتاج كثيراً إلى زَخم أو دفع، وإنّما يحتاج إلى مَن يُمزِّق عنه هذه الحُجُب الّتي تَحجبه عن الآخرة، ويُحرِّره ويكسر عن يديه ورجْليه هذه الأغلال الّتي تُعيق تحرّكه، فيفتح عليه آفاق الآخرة ويُطلق يديه ورجْليه للتحرّك. ودم الشهيد له هذا الدَور الكبير في حياة الناس.

إنّ دم الشهيد يزيل الخوف عن القلوب الضعيفة، ويقضي على رهبة الموت، ويُعطي للموت معنى الانتقال إلى لقاء الله تعالى، ويَهَبه نَكْهَة لقائه.

إنّ دم الشهيد يرفع من قِيمة الموت إلى قِمّة لقاء الله تعالى، ويضع من قِيمة الحياة الدنيا حتّى لا تُعدّ تَستَهوي أحداً من المؤمنين، إلاّ بقدر ما تكون مَتجراً للآخرة وطريقاً إليها.

____________________

(١)التوبة: ٣٨.

٩٢

وأكثر ما يُعيق حركة الإنسان إلى الله تعالى، الخوف من الموت والتعلّق بالدنيا، فإذا حلّ محلّه الإقبال على لقاء الله: (الشهادة) والزهد في الدنيا - بالمعنى الإيجابي من الزهد -، تغيّر وجه الحضارة والتاريخ.

إنّ التضحيات الكبيرة تُمزّق حُجُب التعلّق بالدنيا عن عينَي الإنسان، وتفتح عينَيه فجأةً على الآفاق الواسعة الـمُترامية من وراء هذه الحُجب.

إنّ هناك من وراء هذه الحياة اليوميّة الرَتِيبة، بما تحتويه من تجارة وعمل ومعيشة ومُعاشرة، ومشاكل صغيرة وخلافات وحساسيّات وصراعات - إنّ هناك من وراء هذا الـمُستنقَع - آفاقاً واسعة وقِمماً عالية لتَحرّك الإنسان وصعوده، تكشفها تضحية الشهداء ودماؤهم، وكأنّ الإنسان كان في غفلة منها في حياته اليوميّة، فيُنبّهه إليها الشهداء بتضحياتهم.

فدم الشهيد إذن، يبعث الحياة والتحرّك من جديد في المجتمع، ويمنح النور والرؤية والبصيرة للقلوب الّتي تَبَلَّدَتْ في الحياة الدنيا.

وعندما يمتلك الإنسان الرؤية الكافية، ينكشف له الهدف والغاية، فيسعى إليه ويتحرّك نحوه.

فدم الشهيد إذن، يمنح الإنسان الرؤية والهدف والتحرّك وفي مساحة واسعة من المجتمع، ويخلق من الأجواء الخامِلة والبليدة أجواء حركيّة وثوريَّة.

ولذلك، فليس في دم الشهيد خسارة إطلاقاً، حتّى بالمعنى المادِّي من الخسارة، بل الدم رَبيح دائماً، حتّى بالمعنى التجاري للربح؛ ذلك أنّ الشهيد، وإن كان يرحل عنّا ونخسر به عنصراً فاعلاً مُخلِصاً، إلاّ أنّ تضحية وإيثار شهيد واحد يخلق روح الإيثار والتضحية عند العشرات من الناس، ويكون قدوة لهم في الإيثار والتضحية، ويبعث القوّة والفاعليّة والإخلاص في نفوسهم.

فالشهادة موت للفرد وولادة للأُمّة، ومثل هذا الموت مُربِح، ولن يُعدّ خسارةً حتّى في الحسابات التجاريّة من الربح والخسارة.

٩٣

دم الشهيد يُوسّع رقعة التضحية داخل الأُمّة:

إنّ تنامي مَوجة الاستعداد للتضحية والإيثار في الثورة الإسلاميّة المعاصرة - وعلى مساحة واسعة جدّاً - دليل واضح على خصوبة الشهادة وعطائها؛ فلقد بدأ الوعي الإسلامي يتنامى في هذه المنطقة، يرافقه الاستعداد للتضحية والشوق إلى الشهادة في سبيل الله، إلاّ أنّ هذا الاستعداد والشوق كان ضمن رقعة اجتماعيّة محدودة، هي المساحة الواعية من هذه الأُمّة.

وواضح لدينا أنّ المساحة الواعية من الأُمّة - والّتي انطلقت منها الحركة في مواجهة الطاغوت - كانت مساحة محدودة جدّاً، ولكن كلّما كان يزداد عدد الشهداء في الساحة الإسلاميّة، كانت تتَّسع رقعة الاستعداد للتضحية والشهادة.

وتجاوزَ الاستعداد للتضحية المساحة الواعية التي انطلقت منها الحركة والثورة إلى الشارع، وارتفع ابن الشارع والريف في حركة نامية سريعة إلى مستوى الاستعداد للتضحية والشهادة.

ومعنى ذلك، أنّ دماء الشهداء استطاعت أن تُوسِّع رقعة الوعي والتحرّك والإيثار والتضحية والشهادة، خلال هذه المدّة القصيرة بدرجة عالية جدّاً، تفوق تصوّراتنا الحسابيّة.

وهذا النموّ الـمُتصاعِد لحركة الإيثار والتضحية داخل الأُمّة، من أهمّ مصاديق الضمان الإلهي؛ لإنجاح رسالة دم الشهيد وقضيّته.

دمُ الشهيد يَحسم الخلاف ويقطع التردّد:

ودم الشهيد يقطع طريق العودة على المهزومين سياسيّاً وفكريّاً، إنّه أداة الحَسمِ في القضيّة الإسلاميّة، فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً.

وقبل أن يصبغ الشهداء ساحة المواجهة بدمائهم، تتوفَّر الفُرَص بشكلٍ واسع دائماً للصُلح والتفاهم مع الكفر، والنزول عن المبادئ والحلول النصفيّة، لتَرضية أئمّة الكُفر.

٩٤

أمّا عندما يُراق دم الشهداء في الساحة، فإنّ الأمر يختلف تماماً، وتنقطع الجسور بين هاتين الجَبهتين، وتبقى المبادئ هي سيِّدة الـمَوقِف.

والمجتمع الإسلامي لا يخلو - على كلّ حال - من حالات ولحظات ضعف، تدفع المجتمع غالباً باتّجاه التَرضِية والتفاهم وتَجَنُّب المواجهة؛ إيثاراً للعافية والاستقرار، وتحت غطاء من التبريرات الشرعيّة والسياسيّة، ولولا دم الشهيد لكان هذا الاتّجاه هو الاتّجاه السائد والغالب، إلاّ أنّ دم الشهيد يستلم الموقف السياسي والعسكري دائماً بالحَسمِ الثوري، ويُشكّل في المجتمع الإسلامي بُؤرة القوّة والثورة، في مقابل بُؤرة الضعف التي أشرنا لها.

ولا نذهب بعيداً في أعماق التاريخ، فالثورة الإسلاميّة المعاصرة في إيران، بمُعطياتها الثوريّة والسياسيّة في مُتناوَل أيدينا، ولم تَغِب عنّا أحداثها بعد.

لقد كانت قيادة الإمام الخميني (رضي الله عنه) حاسمة منذ المراحل الأُولى للثورة، وكانت هذه القيادة تتّجه من الأوّل باتّجاه إسقاط النظام - مرّة واحدة - وإقامة الحُكم الإسلامي وبصورة قاطعة، ولكنّ المساحة الواسعة من الأُمّة لم تكن بهذا المستوى من التفكير الثوري.

وكانت هناك قطاعات كبيرة من الأُمّة تميل إلى التفاهم مع النظام؛ للمحافظة على النظام والإسلام معاً بقدرِ الإمكان، وتجميع النظام القائم والإسلام - في الحدِّ الأدنى -، وكانوا يعتقدون بضرورة إيقاف الثورة عندما يتحقّق الحدّ الأدنى من المصلحة للإسلام.

وبدأ (الشاه) في أُخرَيات أيّامه يميل إلى هذا الرأي، ويعتقد بضرورة تقديم تنازلات شكليّة ومُؤقّتة للثورة؛ للإبقاء على عرشه ريثما تتمّ له فرصة الانقضاض من جديد على الإسلام.

ولو كان يحدث شيء من هذا القبيل، لحلّت بالإسلام كارثة يصعب علينا تقدير سلبيَّاتها وأضرارها الآن.

وقد كان لدماء الشهداء (رضوان الله عليهم) دور حاسم ومصيري في هذه

٩٥

المرحلة من حياة الثورة، قطعت الطريق على الحلول النصفيّة الضعيفة، وقطعت جسور التفاهم مع النظام، وصادرت كلّ الحلول المطروحة للترضية والتفاهم.

وكلّما كان يكثر عدد الشهداء في الساحة، كانت ترتفع درجة مقاومة الثورة وقُدرتها على الـمُضيّ والاستمرار، وكانت الفجوة بين الجبهتَين تتّسع أكثر من ذي قبل، وتقلّ فُرَص اللقاء والتفاهم الذي كان الجناح الوطني لا يخفي رغبته إليه، حتّى بلغ الأمر حدّاً لم يكن من الـمُمكن اللقاء والتفاهم مع الشاه، على كلّ المستويات الاجتماعيّة المواكِبة للثورة، وانقطعتْ الجسور بصورة نهائيّة.

ولم يعُد لأحدٍ أمل معقول من الناحية السياسيّة في إمكانيّة الإبقاء على الشاه، حتّى السفير الأمريكي في طهران، فقد كان يُراسل حكومته؛ ليُؤكّد لهم أنّ فكرة المحافظة على الشاه في الظروف الموجودة في إيران لم يَعُد إلاّ وَهْماً سياسيّاً، وسراباً خادعاً... ومن الأفضل لأمريكا أن تُعيد النظر في حساباتها السياسيّة تجاه قضيّة إيران؛ لتُفكّر تفكيراً واقعيّاً ينسجم مع الواقع الإسلامي القائم في إيران.

وبالتأكيد، كان لدم الشهداء الدَور الكبير البارز والفاعل في الحسمِ السياسي، في هذه المرحلة الحسّاسة والمصيريّة من التاريخ، إلى جانب الموقف التاريخيّ الحاسِم الجَريء الذي كان يمتلكه الإمام في مواجَهة الأحداث.

وليس هذا فقط، بل كان لدم الشهداء (رضوان الله عليهم) في ساحة المواجهة دَور في قطْع طريق العودة على أمريكا وحلفائها إلى إيران، من خلال المؤامرات العسكريّة والالتفافات السياسيّة.

لقد كان من الـمُمكن أن تُفكّر أمريكا - بعد أن فقدَت الأمل في المحافظة على الشاه - في مؤامرة عسكريّة، من خلال العناصر الموالية لها من العسكر، لكنّ التضحيات الكبيرة التي قدَّمتها الأُمّة في مواجهة النظام بقيادة الإمام، قطعت الطريق عليهم أيضاً، فلم يكن من الـمُمكن أن تسكتْ الأُمّة - بعد تلك التضحيات والدماء المباركة - عن بديلٍ أمريكي آخَر،

٩٦

مُقنَّع بقناعٍ جديد من الديمقراطيّة والوطنيّة والدِين، من خلال حركة العَسكرِ أو حركة السياسيِّين القُدامى.

لقد منحت دماء الشهداء - في (ساحة الشهداء) في طهران، وفي سائر سوح المواجهة - هذه الأُمّة الوعي والذكاء السياسيَّين، والحذر من لُعبة تبديل الأقنعة والوجوه، وقوّة الحسم في الموقف.

وهذه جميعاً وغيرها، هي الأدوات التي يضمن الله تعالى بها قضيّة دم الشهيد، والتي تُساهم - بإذن الله - في إنجاح رسالة الشهيد.

فدم الشهيد إذن، يقود المسيرة الحضاريّة باتّجاه المواقف القويَّة والحاسمة، ويفتح مغاليق القلوب الـمُعتِمة والـمُنغلِقة، ويُفجِّر الطاقات الكامنة في أعماق النفوس، ويهب النفوس البليدة والضعيفة ذكاءً ووَعياً وقوّةً.

ولا شكّ أنّ هذه النقاط الـمُضيئة في دم الشهيد - جميعاً - مواضع يهبط عليها نصر الله تعالى وتأييده.

الإمدادُ الغَيْبِي والضَمان الإلهي لدَمِ الشهيد:

وبعد، فليس معنى ما ذكرنا من نقاط حسيَّة لهبوط النصر والتأييد من الله تعالى، أنّ الضمانة الإلهيّة لقضيّة الشهداء تنحصر في هذه النقاط، فإنّ دائرة الإمداد الإلهي الغَيبي لدم الشهيد أوسع من هذه الدائرة الحسيّة التي رسمناها هنا، ومصادر النصر ومنابِعه في خزائن رحمة الله تعالى لا تنحصر فيما ذكرنا من نقاطٍ ووجوه، فإنّ خزائن رحمة الله تعالى ونصره وتأييده لمسيرة الشهداء واسعة وكثيرة، لا يُحدِّدها ما ذكرنا من أسباب وأساليب.

فقد نصر الله تعالى أنبياءه بطُرقٍ غيبيَّة لا تنالها يدُ الإنسان وقُدرته، فنَصَر الله تعالى نوحاًعليه‌السلام ، ففجَّر الأرض ينابيع، وأنزل من السماء أمطاراً غزيرة وأغرق قومه الذين كذَّبوه:

٩٧

( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السّماءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (١) ، إلى قوله تعالى:( وَلَقَد تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُدّكِرٍ ) (٢) .

ولقد أرسل الله تعالى على قوم عاد ريحاً صَرصَراً في يوم نَحْسٍ مُستمِر، فأبادتهم وأهلكتهم:

( إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) (٣) .

وأمَر الله تعالى الملائكة أن ينزلوا إلى ساحة بدر؛ لنصرة المسلمين وتَثبيتهم:

( إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ ) (٤) .

وكذلك يُثبّت الله عباده الصالحين في المواجهة مع الكافرين، وعلى أرض المعركة، ويضمن الله تعالى في هذه المواجهة الحضاريّة العَنيفة أنّ العاقبة للـمُتَّقين:

( ... إِنّ الأَرْضَ للّهِ‏ِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ) (٥) .

وعلى نحوٍ من ذلك نفْهم نحن الضمان الإلهي لدم الشهيد، وهذه الضمانة الإلهيّة جزء من هذه الحقيقة والسُنّة الإلهيّة الشاملة في تأييد ودعم ونصر المؤمنين الـمُتَّقين، و (الثأر) لدماء الشهداء.

____________________

(١)القمر: ١١ - ١٢.

(٢)القمر: ١٥.

(٣)القمر: ١٩ - ٢١.

(٤)الأنفال: ١٢.

(٥)الأعراف: ١٢٨.

٩٨

ثأرُ الله

رِحلةُ الشَهادة في القرآنِ الكريم

في سورتَي التوبة وآل عمران

( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ... ) (١) .

( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٢) .

يُشير القرآن الكريم إلى هذه النقلة الإيمانيّة في حياة المؤمنين، من محوَر الأنا إلى محوَر الله، في أروعِ صورة وتمثيل:

آية (التوبة):

( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

والآية الكريمة تُعبِّر عن تجرّد الإنسان من ذاته وعلاقاته بالله تعالى

____________________

(١)التوبة: ١١١.

(٢)آل عمران: ١٦٩.

(٣)التوبة: ١١١ - ١١٢.

٩٩

باستخدام تعبير البيع والشراء، وهو تعبير ينطبق على الموضوع الذي نحن بصدَده بشكل دقيق.

وكلّ بيع يتطلَّب أُموراً خمسة: الـمُشتري، والبائع، والثمن، والـمُثمَن، ووَثيقة البيع.

والـمُشتري هنا هو: الله (عزّ اسمه).

والبائع: الإنسان.

والثمن: الجنَّة.

والـمُثمَن: هي النفس وعلاقاتها ومُتعلّقاتها، ولذّاتها وغرائزها، وحُبّها وبُغضها وميولها.

ووثيقة البيع: التوراة، والإنجيل، والقرآن.

البَيْعُ والشراء:

ويستوقِفنا هنا هذا التعبير الرائع:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) .

إنّ المؤمنين يبيعون أنفسهم وأموالهم لله، والله يشتري منهم أنفسهم وأموالهم، وليس للبائع - بعد أن يتخلَّى عن نفسه وعن الأنفُس العزيزة عليه، وعن ماله لله، ويَقبض الثَمَن - أن يتراجع أو يتردَّد في تسليم البضاعة، أو يتحفّظ في التسليم أو يَستقطِع منها شيئاً أو تحنّ نفسه إلى شيء منها، فقد باعَ وقبضَ الثَمَن، ولا خِيار ولا رجوع ولا استقطاع.

وعمليّة البيع هنا شامِلة ومُستوعِبة، لا تترك للإنسان شيئاً:( ... أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) .

والأنْفُس هي أنْفُس المؤمنين والأنْفُس العزيزة عليهم، من أبناء وأزواج وإخوة وأعزّاء.

والأموال هي كلّ ما يملكونه من مَتاع وعِقار ونقْد.

فلا تبقى لهم بقيّة في هذه الدنيا يتعلّقون بها أو تحنّ إليها نفوسهم، ما داموا قد قَبِلوا البيع وأتمّوا الصَفقة وقبضوا الثَمن، فهي عائدة جميعاً لله، يتصرّف بها كيفما يشاء وكما يُحبّ وكما يريد، وليس للمؤمن أن يَتَلَكَّأ في التسليم والعطاء أو يتردَّد، فإنّ عمليّة التخلّي عن الأنفس والأموال تتمّ طَوَاعِيَة باختيار الإنسان ورغبته، وقِيمة هذه العمليّة في أنّها تتمّ باختيار الإنسان ورغبته، ومن الـمَعيب أنْ

١٠٠

يُتِمّ الإنسان صفقة بيع ويقبض الثمن، ثمّ لا تسمح له نفسه بالتخلّي عن البضاعة أو يتردّد في تسليمها، أو تُساوِره نفسه بالفَسخِ والتراجع.

النَقْلة الكاملة:

وعمليّة البيع - وهذا هو مَوضع استشهادنا بهذه الآية الكريمة - تُعبِّر عن كلّ المسيرة والرِحلة، وتطوي كلّ المسافة الفاصلة بين المحورَين، (محوَر الأنا) و (المحوَر الإلهي)، فيتخلّى المؤمن عن نفسه ومُشتهياتها، وعلاقاتها ولذَّاتها ومُتَعِها، وعن كلّ علاقاته في هذه الدنيا لله تعالى بصورة كاملة، وينتزع نفسه من هذا المحوَر انتزاعاً كاملاً؛ لِينقلها إلى المحوَر الآخَر، وليضعها تحت سلطان الله تعالى وأمره ونهْيِه.

وهذه النقلة أو البيعة هي كلّ المسيرة الإنسانيّة إلى الله، والمؤمنون في هذه البيعة يطوون كلّ تلك الرحلة الطويلة والشاقَّة.

أمثلة عن النقْلة في حياة المسلمين الأُولى:

ولقد كان المسلمون في صدر الإسلام يتلقّون هذه الحقائق والآيات من كتاب الله، ويفهمونها بوضوح وبساطة ومن غير تعقيد أو التواء، وتتحوّل هذه الآيات والمفاهيم القرآنيّة الجديدة في نفوسهم إلى وعيٍ عميق، وإيمان وسلوك.

وإليكم بعض الصور الـمُشرِقة من هذا التاريخ:

1 - في بيعة العَقَبَة الثانية - وهي التي أنافَ فيها رجال الأنصار على السبعين - اجتمع رجال الأنصار مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند العقبة لمبايعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاتّفاق معه على قرار بخصوص الهجرة والنُصرة، فقال عبد الله بن رواحَه (رحمه الله) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :اشترط لربِّك ولنفسك ما شئتْ.

١٠١

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أشترط لربِّي: أن تَعبدوه ولا تُشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي: أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.

قالوا: فإذا فَعلنا ذلك فما لنا؟

قال:الجنّة .

قالوا: ربح البَيع، لا نقِيْل ولا نَستَقيل (1) .

فنزلت: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) )(2) .

2 - وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، قال: (نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المسجد: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، فكبّر الناس في المسجد، فأقبلَ رجُلٌ من الأنصار ثانِياً طرَفَي ردائه على عاتقه، فقال: يا رسول الله، أنزلتْ هذه الآية؟

قال:نعم .

فقال الأنصاري: بيع رَبيح لا نقِيْل ولا نَسْتَقيل) (3) .

3 - وصورة ثالثة من هذا التفاعل المباشر، والفهْم الواضح الصافي لـمَفاهيم الإسلام وتصوّراته الجديدة على حياة الناس، وهي ما جاء عن عُبادة بن الصامت: (أنّ أسعد بن زُرارَة أخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العَقبة، فقال: أيّها الناس، هل تدرون علامَ تُبايعون محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

إنّكم تبايعونه على أن تُحاربوا العربَ والعَجمَ والجنَّ والإنس كافّة.

فقالوا: نحن حرب لـمَن حارب، وسِلم لـمَن سالَم.

فقال أسعد بن زُرارة: اشترط عليّ.

____________________

(1)الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 8 / 367.

(2)بناءً على أن تكون الآية مكِّيَّة، والأرجح أنّها مدنيّة.

(3)الدُرّ المنثور: 3 / 280.

١٠٢

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : تُبايعوني على أن تشهدوا أن لا اله إلاّ الله وأنّي رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسَمع والطَاعَة، ولا تُنازِعوا الأمر أهله، وتمنعوني ممّا تَمنعون أنفسكم وأهليكم.

قالوا: نعم.

قال قائل من الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟

قال: الجنّة والنَصر)(1) .

4 - وصورة أُخرى، وهي ما أخرجه ابن سَعد عن الشَعْبِي، قال:(انطلَق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعبّاس بن عبد الـمُطّلب، وكان ذا رأي، إلى السبعين من الأنصار عند العَقَبة، فقال العباس: ليَتكلّم مُتَكَلِّمُكم، ولا يُطيل الخُطبة، فإنّ عليكم للـمُشركين عَيْناً، وإن يعلموا بكُم يفضحوكم.

فقال قائلهم، وهو أبو أُمَامَة أسعد: يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سَل لربِّك ما شئتْ، ثمّ سَل لنَفسك ولأصحابك ما شئتْ، ثمّ أخبرنا ما لنا من الثواب على الله، وعليكم، إذا فعلنا ذلك؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أسألُكم لربِّي أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تُؤوونا، وتنصُرُونا وتمنعُونا ممَّا تمنعون منه أنفُسكُم.

قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال: (الجنّة).

فكان الشَعبي إذا حدّث هذا الحديث قال: ما سمعَ الشِيب والشُبّان بخطبةٍ أقصر ولا أبلغ منها) (2) .

ولهذه الصوَر أمثلة كثيرة في تاريخ الإسلام، عن التفاعل المباشر مع مفاهيم وتصوّرات الإسلام، والانصهار والذَوَبان في هذه المفاهيم والتصوّرات،

____________________

(1)الدرّ المنثور: 3 / 280.

(2)الدرّ المنثور: 3 / 280.

١٠٣

والفهْم الواضح لها.

لقد كان المسلمون الأوائل يفهمون هذه الآية الكريمة بهذه البساطة والوضوح، ويتفاعلون معها بمِثل هذه القوّة والعزم، ولعلّنا لا نبعُد عن الحقيقة إذا قلنا: إنّ أبناءنا من هذا الجيل بدؤوا يستعيدون تلك البساطة والوضوح في فهْمِ آيات الله، وأحداث الثورة الإسلاميِّة المعاصرة في إيران والعراق ولبنان...، وجَبَهات القتال الدامية مع النظام العراقي السَفَّاح، شاهِدة على هذه الحقيقة(1) .

تكريمُ الإنسانِ بالبَيع والشِراء:

ومِن عجَبٍ في هذه الشراء أنّ الشاري (سُبحانه وتعالى) له مُلك السماوات والأرض، وله الإنسان وما بيده من أموال، وله أن يتصرَّف في كلّ ذلك من غير بيعٍ ولا شراء، ومن غير سؤال ولا استئذان، والعبد وما في يدهِ لمولاه!

ولكنّه (عزّ وجلّ) شاء أن يُكرِم هذا الإنسان، ويرفعه إلى موضِع التَعاقد والـمُبايَعة معه، وذلك تكريم من لَدُنِ الله تعالى لعباده، بما يُناسب لُطفه وكرمه بهم.

وقد كان الحَسنُ إذا قرأ هذه الآية:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، قال: (أنْفُسٌ هو خَلَقَها، وأموالٌ هو رَزَقها).

فهو سُبحانه خلقَ الإنسان وخلقَ له ما شاء من الطيّبات، وتلك كرامَة، ثم مَلَّكَه ذلك، وتلك كرامة أُخرى، ثمّ اشترى منه ما وهَبه وما ملَّكه، وتلك كرامة ثالثة أن يرفعَه إلى موضِع التعاقُد والـمُبايَعة معه، ثمّ جعل ثَمن ما يأخُذه منه من الـمَتاع الفاني الجنّةَ والخلود في رحمته ورضوانه، وتلك كرامة رابعة.

____________________

(1)كُتِبَ هذا البحث أيّام الحرب العراقيّة الإيرانيّة.

١٠٤

والعطاء جميل على كلّ حال، ولكن أجمل العطاء وأفضله ما يقترن بالتكريم، وقد قرَنَ الله تعالى عطاءه لعباده بالتكريم، وتلك غاية في الكرَمِ والتكريم، والحمد لله ربّنا الذي أكرمنا بكلّ هذه الكرامات، وأكرمنا بالإسلام والتقوى.

البَيْعَة:

والبَيْع والشراء من الله يستدرجنا للحديث عن مصطلحٍ إسلامي عريق، يتَّصل بهذا المفهوم من قريب، وذلك هو: (البَيْعَة).

والبَيْعَة مُشْتَقَّة من مادّة البَيْعِ، ولا نعلم ما إذا كان له في الجاهليّة أصل قريب أم لا؟ إلاّ أنّ الإسلام اتّخذ هذه الكلمة مُصطلَحاً للالتزام والتعهّد الكامل بالطاعة من قِبَل الأُمّة للإمام، فيكون معنى الكلمة الالتزام الكامل بالطاعة.

وذكروا في المناسبة الّتي اقتضَتْ تسمية هذا الالتزام بالبَيْعَة: أنّ العرب كانوا إذا تبايعوا تَصَافَقوا، وضربَ أحدُ الـمُتبايعَين بكفِّه على كفِّ الآخر، وكان ذلك علامة رضاهما بالبيع، والتزامهما به.

وقد أمضت السُنّة هذه الطريقة في التعبير عن التعهّد، والالتزام بالطاعة تجاه الإمام؛ فكان المسلمون إذا بايعوا رسول الله، استلموا كفَّه إيذاناً بالالتزام بالطاعة، ويُسمَّى هذا الالتزام بهذه المناسبة بَيْعَة ومُبايَعة.

ومن غير الـمُستبعَد أن تكون المناسبة في هذا الـمُصطلَح أنّ هذا الالتزام من مَقولَة البَيْعِ، ففي البيع يتخلّى البائع عن المتاع الّذي يملكه بشكل كامل في مقابل ما يتلقّاه من الثَمَن، وإذا أوجب البيع، فلا يحقّ له أن يتراجع عمّا أمضاه.

وكذلك الأمر في الالتزام بالطاعة (البَيْعَة)، فإنّ المرء إذا دخل البيعة والتزم بالطاعة، فليس له أن يتراجع أو يتخلَّى عن عهده والتزامه؛ فقد أمضى البيعَ وقبضَ

١٠٥

الثمن (الجنّة)، وأعطى الله ماله ونفسه والأنفس العزيزة عليه، فلا يحقّ له أن يتراجع أو يتردَّد أو يفسخ الالتزام.

ورحم الله ذلك الرجل الأنصاري الذي قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بَيْع رَبيح، لا نقِيْل ولا نستقيل.

البَيْعَة التجرّد الكامل عن الأنفسِ والأموال:

إنّ حقيقة البيعة التخلّي الكامل عن الأنفُس والأموال، والالتزام الكامل بالتسليم والطاعة في مُقابِل الثمن الكبير وهو الجنّة؛ فإنّ حقيقة الطاعة هي (الولاء) والتسليم لله، ولا يتمّ الولاء لله والتسليم لأمر الله ورسوله والانقياد والطاعة لهما، إلاّ عندما يتخلّى الإنسان المسلم عن كلّ شيء يتعلَّق به، من الأنفُس والأموال، ويتجرَّد من ملكيَّة كلّ شيء وضَعه اللهُ تحت تصرّفه ومُلْكه، ولا يرى لنفسه حقّاً في شيء منه، ويرى أنّ الله ورسوله أَولى بهما منه، وهي عنده وَدِيْعَة إلى حين يسترجعها الله تعالى منه، وهذا هو جوهر البيعة.

وعجيب أمر هذه الوَديعَة الإلهيّة، وعجيب كرم الله تعالى وفضله ورحمته بعباده!

فما بأيدينا من الأنفس والأموال لله تعالى، وليس لنا منه شيء، أودعَها عندنا وهو أَولى بها، وهو خالقها ومالكها، ثمّ يشتريها من عباده بعد ذلك، ويَعِدهُم بالجنّة ثَمَناً لها، ثمّ يُودِعها لدينا إلى حين الدعوة والطَلب، ثمّ إذا شاء بعد ذلك أن يسترجع وديعته.

قال عزّ مَن قائل:( مَن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... ) (1) .

سُبحانك ما أكرمك، وأكرم عطاياك! وما أجملك وأجلّ أسماءك وصفاتك الحُسنى!

وما أبخلنا وألأمَنا! فنحن عبادك الذين نضنّ بأنفسنا وأموالنا عنك! فتَوَلّ اللّهمّ لُؤمنا بكرمِك، وشحّنا برَحمتك.

____________________

(1)البقرة: 245.

١٠٦

البَيْعَة ميثاق (الدعوة) والدولة:

والبَيْعَة ميثاق، وهذا الميثاق يُحمِّل الإنسان المسلم مسؤوليَّتين كبيرتين:

الأُولى: مسؤوليّة الدعوة إلى الله تعالى، والقيام بأعبائها وتحمّل الخسائر الـمُترتِّبة عليها، وتوطين النفس لذلك.

الثانية: مسؤوليّة الدولة الإسلاميّة، وبنائها والدفاع عنها.

وهاتان الـمُهمّتان شاقّتان عسيرتان، ولا ينتهي دَور الإنسان ومسؤوليَّته تجاه الإيمان بالله وبرسوله، ما لم يتعهَّد أمر الدعوة والدولة معاً.

وهذه المهمّة الـمُزدوَجة هي أساس معاناة وابتلاء ومتاعِب الأنبياءعليهم‌السلام ، فلن تستقرّ الدعوة، ولن تتمكّن من العقول والقلوب والحياة من دون التصدِّي والمواجهة، ولن تشقَّ طريقها إلاّ على أنقاضِ الدعوات الجاهليّة، وعلى أجساد الطغاة والجَبابرة الذين يَحولون بين الناس والاستجابة لدعوة الله.

وما يُقال في الدعوةِ يُقال في الدولة بشكلٍ أقوى وأوضح، فإنّ (الدولة) هي سيادة الدعوة وسُلطانها على الأرض، وكلمتها النافذة، ولا تستطيع الدولة أن تفرض سلطان الدعوة على الحياة الاجتماعيّة، دون أن تواجه صنوفاً من العَقَبات والتحدِّيات.

وهذه المواجهة في طريق تَمْكِين الدعوة والدولة وتذليل العَقبات، تتطلَّب البَذل والتضحية والصَبر، وتوطين النفس لكلّ ذلك من قِبل الأُمّة، حامِلة رسالة الدعوة والدولة، فلابدّ من مبايعة قائد المسيرة على البذلِ والعطاء والتضحية والفداء، وأن يُجاهدوا خِفَافَاً وثِقالاً، وألاّ يُعيقهم عن الجهاد في سبيل الله الأزواج والبنون والأموال والتَعلّقات والمواقِع، وأن يتجرَّدوا لله تبارك وتعالى من كلّ ارتباط وتعلُّق، عدا الارتباط بالله والتعلّق بالدعوة وهمومها وآلامها.

١٠٧

البَيْعَة طاعَةٌ وتَضحِية:

ولابدّ في البيعة من أمرين:

1 - الطاعة والانقياد.

2 - التضحية والعطاء.

قال ابن عُمَر: (كنّا نُبايع رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على السَمْعِ والطاعة)(1) .

وعن ابن عُمَر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (على الـمَرءِ المسلم السَمْع والطاعة فيما أحبَّ وكَرِهَ، إلاّ أن يُؤمَر بمَعصيةٍ، فإذا أُمِر بمعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعة)(2) .

وعن يزيد بن أبي عبيد - مولى سَلَمه بن الأكوع - قال: قلتُ لسَلَمه: (على أيِّ شيء بايعتُم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحُديبَّية؟

قال: على الموت)(3) .

فلا تستقيم الدعوة ومسيرتها، ولا تحقِّق أهدافها من دون هذين الأمرين.

والطاعة والتضحية أمران مُتلازمان، وهما يُساويان التخلّي الكامل عن النفس ورغباتها ومشتهياتها لله تبارك وتعالى، والجنّة هي الثَمن الّذي يتقاضاه الإنسان المؤمن إزاء ذلك.

آيةُ البَيْعَة:

والبيعة بهذا الـمُحتوى الرفيع، لن تكون إلاّ مع الله تعالى، وأمّا الذين يُبايعون

____________________

(1)صحيح البُخاري: كتاب الأحكام / باب البيعة.

وصحيح مسلم: كتاب الإمارة / باب البيعة على السَمْعِ والطاعة / 6 / 29، دار الفكر.

(2)مسند أحمد بن حنبل: 2 / 17 و 142.

(3)صحيح مسلم: كتاب الإمارة / باب استحباب مُبايعة الإمام / 6 / 27، دار الفكر.

١٠٨

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّما يُبايعون الله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

فلا تكون البيعة - بالـمُحتوى الّذي شرحناه - مع طرفٍ آخر غير الله، ولا يصحّ أن يتجرّد الإنسان ممّا آتاه الله تعالى لغير الله.

وكلمة (إنّما) في قوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ... ) ذات دلالة عميقة؛ فهي تأتي لحصرِ البيعة والولاء بالبيعة لله تعالى، ونفي أيَّة بَيْعة أُخرى غير البَيْعة لله.

( ... يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... ) ، فاليد الّتي يُصافحونها في البيعة وإن كانت يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها تمثّل يد الله، وعلوّها من علوِّ يد الله، وهذه الجملة تُقرِّر عدّة حقائق إيمانيّة وسياسيّة في وقت واحد.

فلابدّ في هذه البيعة من يدٍ أعلى فوق أيديهم، ومن دون هذا العلوِّ لا تتمّ الولاية والبيعة والطاعة.

ولابدّ أن يكون هذا العلوّ علوّاً حقيقيّاً، فاستعلاء بعض الناس على بعضٍ ليس من ذلك، وإنّما هو من الاستكبار الذي يَمْقته الله تعالى.

و (يد الله) هي العُليا في هذه البيعة( ... يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... ) ، وهي وحدها الحَرِيَّة بالبَيْعة والطاعة والولاء، أمّا يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليست هي المقصود بالذات في هذه البيعة، وإنّما المقصود يد الله، وتكتسبُ العلوّ والولاية من الله.

وهذه الحقائق بمجموعها، ترسم لنا الأبعاد الكاملة لتوحيد الولاء، وهو بعد (توحيد الإيمان بالله) يُعتبَر الأساس والرَكيزة لبناء المجتمع الإسلامي، وتنظيم شبكة العلاقات داخل المجتمع.

فالذي يتأمّل في نسيج (العلاقات) داخل

____________________

(1)الفتح: 10.

١٠٩

المجتمع الإسلامي، سواء ما يتعلّق منها بالعلاقة بالله ورسوله وأوليائه والقيادة الإسلاميّة (العلاقة العَموديّة)، أو العلاقات الّتي تربط أعضاء المجتمع الإسلامي بعضهم ببعض (العلاقات الأُفقيَّة)؛ يجد أنّ هذه العلاقات تُكوِّن جميعاً شبكة واحدة، ونظاماً واحداً يُسمَّى بـ (الولاء)، وليست مجموعة من الشبكات والأنظمة.

وأنّ هذه الشبكة الواحدة تَنْبع من مصدرٍ واحد، وهو الارتباط بالله تعالى والولاء له، (بمعنى الطاعة والنصرة والحُبّ)، ومن هذا المصدر الولاء.

ولابدّ من هذه البيعة في كلّ جولة للدعوة، وفي كلّ مرّة تتصدَّى فيها الدعوة، لإقامة الدولة وتتعرَّض فيها الدولة لتَحديّات الجاهليّة؛ وذلك لتعميق العلاقة بالقيادة، وتعميق الإحساس بالمسؤوليّة الكبيرة في قيام الدعوة والدولة، وتوطين النفوس للطاعة والتضحية والتجرّد لله.

أربعُ بَيْعَات في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين إلى البيعة أربع مرّات في حياته الـمُباركة:

1 - بَيعة العَقَبَة الأُولى.

2 - البَيْعة الكبرى بالعَقبة.

3 - بيعة الرضوان، أو بَيْعة الشجرة(1) .

4 - بَيْعة الغدير.

والبيعة الأُولى كانت تخصّ أمر التعهّد بالدعوة، والتزامها وتَبنِّيها.

والبيعة

____________________

(1)تُراجَع تفاصيل هذه البَيْعات في كتاب: (مَعالِم الـمَدرستَين)، للعلاّمة الـمُحقِّق السيّد مرتضى العسكري: 1 / 88 - 89.

١١٠

الثانية والثالثة والرابعة، كانت تتعلَّق بأمر الدولة وبنائها وحمايتها.

البيعة الأُولى:

قال عبادة بن الصامت: (... بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله) بَيْعَة النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ الْحَرْبُ، عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيه بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَه فِي مَعْرُوفٍ.

فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فأخذتُم بحدِّه في الدنيا، فهو كفّارة له، وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلّ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ)(1) .

البيعة الثانية:

قال كعب بن مالك: (خرجنا من المدينة للحجِّ وتواعدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (العقبة)، أواسط أيّام التشريق، وخرجنا بعد مُضيّ ثُلث الليل، مُتسلِّلين مُستخفين، حتّى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجُلاً وامرأتان.

فجاء رسول الله ومعه عمّه العبّاس، فتكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورَغَّب في الإسلام ثمّ قال: أُبايعكم على أن تَمنعوني ممّا تمنعون نساءَكم وأطفالَكم، فأخذ البَراءُ بن مَعْرُور بيَدِه، ثمّ قال: نعم والذي بعثك بالحقّ، لنمنعك ممّا نمنع به أُزُرَنا (نساءنا).

فبايعنا يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ بيننا وبين الرجال حِبالاً، وإنّا قاطعوها (يعني اليهود)، فهل عَسِيت إن نحن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله أن تَرْجِعَ إلى

____________________

(1)سيرة ابن هشام: 2 / 75، ط، مصطفى البابي الحلبي.

١١١

قومِك وتَدعنا؟

فتبسَّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: بل الدَمَ الدَمَ، والهَدْمَ الهَدْمَ،(أي: ذمّتي ذمّتكم وحُرمتي حُرمتكم)) (1) .

قال ابن قُتيبة: (كانت العرب تقول عند الحِلف والجوار: دَمي دَمك وهَدمي هَدمك، أي: ما هدمتَ من الدماء هدمتُه أنا).

البيعة الثالثة:

وهي بيعة الرضوان أو (بيعة الشجرة).

(في سنة سبع من الهجرة استنفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه للعُمْرة، فخرج معه ألف وثلاثمئة أو ألف وستمئة، ومعه سبعون بُدْنَة، وقال: لستُ أحمل السلاح، إنّما خرجت مُعتمِراً.

وأحرم من ذي الحُلَيْفَة، وصاروا حتّى دنوا من الحُديبيّة، على تسعة أميال من مكّة، فبلغَ الخبر أهل مكّة، فراعَهُم واستنفروا مَن أطاعَهم من القبائل حولهم، وقدموا مئة فارس، عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل، فاستعدّ لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: إنّ الله أمرني بالبَيْعَة، فأقبلَ الناس يُبايعونه على ألاّ يفرّوا، وقيل: بايَعَهُم على الـمَوت) (2) .

البيعة الرابعة:

وهي بَيْعَة الغدير المعروفة، ومنها أخذ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة من المسلمين

____________________

(1)سيرة ابن هشام: 2 / 84 - 85.

(2)إمتاع الأسماع، للمقريزي: 274 - 291. ويُراجَع: ابن هشام: 3 / 330، ط. مصطفى البابي الحَلَبي.

وقد نقلنا نصوص البَيعة كلّها من كتاب (معالم المدرستَين) عن المصادر التي أشرنا إليها في الهامش.

١١٢

- وقد رُوي أنّهم يوم ذاك في غدير خُمّ مئة وعشرون ألف شخص - لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، من بعده بالإمامة وقيادة الدولة من بعده.

والحادث معروف يرويه عدد كبير من أرباب الحديث والسِيَر والتاريخ.

* * *

( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) :

نعود مرّة أُخرى للحديث عن آية الشهادة في القرآن:( ... يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ... ) ، وهذه ثلاث قضايا مُقترِنة ببعضها، لا يُمكن تفكيكها وتجزئتها، ولا يُمكننا أن نفهمَها فهماً صحيحاً إلاّ بهذه الصورة الـمُتّصلِة، وضمن هذا الإطار الواحد الّذي يرسمه القرآن( ... يُقاتِلون... فيَقتُلُون ويُقتَلُون... ) ، وتلك هي القضيّة الأُولى.

وفي سبيل الله، وليس في سبيل الطاغوت، وعلى طريق الدعوة إلى الله، ومن أجْل تقرير أُلوهيَّة الله على وجه الأرض، وبلوغ رضوانه ومَرضاته، وتلك القضيّة الثانية في هذه الكُلِّيّة.

وهذا الوعد بالجنّة، وهذه الدعوة إلى القتال وهذه الـمُبايَعة، لا تخصّ الّذين قاموا مع النبيّ الأُمّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتطهير الأرض من الطاغوت وتقرير أُلوهيَّة الله على وجه الأرض، وإنّما هي سُنّة قديمة لله تعالى في عباده، منذ التوراة والإنجيل، ومنذ حياة الأنبياء السابقين (عليهم السلام ٍ) إلى اليوم.

وشأن هذه الأُمّة اليوم شأنها في زمن موسى وعيسىعليهما‌السلام ، ومَن قبلهما من الأنبياء والـمُرسَلين، لن تنال رحمة الله ورضوانه إلاّ بتحكيم أُلوهيَّة الله وحاكميّته على وجه الأرض، ولن تُحقِّق حاكميّة الله على وجه الأرض إلاّ من خلال هذه الـمُعاناة والقتال والدماء:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا

١١٣

مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ... ) .

مسيرة واحدة مُخضَّبة بالدَم، منذ عهد موسى وعيسىعليهما‌السلام ، ومن قبلهما من الأنبياء، إلى أن يتولَّى المهدي من آل محمّدعليه‌السلام تطهير الأرض من رِجس الطُغاة وعَبثهم وفسادهم، وإلى أن تقوم القيامة ويُنشَر الناس للحساب.

وتلك القضيّة الثالثة في هذه الكلمة الّتي يعرضها هذا النصّ العجيب من كتاب الله تعالى.

حَتميَّة القتال في مَسيرة الدعوة:

ومن هذه النقاط الثلاث، نستطيع أن نُدرِك التصوّر الإسلامي الكامل لمسألة القتال ضرورة حتميّة من ضرورات الدعوة إلى الله تعالى، ولا يُمكن تفكيك مسيرة الدعوة إلى الله عنها، وهذه الضرورة والحتميّة ليست قضيّة جديدة في مسيرة الدعوة، وإنّما هي ضرورة تاريخيّة وحَتْمِيّة من الحتميّات التاريخيّة للدعوة إلى الله.

فإنّ الدعوة إلى الله لا يُمكن أن تشقّ طريقها على وجه الأرض إلى قلوب الناس وعقولهم، ولا يُمكن أن تتحرَّك الدعوة إلى الله لتحرير عقول الناس وقلوبهم من (الإصْرِ) و (الأغلال)، دون أن تُواجه سُخط الجاهليّة وتَحدّيها وغضبها؛ ذلك أنّ الدعوة لا تتحرّك في خَلاء سياسي واقتصادي واجتماعي، وإنّما تتحرّك في المساحة الّتي تحتلّها الجاهليّة من قَبْل، أو تريد احتلالها، وتتحرّك على حساب نفوذ وسلطان وطموحات الجاهليّة في هذه المساحات، ولا يُمكن أن تواجه الجاهليّة تقدّم الدعوة ومسيرتها بالسكوت والاستسلام، وتَفْسَح الطريق لها.

إنّ الّذين يتصوّرون أنّ الدعوة تتحرّك في منطقة فراغٍ سياسيّة واجتماعيّة

____________________

(1)البقرة: 214.

١١٤

واقتصاديّة، بعيدون عن الواقع، وعلى درجة عالية من السذاجة والبساطة في فهْمِ الأمور.

والأمر الواقع أنّ الإنسان الّذي تُحرّره الدعوة من الإصرِ والأغلال، يخسره الطاغوت، ولن يعود أداة طَيّعة له، وموضِعاً لاستثماره.

وعليه، فلا يُمكن أن تتقدّم الدعوة على وجه الأرض من دون أن تواجه تحدّياً قويّاً من الجاهليّة، ومواجهة حادّة من الطاغوت، ومعارَضة بكلّ الوسائل الـمُمكنة من قِبل أقطاب الجاهليّة وأئمّة الكفر.

وللجاهليّة محاور وولاءات كثيرة، لكنّها جميعاً تجتمع عند هذه النقطة في مواجهة محور الولاء لله، وتتناسى كلّ ما لديها من خلافات قديمة وحديثة؛ لمواجهة العدوّ الـمُشترَك الّذي يُصادر وجودها جميعاً.

إنّ الجاهليّة فيما بينها ولاءات متعدِّدة ومُتقاطِعة أحياناً، ولكنّها في مواجهة الإسلام كُتلَة واحدة وبراءة واحدة، وهذه الحقيقة تجعل من الجاهليّة مُواجهة صارمة عَنِيفَة لمسيرة الدعوة.

الـمُواجَهة المصيريَّة بين الإسلام والجاهليَّة:

هذا هو التصوّر الواقعي لمسيرة الدعوة والمواجهة الجاهليّة لها.

ولا تنتهي هذه المواجهة والتحدّي الجاهلي إلاّ عند التَصْفية الكاملة لحركة الدعوة، والـمُصادَرة الكاملة لإرادة الإنسان، والسيطرة الكاملة على كلّ مساحات الدعوة، والإنهاء الكامل لكلّ مراكز ومواقع الدعوة إلى الله، وكلّ مراكز ومواقع الاستجابة لدعوة الله تعالى.

وإلى هذه الحقيقة - في تركيب وبُنْيَة الجاهليّة - يُشير القرآن الكريم:( ... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً... ) (1) .

لا تتوقّف الجاهليّة إلاّ عند تصفية هذه

____________________

(1)الحجّ: 40.

١١٥

المراكز جميعاً (البيَع، والصلوات، والمساجد)، وكلّ موقع ومركز يُذكَر فيه اسم الله ويُدعى فيه إلى الله تعالى.

ولا سبيل إلى إيقاف الجاهليّة وصدّها عن العدوان وعن الفتنة في طريق الدعوة إلاّ بالقتال والجهاد، واستئصال الكفر والجاهليّة( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ... ) (1) .

فالقتال إذن، ضرورة من ضرورات الدعوة، ولا يمكن أن تنطلق مسيرة الدعوة على وجه الأرض من دون قتال ودم، ولا يمكن أن تُؤدّي الدعوة رسالتها على وجه الأرض، دون أن تعدّ الإعداد الكامل لهذه الحرب المصيريَّة والحضاريّة، ودون أن تُوطِّن نفسها لهذه المواجهة العنيفة، التي لا ترحم صغيراً ولا كبيراً.

والتفكير في المصالحة والهُدْنَة والتفاهم مع الجاهليّة تفكير ساذج وغير واقعي، وغير مَبدئي في نفس الوقت، فليس لنا مع الجاهليّة والطاغوت غير خيار واحد، وقرار واحد، وهو الاستمرار في القتال - ضمن مراحل العمل والحركة - حتّى يتمّ القضاء الكامل على الجاهليّة، وبها يتمّ القضاء الكامل على الفتنة على وجه الأرض.( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ... ) .

العلاقة العضويَّة بين أطراف الجاهليّة:

إنّ الجاهليّة الـمُعاصِرة كالجاهليّة في أيّ وقت آخر، ذات ولاءات ومحاور مُختلفة، لكنّها قِبالة الإسلام تجمعها علاقة عضويّة واحدة، وهذه الحقيقة التاريخيّة هي التي تُفسِّر لنا كيف اجتمعت أميركا وروسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول الكبرى على دَعْمِ النظام العراقي في ضرب الثورة الإسلاميّة، والكيد للدولة الإسلامية.

____________________

(1)البقرة: 193.

١١٦

إنّ هذه المسائل السياسيّة تكشف عن طبيعة الجاهليّة وارتباطها العضوي، ووحدة الموقف السياسي عندها في البراءة، وإن كانت هي في داخلها ذات محاور وولاءات مُتعدِّدة ومُتخالِفة.

شَراسَة الجاهليّة في صراعِها مع الإسلامِ:

إنّ الفَتْكَ والبَطش والشراسَة من خصائص الجاهليّة في صراعها مع الإسلام، وتُحاول الكيانات الجاهليّة في صراعها السياسي والعسكري مع الإسلام أن تَتَقَنّعَ بقناع الإنسانيّة والأخلاق، فإذا طال الصراع واستنفذتْ الجاهليّة وسائلها الـمُمكنة، ووجدت نفسها في خطرٍ حقيقي، ألقَتْ هذا القِناع جانباً، وظهرت بكلّ بَشاعَتها للساحة وللرأي العام.

ويطول هذا الصراع ولا يُمكن الوصول فيه إلى تفاهم أو مصالحة، ولا أمَد للحرب غير سقوط الجاهليّة ونهايتها، وإخلاء الساحة الإنسانيّة لحركة الدعوة إلى الله؛ فالصراع هنا ليس صراعاً على أرض وماء أو حقل من حقول النفط، وإنّما الصراع هنا (صراع حضاري) بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من دلالة وعُمق.

وبكلمة موجزة جدّاً: إنّ الصراع هنا صراع الولاءات وليس صراع المصالح، حتّى يُمكن فيه التفاهم والصُلح واللقاء.

الإيمانُ بالله يُساوي التخلِّي عن الأنفُسِ والأموال:

ولابدّ أن نقف وقفة أُخرى عند كلمة:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) ، فإنّ الآية الكريمة تُقرِّر قضيّة هذا البيع والشراء بصيغة الماضي وليس بصيغة المضارع، ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... ) ، من كلّ المؤمنين دون تَخصِيص.

إنّها لآية عجيبة حقّاً، تهزّ الإنسان من الأعماق وتُشْعِر الإنسان بعُمق معنى

١١٧

الإيمان، وبثُقل الإيمان الكبير.

فكلّ إيمان بَيْعَة مع الله، وكلّ مَن آمنَ فقد باع نفسه لله، وتخلّى عن نفسه وماله له تعالى من دون تردّد.

إنّ القضيّة أعمق من الاستعداد للتخلّي، انّه هو التخلّي الفِعلي عن النفس والمال لله، وهذا هو معنى (البيع) و (الشراء)، وليس الاستعداد للتنازل عن الأنفس والأموال، وإنّما التخلّي الفِعلي عن كلّ شيء يملكه لله تعالى، من دون تردّد ولا تراجع ولا نظرة إلى الوراء، فقد تمّ البيع وتمَّتْ الصفقة وحُسِمَ الأمر، فلا إقالة ولا رَجعة.

وهكذا كان يفهم المسلمون الأوائل هذه الآية الكريمة، عندما كبّروا لمّا تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية عليهم، وقال قائلهم: (بَيْع رَبيْح لا نقيل ولا نستقبل).

وثيقة البيع:

وأمّا الوفاء بالثَمنِ ووثيقة البيع، فإنّ الشاري هو الله تعالى، وهو الـمُتعهّد بالثمنِ، ومَن أوفى بعهدِه من الله؟!

وإنّ المؤمن ليتصوَّر هذا الثمن الكبير الباقي لهذه البضاعة النافذة، ثمّ يعلم أنّ الله تعالى هو الذي يتولَّى الوفاء بهذا العهد، فتمتلئ نفسه غِبْطة وراحة ويقيناً، ويطمئنّ قلبه بعهد الله تعالى وميثاقه.

ومن عجيب أمر هذا البيع والشراء وثيقة هذا البيع، فإنّ وثائق البيوع تختلف باختلاف أهمِّيَّة درجة البيع وقِيمته، وإذا كان الـمُشتري في هذا البيع هو الله تعالى، والبضاعة هي الأنفس والأموال، والثمن الجنّة، فلابدّ أن تكون وثيقة هذا البيع على قَدَر قيمته.

وأعزّ الوثائق كُتُب الله تعالى، وألواح الوحي الـمُرسَلة إلى أنبيائه، ووثيقة هذا البيع من هذا النوع: (التوراة والإنجيل والقرآن)، وناهيك بها عن وثائق تبعث الطمأنينة والثِقة في أضعف النفوس.

ولأمرٍ ما، يأتي في هذه الآية الكريمة تأكيد الـمُوثِّق في هذا البيع، ويأتي ذِكر المواثيق التي سجّل الله تعالى فيها عهده لعباده بالجنّة، ويأتي قوله تعالى:

١١٨

( ... وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ... ) (1) .

فإنّ القلوب كلّما كانت تطمئنّ أكثر لوعد الله، قَدمتْ على هذه المبايَعة مع الله بثِقةٍ ويقين أكبر، والضعف في الاطمئنان لا يُنافي الإيمان، فقد يكون الإنسان مؤمناً، ولكن لم يبلغ في تعامله مع الله تعالى درجة عالية من اليقين والاطمئنان، ومِثل هذا الإيمان، يَشوبه الكثير من الضعف والتخلّف عند المبايَعة والاستجابة لدعوة الله تعالى.

وأمّا عندما ترتفع درجة ثِقة الإنسان بوعد الله تعالى إلى مستوى (الطمأنينة) و (اليقين)، فإنّ الأمر يختلف بالنسبة إليه اختلافاً كبيراً، وتكاد تكون (الجنّة) ثمناً مقبوضاً، والبيع نَقْداً، وليس الثَمَن موعوداً.

إنّ الذين رزقَهم الله الطمأنينة واليقين، يرون وعد الله حاضراً، ويرون الجنّة ماثِلة أمام أعينهم، فلا يشكّون ولا يتردّدون ولا يُحجِمون، ولا يُساورهم شكّ ولا رَيب، ويُقدِمون على المبايعة مع الله من دون خوفٍ أو تراجع، أو نظر إلى الوراء، ويُقدِّمون أنفسهم وأموالهم لله ببساطة وارتياح، ومن غير معاناة.

روى مسلم، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه يوم بدر: (قوموا إلى جنّة عَرْضها السماوات والأرض.

قال عُمَر بن حمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرضها السماوات والأرض؟!

قال:نعم .

قال: بَخٍ بَخٍ.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟.

قال: لا والله يا رسول الله، إلاّ رجاء أن أكون من أهلها.

____________________

(1)التوبة: 111.

١١٩

قال: فإنّك من أهلها.

فأخرج تَمْرات من قِرْبه، فجعل يأكل منهنّ.

ثمّ قال: لئن أنا حَييت حتّى آكل تمراتي هذه، إنّها لحياة طويلة.

قال: فرمى بما كان معه من التَمْرِ، ثمّ قاتلهم حتّى قُتِل ).(1)

وروى مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، قال: (سمعت أبي، وهو بحضرة العدوّ، يقول: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السيوف، فقام رجل رثّ الهَيئة، فقال: يا أبا موسى، أنت سمعتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثمّ كسَرَ جَفن سيفه فألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدوّ، فضربَ به حتّى قُتِل) (2) .

بمثل هذه البساطة والثِقة والطمأنينة، كانوا يتعاملون مع الله تعالى.

وقد هازَلَ بُريْر عبد الرحمان الأنصاري، ليلة عاشوراء، فقال له عبد الرحمان الأنصاري: ما هذه ساعة باطل.

فقال بُرير: لقد علِم قومي، ما أحببتُ الباطل كَهلاً ولا شابّاً، ولكنّي مُستبشِر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العِين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوَدَدت أنّهم مالوا علينا الساعة(3) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحُصين: ما هذه ساعة ضحكٍ يا حبيب!

قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلاّ أن يميل علينا

____________________

(1)الجامع الصحيح لمسلم: 6 / 44 / كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنّة للشهيد، دار الفكر - بيروت.

(2)الجامع الصحيح لمسلم: 6 / 45 / كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنّة للشهيد.

(3)تاريخ الطبري: 6 / 241.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402