في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 208579
تحميل: 8572

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208579 / تحميل: 8572
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي كلّ غَمْرَةٍ من غَمَراتِ السَير والحركة، وعندما تَهبّ العواصف العاتية في وجوه العاملين، وكلّما يتغلَّب اليأس والتعب والخوف على نفوس المؤمنين السائرين، يلتقي العاملون السائرون على طريق ذات الشوكة بهذه القدوات الربّانيَّة.

يلتقون بأنبياء اللهعليهم‌السلام ، إبراهيم ويحيى وعيسى وموسى وأيّوب وهود وصالح ونوح وزكريّا، فيطمئنّون إلى مَعيِّة الله تعالى، وإمداده لهم في وَحشَة الطريق والتباس الأُمور، وظروف الإرهاب والـمُلاحَقة والـمُطارَدة.

يَطمئنُّون إلى مَعيّة الله وإمداده، من خلال حركة وعمل هؤلاء الربّانيّين السائرين على الدرب الطويل، باطمئنان وثِقَة، وصدور مُنشرِحة.

يقول تعالى لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يريد أن يُثبِّت قَدَمه على أرض المعركة:( أُولئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بها هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بها قَوْماً لَيْسُوا بها بِكَافِرِينَ * أُولئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (1) .

ويقول تعالى لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد أن يُذكِّره بمعاناة الأنبياء وقِصصهم وصبرهم، ودأبهم على السَير والعمل - في سورة هود -:( وَكُلاًّ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ به فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

فيُثبِّت الله فؤاد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بسيرة هؤلاء الصالحين.

يا لله! ما هذا الأمر العظيم الّذي يُثبِّت تعالى به فؤاد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ذلك هو القدوة الصالحة والحضور الرسالي الحيّ للربّانيِّين على ساحة المعركة، وعمارة الطريق الطويل بنجوم الهُدى، ومعالم الطريق:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ... ) (3) ،( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ

____________________

(1)الأنعام: 89 - 90.

(2)هود: 120.

(3)الـمُمتحنة: 4.

٨١

يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ... ) (1) .

وقد جعل الله تعالى من أنبياء السَلَف قدوات صالحة لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يُثبِّت بهم فؤادهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأفئدتنا، وجعل لنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قدوة صالحة، نستهدي به وتطمئنّ به قلوبنا وأفئدتنا ونفوسنا، في زَحمةِ الصراع، ومخاوف الطريق. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...)(2) .

إنّ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعناءه وجهاده ومُثابرته وصبره واستقامته، قدوة لكلّ العالَمين.

وعلى الدُعاة إلى الله أن يقرؤوا بإمعان سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحياته العامّة والخاصّة، وعناءه، وحركته في مكّة وبعد الهجرة، وسيرته في الحرب والسِلم، وقبل إعلان الدعوة وبعدها، وقبل إعلان الحرب على الـمُشركين وبعدها، ومع المؤمنين ومع الأعداء؛ فإنّها للعامِلين نور وهدى، وقدوة صالحة ومَثَل أعلى يَحتَذي به المؤمنون.

الشَهيدُ قُدوَة:

و (الشهيد) قدوة صالحة في طريق العامِلين، وهذه الكلمة على وَجازَتها، تُشكِّل كلّ قِيمة الشهيد في حركة التاريخ وتحريك الأُمّة.

والقيمة الحركيّة للشهيد تعود إلى هذه الحقيقة بالذات، فإنّ الشهيد عندما يتحوّل إلى (قدوة) للعمل الصالح وللعطاء والتضحية في حياة الناس، يستطيع أن ينقل هذه القِيَم من جيل إلى جيل.

وهذه خاصّة من خصائص (القدوة) في الحياة الاجتماعيّة، أنّه يُسهِّل ويُسرِّع

____________________

(1)الـمُمتحنة: 6.

(2)الأحزاب: 21.

٨٢

عمليّة نقل القِيَم الحضاريّة من جيل إلى جيل، ويُعمِّق هذه القِيَم في حياة الناس.

وهذه القِيَم كلّما تنتقل من جيل إلى جيل تتَّسِع دائرتها من الناحية الكمِّية، وتتعمَّق وتترسَّخ من الناحية الكيفيّة.

وهذه الحقيقة تصحّ بشكل دقيق في أصل التضحية والعطاء، فقد يتصوّر بعض الناس أنّ الشهادة تُفقِد الأُمّة النُخبة الصالحة من أبنائها، وما تحمل هذه النُخبَة من قِيَمٍ ومزايا إيمانيّة وأخلاقيّة وجهاديّة.

والأمر على العكس تماماً، فإنّ الشهادة لا تُعتبَر خسارة مهما كانت قِيمة الشهيد وحجم الشهداء وعددهم، بل هي رِبْح ونموّ وبركة في حياة الأُمّة، وحتّى في الحسابات الماديّة.

والحديث التالي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوضّح لنا هذه الرؤية الإيجابيّة للشهادة:

خطبَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين في المدينة، في اليوم الذي اُستشهد فيه زيد وجعفر وعبد الله بن رواحه (رحمهم الله) - في حرب مُؤتَة مع الروم -، وأخبرهم باستشهاد زيد، وجعفر، وعبد الله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(أخذَ اللواءَ زيد، فقاتلَ به فقُتِل، رحِم الله زيداً.

ثمَّ أخذَ اللواءَ جعفر، وقاتلَ وقُتِل، رحِم الله جعفراً.

ثمَّ أخذ اللواءَ عبد الله بن رواحه، وقاتلَ فقُتِل، فرحِم الله عبد الله.

فبكى أصحابُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهُم حَوله، فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يُبكيكم؟

قالوا: وما لنا لا نبكي، وقد ذهبَ خِيارُنا وأشرافنا، وأهلُ الفَضلِ منّا؟!

فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تَبكوا، فإنّما مَثَلُ أُمّتي مَثَلُ حديقة قامَ عليها صاحِبُها فأصلح رواكبها، وبَنى مساكنها، وحَلَقَ سَعْفها، فأطعمتْ عاماً فوجاً، ثمّ عاماً فوجاً، فلعلّ آخِرها طعماً أن يكون أجودها قِنْواناً وأطوَلها شِمْرَاخاً، والذي بَعَثَني بالحقّ نبيّاً، ليَجدنّ عيسى بن مريم في أُمّتي خلَفاً من حواريِّيه)(1) .

____________________

(1)بحار الأنوار: 21 / 51. ومقاتل الطالبيِّين: 7 - 8، طبعة النجف، المكتبة الحيدريّة 1385 هـ.

٨٣

الوَعْيُ والعَطاء:

ويتساءل السائل: وفيمَ يكون الشهيد قدوة، وكيف؟

دم الشهيد يُجسّد نقطتين أساسيّتين في حياة الإنسان وفي مسيرة الحركة الإسلاميّة، وهما: (الوعي) و (العطاء).

وهاتان النقطتان تُعتَبران أساسيّتان لقيمة دم الشهيد، وبهما يكون الشهيد قدوة للآخَرين.

فهذا الدم يُجسِّد أوّلاً مستوىً رفيعاً من الوعي والبصيرة واليقين، وهذه هي النقطة البارزة الأُولى في قيمة دم الشهيد، ولا قِيمة للدم من دون هذا اليقين والوضوح، والدم الذي يُراق من غير يقين من الانتحار، وليس من الشهادة في شيء.

إنّ لدم الشهيد جذوراً تاريخيّة ضاربة في عُمقِ التاريخ، وأهدافاً وغايات حضاريّة يرتبط بها الدم.

أمّا الغايات والأهداف الّتي يُحقِّقها دم الشهيد فهي: تحكيمُ شريعة الله وإرادته تعالى على وجه الأرض، ومُجاهَدة الهوى والطاغوت، وتعميق خطِّ الحضارة الربّانيّة في الأرض وفي حياة الإنسان، وإنقاذ الإنسان من شَرَكِ الهوى والطاغوت.

أمّا الأُصول والجذور التاريخيّة لدم الشهيد: فإنّه يجري في امتداد تيَّار عميق وواسع من الدماء والدموع، والجهود والمعاناة والآلام والعذاب، والصمود والصبر والجهاد في التاريخ.

وفي هذا الإطار التاريخي والرسالي، يكتسب دم الشهيد قِيمته الرساليّة والحركيّة.

وهذه الأهداف والغايات والعُمق الحضاري، هي الّتي تمنح الشهيد هذا الوَعي

٨٤

والبصيرة واليقين الّذي تحدَّثنا عنه، وإلاّ فكثير من الناس يبذلون أموالهم ودماءهم، ولن تعود عليهم هذه التضحية بجَدوَى، ولن تُخرِجهم من دائرة نفوذ الهوى، ولن تُدخِلهم في دائرة الهُدى.

( قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (1) .

ولا يشكّ أحدٌ في صدقهم في العطاء والتضحية، وأيّ عطاء وتضحية أكثر من التضحية بالنفس؟! ولكن، من دون أن يكون نابعاً من نَبْعِ الوعي والوضوح واليقين، بل هو الهوى يُزيِّن لهم أعمالهم ويخدعهم ويُريهم الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، ويسلبهم الرؤية والبصيرة، وهؤلاء هُم ضحايا على مذابح الهوى، وهم يتصوّرون أنّهم أصحاب مبادئ وقضايا.

فاليَقين والوعي هو الأساس الأوّل في تقييم دم الشهيد، ومن دون ذلك لا قيمة للدم مهما كانت التضحية.

وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : (نومٌ على يقين، خير من صلاة في شكّ).

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : (إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين)(2) .

ضحايا انعدام الوعي:

ومن ضحايا انعدام الوعي واليقين في تاريخ الإسلام (الخوارج)؛ كانوا يلتزمون بالحلال والحرام، ويتقيّدون بأحكام الله، ويتورَّعون عن الحرام، ولكنّ ذلك كلّه من دون وعي ولا بصيرة ولا يقين، ولقد كانوا يُريقون الدماء الـمُحرَّمة الزاكية من دون ورع ولا تقوى، ثمَّ يتورَّعون عن أن يأخذ أحدهم ثمرة سقطت من

____________________

(1)الكهف: 103 - 104.

(2)أُصول الكافي: 2 / 57.

٨٥

نخلة!

يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ولقِيَهم - أي: الخوارج - عبد الله بن الخَبّاب (من أصحاب أمير المؤمنين، وابن الصحابي الجليل الخبّاب (رحمهما الله)) وهو راكب على حمار، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتْلك - وكان يحمل معه قرآناً - فقال لهم: ما أحياه القرآن فأحيوه، وما أماته فأميتوه.

فوثبَ رجُل منهم على رُطبَة سقطتْ من نخلة فوَضعها في فِيه، فصاحوا به، فلفظها تورُّعاً.

وعرضَ لرجُلٍ منهم خنزير، فضربه فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض، وأنكروا قتْل الخنزير.

ثمّ قالوا لابن الخَبّاب: حدِّثنا عن أبيك، فقال: إنّي سمعت أبي يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ستكون بعدي فِتنة يموت فيها قلْب الرجُل كما يموت بدَنه، يُمْسِي مُؤمِناً، ويُصبِح كافراً، فكُن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل، قالوا: فما تقول في عليّعليه‌السلام بعد التحكيم والحكومة؟

قال: إنّ علياً أعلم بالله وأشدّ تَوقّياً على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنّك لست تتّبع الهدى، إنّما تتّبع الرجال على أسمائهم، ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه فذبحوه.

قال أبو العبّاس: وساوموا رجُلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له، فقال: هي لكُم.

فقالوا: ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن.

فقال: واعجباً! أتقتلون مثل عبد الله بن الخَبّاب ولا تأخذون نخلة إلاّ بثمن(1) .

وكان أمير المؤمنين يُخاطِب الخوارج، فيقول لهم: (فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَهَرِ، وبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، ولا سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ...)(2) .

____________________

(1)شرح نهج البلاغة: 2 / 281 - 282.

(2)نهج البلاغة، د. صُبحي الصالح: 8 / خ 36.

٨٦

ومَرَّ أميرُ الـمُؤمنين بِقَتْلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَ النهروان، فقال: (بُؤْساً لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ.

فَقِيلَ لَهُ: مَنْ غَرَّهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ: الشَّيْطَانُ الْمُضِلُّ، والأَنْفُسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، غَرَّتْهُمْ بِالأَمَانِيِّ وفَسَحَتْ لَهُمْ بِالْمَعَاصِي، ووَعَدَتْهُمُ الإِظْهَارَ، فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ)(1) .

وقُتل رجُل من الأصحاب، فعُرِف بقتيل الحمار؛ وذلك أنّه رأى مُشركاً على حمار فأعجبه الحمار، وبرز له لِيَقتله ويسلب منه حماره، فقُتِل، فعُرِفَ بقتيل الحمار. فلم يظفر بالحمار ولا بالشهادة.

وهذا هو الأساس الأوّل في تقييم دم الشهيد.

العَطاء :

والأساس الثاني في تقييم دم الشهيد: (العطاء والتضحية)، فالشهيد يُعتبَر قِمّة في العطاء والتضحية، وليس بعد هذه القمّة قمّة، فإنّ الجود بالنفس أقصى غاية الجود.

والشهيد يبذل لله تعالى كلّ ما يملك، ولا يدَّخر لنفسه شيئاً، فحَقيق أن يرزقه الله كلّ ما يتمنّى من رحمته.

وما أروع ما نُقلَ عن السيّد مهدي بحر العلوم (رحمه الله)، حيث لفتَ نظره كثرة ما يُروى من الثواب لـمَن زار الحسينعليه‌السلام ، فسأل أُستاذه عن سِرّ ذلك، فقال له: إنّ الحسينعليه‌السلام عبد فقير من عباد الله، أعطى كلّ ما يملك لله من غير تردّد، وحَقيق بالله - وهو الغني الـمُطلَق الّذي لا حدود لخزائن رحمته - أن يعطيه من خزائن رحمته من غير حساب، وفوق حساب الحاسبين.

____________________

(1)نهج البلاغة، د. صُبحي الصالح: ص 532 خ 323.

٨٧

والعطاء هو التصديق العَمَلي للإيمان، فمِن الناس مَن لا تصدِّق أعمالهم إيمانهم، إذا وقفوا في مواجهة أئمّة الكفر، وفي مواجهة الـمُنكَرات، وليس دائماً ينشأ هذا التَخالف - بين الإيمان والعمل - من الغموض والشكّ - وإن كان يُؤدّي إليه دائماً -، وإنّما ينشأ أحياناً عن ضعف في النفس، وحُبّ للدنيا وإيثار للعافية؛ فيتخلّف الموقف العملي للإنسان عن إيمانه وعقيدته، وتكون نتيجته الشِحّ والبُخل.

والقرآن الكريم دقيق في تعبيره عن العلاقة بين الإيمان النظري، والصدق في الموقف العملي، حيث يقول:( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (1) .

فليس كلّ المؤمنين صادقين في العمل والفعل، في عهودهم مع الله تعالى، بل منهم الصادقون ومنهم غير ذلك.

رغم أنّهم مؤمنون، لكنّهم لم يصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتخلّفوا في العمل عن الإيمان. وهذا النموذج من الناس شائع في مجتمعنا اليوم، وفي التاريخ.

إنّ التضحية تُعتبَر أعلى درجات التفاعل النفسي والعاطفي مع الإيمان والعقيدة.

إنّ الإيمان قد يكون إيماناً عقليّاً مُجرّداً، ذا صبغة عقليّة رياضيّة خالصة، إيماناً أكاديميّاً لا يغيّر شيئاً من واقع حياة الإنسان، ولا يصنع حُبّاً ولا بُغضاً ولا ولاءً ولا براءة، وليس له جَذْب ولا دَفْع في حياة الناس. وهذا هو إيمان الفلاسفة، الّذين يعرفون الله من خلال الـمُعادَلات والقوانين الفلسفيّة، إيمان الفارابي وابن سينا، وديكارْتْ وأمونوئَيل كَانْتْ.

____________________

(1)الأحزاب: 23.

٨٨

أمّا إيمان الشهداء، فشيء آخَر يختلف عن هذا الإيمان.

إنّه عُملة ذات وجهين: وجه للعقل، ووجه آخَر للعاطفة والحُبّ والشوق، والولاء والحُبّ والعطاء والإيثار والفِعل والانفعال.

ترقُّ العاطفة حتّى تكون حُبّاً، ويسمو البذل حتّى يكون تضحية.

وما أجمل كلام هذا الشاعر الّذي يحدّثنا على لسان الحسينعليه‌السلام ، في مناجاة والِهَةٍ مع الله تعالى يوم عاشوراء، على مسرح الحُبّ والشهادة:

تَرَكْتُ الخَلْقَ طُرّاً في هَواكَا

وأيْتَمْتُ العِيال لِكَي أراكا

فلو قَطَّعْتَنِي في الحُبِّ إرباً

لَما مالَ الفؤادُ إلى سِوَاكا

إيمان الشهيد خليط من هذين الأمرين معاً: إيمان وحُبّ، إيمان يُصدِّق الحُبّ، وحُبّ يُصدِّق الإيمان، مزيج من العقل والعاطفة، يمزج بين منطق الفلاسفة والحُكماء، وعاطفة الـمُحبِّين الوالِهين.

دم الشهيد تعبير رائع عن هذا المزيج الـمُقدّس من العقل والحُبّ، من منطق الحُكماء ووَلَهِ الـمُحبِّين، ومن استحكام العقل وقوَّته وجاذبيّة الحُبّ وفَوَرانه.

وهذا التفاعل النفسي هو الّذي يُؤهّل النفس للعطاء والتضحية.

إنّ العقل وحده، والإيمان وحده، لا يكفي ليَبلغ الإنسان هذا المستوى الرفيع من تجاوز الذات، والإيثار والتضحية.

ولكي يبلغ الإنسان هذه القمّة من الكمال، لابدّ له من مدرسة أُخرى ومنطق آخَر وإعداد آخَر؛ وهي مدرسة الحُبّ ومنطق الـمُحبِّين، والعطاء، الذي يكوّن الشطْر الآخَر من شخصيّة الشهيد، نابع من هذا النَبْعِ.

وهذان الأساسان (اليقين والعطاء) هما الأساس والمفتاح لفَهم قِيمة الشهيد ودَوره في تحريك المجتمع.

ولابدّ من أن نبسط القول في هذه النقطة بعض البسط.

٨٩

التَخَلّف في الوَعْي والعَطاء:

قلنا: إنّ الشهيد قدوة للمجتمع وللأجيال، في مسألتين أساسيّتين هما: الوَعْي والعطاء.

والتخلّف عن الأوّل يُعرِّض الأُمّة للانحراف عن طريق الله، والتخلّف عن الثاني يصيب الأُمّة بالعَجزِ عن التحرّك، والضعف والتعب واليأس.

وأكثر مشاكلنا السياسيّة والفكريّة، والحضاريّة والحركيّة تنبع من هذين، (التخلّف في الوعي، والتخلّف وفي العطاء).

والشهيد قدوة رفيعة للوعي والعطاء معاً.

وقد لا يتبيَّن في النظرة الأُولى أثر كلّ شهيد في مسيرة الحركة، ولكن الذين يرزقهم الله القدرة على رؤية المسيرة الربّانيّة الكبرى على وجه الأرض، يرَون دائماً - إلى جنب كلّ مسيرة حاشدة بالمؤمنين إلى الله - نهراً من الدم ومسيرة حافلة بالشهداء، يُمَوّن هذه المسيرة ويمدّها بالعزم والقدرة على المواصلة وتحدّي الصِعاب.

إنّ دماء الشهداء تَهب الأحياء عَزْماً على الاستمرار، ومواصلة الحركة والسَير، وقوّة على تجاوز العقبات والصِعاب، وتَهبهم القدرة على نُكران الذات وتجاوز النفس، والترفّع عن صغائر الأُمور، وانتزاع حُبّ الدنيا من النفوس، وإيثار الآخرة على الدنيا، واسترخاص الحياة الدنيا في سبيل مرضاة الله.

إنّ دماء الشهداء تعلِّم الأحياء الكثير، ومن أغرب ما في هذه المدرسة العجيبة في حياة الإنسان أنّ تلاميذها أحياء، وأساتذتها أموات!

ولكن، لا كما يتصوَّر الناسُ الأموات، وإنّما كما يقول ربّنا (سُبحانه):( ... أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1) .

٩٠

إنّ كلّ شهيد - في النظرة الكونيّة الشاملة لحركة الدم - يُربّي أجيالاً من العاملين الـمُخلصين لله، وكلّ قطرة من دم الشهيد تتحوَّل إلى أنهار من دم، يُفجِّر براكين من المقاومة والثورة والتمرّد على الظالمين في نفوس المؤمنين.

إنّ الشهادة تُعلّمنا كيف ينتصر المظلوم من الظالم، وكيف يستعيد المظلوم حقّه ومكانه في التاريخ، وكيف ينتصر الـمُستضعَفون على الـمُستكبرين ويستعيدون مواقِعهم في الحياة، وكيف ينتصر الدم على السيف، والحقّ على الباطل، وكيف يرزق الله القلَّة الـمُستضعَفة - التي تخاف أن يتخطَّفها الناس - على الكثرة القويّة من الـمُستكبرين وأضرابِهم وجنودهم.

والشهادة تُعلِّمنا كيف نكسر الأغلال والقيود من أيدينا، ونتمرّد على إرادة الذين يريدون أن يسلبونا الأمْن والإرادة والقدرة، والشهادة تُعلّمنا كيف نعيش أحراراً، وكيف نتحرَّر من القيود والأغلال، وكيف نسترجع كرامتنا وحُرِّيتنا ومواقعنا ومراكزنا على وجه الأرض، وكيف نتحوَّل من عبوديَّة الطغاة والـمُستكبرين إلى عبوديّة الله ربّ العالمين.

الشهادة: عقيدة وإيمان، وحُبّ وعطاء، وتضحية وإيثار في سبيل الله، وإخلاص وإقدام وشجاعة، وحياة جديدة.

وحاشا أن تكون الشهادة عقيمة، أو تكون موتاً كما يفهم الناس الموت.

الطاقة الحرَكيّة لدم الشهيد:

للدمِ قابليَّة كبيرة في تحريك الضمائر الخامِلة، ولا تهتزّ الضمائر الـمَيِّتة والخاملة لأمرٍ كما تهتزّ للتضحية والدم.

إنّ التضحية تُوقِظ العقول وتُنبِّه الضمائر، وتُحرِّك النفوس وتَهزّ الإنسان من الأعماق وتبعث فيه الحياة، وتفتح مغاليق القلوب وتشرح الصدور، وتُفجّر كلّ الطاقات الخيِّرة الكامنة في نفس الإنسان، وتقتلع الإنسان من مُستنقَع الحياة

٩١

الراكد، وتدفعه إلى قممِ الحياة العُليا، وتُمزِّق حُجُب التعلّق بالدنيا من على عينيه وسَمْعه وفؤاده؛ لِتفتح أمامه آفاق الحياة الواسعة، والّتي تمتدّ إلى مرضاة الله؛ ذلك أنّ الإنسان بفِطرته يَنْزعُ إلى الله تعالى ومرضاته.

وليست حقيقة الإنسان هي هذه الكُتلة من الأعصاب والعظام واللحم والجِلد والغرائز والشهوات فقط.

إلاّ أن التعلّق بالحياة الدنيا وأعْراضِها القريبة ومتاعها، يحجبه عن تلك الأهداف والغايات العُليا، فتَحبسه الحياة الدنيا وتَعلّقاتها وتُثْقِله، كما تُثْقل الجاذبيّة الأشياء، فتُعيق تحرّكه وصعوده.

والتعبير القرآني بهذا الصدد دقيق:( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ ) (1) .

وكأنّ التعلّق بالحياة الدنيا يُثقل الإنسان، ويجرّه إلى الأسفل (الأرض)، ويُعيق تحليقه إلى الله تعالى، ويُرضيه من تلك القِمم الرفيعة والآفاق الواسعة في الآخرة بهذا العَرض الزائل القريب من الدنيا:( أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ... ) .

ولكي يُحلّق الإنسان ويرتفع لا يحتاج كثيراً إلى زَخم أو دفع، وإنّما يحتاج إلى مَن يُمزِّق عنه هذه الحُجُب الّتي تَحجبه عن الآخرة، ويُحرِّره ويكسر عن يديه ورجْليه هذه الأغلال الّتي تُعيق تحرّكه، فيفتح عليه آفاق الآخرة ويُطلق يديه ورجْليه للتحرّك. ودم الشهيد له هذا الدَور الكبير في حياة الناس.

إنّ دم الشهيد يزيل الخوف عن القلوب الضعيفة، ويقضي على رهبة الموت، ويُعطي للموت معنى الانتقال إلى لقاء الله تعالى، ويَهَبه نَكْهَة لقائه.

إنّ دم الشهيد يرفع من قِيمة الموت إلى قِمّة لقاء الله تعالى، ويضع من قِيمة الحياة الدنيا حتّى لا تُعدّ تَستَهوي أحداً من المؤمنين، إلاّ بقدر ما تكون مَتجراً للآخرة وطريقاً إليها.

____________________

(1)التوبة: 38.

٩٢

وأكثر ما يُعيق حركة الإنسان إلى الله تعالى، الخوف من الموت والتعلّق بالدنيا، فإذا حلّ محلّه الإقبال على لقاء الله: (الشهادة) والزهد في الدنيا - بالمعنى الإيجابي من الزهد -، تغيّر وجه الحضارة والتاريخ.

إنّ التضحيات الكبيرة تُمزّق حُجُب التعلّق بالدنيا عن عينَي الإنسان، وتفتح عينَيه فجأةً على الآفاق الواسعة الـمُترامية من وراء هذه الحُجب.

إنّ هناك من وراء هذه الحياة اليوميّة الرَتِيبة، بما تحتويه من تجارة وعمل ومعيشة ومُعاشرة، ومشاكل صغيرة وخلافات وحساسيّات وصراعات - إنّ هناك من وراء هذا الـمُستنقَع - آفاقاً واسعة وقِمماً عالية لتَحرّك الإنسان وصعوده، تكشفها تضحية الشهداء ودماؤهم، وكأنّ الإنسان كان في غفلة منها في حياته اليوميّة، فيُنبّهه إليها الشهداء بتضحياتهم.

فدم الشهيد إذن، يبعث الحياة والتحرّك من جديد في المجتمع، ويمنح النور والرؤية والبصيرة للقلوب الّتي تَبَلَّدَتْ في الحياة الدنيا.

وعندما يمتلك الإنسان الرؤية الكافية، ينكشف له الهدف والغاية، فيسعى إليه ويتحرّك نحوه.

فدم الشهيد إذن، يمنح الإنسان الرؤية والهدف والتحرّك وفي مساحة واسعة من المجتمع، ويخلق من الأجواء الخامِلة والبليدة أجواء حركيّة وثوريَّة.

ولذلك، فليس في دم الشهيد خسارة إطلاقاً، حتّى بالمعنى المادِّي من الخسارة، بل الدم رَبيح دائماً، حتّى بالمعنى التجاري للربح؛ ذلك أنّ الشهيد، وإن كان يرحل عنّا ونخسر به عنصراً فاعلاً مُخلِصاً، إلاّ أنّ تضحية وإيثار شهيد واحد يخلق روح الإيثار والتضحية عند العشرات من الناس، ويكون قدوة لهم في الإيثار والتضحية، ويبعث القوّة والفاعليّة والإخلاص في نفوسهم.

فالشهادة موت للفرد وولادة للأُمّة، ومثل هذا الموت مُربِح، ولن يُعدّ خسارةً حتّى في الحسابات التجاريّة من الربح والخسارة.

٩٣

دم الشهيد يُوسّع رقعة التضحية داخل الأُمّة:

إنّ تنامي مَوجة الاستعداد للتضحية والإيثار في الثورة الإسلاميّة المعاصرة - وعلى مساحة واسعة جدّاً - دليل واضح على خصوبة الشهادة وعطائها؛ فلقد بدأ الوعي الإسلامي يتنامى في هذه المنطقة، يرافقه الاستعداد للتضحية والشوق إلى الشهادة في سبيل الله، إلاّ أنّ هذا الاستعداد والشوق كان ضمن رقعة اجتماعيّة محدودة، هي المساحة الواعية من هذه الأُمّة.

وواضح لدينا أنّ المساحة الواعية من الأُمّة - والّتي انطلقت منها الحركة في مواجهة الطاغوت - كانت مساحة محدودة جدّاً، ولكن كلّما كان يزداد عدد الشهداء في الساحة الإسلاميّة، كانت تتَّسع رقعة الاستعداد للتضحية والشهادة.

وتجاوزَ الاستعداد للتضحية المساحة الواعية التي انطلقت منها الحركة والثورة إلى الشارع، وارتفع ابن الشارع والريف في حركة نامية سريعة إلى مستوى الاستعداد للتضحية والشهادة.

ومعنى ذلك، أنّ دماء الشهداء استطاعت أن تُوسِّع رقعة الوعي والتحرّك والإيثار والتضحية والشهادة، خلال هذه المدّة القصيرة بدرجة عالية جدّاً، تفوق تصوّراتنا الحسابيّة.

وهذا النموّ الـمُتصاعِد لحركة الإيثار والتضحية داخل الأُمّة، من أهمّ مصاديق الضمان الإلهي؛ لإنجاح رسالة دم الشهيد وقضيّته.

دمُ الشهيد يَحسم الخلاف ويقطع التردّد:

ودم الشهيد يقطع طريق العودة على المهزومين سياسيّاً وفكريّاً، إنّه أداة الحَسمِ في القضيّة الإسلاميّة، فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً.

وقبل أن يصبغ الشهداء ساحة المواجهة بدمائهم، تتوفَّر الفُرَص بشكلٍ واسع دائماً للصُلح والتفاهم مع الكفر، والنزول عن المبادئ والحلول النصفيّة، لتَرضية أئمّة الكُفر.

٩٤

أمّا عندما يُراق دم الشهداء في الساحة، فإنّ الأمر يختلف تماماً، وتنقطع الجسور بين هاتين الجَبهتين، وتبقى المبادئ هي سيِّدة الـمَوقِف.

والمجتمع الإسلامي لا يخلو - على كلّ حال - من حالات ولحظات ضعف، تدفع المجتمع غالباً باتّجاه التَرضِية والتفاهم وتَجَنُّب المواجهة؛ إيثاراً للعافية والاستقرار، وتحت غطاء من التبريرات الشرعيّة والسياسيّة، ولولا دم الشهيد لكان هذا الاتّجاه هو الاتّجاه السائد والغالب، إلاّ أنّ دم الشهيد يستلم الموقف السياسي والعسكري دائماً بالحَسمِ الثوري، ويُشكّل في المجتمع الإسلامي بُؤرة القوّة والثورة، في مقابل بُؤرة الضعف التي أشرنا لها.

ولا نذهب بعيداً في أعماق التاريخ، فالثورة الإسلاميّة المعاصرة في إيران، بمُعطياتها الثوريّة والسياسيّة في مُتناوَل أيدينا، ولم تَغِب عنّا أحداثها بعد.

لقد كانت قيادة الإمام الخميني (رضي الله عنه) حاسمة منذ المراحل الأُولى للثورة، وكانت هذه القيادة تتّجه من الأوّل باتّجاه إسقاط النظام - مرّة واحدة - وإقامة الحُكم الإسلامي وبصورة قاطعة، ولكنّ المساحة الواسعة من الأُمّة لم تكن بهذا المستوى من التفكير الثوري.

وكانت هناك قطاعات كبيرة من الأُمّة تميل إلى التفاهم مع النظام؛ للمحافظة على النظام والإسلام معاً بقدرِ الإمكان، وتجميع النظام القائم والإسلام - في الحدِّ الأدنى -، وكانوا يعتقدون بضرورة إيقاف الثورة عندما يتحقّق الحدّ الأدنى من المصلحة للإسلام.

وبدأ (الشاه) في أُخرَيات أيّامه يميل إلى هذا الرأي، ويعتقد بضرورة تقديم تنازلات شكليّة ومُؤقّتة للثورة؛ للإبقاء على عرشه ريثما تتمّ له فرصة الانقضاض من جديد على الإسلام.

ولو كان يحدث شيء من هذا القبيل، لحلّت بالإسلام كارثة يصعب علينا تقدير سلبيَّاتها وأضرارها الآن.

وقد كان لدماء الشهداء (رضوان الله عليهم) دور حاسم ومصيري في هذه

٩٥

المرحلة من حياة الثورة، قطعت الطريق على الحلول النصفيّة الضعيفة، وقطعت جسور التفاهم مع النظام، وصادرت كلّ الحلول المطروحة للترضية والتفاهم.

وكلّما كان يكثر عدد الشهداء في الساحة، كانت ترتفع درجة مقاومة الثورة وقُدرتها على الـمُضيّ والاستمرار، وكانت الفجوة بين الجبهتَين تتّسع أكثر من ذي قبل، وتقلّ فُرَص اللقاء والتفاهم الذي كان الجناح الوطني لا يخفي رغبته إليه، حتّى بلغ الأمر حدّاً لم يكن من الـمُمكن اللقاء والتفاهم مع الشاه، على كلّ المستويات الاجتماعيّة المواكِبة للثورة، وانقطعتْ الجسور بصورة نهائيّة.

ولم يعُد لأحدٍ أمل معقول من الناحية السياسيّة في إمكانيّة الإبقاء على الشاه، حتّى السفير الأمريكي في طهران، فقد كان يُراسل حكومته؛ ليُؤكّد لهم أنّ فكرة المحافظة على الشاه في الظروف الموجودة في إيران لم يَعُد إلاّ وَهْماً سياسيّاً، وسراباً خادعاً... ومن الأفضل لأمريكا أن تُعيد النظر في حساباتها السياسيّة تجاه قضيّة إيران؛ لتُفكّر تفكيراً واقعيّاً ينسجم مع الواقع الإسلامي القائم في إيران.

وبالتأكيد، كان لدم الشهداء الدَور الكبير البارز والفاعل في الحسمِ السياسي، في هذه المرحلة الحسّاسة والمصيريّة من التاريخ، إلى جانب الموقف التاريخيّ الحاسِم الجَريء الذي كان يمتلكه الإمام في مواجَهة الأحداث.

وليس هذا فقط، بل كان لدم الشهداء (رضوان الله عليهم) في ساحة المواجهة دَور في قطْع طريق العودة على أمريكا وحلفائها إلى إيران، من خلال المؤامرات العسكريّة والالتفافات السياسيّة.

لقد كان من الـمُمكن أن تُفكّر أمريكا - بعد أن فقدَت الأمل في المحافظة على الشاه - في مؤامرة عسكريّة، من خلال العناصر الموالية لها من العسكر، لكنّ التضحيات الكبيرة التي قدَّمتها الأُمّة في مواجهة النظام بقيادة الإمام، قطعت الطريق عليهم أيضاً، فلم يكن من الـمُمكن أن تسكتْ الأُمّة - بعد تلك التضحيات والدماء المباركة - عن بديلٍ أمريكي آخَر،

٩٦

مُقنَّع بقناعٍ جديد من الديمقراطيّة والوطنيّة والدِين، من خلال حركة العَسكرِ أو حركة السياسيِّين القُدامى.

لقد منحت دماء الشهداء - في (ساحة الشهداء) في طهران، وفي سائر سوح المواجهة - هذه الأُمّة الوعي والذكاء السياسيَّين، والحذر من لُعبة تبديل الأقنعة والوجوه، وقوّة الحسم في الموقف.

وهذه جميعاً وغيرها، هي الأدوات التي يضمن الله تعالى بها قضيّة دم الشهيد، والتي تُساهم - بإذن الله - في إنجاح رسالة الشهيد.

فدم الشهيد إذن، يقود المسيرة الحضاريّة باتّجاه المواقف القويَّة والحاسمة، ويفتح مغاليق القلوب الـمُعتِمة والـمُنغلِقة، ويُفجِّر الطاقات الكامنة في أعماق النفوس، ويهب النفوس البليدة والضعيفة ذكاءً ووَعياً وقوّةً.

ولا شكّ أنّ هذه النقاط الـمُضيئة في دم الشهيد - جميعاً - مواضع يهبط عليها نصر الله تعالى وتأييده.

الإمدادُ الغَيْبِي والضَمان الإلهي لدَمِ الشهيد:

وبعد، فليس معنى ما ذكرنا من نقاط حسيَّة لهبوط النصر والتأييد من الله تعالى، أنّ الضمانة الإلهيّة لقضيّة الشهداء تنحصر في هذه النقاط، فإنّ دائرة الإمداد الإلهي الغَيبي لدم الشهيد أوسع من هذه الدائرة الحسيّة التي رسمناها هنا، ومصادر النصر ومنابِعه في خزائن رحمة الله تعالى لا تنحصر فيما ذكرنا من نقاطٍ ووجوه، فإنّ خزائن رحمة الله تعالى ونصره وتأييده لمسيرة الشهداء واسعة وكثيرة، لا يُحدِّدها ما ذكرنا من أسباب وأساليب.

فقد نصر الله تعالى أنبياءه بطُرقٍ غيبيَّة لا تنالها يدُ الإنسان وقُدرته، فنَصَر الله تعالى نوحاًعليه‌السلام ، ففجَّر الأرض ينابيع، وأنزل من السماء أمطاراً غزيرة وأغرق قومه الذين كذَّبوه:

٩٧

( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السّماءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (1) ، إلى قوله تعالى:( وَلَقَد تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُدّكِرٍ ) (2) .

ولقد أرسل الله تعالى على قوم عاد ريحاً صَرصَراً في يوم نَحْسٍ مُستمِر، فأبادتهم وأهلكتهم:

( إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) (3) .

وأمَر الله تعالى الملائكة أن ينزلوا إلى ساحة بدر؛ لنصرة المسلمين وتَثبيتهم:

( إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ ) (4) .

وكذلك يُثبّت الله عباده الصالحين في المواجهة مع الكافرين، وعلى أرض المعركة، ويضمن الله تعالى في هذه المواجهة الحضاريّة العَنيفة أنّ العاقبة للـمُتَّقين:

( ... إِنّ الأَرْضَ للّهِ‏ِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ) (5) .

وعلى نحوٍ من ذلك نفْهم نحن الضمان الإلهي لدم الشهيد، وهذه الضمانة الإلهيّة جزء من هذه الحقيقة والسُنّة الإلهيّة الشاملة في تأييد ودعم ونصر المؤمنين الـمُتَّقين، و (الثأر) لدماء الشهداء.

____________________

(1)القمر: 11 - 12.

(2)القمر: 15.

(3)القمر: 19 - 21.

(4)الأنفال: 12.

(5)الأعراف: 128.

٩٨

ثأرُ الله

رِحلةُ الشَهادة في القرآنِ الكريم

في سورتَي التوبة وآل عمران

( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ... ) (1) .

( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (2) .

يُشير القرآن الكريم إلى هذه النقلة الإيمانيّة في حياة المؤمنين، من محوَر الأنا إلى محوَر الله، في أروعِ صورة وتمثيل:

آية (التوبة):

( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

والآية الكريمة تُعبِّر عن تجرّد الإنسان من ذاته وعلاقاته بالله تعالى

____________________

(1)التوبة: 111.

(2)آل عمران: 169.

(3)التوبة: 111 - 112.

٩٩

باستخدام تعبير البيع والشراء، وهو تعبير ينطبق على الموضوع الذي نحن بصدَده بشكل دقيق.

وكلّ بيع يتطلَّب أُموراً خمسة: الـمُشتري، والبائع، والثمن، والـمُثمَن، ووَثيقة البيع.

والـمُشتري هنا هو: الله (عزّ اسمه).

والبائع: الإنسان.

والثمن: الجنَّة.

والـمُثمَن: هي النفس وعلاقاتها ومُتعلّقاتها، ولذّاتها وغرائزها، وحُبّها وبُغضها وميولها.

ووثيقة البيع: التوراة، والإنجيل، والقرآن.

البَيْعُ والشراء:

ويستوقِفنا هنا هذا التعبير الرائع:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) .

إنّ المؤمنين يبيعون أنفسهم وأموالهم لله، والله يشتري منهم أنفسهم وأموالهم، وليس للبائع - بعد أن يتخلَّى عن نفسه وعن الأنفُس العزيزة عليه، وعن ماله لله، ويَقبض الثَمَن - أن يتراجع أو يتردَّد في تسليم البضاعة، أو يتحفّظ في التسليم أو يَستقطِع منها شيئاً أو تحنّ نفسه إلى شيء منها، فقد باعَ وقبضَ الثَمَن، ولا خِيار ولا رجوع ولا استقطاع.

وعمليّة البيع هنا شامِلة ومُستوعِبة، لا تترك للإنسان شيئاً:( ... أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم... ) .

والأنْفُس هي أنْفُس المؤمنين والأنْفُس العزيزة عليهم، من أبناء وأزواج وإخوة وأعزّاء.

والأموال هي كلّ ما يملكونه من مَتاع وعِقار ونقْد.

فلا تبقى لهم بقيّة في هذه الدنيا يتعلّقون بها أو تحنّ إليها نفوسهم، ما داموا قد قَبِلوا البيع وأتمّوا الصَفقة وقبضوا الثَمن، فهي عائدة جميعاً لله، يتصرّف بها كيفما يشاء وكما يُحبّ وكما يريد، وليس للمؤمن أن يَتَلَكَّأ في التسليم والعطاء أو يتردَّد، فإنّ عمليّة التخلّي عن الأنفس والأموال تتمّ طَوَاعِيَة باختيار الإنسان ورغبته، وقِيمة هذه العمليّة في أنّها تتمّ باختيار الإنسان ورغبته، ومن الـمَعيب أنْ

١٠٠