المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213169 / تحميل: 9443
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المذاهب الإسلاميّة

جعفر السبحاني

١

٢

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

قال تعالى:

( إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الْإِسْلاَمُ )

آل عمران: ١٩

وقال تعالى:

( وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا )

العنكبوت: ٦٩

٣

٤

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل بريته محمد وآله الطيّبين الطاهرين، ومن اهتدى بهداهم من الأوّلين والآخرين، سلاماً ما دامت السماء ذات أبراج والأرض ذات فجاج.

أمّا بعد؛ فهذه وجيزة في المِلل والنِّحل، لخّصتها من موسوعتنا الكبيرة (بحوث في المِلل والنِّحل)، لِمَا وجدتُ من أنّ الجيل الحاضر إلى الإيجاز أميل وعن الإسهاب أعرض، واستعرضت فيها الملل والفرق بما لها من أُصول وعقائد، وتركتُ التعرُّض لما يتفرّع عنها، كما تركتُ التعرّض إلى التحليل والنقد، إلاّ شيئاً يسيراً يقتضيه الحال. واقتصرت على دراسة المذاهب الموجودة، وأعرضتُ عن ذكر الفِرَقِ البائدة الّتي أكل عليها الدهر وشرب، ومن ابتغى التحليل والنقد لهذه الفرق، فليرجع إلى موسوعتنا المذكورة.

وقبل الخوض في البحث، نقدِّم بحوثاً تمهيديّة تُنير السبيل لهذا العلم.

المؤلف

٥

٦

بحوث تمهيديَّة

وقبل الخوض في صلب الموضوع، نقدّم أُموراً تمهيديّة تنير السبيل لروّاد هذا العلم:

١. الملّة والنحلة في اللغة:

الملّة بمعنى: الطريقة المقتبسة من الغير، يقول سبحانه: ( بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (١) .

وأمّا النحلة، فهي بمعنى: الدعوى والدِّين، ولكن تستعمل كثيراً في الباطل، يقال: انتحال المبطلين. وفي المصطلح: المناهج العقائدية لأُمّة خاصّة أو جميع الأُمم، سواء كانت حقّاً أم باطلاً.

٢. الصلة بين علم العقائد وعلم الملل والنحل:

إنّ علم الكلام يبحث عن المسائل العقائدية الّتي ترجع إلى المبدأ والمعاد، ويوجِّه عنايته إلى إثبات فكرة خاصة في موضوع معيّن، ولكن علم الملل والنحل يسرد المناهج الكلاميّة وعقائد الأقوام، دون أن يتحيّز إلى منهج دون منهج، وهمّه عرض هذه الأُسس الفكرية على روّاد الفكر والمعرفة؛ فنسبة هذا العلم إلى علم العقائد نسبة تاريخ العلم إلى نفسه.

____________________

(١) البقرة: ١٣٥.

٧

٣. تعريفه، موضوعه، مسائله، غايته:

إنّ علم الملل والنحل كسائر العلوم، له: تعريفه، وموضوعه، ومسائله، وغايته.

أمّا تعريفه: فهو العلم بتاريخ نشوء المذاهب والديانات عبر القرون، ومقارنتها مع بعض.

وأمّا موضوعه: فهو عقائد الأُمم الّذي يعبَّر عنه بالملل والنحل.

وأمّا مسائله: فهي الاطّلاع على آراء أصحاب الديانات.

وأمّا غايته: فتتَّحد غايته مع تاريخ العلوم على وجه الإطلاق، وهي إعطاء البصيرة للمحقّق الكلامي في نشوء العقائد واشتقاق بعضها من بعض.

٤. المصنّفات في الملل والنحل:

إنّ ما كُتب في هذا المجال على قسمين: قسم منه: يتناول جميع أديان البشر أو أكثرها. وقسم منه: يختصّ بالفرق الإسلامية.

أمّا القسم الأوّل، فهو:

١. (الآراء والديانات): تأليف حسن بن موسى النوبختي (المتوفّى ٢٩٨هـ).

٢. (المقالات): تأليف محمد بن هارون الورّاق البغدادي (المتوفّى سنة ٣٤٧هـ).

يصفه النجاشي بقوله: كتاب كبير، حسن، يحتوي على علوم كثيرة، قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبد الله (١) .

٣. (أُصول الديانات): لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (المتوفّى عام ٣٤٥هـ) صاحب مروج الذّهب، يذكر فيه كتابه هذا.

٤.(الملل والنحل): لابن حزم الظاهري (المتوفّى عام ٤٥٦هـ).

____________________

(١) رجال النجاشي: برقم ١٤٦.

٨

٥. (الملل والنحل): لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (٤٧٩ - ٥٤٨هـ).

وأمّا القسم الثاني، فنظير:

١. (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين): لشيخ الأشاعرة: أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (٢٦٠ - ٣٢٤هـ).

٢. (التنبيه والرد): لأبي الحسين الملطي (المتوفّى عام ٣٧٧هـ).

٣. (الفرق بين الفرق): تأليف الشيخ عبد القاهر البغدادي التميمي (المتوفّى عام ٤٢٩هـ).

٤. (التبصير في الدين): الطاهر بن محمد الاسفرايني (المتوفّى عام ٤٧١هـ).

٥. (فرق الشيعة): الشيخ أبي القاسم سعد بن عبد الله القمي (المتوفّى ٢٩٩هـ). وربّما يُنسب هذا الكتاب إلى حسن بن موسى النوبختي.

وكتابنا هذا يركّز البحث على الفرق الإسلامية وما يمت إليها بصلة، وإن لم يكن في الحقيقة منها.

٥. علل تكوّن الفرق الإسلامية:

لبّى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) دعوة ربّه وانتقل إلى جواره وترك لأُمتّه ديناً قيِّماً، عليه سمات من أبرزها بساطة العقيدة ويسر التكليف. كما ترك للاهتداء بعده: كتاب الله لعزيز الّذي فيه ( تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ ) (١) ، وسنّته الوضّاءة المقتبسة من الوحي (٢) السليم من الخطأ، وعترته الطاهرة قرناء الكتاب (٣) .

وكان الجدير بالمسلمين التمسّك بالعروة الوثقى وتوحيد الكلمة في عامّة

____________________

(١) النحل: ٨٩.

(٢) النجم: ٤.

(٣) حديث الثقلين.

٩

المواقف، إلاّ فيما كان الاختلاف فيه أمراً ضرورياً لا يُجتنب، ولكن مع الأسف، نجم بينهم فرق ومذاهب يختلف بعضها عن بعض في جوهر الإسلام وأُصوله.

وأمّا ما هو العامل أو العوامل لتكوِّن الفِرَق؟ ؛ نشير إليها إجمالاً:

العامل الأوّل: الاتجاهات الحزبية والتعصّبات القبلية:

إنّ أعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف في قضيّة الإمامة، وما سلّ سيف في الإسلام وفي كلّ الأزمنة على قاعدة دينية مثلما سلّ على الإمامة.

ومع أنّ الرسول لم يترك الأُمّة سدى؛ بل نصب خليفة للمسلمين ومن يقوم بوظائف النبوّة بعده، وإن لم يكن نبيّاً بل إماماً منصوصاً،لكن مع الأسف، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة - قبل تجهيز النبيّ ومواراته - ثمّ التحق بهم نفر من المهاجرين؛ لا يتجاوز عددهم الخمسة، فكثُر الاختلاف والنزاع بينهم، فكلُّ طائفة كانت تحاول جرّ النّار إلى قُرصها؛ فيقول مندوب الأنصار رافعاً عقيرته: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب، إلى أن قال: استبدّوا بهذا الأمر دون الناس.

وقال نفر من المهاجرين: من ذا الّذي ينازع المهاجرين في سلطان محمّد وإمارته، وهم أولياؤه وعشيرته.

فصارت المناشدة في السقيفة، الحجر الأساس للتفرق وانثلام الكلمة ونسيان الوصية الّتي أدلى بها النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في غير واحد من المواقف، منها يوم الغدير.

العامل الثاني: سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق:

ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة الّتي ارتكبها عُمّاله في هذه البلاد، وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب عليّ مكانه، وقد

١٠

قام عليّ (عليه السّلام) بعزل الولاة آنذاك، عملاً بواجبه أمام الله سبحانه وأمام المُبايعين له، غير أنّ معاوية قد عرف موقف عليّ بالنسبة إلى عمال الخليفة، فرفض بيعة الإمام، ونجم عن ذلك حرب صفّين، بين جيش عليّ وجيش معاوية، فلمّا ظهرت بوادر الفتح لصالح عليّ (عليه السّلام)، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة عليّ (عليه السّلام)، وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب، وقام بتبيين الخدعة، غير أنّ الظروف الحاكمة على جيش الإمام، ألجأته إلى وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحَكَمين وإعلان الهدنة.

ومن عجيب الأمر أنّ الّذين كانوا يُصرّون على إيقاف الحرب، ندموا على ما فعلوا، فجاءوا إلى الإمام يُصرّون على نقض العهد، غير أنّ الإمام وقف في وجههم؛ لِمَا يتضمّن اقتراحهم من نقض العهد، وعند ذلك ظهرت فرقة باسم المحكِّمة؛ حيث زعموا أنّ مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ ) ؛ وما هذا إلاّ نتيجة سوء الفهم واعوجاج السليقة، لأنّ الإمام أرجأ المسألة إلى حكم الحَكَمين على ضوء القرآن والسنّة، فكيف يكون ذلك مخالفاً لقوله سبحانه: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ ) ، فإنّ الحكم على وفقها حكم لله سبحانه، وقد صار هذا الاعوجاج مبدأً لظهور الخوارج بفرقها المختلفة على ساحة التاريخ.

العامل الثالث: المنع عن كتابة الحديث:

قد منع الخلفاء بعد رحيل الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن كتابة الحديث وتدوينه، بل التحديث عنه، إلى أواخر القرن الأوّل، بل إلى عهد المنصور العباسي، مع أنّ حديث الرسول عِدْل القرآن الكريم؛ فالقرآن وحي بلفظه ومعناه، وسنته

١١

وحي بمعناه لا بلفظه. وقد اعتمدوا في منع كتابة السنّة ونشرها على روايات مزوّرة؛ مخالفة للكتاب والسنّة الثابتة.

وقد ترك هذا المنع آثاراً سلبية؛ أقلّها حرمان الأُمّة من السنّة النبويّة الصحيحة قرابة قرن ونصف، فظهر الوضّاعون والكذّابون بين المسلمين، فرووا عن لسان الرسول ما شاءوا وما أرادوا، وصارت هذه الحيلولة سبباً لازدياد الحديث؛ حتّى أخرج محمد بن إسماعيل البخاري صحيحه عن ستمائة ألف حديث. وأين حياة الرسول، المليئة بالأحداث، من التحديث بهذا العدد الهائل من الأحاديث؟!، ولذلك غربلها البخاري، فأخرج منها ما يقارب ألفين وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً، ولا يقلّ عنه صحيح مسلم وكُتب السُّنن.

العامل الرابع: فسح المجال للأحبار والرهبان:

إنّ الفراغ الّذي خلّفه المنع عن نقل أحاديث الرسول، أوجد أرضيّة مناسبة لتحديث الأحبار والرهبان عن العهدين، فصاروا يحدّثون عن الأنبياء والمرسلين بما سمعوه من مشايخهم أو قرأوه في كتبهم.

يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه، وكلّها مستمدة من التوراة (١) .

ويقول الكوثري: إنّ عدّة أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين، ثم أخذوا بعدهم في بثِّ ما عندهم من الأساطير (٢) .

____________________

(١) الملل والنحل: ١/١٦.

(٢) مقدّمة تبيين المفتري: ٣٠.

١٢

ولو كان نشر الحديث وتدوينه وتحديثه أمراً مسموحاً، لما وجد الأحبار والرهبان مجالاً للتحديث عن كتبهم المنحرفة، ولانشغل المسلمون عن سماع ما يبثّون من الخرافات بالقرآن والسنّة، ولكنّ الفراغ الّذي خلّفه المنع أعان على تحديثهم واجتماع الناس حولهم، ومن قرأ سيرة كعب الأحبار، ووهب بن منبه اليماني، وتميم بن أوس الداري وغيرهم، يقف على دورهم في نشر الأساطير وإغواء الخلفاء بها.

العامل الخامس: الاحتكاك الثقافي:

التحق النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرفيق الأعلى، وقام المسلمون بفتح البلدان والسيطرة عليها، وكانت الأُمم المغلوبة ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب.

وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلُّم ما في هذه البلاد من آداب وفنون، فأدّت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أوّلاً، ونَقْل كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً، حتّى انتقل كثير من آداب الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي، ولا شكَّ أنّ من تلك المعارف ما يُضَاد مبادئ الإسلام، وكان بين المسلمين من لم يتدرّع في مقابلها، ومنهم من لم يتورّع عن أخذ الفاسد منها، فصار ذلك مبدأً لظهور ديانات وعقائد على الصعيد الإسلامي، عندما صبغوا ما أخذوه من الكتب بصبغة الإسلام.

العامل السادس: الاجتهاد في مقابل النص:

إذا كانت العوامل الخمسة سبباً لنشوء المذاهب الكلامية، فهناك

١٣

عامل سادس صار مبدأً لتكوّن المذهب الكلامي والمذهب الفقهي، وهو تقديم الاجتهاد - لمصلحة مزعومة - على النّص.

إنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد أوصى المسلمين بعترته وشبّههم بسفينة نوح، وقال في محتشد عظيم: (يا أيّها النّاس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (١) . ومع ذلك استأثر القوم بالأمر يوم السقيفة، وقضوا أُمورهم من دون مشورة أو حوار مع أهل البيت، فصار ذلك سبباً لظهور مذاهب فقهيّة مبنيّة على تقديم المصلحة المزعومة على نص النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعلى هذا الأساس منعوا من متعة الحج ومتعة النساء وتوريث الأنبياء إلى غير ذلك من المذاهب الفقهيّة، كما حدثت مذاهب كلاميّة، لأجل الاستبداد بفكرهم، من دون عرضها على الكتاب والسنّة.

هذه هي العوامل الستة الّتي صارت سبباً لظهور المذاهب بين الإسلاميين. ومن حسن الحظ أنّ أغلب الطوائف تشترك في الأُمور الّتي بها يناط الإسلام والإيمان، وإن كانوا يختلفون في مباحث كلاميّة أو مسائل فقهيّة.

إلى هنا تمّت البحوث التمهيديّة، وسنشرع في سرد المذاهب.

____________________

(١) كنز العمال: ١/٤٤، باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

١٤

١

أهل الحديث والحشويّة

إنّ للحديث النّبويّ من علو الشأن وجلالة القدر ما لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج في إثباته إلى برهان، إذ هو الدعامة الثانية - بعد الذكر الحكيم - للدين والشريعة والحكم والأخلاق.

وهذه المنزلة الرفيعة تقتضي المزيد من الاهتمام بالمنقول عنه، ودراسته وتمحيصه بأفضل نحو حتّى يتميّز الصحيح عن السقيم، والمعقول عن غيره، وموافق الكتاب عن مخالفه.

وذلك لِما دقَّ رسول الله جرس الإنذار وقال: (من كذب عليَّ متعمِّداً، فليتبوّأ مقعده من النار). وذلك يعرب عن أنّ الرسول كان يعلم بإذن الله أنّ أعداء دين الإسلام وسماسرة الحديث سيكذبون عليه، ويضعون الحديث على لسانه.

وقد صدق الخُبر الخبرَ؛ حيث وضع الوضّاعون أحاديث على لسانه، وبثّوها بين صفوف المسلمين بأساليب مختلفة، فصار تمييز الصحيح عن غيره أمراً بعيد المنال.

وقد كان لمنع كتابة الحديث وتحديثه ما يزيد على قرن، مضاعفات جمّة؛

١٥

أهمّها انتهاز الوضّاعين لوضع الحديث وجعله ونشره بين المسلمين، فلمّا وقف المحدّثون على مدى الخسارة الّتي مُني بها الحديث، أخذوا بتقييد وضبط كلِّ ما دبّ وهبّ بحرص شديد، سواء وافق العقل أم خالفه، وافق الكتاب أم خالفه، إلى حد تجاوزت منزلة الحديث، الكتاب العزيز، ويُعلم ذلك من الأُصول الّتي اتّخذها أهل الحديث مقياساً لأخذ الحديث وجمعه، فقالوا:

١. إنّ السنّة لا تُنسخ بالقرآن، ولكن السنّة تَنسخ القرآن وتقضي عليه، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها. (١)

٢. إنّ القرآن أحوج إلى السنّة، من السنّة إلى القرآن. (٢)

٣. إنّ القول بعرض الأحاديث على الكتاب، قول وضعه الزنادقة. (٣)

والّذي يُعرب عن كثرة الموضوعات، اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم الصحاح والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن ذلك الهوش الهائش. قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث، وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث.

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً، اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث.

وفي صحيح مسلم أربعة الآف حديث أُصول، دون المكرَّرات، صنّفها من ثلاثمائة ألف.

____________________

(١) مقالات الإسلاميين: ٢/٢٥١.

(٢) جامع بيان العلم: ٢/ ٢٣٤.

(٣) عون المعبود في شرح سنن أبي داود: ٤/٤٢٩.

١٦

وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد أنتخبها من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث، وكتب أحمد بن الفرات (المتوفّى ٢٥٨هـ) ألف ألف وخمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها. (١)

ثم إنّ الإمام أحمد بن حنبل (١٦٤ - ٢٤١هـ) قد كتب رسالة بيّن فيها عقائد أهل الحديث تحت بنود خاصة.

قال في مقدّمته: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنّة المتمسّكين بعروقها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى يومنا هذا، وأدركتُ من أدركت من علماء الحجاز والشام عليها؛ فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة وزائل عن مذهب السنّة وسبيل الحق.

ثم شرع في بيان الأُصول. (٢)

كما كتب أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (المتوفّى٣٧٧هـ) عقائد أهل الحديث في كتابه المعروف بـ (التنبيه والرَّد) (٣)

وقد سرد الإمام الأشعري عقيدة أهل الحديث في كتابيه: الإبانة ومقالات الإسلاميّين، ولعلّ ما كتبه أحسن تناولاً ممّا كُتب قبلَه، ونحن نستعرض جملة من أقواله المبيّنة لعقائد أهل الحديث حيث يقول:

____________________

(١) خلاصة التهذيب: ٩، الغدير: ٥/٢٩٢ - ٢٩٣.

(٢) السنّة: أحمد بن حنبل، ٤٤ - ٥٠.

(٣) التنبيه والرد: ١٤ - ١٥.

١٧

وجملة قولنا:

١. إنّا نُقرّ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لا نُرِدُّ من ذلك شيئاً.

٢. وإنّ الله عزّ وجلّ إله واحد لا إله إلاّ هو، فرد صمد لم يتَّخذ صاحبة ولا ولداً.

٣. وإنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ.

٤. وإنّ الجنّة والنار حقّ.

٥. وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور.

٦. وأنّ الله استوى على عرشه؛ كما قال: ( الرّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) . (١)

٧. وإنّ له وجهاً بلا كيف؛ كما قال: ( وَيَبْقَى‏ وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ ) . (٢)

٨. وإنّ له يدين بلا كيف؛ كما قال: ( خَلَقْتُ بِيَدَيّ ) . (٣) ، وكما قال: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) . (٤)

٩. وإنّ له عيناً بلا كيف؛ كما قال: ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) . (٥)

١٠. وإنّ من زعم أنّ أسماء الله غيره، كان ضالاً.

____________________

(١) طه: ٥.

(٢) الرحمن: ٢٧.

(٣) ص: ٧٥.

(٤) المائدة: ٦٤.

(٥) القمر: ١٤.

١٨

١١. وإنّ لله علماً؛ كما قال: ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) . (١) ، وكما قال: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى‏ وَلاَ تَضَعُ إِلّا بِعِلْمِهِ ) . (٢)

١٢. ونُثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهميّة والخوارج.

١٣. وثبت أنّ لله قوّة؛ كما قال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً ) . (٣)

١٤. ونقول: إنّ كلام الله غير مخلوق، وإنّه لم يخلق شيئاً إلاّ وقد قال له: كن فيكون؛ كما قال: ( إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‏ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . (٤)

١٥. وإنّه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلاّ ما شاء الله، وإنّ الأشياء تكون بمشيئة الله عزّ وجلّ. وإنّ أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله.

١٦. ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عزّ وجلّ.

١٧. وإنّه لا خالق إلاّ الله، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة؛ كما قال: ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) . (٥)

وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وهم يخلقون؛ كما قال: ( هَلْ منْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) . (٦) ، وكما قال: ( لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) . (٧) ، وكما قال:

____________________

(١) النساء: ١٦٦.

(٢) فاطر: ١١.

(٣) فصلت: ١٥.

(٤) النحل: ٤٠.

(٥) الصافات: ٩٦.

(٦) فاطر: ٣.

(٧) النحل: ٢٠.

١٩

( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاّ يَخْلُقُ ) . (١) ، وكما قال: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (٢) ، وهذا في كتاب الله كثير.

١٨. وإنّ الله وفَّق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم وهداهم، وأضلَّ الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: ( مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) . (٣)

وإنّ الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم، حتّى يكونوا مؤمنين، ولكنّه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنّه خذلهم وطبع على قلوبهم.

١٩. وإنّ الخير والشر بقضاء الله وقدره. وإنّا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشرّه، حلوه ومرّه، ونعلم أنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأنّ العباد لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، إلاّ ما شاء الله، كما قال عزّ وجلّ: ( قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ ) (٤) ، وإنّا نلجأ في أُمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كلّ وقت إليه.

٢٠. ونقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.

٢١. وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

____________________

(١) النحل: ١٧.

(٢) الطور: ٣٥.

(٣) الأعراف: ١٧٨.

(٤) الأعراف: ١٨٨.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ولاة ابن الزبير.

وهكذا استولى المختار على الكوفة ، وأصبح في اليوم التالي يعلن سياسته ، ويخطب في المسجد فيقول : « الحمد للّه الذي وعد وليه النصر وعدوه الخسر ، وجعلها منّة إلى آخر الدهر ، قضاءا مقضيا ووعدا مأتيا ، قد سمعنا دعوة الداعي وقبلنا ، قول الداعي ، فكم من باغٍ وباغية قتل في الواعية ، ألا بعدا لمن طغى وجحد وبغى وعصى وكذّب وتولى. ألا فهلموا ـ عباد اللّه ـ إلى بيعة الهدى ومجاهدة الأعداء والذبّ عن السعداء من آل محمد المصطفى ».

ثم أضاف يقول : « فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا ، والأرض فجاجا وسبلاً ، ما بايعتم بعد علي بن أبي طالب أهدى منها ».

وبعد ذلك فرّق عماله على الثغور والأمصار كل حسب كفاءته فكانوا على البيان التالي :

1 ـ أرمينية : بعث إليها عبد اللّه بن الحارث الأشتر وعقد له راية.

2 ـ آذربيجان : بعث إليها رجلاً يقال له محمد بن عمير بن عطارد.

3 ـ الموصل : بعث إليها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس.

4 ـ المدائن : بعث إليها سعيد بن حذيفة بن اليمان.

5 ـ الري : بعث إليها يزيد بن بحية.

6 ـ أصفهان وأعمالها : بعث إليها يزيد بن معاوية البجلي.

7 ـ بهقباذ الأعلى : بعث إليه قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري.

8 ـ بهقباذ الأوسط : بعث إليه محمد بن كعب بن قرظة.

9 ـ بهقباذ الأسفل : بعث إليه حبيب بن منقذ الثوري.

وخضعت له جميع الأقاليم الإسلامية سوى الحجاز والشام ومصر

٦١

والبصرة والجزيرة ، وهذا الإقليم صار تحت قبضته فيما بعد عندما استولى عليه إبراهيم بن مالك الأشتر بقتاله عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه وانتصاره عليه ، ولما فرغ من توزيع عماله أخذ ينظّم أعماله الداخلية ، فوضع على شرطته عبد اللّه بن كامل الشاكري ، وعلى حرسه كيسان ـ أبا عمرة ـ مولى عرينة ، وأقرّ شريح القاضي على وظيفته في القضاء ، ولكنه ما لبث أن عزله وأحلّ محلّه عبد اللّه بن عتبة بن مسعود ثم إن عبداللّه مرض ، فجعل مكانه عبداللّه بن مالك الطائي قاضيا (1) ، وذلك حينما علم بأنه خبيث عثماني العقيدة ، ويكفي دليلاً على خبثه ولعنه أنه هو الذي شهد على حجر بن عدي الكندي بالقتل.

ومن أبرز عوامل نجاح هذه الثورة هي :

1 ـ الاعتماد بشكل أساسي على الفئات الشعبية من العرب وغيرهم الذين ضاقوا بالاضطهاد الأموي ثم الزبيري ، ووجدوا في ثورة المختار متنفسا لتحقيق مطالبهم الإصلاحية.

2 ـ انتساب ثورة المختار إلى محمد بن الحنفية ، الأمر الذي أدّى إلى اقتناع القواعد الشعبية الشيعية ، بمصداقية هذه الثورة ، وبالتالي الإخلاص من أجلها ، ومساندة زعيمها المختار ، الذي كان هو الآخر على استعداد للاستشهاد في سبيل الطلب بدماء أهل البيتعليهم‌السلام .

3 ـ إنّ الحكم الزبيري لم يقم بأي تغيير سياسي في الكوفة ، ولم يكن لديه أي برنامج إصلاحي ، بل كاد يكون بمناهجه استمرار للحكم الأموي مما أدّى إلى تذمر تلك القواعد منه ، والتفاتهم حول المختار.

4 ـ إشراك العامل الزبيري بعض قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام في الحكم ، وفي

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 : 35.

٦٢

حرب المختار ، لا سيما أخيه مصعب الذي كان على البصرة فقد آوى قتلة الحسين وأمّنهم. وقد ترك ذلك انطباعا سيئا في صفوف المقاتلين معه ، وأخذت مجموعات منهم تنصرف إلى معسكر المختار.

5 ـ انضمام ابن الأشتر إلى المختار ، أدّى إلى ترجيح كفّته ، وساعده على تحقيق النصر ، ذلك أن تأثير ابن الأشتر كان نابعا من قوته القبلية ، ومكانته البارزة في قبيلته مذحج ، فضلاً عن امكانياته الشخصية كقائد عسكري ومقاتل شجاع موهوب ومغامر (1).

__________________

(1) المختار الثقفي / الخربوطلي : 43.

٦٣

تمرُّد الكوفيِّين

بعد الانتصار العظيم الذي حقّقه المختار بقيادة قائده إبراهيم بن مالك الأشتر ، وسيطرته على الكوفة كليّا ، وطرده ابن مطيع واليها من قبل ابن الزبير ، راح ابن الزبير ، وعبد الملك بن مروان ، يحسبان ألف حساب للمختار ، فهما يعرفان عنه من الجرأة والأقدام في الأمور الصعبة ما يكفي لتخوّفها منه ، ومن هنا حاولا تخويف العرب من شخصه بقولهما ، إنّما المختار يريد أن يتسلّط على رقاب العرب ، كما وأنه ينوي إذلال أشرافهم.

ومقابل ذلك فإنّ المختار هو الآخر لم يُؤْثِر الراحة والدعة ، إذ ربما يقوم ابن الزبير بتحالف مع مروان للقضاء على المختار ، لذا قرّر أن لا يتوقّف عند مرحلته الأولى ، أي طرد ابن المطيع ، بل يمضي قدما لتقويض حكم ابن الزبير الثعلب المراوغ الذي كان يطالب كذبا بثار الإمام الحسينعليه‌السلام ، قبل تسلّمه دست الحكم ، ولما بويع بالخلافة صار يفكر بنفسه وبتثبيت ملكه حتى وإن أدّى ذلك إلى احتضان قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام !

وكان المختار قد تجاوز بنفوذه منطقة الكوفة ، وما حولها حيث امتدّ إلى مناطق شملت الموصل والبصرة ، وإن أصحبت فيما بعد تحت حكم الزبيريين وغيرها من حواضر الدولة في حينه.

لذا أسرع المختار بتصفية المراكز القريبة منه ، وعمل على توحيد قواته

٦٤

التي ضمّت آلاف الموالي بينها ، فأرسل جيشا بقيادة إبراهيم ، ليتولّى تطهير أرض الجزيرة وما يحيط بها من قبضة الأمويين ، لما علم عبد الملك بن مروان ، أرسل عبيد اللّه بن زياد بثمانين ألفا من أهل الشام لينهب الكوفة ، ويقضي على المختار وأنصاره. وقد وصل عبيد اللّه هذا إلى الموصل ، وكان عامل المختار عليها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس ، فوجه إليه عبيد اللّه رجاله ، فانحاز عبد الرحمن إلى تكريت ، وكتب إلى المختار يعرفه ذلك ، فكتب الجواب ، بصواب رأيه ، وبحمد مشورته ، وأن لا يفارق مكانه حتى يأتيه ، أمره إن شاء اللّه.

التقى الجمعان في 9 ذي الحجة سنة 66 هـ (686م) عند الفجر قرب الموصل ، وكان جيش أهل الشام ضعف جيش المختار ، ومع ذلك فقد انتصر جيش المختار انتصارا ساحقا بعد قتال دام يومين.

وكان يزيد بن أنس ، الذي أرسله المختار لنجدة عبد الرحمن بن سعيد ، هو القائد العام لجيش المختار ، فقاد المعركة ، وهو مشرف على الموت ، من مرض أصابه ، وما لبث أن فارق الحياة.

فتولّى أمر الجيش بعده القائد ورقاء بن عازب الأسدي الذي ما لبث أن جمع أصحابه ، وقال لهم : « ماذا ترون ، أنه قد بلغني أن ابن زياد ، قد أقبل إليكم في ثمانين ألفا. وإنّما أنا رجل منكم فأشيروا علي ، فإنّي لا أرى لنا بأهل الشام طاقة على هذه الحال ، وقد هلك يزيد وتفرّق عنّا بعض من معنا ».

فقالوا : نِعْمَ ما رأيت. وتفرّق جند جيش المختار (1).

__________________

(1) الكامل / ابن الأثير 4 : 97.

٦٥

وعلم المختار ، وأهل الكوفة بما حلّ بهذا الجيش ، وانتشرت في الكوفة إشاعة تقول ، أنّ الشيعة هزمهم أهل الشام «فأرجف الناس بالمختار ، وقالوا ، أن يزيد قُتل ولم يصدقوا أنه مات» (1).

ولكن المختار لم يستسلم للأحدات ، بل ظلّ ثابت الجنان ، وأصرّ على إنزال الهزيمة بالجيش الأموي ، فأسرع في إعداد جيش جديد تألّف من سبعة آلاف جندي ، وولّى على قيادته قائده العربي المشهور إبراهيم ابن الأشتر ، وأمر بأن يسرع السير إلى ميدان المعركة لإنقاذ الموصل.

وقيل : خرج في إثني عشر ألفا ، أربعة آلاف من القبائل ، وثمانية آلاف من الحمراء (2) ، وشيّع إبراهيمَ مشيا فقال : «اركب رحمك اللّه ». فقال المختار : «إنّي لأحتسب الأمر في خطاي معك ، وأحبّ أن تتغبّر قدماي في نصرة آل محمدعليهم‌السلام ، والطلب بدم الحسينعليه‌السلام ».

نعم ، كانت وجهة المختار خالصة للّه ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لِمَ لا ، وهو الذي أخذ على نفسه عهدا ، أن يقضي على قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، فلا بأس أن يكون طريقه مزروعا بالأشواك. ما دامت النتيجة والصفقة رابحةً.

يقول اللّه تعالى :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بَأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن

__________________

(1) المصدر نفسه.

(2) وهم المسلمون من غير العرب.

٦٦

تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (1)

ثم أن المختار ، ودّع الجيش وانصرف ، وبات إبراهيم بموضع يقال له ، (حمام أعين) ، ثمّ رحل حتى وافى ساباط المدائن.

فحينئذٍ توسّم أهل الكوفة في المختار القلّة والضعف ، فخرج أهل الكوفة عليه ، وجاهروه بالعداوة ، ولم يبقَ أحد ممن اشترك في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان مختفيا إلاّ وظهر ، ونقضوا بيعته وسلو عليه سيفا واحدا ، واجتمعت القبائل عليه من قبيلة بجيلة ، والأزد ، وكندة.

فبعث المختار من ساعته رسولاً إلى إبراهيم وهو في ساباط :

« لا تضع كتابي حتى تعود بجميع من معك ».

فلما جاءهم كتابه نادى بالرجوع ، فواصلوا السير بالسرى ، والمختار يشغل أهل الكوفة بالتسويف والملاطفة حتى يرجع إبراهيم بعسكره.

وبعد ثلاثة أيام من خروجه رجع إبراهيم إلى الكوفة ، ومعه أهل النجدة والقوة ، فلما علموا بقدومه ، افترقوا فرقتين ، ربيعة ومضر على حدة ، واليمن على حدة ، فخير المختار إبراهيم إلى أي الفرقتين تسير ، فقال : إلى أيّهما أحببت.

وكان المختار ذا عقل وافر ، ورأي حاضر فأمره بالسير إلى مضر بالكناسة وسار هو إلى اليمن إلى جبانة السبيع ، فبدأ بقتال رفاعة بن شداد ، فقاتل قتالاً شديد البأس ، حتى قتل ، وقاتل حميد بن مسلم وهو يقول :

__________________

(1) سورة الصف : 61 / 10 ـ 13.

٦٧

لأضربن عن ابن حكيم. مفارق الأعبد والحميم.

ثم انكسروا ، كسرة هائلة ، وجاء البشير إلى المختار ، انهم ولَّوا مدبرين ، فمنهم من اختفى في بيته ، ومنهم من لحق بمصعب بن الزبير ، ومنهم من خرج إلى البادية.

ثمّ أحصوا عدد القتلى فكانوا ستمائة وأربعين رجلاً ثم استخرج من دور الوادعين خمسمائة أسير كما ذكر الطبري وغيره ، فجاؤا بهم إلى المختار فعرضوهم عليه ، فقال :

«كلُّ من حضر فيهم قتل الحسينعليه‌السلام فاعلموني به».

فلا يُؤتى بمن حضر قتلهعليه‌السلام إلاّ قيل هذا ، فيضرب عنقه ، حتى قتل منهم مائتين وثمانية وأربعين رجلاً ، وقتل أصحابُ المختار جمعا كثيرا بغير علمه ، وأطلق الباقين ، ثم علم المختار ، أن شمر بن ذي الجوشن لعنة اللّه عليه ، خرج هاربا ومعه نفر ، ممن اشترك في قتل الحسينعليه‌السلام ، فأمر عبدا له ، أسود يقال له رزين ، ومعه عشرة ، أن يتبعه ، فأتاه برأسه.

والغريب في هذا ، إنّ عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ، كان يحارب بشجاعة ضد أبيه الملعون إلى جانب المختار (1).

وعلى الرغم من انتصار المختار العظيم على أشراف الكوفة ، فإنّه لم يستطع القضاء نهائيا على أولئك المتمرّدين ، فقد هرب خلق كثير منهم إلى البصرة ، وانضمّوا إلى مصعب بن الزبير ، وهؤلاء راحوا يحرّضون مصعب ضدّ المختار ، وكانوا عاملاً مهمّا ساعدوا على الإطاحة بثورته.

__________________

(1) الطبري 2 : 654.

٦٨

مقتل ابن زياد لعنه اللّه

كان خطر الجيش الأموي بقيادة عبيد اللّه بن زياد الملعون ابن الملعون قد داهم الموصل ، وأراد المختار كما رأينا أن ينقذ الموصل فبعث قائده إبراهيم ابن مالك الأشتر لصدّ الأمويين ، ولكن المختار اضطرّ إلى استدعاء قائده ليخمد الانقلاب الذي أعلنه أنصار الشجرة الملعونة في الكوفة ، ونجح المختار في القضاء على هذه الفتنة وشعر بالاستقرار والهدوء في الداخل ممّا مكّنه من التفرّغ لعدوه ابن زياد.

وبعد يومين بعث المختار ، قائده الباسل ابن الأشتر ، في أواخر ذي الحجّة سنة 66ه لقتال جيش الشام ، وأمره أن يهاجمهم متى لقيهم ، وأن يجدّ في السير قبل أن يدخل أرض العراق ، وكان ابن زياد قد استطاع بجيشه الكثيف أن يحتل الموصل ، وصحب المختار جيشه إلى نهر الفرات ووعدهم بالنصر ، ممّا رفع روحهم المعنوية وبثّ الحماس فيهم.

التقى جيش المختار بجيش الشام عند قرية (بارشيا) وهي قرية تقع على ضفاف نهر الخازر (1) قرب مدينة الموصل.

وكان ابن الأشتر حسن الحظ ، فقد تقدم إليه سرا أحد قواد ابن زياد وهو

__________________

(1) رافد للزاب الكبير ، وهو فرع من فروع دجلة.

٦٩

عمير بن الحباب السلمي وعرض عليه الانضمام إليه وترك ابن زياد ، ويرجع ذلك إلى أن عميرا كان قيسيا ، وكان الأمويون في ذلك الحين يقرّبون الكلبيّين اليمنيين ، ويُبعدون القيسيين ، وكانت نار العصبية كثيرا ما تشتعل بينهم ، وقد صوّر ابن الأثير الموقف فقال :

« وأرسل عمير بن الحباب السلمي وهو من أصحاب ابن زياد إلى ابن الأشتر أن ألقني. وكانت قيس كلها مضطغنة على ابن مروان ـ أي عبد الملك ـ من وقع مرج راهط وجنّدَ عبد الملك يومئذ كلبا ، فاجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير على مسيرة ابن زياد وواعده أن ينهزم الناس. ونفذ ابن الحباب خطّته وبرّ بوعده » (1).

وقال المسعودي : « وكان في نفسه ما فعل بقومه من مضر وغيرهم من نزار يوم مرج راهط ، فصاح يا لثارات قيس ، يا لمضر ، يا لنزار فتزاحمت نزار من مضر وربيعة على من كان معهم في جيشهم من أهل الشام من قحطان » (2).

وفي يوم الواقعة ، عبّأ إبراهيم جيشه منذ الفجر ، ووضع الأمراء مواضعهم ، ودعا بفرس له فركبه ، ثمّ مرّ على أصحاب الرايات كلها ، فكلّما مرّ على راية وقف عليها ، ثم قال : «يا أنصار الدين ، وشيعة الحق وشرطة اللّه ، هذا عبيد اللّه بن مرجانة ، قاتل الحسين بن علي ، ابن فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حال بينه وبين بناته ، ونسائه وشيعته ، وبين ماء الفرات أن يشربوا منه ، وهم ينظرون إليه ، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله ، ومنعه الذهاب في

__________________

(1) الكامل 4 : 110.

(2) مروج الذهب 3 : 42.

٧٠

الأرض العريضة حتى قتله وقتل أهل بيته ، فواللّه ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، قد جاءكم اللّه به وجاءه بكم. فواللّه إنّي لأرجو أن لا يكون اللّه جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلاّ ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم. فقد علم اللّه أنكم خرجتم غضبا لأهل بيت نبيكم » (1).

وهكذا سار في الناس في الميمنة والميسرة ، فرغّبهم في الجهاد ، وحرّضهم على القتال. ثم رجع حتى نزل تحت رايته. وأمر الناس بالزحف.

وبدأت المعركة بين الجيش الأموي ، وجيش المختار وذلك في مطلع سنة 67 للهجرة في أوائل شهر محرم (آب سنة 686م). وحمى وطيس القتال وسقطت كثرة من القتلى من الجانبين ، واستطاع جيش المختار أن يحوز النصر رغم أن عدد جيش الشام كان يبلغ عشرة أضعاف عدد الجيش المختاري ، بفضل مهارة قائدهم ، وبفضل حماسة الجند لا سيّما الشيعة منهم ، وسقط رؤساء جند الشام قتلى ، وقتل الكلب اللعين ابن اللعين عبيد اللّه بن زياد قاتل الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، وقتل الحصين بن نمير السكوني الذي حاصر ابن الزبير في الكعبة في أواخر عهد يزيد بن معاوية وكان المختار إلى جانب ابن الزبير أثناء الحصار ، كما قتل أيضا من كبار قواد الشام شرحبيل بن ذي الكلاع ، واحتز ابن الأشتر رأس ابن زياد ثم حرق جثته ، وبعد هزيمة جند الشام تتبعهم جند المختار ، فسقط عدد كبير في نهر خازر غرقى ، واستولى المختاريون على كثير من الغنائم ، وبعث ابن الأشتر إلى المختار يبشره بالنصر

__________________

(1) الكامل 4 : 110.

٧١

العظيم ، وكان المختار مقيما حينئذ في المدائن ، وأرسل إليه أيضا برؤوس ابن زياد وقوّاده ، ودخل ابن الأشتر الموصل ، وبعث أخاه ـ لأمه ـ عبد الرحمن بن عبد اللّه ليتولّى أمور نصيبين. واستطاع فيها أن يسيطر على سنجار ، كما ولّى زفر بن الحارث ، مدينة قرقيسيا ، وحاتم بن النعمان على حران ، وأقام ابن الأشتر في الموصل يحكمها باسم المختار (1). وقد مدح الشعراء ابن الأشتر بانتصاره ، وأنشده شاعره « عبيد اللّه بن عمرو » قصيدة أشاد فيها بفوزه جاء في أولها :

اللّه أعطاك المهابة والتقى

وأحلّ بيتك في العديد الأكثر

وأقرّ عينك يوم وقعة خازر

والخيل تعثر بالقنا المتكسّر

وهكذا أراد اللّه أن ينتقم من قتلة سيد الشهداءعليه‌السلام ، فَقُتلوا جميعا ـ إلاّ من هرب ـ في مثل اليوم الذي لقى فيه استشهاده قبل ذلك بنحو خمس سنوات ، فسبحان المنتقم الجبار.

ولما وصلت الرؤوس إلى المختار ، وضع رأس ابن زياد في سلة وبعث به إلى محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين السجّادعليه‌السلام ، وسائر بني هاشم في الحجاز فلما رأى علي بن الحسينعليهما‌السلام ، رأس عبيد اللّه بن زياد ، ترحّم على الحسينعليه‌السلام ، وقال : « أتى عبيد اللّه بن زياد برأس الحسينعليه‌السلام ، وهو يتغدّى ، وأتيت برأس عبيد اللّه ونحن نتغدّى ».

ولم يبقَ أحد من بني هاشم إلاّ قام خطيبا ، وأطنب في الثناء على المختار والدعاء له وجميل القول فيه ، وكان ابن عباس يقول : «أصاب بثأرنا

__________________

(1) الكامل / ابن الأثير 4 : 11.

٧٢

وأدرك وترنا ، وآثرنا ، ووصلنا» ، فكان يظهر الجميل فيه للعامة.

ويروي اليعقوبي (1) ، أن علي بن الحسينعليهما‌السلام ، لم يُرَ ضاحكا منذ قتل أبوه ، إلاّ في ذلك اليوم.

ثم بعث المختار إلى محمد بن الحنفية برسالة جاء فيها :

« إني بعثت أنصاركم وشيعتكم إلى عدوكم ، فخرجوا محتسبين آسفين فقتلوهم. فالحمد للّه الذي أدرك لكم الثار ، وأهلكهم من كلّ فجٍّ عميق ، وأغرقهم في كل بحر ، وشفى اللّه صدور قوم مؤمنين ».

وأرفق المختار رسالته إلى ابن الحنفية بثلاثين ألف دينار ، فخرّ ابن الحنفية ساجدا للّه ودعا للمختار وقال :

« جزاه اللّه خير الجزاء ، فقد أدرك لنا ثأرنا ، ووجب حقّه على كل من ولد عبد المطلب بن هاشم ، اللهمّ واحفظ إبراهيم بن الأشتر سعيه وانصره على الأعداء ، ووفّقه لما تحبّ وترضى ، واغفر له في الآخرة والأولى ».

ويروي المزرباني بإسناده عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، أنه قال :

« ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت حتى قُتل عبيد اللّه بن زياد ».

وعن فاطمة بنت عليعليه‌السلام : « ما اكتحلت امرأة منّا ولا أجالت في عينيها مرودا ، ولا امتشطت حتى بعث المختار رأس عبيد اللّه بن زياد ».

سطع نجم المختار بعد معركة الخازر (2) وقضائه على الجيش الأموي ،

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 3 : 6.

(2) وقد حدثت واقعة (الخازر) في يوم عاشوراء من المحرم سنة 67 هجرية ، في يوم ذكرى استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقتل ابن زياد في نفس ذلك اليوم ، فسبحان المنتقم الجبار.

٧٣

وقتل الفاسق الكافر اللعين ابن اللعين عبيد اللّه بن زياد ، واستفاد المختار من هذا النصر العظيم فائدة عظمى ، فعلا صيته في أرجاء العالم الإسلامي ، وتنفّست الشيعة الصعداء ، فقد أخذ بثأرها ، وشفى غليلها ، ونحن نعرف حرص العرب دائما على الأخذ بالثأر ، وقد آلَم مقتل الحسين بن عليعليهما‌السلام ، جميع المسلمين ، إلاّ أنصار الشجرة الملعونة من الأمويين والمروانيين وآل زياد لعنهم اللّه. وبرّ المختار بوعده الذي قطعه للشيعة ، فقد تعهّد بالقضاء على قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام جميعا ، كما نال تأييد محمد بن الحنفية وسائر بني هاشم. وكان العراقيون يكرهون عبيد اللّه بن زياد كراهية شديدة نتيجة سياسة القتل والتعذيب التي اتّبعها خلال حكمه لبلاد العراق ، فشعروا بكثير من الارتياح لمقتله وحمدوا ذلك للمختار ، وإن لم يكونوا من أنصاره.

وكانت موقعة (الخازر) ، خير سلاح للدعاية لثورة المختار ، فقد سلّطت جميع الأضواء على المختار.

ولم يبقَ أمام المختار لتأمين نجاحه واستقلاله إلاّ طرد الزبيريين من البصرة من هنا يجب أن نلتفت إلى أهم العوامل التي ساعدت على انتصار إبراهيم بن الأشتر على الجيش الأموي ، رغم التفاوت الكبير بين الجيشين ، ومن أهم هذه العوامل :

1 ـ شجاعة إبراهيم ، وكفاءته العسكرية.

2 ـ الحماس الديني الذي كان ينتاب الجمع عند نشوب المعركة بين الطرفين ، حيث التقى جيش إبراهيم ، وجها لوجه مع ابن زياد قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

3 ـ انسحاب القيسيين من جيش عبيد اللّه بن زياد ، رغم شكنا في ذلك ،

٧٤

لأنّ البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، والنويري يذكرون ، أن عميرا ، قائد القيسيين ، هرب عندما رأى جيش أهل الشام على وشك الهزيمة ، بينما حارب بكل قوة في بداية المعركة ، ويضيف الطبري هنا ، أن عميرا ، أرسل إلى إبراهيم بن الأشتر عندما رأى تراجع أهل الشام قائلاً : « أجيئك الآن ». فقال : « حتى تسكن فورة شرطة اللّه فإنّي أخاف عليك عاديتهم » (1). ولو صدر هنا منه قبل التحام الجيشين لرحّب به ولما قال له ذلك ، ولكنّه على كل حال ساعد موقف ابن الأشتر في ذلك الحين.

4 ـ التثقيف الإسلامي ، والأعلام الهادف الذي كان يحثّ جيش ابن الأشتر على الإطاحة بأنصار الشجرة الملعونة ، قبل نشوب المعركة ، ممّا ساعد هذا على انضمام أعداد كثيرة من غير الشيعة إلى قوات المختار.

5 ـ الانقسامات ، والخلافات العسكرية في قوات ابن زياد ، والتي ساعدت على إضعاف القاعدة المركزية في قوات الأمويين ، والتي سهّلت لإبراهيم أن يستغلّها بشكل ذكي ، في كسر قوات ابن زياد ، وتحقيق النصر عليها.

أما هزيمة (يوم الخازر) ، من وجهة نظر بني أمية وعبد الملك فقد كانت كارثة ، حيث تبدّد جيش الشام ، ومُزِّق شذر مذر ، وقُتل كثير من كبار قوادهم وذهبوا ، إلى جهنّم وبئس المصير.

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 : 555.

٧٥

المختار والموالي

لقد جاء الإسلام للقضاء على عبودية الإنسان لأخيه الإنسان ، فعمد إلى ترسيخ هذا المبدأ الأساس على ما هو حدّي ، ولا تساهل فيه على الإطلاق ، ويتمثّل ذلك في كون العبودية المتناهية هي للّه وحده ، وليس لأي أحد من خلقه أن يمتلك البشر. ولأنّ الرقّ كان أمرا طبيعيا وسائدا في المجتمع الجاهلي ، شأنه شأن الخمرة. فقد اعتمد الإسلام من خلال القرآن الكريم وسنّة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذلك الأسلوب التدريجي حتى ينتزع من عرب الجاهلية ما كان راسخا في عقولهم من تفشّي الرقّ بينهم.

فجعل على سبيل المثال ، عتق العبيد طريقا إلى الخلاص من عقابه سبحانه وتعالى ، حيث جاء في الذكر الحكيم قوله عزّوجلّ :

«فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ *فَكُّ رَقَبَةٍ » (1).

كما جعل من العتق كفّارة للذنوب. وفرضها على الذين يخالفون أحكام الدين ، كما فرض الصدقات وإطعام المساكين.

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : «أنَّ رجلاً من بني فهد كان يضرب عبدا له ، والعبد يقول : أعوذ باللّه ، فلم يقلع عنه ، فقال : أعوذ بمحمد ، فأقلع الرجل

__________________

(1) سورة البلد : 90 / 11 ـ 13.

٧٦

عنه الضرب ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يتعوَّذ باللّه فلا تعيذه ، ويتعوَّذ بمحمد فتعيذه ، واللّه أحقّ أن يجار عائذه من محمد ، فقال الرجل : هو حرّ لوجه اللّه ، فقال : والذي بعثني بالحق نبيّا ، لو لم تفعل لواقع وجهك حرّ النار » (1).

نعم ، جاء الإسلام ، ليردّ لهؤلاء البشر إنسانيتهم. جاء ليقول للسادة عن الرقيق :( بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ ) (2) ، جاء ليقرّر وحدة الأصل والمنشأ والمصير « أنتم بنو آدم وآدم من تراب ».

ويذكر ، أن أول من أعتقهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هم بلال ، وعمار ، وصهيب ، وخباب ، فقد آثر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال عن بلال الحبشي ، أنه أول ثمار الحبشة ، وعن صهيب إنه أول ثمار الروم ، وكذلك قال عن سلمان الذي كان أول من تحوّل من الفرس والذي كان رقيقا أيضا.

وممّا يدلّ على دعوى هموم هذا الدين لكل العالم هذه الرواية التي نقلناها عن الطبري (3) ، والتي تنصّ على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد أرسل الدعاة لنشر السلام بين جميع الأمم.

وخصّص لفكّ رقاب المستعبدين وجها أو بابا من أبواب صرف أموال الصدقات. قال تعالى :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا .وَفِي الرِّقَابِ .) (4).

وبهذا حبّب الدين الإسلامي السمح ، الناس في الإسراع في عتق

__________________

(1) الوسائل 22 : 401 / 2.

(2) سورة آل عمران : 3 / 195.

(3) الطبري 3 : 85.

(4) سورة التوبة : 9 / 60.

٧٧

أرقّائهم ، وعبيدهم ، وأخلى سبيلهم رغبة وطمعا في المغفرة من الذنوب.

نحن نعلم ، أن للإنسان مكانة رفيعة في تعاليم الإسلام ، أساسها أن اللّه خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسبغ عليه نعمه ، وجعل فجاج الأرض ، وآفاق السماء مسخّرة له ، وفي ذلك يقول جلّ شأنه :( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (1).

ولمّا كان مكانة الإنسان على هذا المستوى الرفيع ، فإنّ الشارع ضمن له حقوقا تصونه ، وتدعمه ، وتمنع عنه أسباب الزلل والهبوط ، لعلّ أولها أن يحيا موفور الكرامة عزيز النفس لا يشكو حيفا ولا هوانا.

لقد كان الرقّ قبل الإسلام منتشرا ، ومتمكّنا ، لكن انتصار الإسلام ، هدّم هذه الظاهرة اللا إنسانية ، فأصبح الناس إخوانا كما قال الرسول العظيم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يتقاسمون الحياة مطعما ، وملبسا ، وأعمالاً ، وآدابا ، في محبّة خالصة ومشاركة عادلة.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعتق من الإرقاء من يُعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة ، أو يؤدّي خدمة مماثلة للمسلمين. ونصّ القرآن الكريم على أن كفّارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب. كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يحثّ على العتق تكفيرا عن أي ذنب يأتيه الإنسان ، وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم.

فالموالي ، هم المسلمون من غير العرب ، وكانوا في الأصل أسرى حرب

__________________

(1) سورة الإسراء : 17 / 70.

٧٨

في منزلة الرقيق ، ثمّ أسلموا فاعتقوا ، وأصبحوا موالي.

فمنهم من أصبحت له منزلة عظيمة أمثال : زيد بن حارثة ، الذي كانت تمتلكه خديجة ، والذي أعتقه وتبنّاه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ زوّجه زينب بنت جحش ، بنت عمّته أميمة ، وكانت من أجمل وأشرف بنات هاشم ، وهذا أول مظهر من مظاهر المساواة بين الناس.

ومنهم ، عمار بن ياسر مولى بني مخزوم ، وبلال بن رباح مولى بني جمح ، وخباب بن الأرت مولى أم أنمار ، وسلمان الفارسي من موالي يهود بني قريظة ، وصهيب بن سنان الروحي ، مولى عبد اللّه بن جدعان. وسالم مولى امرأة من الأنصار ، وقد تبنّاه أبو حذيفة بن عقبة بن ربيعة وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عقبة ، وأمثالهم كثير.

فهؤلاء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كانوا أرقّاء ، ومن أوطان وجنسيات متعدّدة ، وذوي ألوان مختلفة ، فلمّا أظلّهم الإسلام ، تحرّروا من أسر الرقّ وصاروا أحرارا!

والموالي كفئة مسحوقة لم تحقّق الحدّ النسبي من حقوقها الاجتماعية ، خاصة حقّها الكامل في المساواة. ولقد عاشت هذا الاستغلال مزدوجا ، سواء تحت قبضة ، ملاكي الأرض ، أو حين التجأت إلى الإسلام تخلّصا من الضرائب ، فاصطدمت بسلطة قمعية على رأسها الحجّاج بن يوسف الثقفي. وكان الموالي قد تلمّسوا بداية الطريق إلى موقعهم الطبيعي من السلطة الأموية ، وذلك مع ثورة المختار الثقفي.

أجل ، لقد كان عصر سيادة المختار في العراق ، بداية مرحلة جديدة في تاريخ الموالي ، فقد بدأ فترة من التسامح ، والمساواة ، والعدل ، وبهذا أعاد

٧٩

المختاررضي‌الله‌عنه ، سيرة الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وآل بيته في معاملة الموالي ، ونبذ سياسة التفرقة التي اتّبعها الولاة والأمويين.

بينما ترى أميرالمؤمنين وأحسن الإمام علي بن أبيطالبعليه‌السلام قد أحسن معاملة الموالي ، وكان جيشه يضمّ 16 ألف من الموالي والعبيد (1).

إنّ انخفاض منزلة الموالي الاجتماعية إبان حكم الأمويين أدّت بكثير منهم أن يكونوا مستعدّين للانضمام إلى أيِّ حركة معارضة ضدّ الوضع القائم ، محاولة منهم للحصول على العدالة والمساواة.

حتى إذا ظهر المختار وجد الموالي فيه الزعيم المنشود ، فأسرعوا إلى نبذ طاعة ابن الزبير. وقد رأوا في دعوة المختار فرصة يحقّقون بها آمالهم في التساوي بالعرب.

فانضمّوا إليه ، فساوى بينهم ، وبين العرب في الحقوق والواجبات. وجعل عطاءهم جميعا واحدا. كما أباح لهم مشاركة العرب بالفيء ، وركوب الخيل (2).

وكان يلقبهم بـ (شيعة الحقّ) وبـ (شيعة المهدي) (3).

كما أنّه عيّن كيسان أبو عمرة مولى عرينة على حرسه ، وربما كان هذا التعيّن لأنّه يثقّ به أكثر من غيره أو لأنّه كان أكثر نفوذا بين الموالي من مؤيّديه.

وأعلن المختار أن كلّ عبد ينضمّ إليه يكون حرّا (4) ، وهذا ساعد على

__________________

(1) الفصول المهمة لابن الصباغ : 81.

(2) الطبري 2 : 43 ـ 44 ، كتاب الفتوح / ابن أعثم الكوفي 6 : 260.

(3) الأعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام / البياسي : 129.

(4) أنساب الأشراف / البلاذري 6 : 448.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377