المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية21%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 205007 / تحميل: 8775
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ب - عطيّاته الهائلة لبني أُمية من بيت المال.

ج - تأسيس حكومة أُمويّة.

د - مواقفه العدائيّة تجاه لفيف من الصحابة.

هـ - إيوائه طريد رسول الله؛ الحكم بن العاص.

إلى غير ذلك من الأُمور الّتي أغضبت جمهور المسلمين وأثارت حفيظتهم، حتّى اجتمعت طوائف من المصريّين والكوفيّين والبصريّين وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه، ولمّا شعروا أنّه لا ينفعه النُّصح، انفجرت ثورتهم عليه، ولم تخمد إلاّ بقتله في عقر داره.

قُتل الخليفة بمرأى ومشهد من الصحابة، وتركت جنازته في بيته حتّى اجتمع المهاجرون والأنصار في بيت علي، وطلبوا منه قبول الخلافة، فلمّا عرضوا عليه مسألة القيادة الإسلامية، أعرض عن قبولها، وقال بجد وحماس: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت له العقول» . (١)

غير أنّ القوم ألحّوا عليه، فقال الإمام: «إذا كان لابد من البيعة، فلنخرج إلى المسجد حتّى تكون بمرأى ومسمع من الناس»، فجاء المسجد، فبايعه المهاجرون والأنصار، في مقدّمتهم:

الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، ولم يتخلّف من البيعة إلاّ قليل، لا يتجاوز عدد الأنامل، كأُسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص.

____________________

(١) نهج البلاغة: ١٨١، الخطبة ٩٢، ط عبده.

١٢١

ولم يكن هدف المبايعين إلاّ إرجاع الأُمّة إلى عصر الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليقضى على الترف والبذخ. ولمّا تمَّت البيعة، خطبهم في اليوم الثاني، وبيّن الخطوط العريضة للسياسة الّتي ينوي الالتزام بها طيلة ممارسته للخلافة، فقال في قطايع عثمان الّتي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته: «والله لو وجدته قد تُزوّج به النساء وملك به الإماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق». (١)

قال الكلبي: ثُمَّ أمر عليّ (عليه السّلام) بكلّ سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين، فقُبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة، فقُبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكفِّ عن جميع أمواله الّتي وجدت في داره وفي غير داره، وأمر أن تُرتجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث أُصيبت أو أُصيب أصحابها.

فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بـ (إيلة) في أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فكتب إلى معاوية: ما كنتَ صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه، كما تُقشر عن العصا لحاها. (٢)

ما مارسه الإمام لتحقيق المساواة، من خلال رد قطائع عثمان، كان جَرس إنذار في أسماع عَبَدة الدنيا؛ حيث وقفوا على أنّ علياً لا يساومهم بالباطل على الباطل، ولا يتنازل عن الحق لصالح خلافته، فبدأوا يتآمرون على خلافته الفتيّة في نفس المدينة المنوَّرة وفي مكّة المكرّمة والشامات.

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٥.

(٢) شرح نهج البلاغة: ١/٢٧٠.

١٢٢

قتال الناكثين:

فأوّل من رفع راية الخلاف الشيخان الزبير وطلحة، فنكثا بيعة الإمام وتبعهما طوائف من الناس، فخرجا من المدينة بنيّة العمرة، وهما يحتالان للخروج على الإمام، وقد وصل في ذلك الظرف القاسي كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة (١) ، وأنّ أهل الشام بايعا لهما إمامين مترتبين، فاغترا بالكتاب.

ولمّا اطّلع يعلى بن أُميّة على نيّة طلحة والزبير، أعطى الشيخين أربعمائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى عسكراً، وقد اشتراه باليمن بمائتي دينار، فأتى القوم البصرة، فزحف إليهم عثمان بن حنيف والي البصرة من قبل عليّ، فمانعهم، وجرى بينهم قتال، فلمّا كان في بعض الليالي بيَّتوا عثمان بن حنيف، فأسّروه وضربوه ونتفوا لحيته، فلمّا أرادوا بيت المال، مانعهم الخزّان والموكّلون، إلى أن استولوا عليها بعد حرب طاحنة.

ولمّا وقف الإمام على خروجهم من مكّة متوجّهين إلى البصرة، خرج من المدينة في سبعمائة راكب؛ منهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدرياً وباقيهم من الصحابة، فلمّا تقابل الفريقان، نشبت بينهما حرب طاحنة، قُتل على أثرها طلحة والزبير، ووضعت الحرب أوزارها لصالح عليّ. وكانت الوقعة لعشر خلون من جمادى الآخرة. وقد قُتل فيها من أصحاب عليّ خمسة آلاف، ومن أصحاب الجمل ١٣ ألف رجل، وانتهت بذلك فتنة الناكثين.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ١/٢٠١.

١٢٣

قتال القاسطين:

ولمّا وقف معاوية على أنّ مؤامراته ضد عليّ أُحبطت، وأنّ الشيخين قُتلا في المعركة، واستتب الأمر للإمام، أخذ القلق يساوره، فلمّا قدم النعمان بن بشير بكتاب زوجة عثمان وقميصه المخضّب بالدم إلى معاوية، قرأ معاوية الكتاب، ثُمَّ صعد المنبر وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا؛ حتّى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام، فقالوا: هو ابنُ عمِّك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه... فبايعوه أميراً، وبعث الرُّسل إلى كور الشام، حتّى بايعه الشاميّون قاطبة، إلاّ من عصمه الله. (١)

ولمّا اطّلع الإمام على استعداد معاوية للحرب، قام خطيباً على منبره، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: «سيروا إلى أعداء الله، سيروا إلى أعداء السُّنن والقرآن، سيروا إلى بقيّة الأحزاب، قتلة المهاجرين والأنصار». (٢)

يقول المسعودي: كان مسير عليّ (عليه السّلام) من الكوفة إلى صفّين لخمس خلون من شوّال سنة ست وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود، عقبة بن عمرو الأنصاري، فاجتاز في مسيره بالمدائن، ثُمَّ أتى الأنبار حتّى نزل الرقة، فعقد له هنالك جسر، فعبر إلى جانب الشام، وقد اُختلف في مقدار من كان معه من الجيش، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ٣/١٤١.

(٢) وقعة صفّين: ٩٢ - ٩٣.

١٢٤

وسار معاوية من الشام إلى جانب صفّين، وقد اُختلف في مقدار من كان معه، والمتّفق عليه من قول الجميع خمسة وثمانون ألفاً. (١)

أصبح عليّ يوم الأربعاء، وكان أوّل يوم من شهر صفر، فعبّأ الجيش وأخرج الأشتر أمامه، فأخرج إليه معاوية، حبيب بن مسلمة الفهري،وكان بينهما قتال شديد، وأسفر عن قتلى بين الفريقين جميعاً.

امتدت الحرب كلَّ يوم إلى عاشر ربيع الأوّل عام سبعة وثلاثين، وكان النصر حليفه في كلِّ يوم، إلى أن لم يبق للعدو إلاّ النفس الأخير.

فلمّا أحسّ معاوية وعمرو بن العاص الهزيمة النكراء، التجأوا إلى خديعة نادرة، حيث أمروا بالقُرّاء أن يربطوا مصاحفهم برباط، واستقبلوا عليّاً بخمسمائة مصحف منادين: يا معشر العرب، الله الله في نسائكم وبناتكم، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟، الله الله في دينكم!، هذا كتاب الله بيننا وبينكم!

فقال عليّ: «اللّهم إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنّك أنت الحكيم الحق المبين». فاختلف أصحاب عليّ في الرَّأي. فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعينا إلى حكم الكتاب، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها.

وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش عليّ (عليه السّلام)؛ حيث زعموا أنّ

____________________

(١) مروج الذهب: ٣/١٢١.

١٢٥

اللجوء إلى القرآن لأجل طلب الحق، ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان، وأنّها كلمة حق يراد بها باطل، وأنّ الغاية القصوى منها، إيجاد الشقاق والنفاق في جيش عليّ وتثبيط هممهم؛ حتّى تخمد نار الحرب الّتي كادت أن تنتهي لصالح عليّ وجيشه، وهزيمة معاوية وناصريه.

ولكنّ الذريعة كانت قد وجدت لها طريقاً في جيش العراق، حتّى سُمع من كلِّ جانب الموادعة إلى الصلح والتنازل لحكم القرآن، فلمّا رأى عليّ (عليه السّلام) تلك المكيدة، وتأثيرها في السذّج من جيشهن قام خطيباً، وقال:

«أيّها الناس إنّي أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكنّ معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح؛ ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرف بهم منكم؛ صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، إنّها كلمة حق يراد بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها لأنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الّذين ظلموا». (١)

وقد كان لخطاب عليّ أثر إيجابي في قلوب المؤمنين الواعين؛ حيث أدركوا ماذا خلف الكواليس من مؤامرات وفِتن، وحجبت البساطة فهم ذلك على قلوب القشريّين من أهل البادية، الّذين ينخدعون بظواهر الأُمور، ولا يتعمّقون ببواطنها، ففوجئ عليّ (عليه السّلام) بمجيء زهاء عشرين ألفاً، مقنّعين في الحديد، شاكين سيوفهم، وقد اسودّت جباههم من السجود، يتقدّمهم مسعر بن

____________________

(١) وقعة صفين: ٥٦٠، تاريخ الطبري: ٤/٣٤ - ٣٥.

١٢٦

فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الّذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه، لا بإمرة المؤمنين، وقالوا: يا عليّ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فو الله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

فقال الإمام لهم: «ويحكم، أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله، وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلُّ لي، ولا يسعني في ديني، أن أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون»، قالوا: فابعث إلى الاشتر ليأتينّك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله.

فلم يجد عليّ (عليه السّلام) بدّاً من بعث رسول إلى الأشتر ليأتيه، فأرسل إليه عليّ، يزيد بن هاني أن ائتني، فأتاه، فأبلغه، فقال الأشتر: ائته فقل له: ليس هذه بالسَّاعة الّتي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي؛ إنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هاني إلى عليّ (عليه السّلام) فأخبره، فما هو إلاّ أن عَلَت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار لأهل الشام، فقال القوم لعليّ (عليه السّلام): والله ما نراك أمرته إلاّ بالقتال، قال عليّ (عليه السّلام): «أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟، أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟» ، قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلاّ فو الله اعتزلناك، فقال الإمام: «ويحك يا يزيد، قل له أقبل، فإنّ الفتنة قد وقعت»، فأتاه فأخبره.

فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟، قال: نعم، قال: أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة، إنّها من مشورة ابن النابغة، ثُمَّ قال ليزيد

١٢٧

ابن هاني: ويحك ألا ترى إلى الفتح؟، ألا ترى إلى الّذي يصنع الله لنا؟، أينبغي أن ندع هذا وننصرف له؟!

فقال له يزيد: أتُحبُّ أنّك ظفرت هاهنا، وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الّذي هو به يُفرج عنه، ويسلّم إلى عدوّه؟، قال: سبحان الله، لا والله، لا أحبّ ذلك، قال: فإنّهم قد قالوا له، وحلفوا عليه: لتُرسِلنّ إلى الأشتر فليأتينّك، أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان، أو لسنلّمنّك إلى عدوّك.

فأقبل الأشتر حتّى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذلّ والوهن، أحين علوتم القوم، وظنّوا أنّكم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا سنّة من أنزلت عليه، أمهلوني فواقاً، فإنّي قد أحسست بالفتح؟

قالوا: لا نُمهلك، فقال: أمهلوني عدوة الفرس، فإنّي قد طمعت في النصر؟، قالوا: إذاً ندخل معك في خطيئتك.

قد أثرّت مكيدة رفع القرآن فوق الرماح إلى حدٍّ لم يجد الإمام بدّاً من إيقاف الحرب وتسليم الأمر إلى حكم القوم كُرهاً، إلى أن انتهى الأمر ببعث عليّ قرّاء أهل العراق، وبعث معاوية قرّاء أهل الشام، إلى الاجتماع بين الصفّين، وأجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، وأن يُميتوا ما أمات القرآن، ثمَُّ رجع كلّ فريق إلى أصحابه وقال الناس: رضينا بحكم القرآن.

ففرضوا على عليّ (عليه السّلام) أن يبعث أبا موسى الأشعري من جانبه، وأن يبعث معاوية من أراد؛ حتّى يدَّارسوا حكم القرآن في دومة الجندل، فكتبوا في ذلك صحيفة اتفاق مذكورة في التاريخ. وجاء في آخر الاتّفاق، أنّ اللاّزم على

١٢٨

الحكمين الإدلاء برأيهما إلى انقضاء موسم الحجّ من عام ٣٧هـ، وكتبت الاتفاقيّة لثلاثة عشر بقيت من شهر صفر لسنة ٣٧. (١)

نشوء الخوارج بمخالفتهم لمبدأ التحكيم:

ثُمَّ لمّا تمّ الاتّفاق بإمضاء عليّ ومعاوية، وشهد بالكتاب من أصحاب الطرفين أكابرهما، ندمت الزمرة الّتي فرضت على عليّ إيقاف الحرب والتسليم برأي الحكمين، فحاولوا أن يفرضوا على عليّ نقض العهد، قائلين: بأنّ عملنا هذه يخالف قوله سبحانه: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ ) !!، فقال عليّ (عليه السّلام):

«أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟!؛ أو ليس الله تعالى قال: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وقال: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) ؟!»، فأبى عليّ أن يرجع، وأبى هؤلاء إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه.

جاءت عصابة من قرّاء العراق، وقد سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما ننتظر بهؤلاء القوم أنّ نمشي إليهم بسيوفنا حتّى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق.

فقال لهم عليّ (عليه السّلام): «قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم، ولا يحلّ قتالهم حتّى ننظر بما يحكم القرآن». (٢)

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٤/٥٢.

(٢) وقعة صفّين: ٥٦٩.

١٢٩

انسحاب عليّ إلى الكوفة:

لمّا تمّت الاتفاقيّة، وشهد عليها شهود، وقرئت على الناس، انسحب معاوية إلى الشام، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه وأصحابه، ورافقه المعترضون على التحكيم؛ الّذين عرفوا بالمحكّمة، فدخل الإمام الكوفة؛ دار هجرته، وامتنعت المحكّمة عن الدخول، وذهبوا إلى قرية (حروراء)، كما ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة؛ اعتراضاً على علي وحكمه. وقد أعربوا بعملهم هذا أنّهم متخلّفون عنه، وعن أوامره، وخارجون عن طاعته، ولقد كان لهم ألوان متفاوتة في مخالفتهم، ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لِمَا آل له التحكيم، ونذكر أبرزها:

١ - التظاهر ضد عليّ (عليه السّلام) بقولهم: «لا حكم إلاّ لله» في المسجد وخارجه، خصوصاً عند قيام الإمام بإلقاء الخُطب.

٢ - تكفير عليّ (عليه السّلام) وأصحابه الّذين وفوا بالميثاق.

٣ - تأمين أهل الكتاب، وإرهاب المسلمين، وقتل الأبرياء.

ولكن الإمام (عليه السّلام) قابلهم بالحنان والشفقة، ومن نماذج عطفه، ما رواه الطبري: إنّه قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلاّ لله، وقام آخر فقال مثل ذلك، ثمَُّ توالى عدّة رجال يحكمون!!

فقال عليّ: «الله أكبر كلمة حقّ يراد بها باطل، أما إنّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما

١٣٠

دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتّى تبدؤنا». ثُمَّ رجع إلى مكانه الّذي كان من خطبته. (١)

نهاية التحكيم:

صالح الإمام (عليه السلام) معاوية، وأوكل الأمر إلى الحكمين؛ ليرفعا ما رفع القرآن ويخفضا ما خفض القرآن، ولكن اتّفق الحكمان سرّاً على أن يخلعا علياً ومعاوية عن الحكم؛ حتّى يولّي المسلمون بأنفسهم والياً، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما، خدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، فقال له: تقدّم وأدلي برأيك، فقال: يا أيّها الناس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الأُمّة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألمّ لشعثها، من أمر قد جمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، وتستقبل هذه الأُمّة الأمر، فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم، وإنّي قد خلعت عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً.

ثُمَّ تنحّى، وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبتُ صاحبي معاوية؛ فإنّه وليُّ عثمان بن عفَّان والطالب بدمه وأحقّ الناس بمقامه.

فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله غدرت وفجرت، إنّما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

قال عمرو: إنّ مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً.

فلمّا بلغ علياً ما جرى بين الحكمين، من الحكم على خلاف كتاب الله

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٤/٥٣.

١٣١

وسنّة رسوله، وغدر عمرو بن العاص، وانخداع أبي موسى، قام خطيباً رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران، وقال:

«ألاّ إنّ هذين الرجلين اللّذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله». وقد لبّى دعوة عليّ من البصرة وحوالي الكوفة جمعٌ كثير، وقد اجتمع تحت رايته ثمانية وستون ألفاً ومائتا رجل، واستعد للمسير إلى الشام.

وكان الإمام على أهبة الخروج، فجاءته الأخبار عن الصّفحة الشنيعة للخوارج الّذين كانوا مجتمعين في النهروان، فألحّ الواعون من كبار قؤّاده على مناجزة هؤلاء، ثُمَّ المسير إلى الشام.

وصلت الأخبار إلى عليّ أنّهم يعترضون الطريق، وقد قتلوا عبد الله بن خباب وامرأته، وهي حبلى متم. فخرج الإمام مع جيشه حتّى بلغ جانب النهر، ووقف عليه، فخاطبهم بقوله: «ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أنّ طلب القوم إيّاها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبّأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فعصيتموني، حتّى إذا أقررت بأن حكمت، فلمّا فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنّة، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأوّل».

ولمّا أتمّ الإمام الحجَّة عليهم، ورأى أنّ آخر الدواء الكي، عبّأ

١٣٢

الناس لقتالهم، وانتهت الحرب لصالح عليّ، وإبادة الخوارج.

كانت الخوارج من أهل القبلة، ومن أهل الصلاة والعبادة، وكان الناس يستصغرون عبادتهم عند صلواتهم، فلم يكن قتالهم واستئصالهم أمراً هيّناً، ولم يكن يجترئ عليه غير عليّ (عليه السّلام)؛ ولأجل ذلك قام بعد قتالهم، فقال: «أمّا بعد، حمد الله والثناء عليه، أيّها الناس فإنّي قد فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلبها». (١)

ومع ذلك فللإمام كلمة في حق الخوارج بعد القضاء عليهم، قال: «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه». (٢)

تنبّؤ الإمام في حرب النهروان:

قال المبرد: لمّا وافقهم عليّ (عليه السّلام) بالنهروان، قال: «لا تبدوهم بقتال حتّى يبدأوكم». فحمل منهم رجل على صف عليّ (عليه السّلام)، فقتل منهم ثلاثة، فخرج إليه علي،ّ فضربه فقتله، ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري، وكان على ميمنة عليّ، فقال عليّ (عليه السّلام) لأصحابه: «احملوا عليهم، فو الله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة». فحمل عليهم فطحنهم طحناً، قتل من أصحابه (عليه السّلام) تسعة، وأفلت من الخوارج ثمانية. (٣)

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٩٣.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٦٠.

(٣) الكامل: ٢/١٣٩ - ١٤٠.

١٣٣

تنبّؤ آخر:

لمّا قُتل الخوارج وأفلت منهم من أفلت، قال بعض أصحاب الإمام: يا أمير المؤمنين: هلك القوم بأجمعهم.

فقال: «كلاّ، والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلّما نجم منهم قرن قُطع، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين». (١)

ذكر المؤرّخون قضايا وحوادث تعرب عن أنّ القوم صاروا بعد ذلك لصوصاً سلاّبين، فإنّ دعوة الخوارج اضمحلّت، ورجالها فنيت، حتّى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض.

لقد كانت حرب الإمام في النهروان، حرباً طاحنة، قُتل رجال العيث والفساد، واستأصل شأفتهم، وقضى على رؤوسهم، ولكن لم يكن الخوارج كلّهم متواجدين فيها، بل كانوا متفرّقين في البصرة، ونقاط مختلفة من العراق، فقاموا بانتفاضات ضد عليّ (عليه السّلام) وعمّاله، وكانت الحسرة والخيبة نصيبهم، ولا داعي إلى سردها توخّياً للإيجاز.

الأُصول الفكرية للخوارج:

كانت الخوارج على رأي واحد إلى عصر عبد الله بن الزبير عام ٦٤هـ، وكانت آراؤهم تنحصر في أُصول بسيطة، تتلخّص في:

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٥٩.

١٣٤

١ - تكفير مرتكب الكبيرة.

٢ - إنكار مبدأ التحكيم.

٣ - تكفير عثمان، وعلي، ومعاوية، وطلحة، والزبير، ومن سار على دربهم ورضي بأعمال عثمان وتحكيم عليّ. على هذه الأُصول نشأوا إلى عهد ابن الزبير.

قال الكعبي: إنّ الّذي يجمع الخوارج إكفار عليّ وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل، وكلّ من رضي بتحكيم الحكمين، والخروج على الإمام الجائر، وإكفار من ارتكب الذنوب. (١)

وقال الأشعري: أجمعت الخوارج على إكفار عليّ بن أبي طالب؛ لأنّه حكّم، وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟، وأجمعوا على أنّ كلّ كبيرة كفرن إلاّ النجدات، فإنّها لا تقول بذلك، وأجمعوا على أنّ الله سبحانه يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً، إلاّ النجدات. (٢)

وما ذكره من الاستثناء، دليل على أنّ أكثر هذه الأُصول برزت بينهم في العصر الزبيري وما بعده، لا في عهد الإمام عليّ، ولا في عهد معاوية.

فرق الخوارج:

وقد ظهر ممّا ذكرنا، أنّ الخوارج حركة سياسيّة ظهرت على الساحة

____________________

(١) الفَرق بين الفِرق: ١/٧٣، نقلاً عن الكعبي.

(٢) مقالات الإسلاميين: ١/٨٦.

١٣٥

التاريخيّة، ولم يكن لها جذور كلاميّة، خلافاً لسائر الفِرق؛ ولذلك نرى أنّهم افترقوا إلى فرق مختلفة لفوارق بسيطة، وبما أنّ فرق الخوارج قد بادت كافّة، ولم يبق لها إلاّ فِرقة واحدة - أعني: الإباضيّة، نقتصر على ذكر أسماء الفِرق، ثُمَّ نعرِّج على الفِرقة الباقية (الإباضيّة):

١ - الأزارقة، وهم أتباع نافع بن الأزرق، المقتول سنة ٦٥هـ.

٢ - النجديّة، وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي.

٣ - البيهسيّة، وهم أتباع أبي بيهس، واسمه هيثم بن جابر، طلبه الحجاج أيام الوليد، فهرب إلى المدينة. قتله واليها عثمان بن حيان المزني بأمر الوليد. (١)

٤ - الصفريّة، والمعروف أنّهم أتباع ابن صفار، وذهب الأشعري والشهرستاني إلى أنّهم من أتباع زياد بن أصفر.

هذه هي الفِرق البائدة، والفِرقة الباقية هي الإباضيّة، الّتي تقطن اليوم في نواحي من عُمان وزنجبار وشمال إفريقيا، وهم أتباع عبد الله بن إباض التميمي، وقد عاصر معاوية، وعاش إلى أواخر أيام عبد الملك بن مروان، وهم يفترقون عن سائر الفِرق؛ حيث إنّ مرتكب الكبيرة عند عامّة الفِرق كافر حقيقة، ولكن الإباضيّة ذهبوا إلى أنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم، نظير قوله سبحانه: ( وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

____________________

(١) الملل والنحل: ١/١٢٥.

(٢) آل عمران: ٩٧.

١٣٦

ثُمَّ إنّ كتّاب الإباضية في العصر الحاضر وما قبله، يتحرّجون من أن يُعدّوا من فِرق الخوارج، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ، ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل، بيد مؤسسه عبد الله بن إباض وجابر بن زيد العُماني، فكان الأوّل قائداً مخطّطاً، والثاني قائداً دينياً.

يقولون: إنّ الخوارج هم المتطرفون كالأزارقة، الّذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين، ويستبيحون أموالهم ويستحيون نساءهم، وأمّا غيرهم، الّذين لا يعتنقون هذا المبدأ وما شابهه، فليسوا من الخوارج.

وقد بذلت الإباضيّة في العصور الأخيرة جهوداً في سبيل تنزيههم عن الانتساب إلى هذه الطائفة.

وأمّا عقائد الإباضيّة وأُصولهم، فلا تتجاوز الثمانية:

١ - تخطئة التحكيم، أي إدلاء الأمر إلى الحكمين في حرب صفّين، بعد رفع المصاحف فوق الرماح. وهذا الأصل يتّفق فيه عامّة فِرق الخوارج، ويتميّزوا به عن كافة فرق المسلمين.

٢ - عدم اشتراط القرشيّة في الإمام.

٣ - صفات الله ليست زائدة على ذاته.

٤ - امتناع رؤية الله في الآخرة.

٥ - القرآن حادث غير قديم.

وفي هذه الأُصول الثلاثة الأخيرة يتّفقون مع العدليّة المعتزلة والإماميّة،

١٣٧

وهي أُصول مشرقة في مذهب الإباضية،وإن كان المتأخّرون منهم لا يُولُون لها أهمية.

٦ - الشفاعة دخول الجنّة بسرعة.

٧ - مرتكب الكبيرة كافر نعمة، لا كافر ملة.

٨ - التولّي، والتبرّي، والوقوف.

قد اتّخذ الإباضيّون (التولّي) و(التبرّي) نحلة، ولهما أصل في الكتاب والسنّة، وهما ممّا يعتنقه كلّ مسلم إجمالاً، ولكن التفسير الإباضي لهذين المفهومين، يختلف تماماً مع تفسير الجمهور.

آراء الإباضيّة في الصحابة:

المعروف بين كتّاب الفِرق، أنّ الإباضيّة يحبّون الشّيخين ويبغضون الصهرين، غير أنّ كتّاب الإباضيّة في هذا العصر، ينكرون هذه النسبة، ويقولون: إنّ الدعاية الّتي سلّطها المغرضون على الإباضيّة، نبذتهم بهذه الفِرية، وذهب علي يحيى معمّر في نقد النسبة وتزييفها، إلى نقل الكلمات الّتي فيها الثّناء البالغ على الصّهرين، ينقل عن أبي حفص؛ عمرو بن عيسى، قوله:

وعـلى الـهادي صلاة نشرها

عـنبر مـا خـبّ ساع ورمل

وســلام يـتـوالى وعـلـى

آلـه والصحب ما الغيث هطل

سيّما الصدّيق والفاروق والجامع

الـقـرآن والـشـهم الـبطل

وينقل عن ديوان البدر التلاتي ما يلي:

١٣٨

بـنت الـرسول زوجها وابناها

أهـل لـبيت قـد فـشا سناها

رضـى الإلـه يـطلب التلاتي

لـهم جـميعاً ولـمن عناها (١)

نحن نرحِّب بهذا الودِّ الّذي أمر الله سبحانه به في كتابه بالنسبة إلى العترة الطاهرة؛ إذ قال: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) .

ولكن لا يمكننا التجاهل بأنّهم يحبّون المحكِّمة الأُولى، ويعتبرونهم أئمة، وهم قُتلوا بسيف عليّ!. وهل يمكن الجمع بين الحبّيَن والودّيَن؟!، وقد قال الله سبحانه: ( مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (٣) ، وهل يجتمع حب عليّ وودّه، وحب من كان يكفّر علياً ويطلب منه التوبة؟!، كيف وهؤلاء هم الّذين قلّبوا له ظهر المجن، وضعّفوا أركان حكومته الراشدة؟!

الفتاوى الشّاذة من الكتاب والسنّة:

المذهب الإباضي يدّعي أنّه يعتمد في أُصوله على الكتاب والسنّة، ويتّفق في كثير من أُصوله وفروعه مع مذاهب أهل السنّة، ولا يختلف معها إلاّ في مسائل قليلة.

وما كان اعتماد المذهب الإباضي على الكتاب والسنّة، وعدم تباعده عن مذاهب السنّة، إلاّ لأنّ مؤسّسه، جابر بن زيد، قد أخذ عن الصحابة الّذين أخذ عنهم

____________________

(١) الإباضيّة بين الفِرق الإسلاميّة: ٢/٥٠.

(٢) الشورى: ٢٣.

(٣) الأحزاب: ٤.

١٣٩

أصحاب هذه المذاهب، من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة، بل إنّه يمتاز عن أصحاب هذه المذاهب في أنّه أخذ عن الصحابة مباشرة، بينما هم لم يأخذوا في معظمهم إلاّ من التابعين.

كما أنّ الأحاديث الّتي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجَمّاع الأحاديث من الإباضيّة؛ كالرّبيع بن حبيب وغيره، ليست إلاّ أحاديث وردت في البخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الحديث؛ كأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدار قطني، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم من أهل السنّة.

إنّ الإباضيّة لا يعترفون بالتقليد فيما يأخذون أو يدّعون، حتّى لفقهائهم أنفسهم، والمشهور عنهم، أنّهم يقولون: إنّهم رجال تقييد لا تقليد؛ أي أنّهم يتقيّدون بالكتاب والسنّة، وبما تقيّد والتزم به السلف الصالح، ولا يقلّدون أصحاب المذاهب أو أصحاب الأقوال، إلاّ إذا كانت أقوالهم موافقة للكتاب والسنّة.

وقد حاز العقل في المذهب الإباضي على أهميّة واسعة، وهو عندهم حجّة؛ كالكتاب والسنّة، وليس ذلك أمراً خفيّاً على من سبر كتبهم العقائديّة والفقهيّة، وقد اشتهر عنهم، لا سيّما في القرون الأُولى، بإغناء العقل عن السمع في أوّل التكليف.

وهذا النوع من الاعتماد على العقل، يُعدّ نوع مغالاة في القول بحجّيته، ولأجل هذا التطرف، نجد أنّ لهم فتاوى فقهيّة شاذّة، لا توافق الكتاب والسنّة؛ وإليك نماذج منها:

١ - قد بلغت السماحة وحب السلام أنّ فقهاءهم فضّلوا الصلح بين

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377