المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية0%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 194941
تحميل: 7969

توضيحات:

المذاهب الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194941 / تحميل: 7969
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ب - عطيّاته الهائلة لبني أُمية من بيت المال.

ج - تأسيس حكومة أُمويّة.

د - مواقفه العدائيّة تجاه لفيف من الصحابة.

هـ - إيوائه طريد رسول الله؛ الحكم بن العاص.

إلى غير ذلك من الأُمور الّتي أغضبت جمهور المسلمين وأثارت حفيظتهم، حتّى اجتمعت طوائف من المصريّين والكوفيّين والبصريّين وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه، ولمّا شعروا أنّه لا ينفعه النُّصح، انفجرت ثورتهم عليه، ولم تخمد إلاّ بقتله في عقر داره.

قُتل الخليفة بمرأى ومشهد من الصحابة، وتركت جنازته في بيته حتّى اجتمع المهاجرون والأنصار في بيت علي، وطلبوا منه قبول الخلافة، فلمّا عرضوا عليه مسألة القيادة الإسلامية، أعرض عن قبولها، وقال بجد وحماس: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت له العقول» . (1)

غير أنّ القوم ألحّوا عليه، فقال الإمام: «إذا كان لابد من البيعة، فلنخرج إلى المسجد حتّى تكون بمرأى ومسمع من الناس»، فجاء المسجد، فبايعه المهاجرون والأنصار، في مقدّمتهم:

الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، ولم يتخلّف من البيعة إلاّ قليل، لا يتجاوز عدد الأنامل، كأُسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص.

____________________

(1) نهج البلاغة: 181، الخطبة 92، ط عبده.

١٢١

ولم يكن هدف المبايعين إلاّ إرجاع الأُمّة إلى عصر الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليقضى على الترف والبذخ. ولمّا تمَّت البيعة، خطبهم في اليوم الثاني، وبيّن الخطوط العريضة للسياسة الّتي ينوي الالتزام بها طيلة ممارسته للخلافة، فقال في قطايع عثمان الّتي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته: «والله لو وجدته قد تُزوّج به النساء وملك به الإماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق». (1)

قال الكلبي: ثُمَّ أمر عليّ (عليه السّلام) بكلّ سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين، فقُبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة، فقُبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكفِّ عن جميع أمواله الّتي وجدت في داره وفي غير داره، وأمر أن تُرتجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث أُصيبت أو أُصيب أصحابها.

فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بـ (إيلة) في أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فكتب إلى معاوية: ما كنتَ صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه، كما تُقشر عن العصا لحاها. (2)

ما مارسه الإمام لتحقيق المساواة، من خلال رد قطائع عثمان، كان جَرس إنذار في أسماع عَبَدة الدنيا؛ حيث وقفوا على أنّ علياً لا يساومهم بالباطل على الباطل، ولا يتنازل عن الحق لصالح خلافته، فبدأوا يتآمرون على خلافته الفتيّة في نفس المدينة المنوَّرة وفي مكّة المكرّمة والشامات.

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 15.

(2) شرح نهج البلاغة: 1/270.

١٢٢

قتال الناكثين:

فأوّل من رفع راية الخلاف الشيخان الزبير وطلحة، فنكثا بيعة الإمام وتبعهما طوائف من الناس، فخرجا من المدينة بنيّة العمرة، وهما يحتالان للخروج على الإمام، وقد وصل في ذلك الظرف القاسي كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة (1) ، وأنّ أهل الشام بايعا لهما إمامين مترتبين، فاغترا بالكتاب.

ولمّا اطّلع يعلى بن أُميّة على نيّة طلحة والزبير، أعطى الشيخين أربعمائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى عسكراً، وقد اشتراه باليمن بمائتي دينار، فأتى القوم البصرة، فزحف إليهم عثمان بن حنيف والي البصرة من قبل عليّ، فمانعهم، وجرى بينهم قتال، فلمّا كان في بعض الليالي بيَّتوا عثمان بن حنيف، فأسّروه وضربوه ونتفوا لحيته، فلمّا أرادوا بيت المال، مانعهم الخزّان والموكّلون، إلى أن استولوا عليها بعد حرب طاحنة.

ولمّا وقف الإمام على خروجهم من مكّة متوجّهين إلى البصرة، خرج من المدينة في سبعمائة راكب؛ منهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدرياً وباقيهم من الصحابة، فلمّا تقابل الفريقان، نشبت بينهما حرب طاحنة، قُتل على أثرها طلحة والزبير، ووضعت الحرب أوزارها لصالح عليّ. وكانت الوقعة لعشر خلون من جمادى الآخرة. وقد قُتل فيها من أصحاب عليّ خمسة آلاف، ومن أصحاب الجمل 13 ألف رجل، وانتهت بذلك فتنة الناكثين.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: 1/201.

١٢٣

قتال القاسطين:

ولمّا وقف معاوية على أنّ مؤامراته ضد عليّ أُحبطت، وأنّ الشيخين قُتلا في المعركة، واستتب الأمر للإمام، أخذ القلق يساوره، فلمّا قدم النعمان بن بشير بكتاب زوجة عثمان وقميصه المخضّب بالدم إلى معاوية، قرأ معاوية الكتاب، ثُمَّ صعد المنبر وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا؛ حتّى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام، فقالوا: هو ابنُ عمِّك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه... فبايعوه أميراً، وبعث الرُّسل إلى كور الشام، حتّى بايعه الشاميّون قاطبة، إلاّ من عصمه الله. (1)

ولمّا اطّلع الإمام على استعداد معاوية للحرب، قام خطيباً على منبره، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: «سيروا إلى أعداء الله، سيروا إلى أعداء السُّنن والقرآن، سيروا إلى بقيّة الأحزاب، قتلة المهاجرين والأنصار». (2)

يقول المسعودي: كان مسير عليّ (عليه السّلام) من الكوفة إلى صفّين لخمس خلون من شوّال سنة ست وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود، عقبة بن عمرو الأنصاري، فاجتاز في مسيره بالمدائن، ثُمَّ أتى الأنبار حتّى نزل الرقة، فعقد له هنالك جسر، فعبر إلى جانب الشام، وقد اُختلف في مقدار من كان معه من الجيش، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.

____________________

(1) الكامل في التاريخ: 3/141.

(2) وقعة صفّين: 92 - 93.

١٢٤

وسار معاوية من الشام إلى جانب صفّين، وقد اُختلف في مقدار من كان معه، والمتّفق عليه من قول الجميع خمسة وثمانون ألفاً. (1)

أصبح عليّ يوم الأربعاء، وكان أوّل يوم من شهر صفر، فعبّأ الجيش وأخرج الأشتر أمامه، فأخرج إليه معاوية، حبيب بن مسلمة الفهري،وكان بينهما قتال شديد، وأسفر عن قتلى بين الفريقين جميعاً.

امتدت الحرب كلَّ يوم إلى عاشر ربيع الأوّل عام سبعة وثلاثين، وكان النصر حليفه في كلِّ يوم، إلى أن لم يبق للعدو إلاّ النفس الأخير.

فلمّا أحسّ معاوية وعمرو بن العاص الهزيمة النكراء، التجأوا إلى خديعة نادرة، حيث أمروا بالقُرّاء أن يربطوا مصاحفهم برباط، واستقبلوا عليّاً بخمسمائة مصحف منادين: يا معشر العرب، الله الله في نسائكم وبناتكم، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟، الله الله في دينكم!، هذا كتاب الله بيننا وبينكم!

فقال عليّ: «اللّهم إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنّك أنت الحكيم الحق المبين». فاختلف أصحاب عليّ في الرَّأي. فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعينا إلى حكم الكتاب، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها.

وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش عليّ (عليه السّلام)؛ حيث زعموا أنّ

____________________

(1) مروج الذهب: 3/121.

١٢٥

اللجوء إلى القرآن لأجل طلب الحق، ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان، وأنّها كلمة حق يراد بها باطل، وأنّ الغاية القصوى منها، إيجاد الشقاق والنفاق في جيش عليّ وتثبيط هممهم؛ حتّى تخمد نار الحرب الّتي كادت أن تنتهي لصالح عليّ وجيشه، وهزيمة معاوية وناصريه.

ولكنّ الذريعة كانت قد وجدت لها طريقاً في جيش العراق، حتّى سُمع من كلِّ جانب الموادعة إلى الصلح والتنازل لحكم القرآن، فلمّا رأى عليّ (عليه السّلام) تلك المكيدة، وتأثيرها في السذّج من جيشهن قام خطيباً، وقال:

«أيّها الناس إنّي أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكنّ معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح؛ ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرف بهم منكم؛ صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، إنّها كلمة حق يراد بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها لأنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الّذين ظلموا». (1)

وقد كان لخطاب عليّ أثر إيجابي في قلوب المؤمنين الواعين؛ حيث أدركوا ماذا خلف الكواليس من مؤامرات وفِتن، وحجبت البساطة فهم ذلك على قلوب القشريّين من أهل البادية، الّذين ينخدعون بظواهر الأُمور، ولا يتعمّقون ببواطنها، ففوجئ عليّ (عليه السّلام) بمجيء زهاء عشرين ألفاً، مقنّعين في الحديد، شاكين سيوفهم، وقد اسودّت جباههم من السجود، يتقدّمهم مسعر بن

____________________

(1) وقعة صفين: 560، تاريخ الطبري: 4/34 - 35.

١٢٦

فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الّذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه، لا بإمرة المؤمنين، وقالوا: يا عليّ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فو الله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

فقال الإمام لهم: «ويحكم، أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله، وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلُّ لي، ولا يسعني في ديني، أن أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون»، قالوا: فابعث إلى الاشتر ليأتينّك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله.

فلم يجد عليّ (عليه السّلام) بدّاً من بعث رسول إلى الأشتر ليأتيه، فأرسل إليه عليّ، يزيد بن هاني أن ائتني، فأتاه، فأبلغه، فقال الأشتر: ائته فقل له: ليس هذه بالسَّاعة الّتي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي؛ إنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هاني إلى عليّ (عليه السّلام) فأخبره، فما هو إلاّ أن عَلَت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار لأهل الشام، فقال القوم لعليّ (عليه السّلام): والله ما نراك أمرته إلاّ بالقتال، قال عليّ (عليه السّلام): «أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟، أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟» ، قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلاّ فو الله اعتزلناك، فقال الإمام: «ويحك يا يزيد، قل له أقبل، فإنّ الفتنة قد وقعت»، فأتاه فأخبره.

فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟، قال: نعم، قال: أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة، إنّها من مشورة ابن النابغة، ثُمَّ قال ليزيد

١٢٧

ابن هاني: ويحك ألا ترى إلى الفتح؟، ألا ترى إلى الّذي يصنع الله لنا؟، أينبغي أن ندع هذا وننصرف له؟!

فقال له يزيد: أتُحبُّ أنّك ظفرت هاهنا، وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الّذي هو به يُفرج عنه، ويسلّم إلى عدوّه؟، قال: سبحان الله، لا والله، لا أحبّ ذلك، قال: فإنّهم قد قالوا له، وحلفوا عليه: لتُرسِلنّ إلى الأشتر فليأتينّك، أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان، أو لسنلّمنّك إلى عدوّك.

فأقبل الأشتر حتّى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذلّ والوهن، أحين علوتم القوم، وظنّوا أنّكم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا سنّة من أنزلت عليه، أمهلوني فواقاً، فإنّي قد أحسست بالفتح؟

قالوا: لا نُمهلك، فقال: أمهلوني عدوة الفرس، فإنّي قد طمعت في النصر؟، قالوا: إذاً ندخل معك في خطيئتك.

قد أثرّت مكيدة رفع القرآن فوق الرماح إلى حدٍّ لم يجد الإمام بدّاً من إيقاف الحرب وتسليم الأمر إلى حكم القوم كُرهاً، إلى أن انتهى الأمر ببعث عليّ قرّاء أهل العراق، وبعث معاوية قرّاء أهل الشام، إلى الاجتماع بين الصفّين، وأجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، وأن يُميتوا ما أمات القرآن، ثمَُّ رجع كلّ فريق إلى أصحابه وقال الناس: رضينا بحكم القرآن.

ففرضوا على عليّ (عليه السّلام) أن يبعث أبا موسى الأشعري من جانبه، وأن يبعث معاوية من أراد؛ حتّى يدَّارسوا حكم القرآن في دومة الجندل، فكتبوا في ذلك صحيفة اتفاق مذكورة في التاريخ. وجاء في آخر الاتّفاق، أنّ اللاّزم على

١٢٨

الحكمين الإدلاء برأيهما إلى انقضاء موسم الحجّ من عام 37هـ، وكتبت الاتفاقيّة لثلاثة عشر بقيت من شهر صفر لسنة 37. (1)

نشوء الخوارج بمخالفتهم لمبدأ التحكيم:

ثُمَّ لمّا تمّ الاتّفاق بإمضاء عليّ ومعاوية، وشهد بالكتاب من أصحاب الطرفين أكابرهما، ندمت الزمرة الّتي فرضت على عليّ إيقاف الحرب والتسليم برأي الحكمين، فحاولوا أن يفرضوا على عليّ نقض العهد، قائلين: بأنّ عملنا هذه يخالف قوله سبحانه: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ ) !!، فقال عليّ (عليه السّلام):

«أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟!؛ أو ليس الله تعالى قال: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وقال: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) ؟!»، فأبى عليّ أن يرجع، وأبى هؤلاء إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه.

جاءت عصابة من قرّاء العراق، وقد سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما ننتظر بهؤلاء القوم أنّ نمشي إليهم بسيوفنا حتّى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق.

فقال لهم عليّ (عليه السّلام): «قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم، ولا يحلّ قتالهم حتّى ننظر بما يحكم القرآن». (2)

____________________

(1) تاريخ الطبري: 4/52.

(2) وقعة صفّين: 569.

١٢٩

انسحاب عليّ إلى الكوفة:

لمّا تمّت الاتفاقيّة، وشهد عليها شهود، وقرئت على الناس، انسحب معاوية إلى الشام، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه وأصحابه، ورافقه المعترضون على التحكيم؛ الّذين عرفوا بالمحكّمة، فدخل الإمام الكوفة؛ دار هجرته، وامتنعت المحكّمة عن الدخول، وذهبوا إلى قرية (حروراء)، كما ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة؛ اعتراضاً على علي وحكمه. وقد أعربوا بعملهم هذا أنّهم متخلّفون عنه، وعن أوامره، وخارجون عن طاعته، ولقد كان لهم ألوان متفاوتة في مخالفتهم، ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لِمَا آل له التحكيم، ونذكر أبرزها:

1 - التظاهر ضد عليّ (عليه السّلام) بقولهم: «لا حكم إلاّ لله» في المسجد وخارجه، خصوصاً عند قيام الإمام بإلقاء الخُطب.

2 - تكفير عليّ (عليه السّلام) وأصحابه الّذين وفوا بالميثاق.

3 - تأمين أهل الكتاب، وإرهاب المسلمين، وقتل الأبرياء.

ولكن الإمام (عليه السّلام) قابلهم بالحنان والشفقة، ومن نماذج عطفه، ما رواه الطبري: إنّه قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلاّ لله، وقام آخر فقال مثل ذلك، ثمَُّ توالى عدّة رجال يحكمون!!

فقال عليّ: «الله أكبر كلمة حقّ يراد بها باطل، أما إنّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما

١٣٠

دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتّى تبدؤنا». ثُمَّ رجع إلى مكانه الّذي كان من خطبته. (1)

نهاية التحكيم:

صالح الإمام (عليه السلام) معاوية، وأوكل الأمر إلى الحكمين؛ ليرفعا ما رفع القرآن ويخفضا ما خفض القرآن، ولكن اتّفق الحكمان سرّاً على أن يخلعا علياً ومعاوية عن الحكم؛ حتّى يولّي المسلمون بأنفسهم والياً، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما، خدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، فقال له: تقدّم وأدلي برأيك، فقال: يا أيّها الناس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الأُمّة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألمّ لشعثها، من أمر قد جمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، وتستقبل هذه الأُمّة الأمر، فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم، وإنّي قد خلعت عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً.

ثُمَّ تنحّى، وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبتُ صاحبي معاوية؛ فإنّه وليُّ عثمان بن عفَّان والطالب بدمه وأحقّ الناس بمقامه.

فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله غدرت وفجرت، إنّما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

قال عمرو: إنّ مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً.

فلمّا بلغ علياً ما جرى بين الحكمين، من الحكم على خلاف كتاب الله

____________________

(1) تاريخ الطبري: 4/53.

١٣١

وسنّة رسوله، وغدر عمرو بن العاص، وانخداع أبي موسى، قام خطيباً رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران، وقال:

«ألاّ إنّ هذين الرجلين اللّذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله». وقد لبّى دعوة عليّ من البصرة وحوالي الكوفة جمعٌ كثير، وقد اجتمع تحت رايته ثمانية وستون ألفاً ومائتا رجل، واستعد للمسير إلى الشام.

وكان الإمام على أهبة الخروج، فجاءته الأخبار عن الصّفحة الشنيعة للخوارج الّذين كانوا مجتمعين في النهروان، فألحّ الواعون من كبار قؤّاده على مناجزة هؤلاء، ثُمَّ المسير إلى الشام.

وصلت الأخبار إلى عليّ أنّهم يعترضون الطريق، وقد قتلوا عبد الله بن خباب وامرأته، وهي حبلى متم. فخرج الإمام مع جيشه حتّى بلغ جانب النهر، ووقف عليه، فخاطبهم بقوله: «ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أنّ طلب القوم إيّاها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبّأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فعصيتموني، حتّى إذا أقررت بأن حكمت، فلمّا فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنّة، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأوّل».

ولمّا أتمّ الإمام الحجَّة عليهم، ورأى أنّ آخر الدواء الكي، عبّأ

١٣٢

الناس لقتالهم، وانتهت الحرب لصالح عليّ، وإبادة الخوارج.

كانت الخوارج من أهل القبلة، ومن أهل الصلاة والعبادة، وكان الناس يستصغرون عبادتهم عند صلواتهم، فلم يكن قتالهم واستئصالهم أمراً هيّناً، ولم يكن يجترئ عليه غير عليّ (عليه السّلام)؛ ولأجل ذلك قام بعد قتالهم، فقال: «أمّا بعد، حمد الله والثناء عليه، أيّها الناس فإنّي قد فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلبها». (1)

ومع ذلك فللإمام كلمة في حق الخوارج بعد القضاء عليهم، قال: «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه». (2)

تنبّؤ الإمام في حرب النهروان:

قال المبرد: لمّا وافقهم عليّ (عليه السّلام) بالنهروان، قال: «لا تبدوهم بقتال حتّى يبدأوكم». فحمل منهم رجل على صف عليّ (عليه السّلام)، فقتل منهم ثلاثة، فخرج إليه علي،ّ فضربه فقتله، ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري، وكان على ميمنة عليّ، فقال عليّ (عليه السّلام) لأصحابه: «احملوا عليهم، فو الله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة». فحمل عليهم فطحنهم طحناً، قتل من أصحابه (عليه السّلام) تسعة، وأفلت من الخوارج ثمانية. (3)

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 93.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 60.

(3) الكامل: 2/139 - 140.

١٣٣

تنبّؤ آخر:

لمّا قُتل الخوارج وأفلت منهم من أفلت، قال بعض أصحاب الإمام: يا أمير المؤمنين: هلك القوم بأجمعهم.

فقال: «كلاّ، والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلّما نجم منهم قرن قُطع، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين». (1)

ذكر المؤرّخون قضايا وحوادث تعرب عن أنّ القوم صاروا بعد ذلك لصوصاً سلاّبين، فإنّ دعوة الخوارج اضمحلّت، ورجالها فنيت، حتّى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض.

لقد كانت حرب الإمام في النهروان، حرباً طاحنة، قُتل رجال العيث والفساد، واستأصل شأفتهم، وقضى على رؤوسهم، ولكن لم يكن الخوارج كلّهم متواجدين فيها، بل كانوا متفرّقين في البصرة، ونقاط مختلفة من العراق، فقاموا بانتفاضات ضد عليّ (عليه السّلام) وعمّاله، وكانت الحسرة والخيبة نصيبهم، ولا داعي إلى سردها توخّياً للإيجاز.

الأُصول الفكرية للخوارج:

كانت الخوارج على رأي واحد إلى عصر عبد الله بن الزبير عام 64هـ، وكانت آراؤهم تنحصر في أُصول بسيطة، تتلخّص في:

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 59.

١٣٤

1 - تكفير مرتكب الكبيرة.

2 - إنكار مبدأ التحكيم.

3 - تكفير عثمان، وعلي، ومعاوية، وطلحة، والزبير، ومن سار على دربهم ورضي بأعمال عثمان وتحكيم عليّ. على هذه الأُصول نشأوا إلى عهد ابن الزبير.

قال الكعبي: إنّ الّذي يجمع الخوارج إكفار عليّ وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل، وكلّ من رضي بتحكيم الحكمين، والخروج على الإمام الجائر، وإكفار من ارتكب الذنوب. (1)

وقال الأشعري: أجمعت الخوارج على إكفار عليّ بن أبي طالب؛ لأنّه حكّم، وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟، وأجمعوا على أنّ كلّ كبيرة كفرن إلاّ النجدات، فإنّها لا تقول بذلك، وأجمعوا على أنّ الله سبحانه يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً، إلاّ النجدات. (2)

وما ذكره من الاستثناء، دليل على أنّ أكثر هذه الأُصول برزت بينهم في العصر الزبيري وما بعده، لا في عهد الإمام عليّ، ولا في عهد معاوية.

فرق الخوارج:

وقد ظهر ممّا ذكرنا، أنّ الخوارج حركة سياسيّة ظهرت على الساحة

____________________

(1) الفَرق بين الفِرق: 1/73، نقلاً عن الكعبي.

(2) مقالات الإسلاميين: 1/86.

١٣٥

التاريخيّة، ولم يكن لها جذور كلاميّة، خلافاً لسائر الفِرق؛ ولذلك نرى أنّهم افترقوا إلى فرق مختلفة لفوارق بسيطة، وبما أنّ فرق الخوارج قد بادت كافّة، ولم يبق لها إلاّ فِرقة واحدة - أعني: الإباضيّة، نقتصر على ذكر أسماء الفِرق، ثُمَّ نعرِّج على الفِرقة الباقية (الإباضيّة):

1 - الأزارقة، وهم أتباع نافع بن الأزرق، المقتول سنة 65هـ.

2 - النجديّة، وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي.

3 - البيهسيّة، وهم أتباع أبي بيهس، واسمه هيثم بن جابر، طلبه الحجاج أيام الوليد، فهرب إلى المدينة. قتله واليها عثمان بن حيان المزني بأمر الوليد. (1)

4 - الصفريّة، والمعروف أنّهم أتباع ابن صفار، وذهب الأشعري والشهرستاني إلى أنّهم من أتباع زياد بن أصفر.

هذه هي الفِرق البائدة، والفِرقة الباقية هي الإباضيّة، الّتي تقطن اليوم في نواحي من عُمان وزنجبار وشمال إفريقيا، وهم أتباع عبد الله بن إباض التميمي، وقد عاصر معاوية، وعاش إلى أواخر أيام عبد الملك بن مروان، وهم يفترقون عن سائر الفِرق؛ حيث إنّ مرتكب الكبيرة عند عامّة الفِرق كافر حقيقة، ولكن الإباضيّة ذهبوا إلى أنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم، نظير قوله سبحانه: ( وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (2) .

____________________

(1) الملل والنحل: 1/125.

(2) آل عمران: 97.

١٣٦

ثُمَّ إنّ كتّاب الإباضية في العصر الحاضر وما قبله، يتحرّجون من أن يُعدّوا من فِرق الخوارج، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ، ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل، بيد مؤسسه عبد الله بن إباض وجابر بن زيد العُماني، فكان الأوّل قائداً مخطّطاً، والثاني قائداً دينياً.

يقولون: إنّ الخوارج هم المتطرفون كالأزارقة، الّذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين، ويستبيحون أموالهم ويستحيون نساءهم، وأمّا غيرهم، الّذين لا يعتنقون هذا المبدأ وما شابهه، فليسوا من الخوارج.

وقد بذلت الإباضيّة في العصور الأخيرة جهوداً في سبيل تنزيههم عن الانتساب إلى هذه الطائفة.

وأمّا عقائد الإباضيّة وأُصولهم، فلا تتجاوز الثمانية:

1 - تخطئة التحكيم، أي إدلاء الأمر إلى الحكمين في حرب صفّين، بعد رفع المصاحف فوق الرماح. وهذا الأصل يتّفق فيه عامّة فِرق الخوارج، ويتميّزوا به عن كافة فرق المسلمين.

2 - عدم اشتراط القرشيّة في الإمام.

3 - صفات الله ليست زائدة على ذاته.

4 - امتناع رؤية الله في الآخرة.

5 - القرآن حادث غير قديم.

وفي هذه الأُصول الثلاثة الأخيرة يتّفقون مع العدليّة المعتزلة والإماميّة،

١٣٧

وهي أُصول مشرقة في مذهب الإباضية،وإن كان المتأخّرون منهم لا يُولُون لها أهمية.

6 - الشفاعة دخول الجنّة بسرعة.

7 - مرتكب الكبيرة كافر نعمة، لا كافر ملة.

8 - التولّي، والتبرّي، والوقوف.

قد اتّخذ الإباضيّون (التولّي) و(التبرّي) نحلة، ولهما أصل في الكتاب والسنّة، وهما ممّا يعتنقه كلّ مسلم إجمالاً، ولكن التفسير الإباضي لهذين المفهومين، يختلف تماماً مع تفسير الجمهور.

آراء الإباضيّة في الصحابة:

المعروف بين كتّاب الفِرق، أنّ الإباضيّة يحبّون الشّيخين ويبغضون الصهرين، غير أنّ كتّاب الإباضيّة في هذا العصر، ينكرون هذه النسبة، ويقولون: إنّ الدعاية الّتي سلّطها المغرضون على الإباضيّة، نبذتهم بهذه الفِرية، وذهب علي يحيى معمّر في نقد النسبة وتزييفها، إلى نقل الكلمات الّتي فيها الثّناء البالغ على الصّهرين، ينقل عن أبي حفص؛ عمرو بن عيسى، قوله:

وعـلى الـهادي صلاة نشرها

عـنبر مـا خـبّ ساع ورمل

وســلام يـتـوالى وعـلـى

آلـه والصحب ما الغيث هطل

سيّما الصدّيق والفاروق والجامع

الـقـرآن والـشـهم الـبطل

وينقل عن ديوان البدر التلاتي ما يلي:

١٣٨

بـنت الـرسول زوجها وابناها

أهـل لـبيت قـد فـشا سناها

رضـى الإلـه يـطلب التلاتي

لـهم جـميعاً ولـمن عناها (1)

نحن نرحِّب بهذا الودِّ الّذي أمر الله سبحانه به في كتابه بالنسبة إلى العترة الطاهرة؛ إذ قال: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) .

ولكن لا يمكننا التجاهل بأنّهم يحبّون المحكِّمة الأُولى، ويعتبرونهم أئمة، وهم قُتلوا بسيف عليّ!. وهل يمكن الجمع بين الحبّيَن والودّيَن؟!، وقد قال الله سبحانه: ( مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (3) ، وهل يجتمع حب عليّ وودّه، وحب من كان يكفّر علياً ويطلب منه التوبة؟!، كيف وهؤلاء هم الّذين قلّبوا له ظهر المجن، وضعّفوا أركان حكومته الراشدة؟!

الفتاوى الشّاذة من الكتاب والسنّة:

المذهب الإباضي يدّعي أنّه يعتمد في أُصوله على الكتاب والسنّة، ويتّفق في كثير من أُصوله وفروعه مع مذاهب أهل السنّة، ولا يختلف معها إلاّ في مسائل قليلة.

وما كان اعتماد المذهب الإباضي على الكتاب والسنّة، وعدم تباعده عن مذاهب السنّة، إلاّ لأنّ مؤسّسه، جابر بن زيد، قد أخذ عن الصحابة الّذين أخذ عنهم

____________________

(1) الإباضيّة بين الفِرق الإسلاميّة: 2/50.

(2) الشورى: 23.

(3) الأحزاب: 4.

١٣٩

أصحاب هذه المذاهب، من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة، بل إنّه يمتاز عن أصحاب هذه المذاهب في أنّه أخذ عن الصحابة مباشرة، بينما هم لم يأخذوا في معظمهم إلاّ من التابعين.

كما أنّ الأحاديث الّتي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجَمّاع الأحاديث من الإباضيّة؛ كالرّبيع بن حبيب وغيره، ليست إلاّ أحاديث وردت في البخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الحديث؛ كأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدار قطني، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم من أهل السنّة.

إنّ الإباضيّة لا يعترفون بالتقليد فيما يأخذون أو يدّعون، حتّى لفقهائهم أنفسهم، والمشهور عنهم، أنّهم يقولون: إنّهم رجال تقييد لا تقليد؛ أي أنّهم يتقيّدون بالكتاب والسنّة، وبما تقيّد والتزم به السلف الصالح، ولا يقلّدون أصحاب المذاهب أو أصحاب الأقوال، إلاّ إذا كانت أقوالهم موافقة للكتاب والسنّة.

وقد حاز العقل في المذهب الإباضي على أهميّة واسعة، وهو عندهم حجّة؛ كالكتاب والسنّة، وليس ذلك أمراً خفيّاً على من سبر كتبهم العقائديّة والفقهيّة، وقد اشتهر عنهم، لا سيّما في القرون الأُولى، بإغناء العقل عن السمع في أوّل التكليف.

وهذا النوع من الاعتماد على العقل، يُعدّ نوع مغالاة في القول بحجّيته، ولأجل هذا التطرف، نجد أنّ لهم فتاوى فقهيّة شاذّة، لا توافق الكتاب والسنّة؛ وإليك نماذج منها:

1 - قد بلغت السماحة وحب السلام أنّ فقهاءهم فضّلوا الصلح بين

١٤٠