المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212797 / تحميل: 9439
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

النخيلة لم يتجاوز الأربعة آلاف مقاتل (1) ، وربما انخفض إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة مقاتل (2) إبان المعركة الفاصلة ، وكان من أبرز المتخلفين شيعة المدائن والبصرة (3) ، فضلاً عن تخلّف عدد غير قليل من شيعة الكوفة.

وما كان لعزوف الكثيرين عن تلبية دعوة سليمان في (النخيلة) ، أي تأثير على معنويات زعماء الحركة أو أي انعكاس على عزائمهم الثابتة.

فقد بلغ بهم الإيمان حدّا جعلهم لا يفكرون إلاّ بالهدف الذي خرجوا من أجله ، ولن يعيقهم عن الحقيقة عائق مهما بدت الطريق إليه صعبة وشائكة. ثم كانت وفاة يزيد وما تبعه من انقسام بني أمية.

فاعتبرها التوابون نصرا لهم ، وظن ابن صرد ، أن وفاة الطاغية الملعون يزيد ستؤدي إلى التفاف الناس حوله ، فما يكتب لحركة التوابين النصر.

تقدم (التوابون) ، حتى بلغوا قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهناك استرحموا عليه ، وبكوا بكاءً مرا ، وهم يردّدون في خشوع :

« اللهمّ إنا نشهدك على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبّيهم ، اللهمّ إنا خذلنا ابن بنت نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاغفر لنا ما مضى منا ، وتب علينا ، وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين ، وإنا نشهدك إنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

وبقي سليمان آخر من بقي من أصحابه يتضرّع عند القبر الشريف ، ويستغفر لذنوبه ، ويأتي آخر وهو (وهب بن زمعة) فيبكي الحسين بأبيات

__________________

(1) الطبري 7 : 67 ، ابن الأثير 2 : 252.

(2) الفتوح / ابن الاعثم الكوفي 5 : 214.

(3) الطبري 7 : 69.

٤١

(عبد اللّه بن الحر الجعفي) كأنه أراد أن يواسي أميره بالبكاء واللوعة والتوبة :

تبيت النشاوى من أُمية نوما

وبالطف قتلى ما ينام حميمها

فأقسمت لا تنفك نفسي حزينة

وعيني تبكي لا تجف سجومها

حياتي أو تلقى أُمية خزية

يذلّ لها ـ حتى الممات ـ قروحها

ثم ساروا إلى الأنبار ومنها إلى قرقيسيا ، وكان بها زفر بن الحارث الكلابي عامل ابن الزبير ، فقدم لهم المال والمؤن ، وعرض عليهم البقاء في قرقيسيا وتوحيد جهودهم ليسهّل لهم القضاء على ابن زياد ، ولكن ابن صرد أصرّ على المسير لقتال ابن زياد قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

وكان ابن زياد في طريقه إلى قرقيسيا فأتته الأنباء بوفاة مروان بن الحكم ، وتولّيه ابنه عبد الملك ، الذي أرسل إليه يقرّه على ما ولاّه أبوه مروان ، فسار ابن زياد حتى لقى (التوابين) ، عند عين الوردة (1) فطلب منهم أن يبايعوا الخليفة الأموي الجديد عبد الملك ، فردّ عليه ابن صرد طالبا منه الاستسلام ، كما دعا جند الشام إلى خلع عبد الملك ومساعدة التوابين في إخراج عمال ابن الزبير من العراق ، وتسليم الأمر إلى أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) وكأن التوابين كانوا يعبرون تماما في ذلك الحين عن آراء المختار ومبادئه ، فقد كان المختار يدعو إلى القضاء على كل من النفوذين الأموي والزبيري بالعراق ، كما يدعو إلى إقامة خلافة علوية ، ولكن التوابين والأمويين أبوا إلاّ أن يقاتلوا في سبيل

__________________

(1) رأس عين نبع على بضعة أميال إلى الشمال من قرقيسيا على نهر الفرات ، انظر ابن الأثير 4 : 76.

(2) أنساب الأشراف / البلاذري 5 : 21.

٤٢

الأغراض التي خرجوا من أجلها.

وكان من البديهي ، أن يرفض القائد الأموي شروط زعيم التوابين ، وكان معنى ذلك أن الحرب أصبحت وشيكة الوقوع.

وفعلاً اندفع التوابون من مواقعهم بقيادة سليمان بن صرد ، والتحموا مع قوات الحصين بن نمير السكوني ، والأموية التي تفوقهم كثيرا في العدد ، وذلك في يوم الأربعاء في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 65 هـ (4 كانون الثاني 685م) بعد خمسة أيام من نزولهم في (عين الوردة) (1).

ويظهر من سير الاشتباكات الأولية ، أن وضع (التوابين) ، ـ برغم قلّتهم العددية ـ كان جيدا ، ومعنوياتهم بارتفاع دائم ، أما الحماس فقد بلغ حدّا لا يوصف ، وكانت تستثيره نداءات سليمان في صخب المعركة فتزيده التهابا وتأجّجا : «يا شيعة آل محمد ، يا من يطلبون بدم الشهيد ابن فاطمة ، أبشروا بكرامة اللّه عزّوجلّ ، فواللّه ما بينكم ودخول الجنّة ، والراحة من هذه الدنيا إلاّ فراق الأنفس ، والتوبة ، والوفاء بالعهد) ، وفي وسط المعمعة كان صوت سليمان يخترق الأذان مردّدا : «عباد اللّه ، من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه ، والوفاء بعهده فإليّ» (2).

وكانت هذه الكلمات آخر ما ردّده القائد التوّابي وهو يشقّ بسيفه صفوف الأمويين بكلّ جرأة ، ورباطة جأش.

وانتهت معركة عين الوردة بقتل سليمان بن صرد ومعظم أصحابه (3).

__________________

(1) الخوارج والشيعة / فلهوزن : 195.

(2) الطبري 7 : 76.

(3) تاريخ الطبري 5 : 599 ، البداية والنهاية 8 : 254.

٤٣

وهكذا أخفقت ثورة التوابين في تحقيق أهدافها وتحطّمت قوتها الأساسية في (عين الوردة) للأسباب التالية :

1 ـ الاختلال الظاهر في ميزان القوى بين الجيش الأموي والتوابي ، حيث كان عدد أفراد الجيش التوابي ، أربعة آلاف ، أو أقل. في حين تجاوز تعداد الجيش الأموي العشرين ألفا (1) وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن الجيش الأموي بلغ الستين ألفا (2).

هذا مع عدم وفاء بعض القبائل العربية بعهودها لقاء الثورة بسبب الضغوط الأموية أو بسبب رشوتهم. حيث قيل أن عدد متطوعي ثورة التوابين ارتفع إلى نحو عشرين ألفا ، قبل الشروع في المعركة ، في حين أن الذين اشتركوا مشاركة فعلية في تلك المعركة قدر عددهم بأربعة آلاف ، أو أقل بكثير.

2 ـ عدم قضاء الثوار على زعماء الكوفة ، والموالين للأمويين والذين قد شاركوا مشاركة فعلية في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ، أولئك الزعماء ، باتوا يعملون المستحيل للحيلولة دون التحاق المزيد من الثوار بحركة سليمان بن صرد.

3 ـ عدم تعاون الثوار مع ابن الزبير والذي كان يسعى هو الآخر للإطاحة بالأمويين أيضا. إذ كان من الممكن أن يمدّهم بشيء من أسباب الانتصار كما انهم لم يتحالفوا مع المختار ، كما يقتضي الحال بوحدة هدفهم (الأخذ بثار الإمام الحسين) ، والحق أننا لم نقف على سبب يحول دون تحقيق ذلك التحالف ، وبإمكاننا أن نعلّل ذلك بتأثير جماعة سليمان بما روّجه الأمويون

__________________

(1) البداية والنهاية / ابن كثير 8 : 251 ، ابن الأثير 8 : 252.

(2) الطبري 5 : 583 ، تاريخ خليفة 1 : 331.

٤٤

من كون المختار كان يهدف إلى الوصول للسلطة.

4 ـ كان الإعلام للثورة ضعيفا جدا ، إذ انحصر موطنه في الكوفة وأطرافها ، ولم يتعدَّ هذه الحدود ، ولو كان قد امتدّ إلى ما وراء تلك الحدود لجذب أنصارا آخرين لصفوف الثورة.

5 ـ عدم اهتمام الثوار بالقاعدة ، فلو سيطر سليمان على الكوفة سيطرة كاملة لكانت فرص النجاح بالنسبة إليه أكثر ، لكنه فكر في رأس عبيد اللّه وجعله الهدف الأساسي لثورته.

6 ـ كان يفترض بسليمان أن يحارب الانحراف السائد في مجتمعه ، وبالتالي أن يهيء المجتمع للقيام بالثورة. وبمعنى أدقّ كان عليه أن يحارب من أجل الأهداف التي خرج بسببها الإمام الحسينعليه‌السلام .

7 ـ لم يعتمد سليمان على الموالي المعروفين بحبّهم وولائهم لآل البيت إذ كانوا يشكّلون الأكثرية المسحوقة ، والمحرومة ، والمستضعفة في الكوفة قاعدة الثورة ، كما فعل المختار في ثورته.

وعلى أية حال : تبقى عدّة أسئلة تدور في الذهن حول أهم الأسباب التي أدّت إلى اندلاع ثورة التوابين منها :

هل إن التوابين نهضوا بوحي من آل الزبير الذين كانوا ـ بلا ريب ـ يودّون في قرارة أنفسهم أضعاف بني أمية والقضاء على حكمهم؟ أم أنهم ثاروا بتحريض من بعض الأحزاب المعارضة للدولة الأموية آنذاك ، ولو كانت الدعوة العباسية في بدايتها لاحتملنا أن تكون هذه الحركة من تحريضها فعلى هذا التقريب لم تكن هذه المحتملات صحيحة ولا قريبة من الواقع.

وإتماما لذلك نرى أن احتمالاً أخيرا قد يخطر على الذهن يتعلّق

٤٥

بسليمان بن صرد ـ زعيم الحركة ـ كونه المؤثّر الخارجي على هؤلاء الجماعة لأجل أن يستغلّها للحصول على السيطرة أو الزعامة ، ولكننا نقول على الفور من أن هذا الاحتمال باطل كسوابقه حيث أن التاريخ لم يذكر لنا هذا الاحتمال الذي يمكن بسهولة أن يتقول به الأمويون وهم في سلطانهم بعدما فشل سليمان في حركته وقتل ، ومعروف ما في الأمويين من صفة التهريج والتشنيع على معارضيهم ، فالذين يتّهمون الإمام الحسين ـ ابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأنّه خارجي فمن السهل إذن أن يتّهموا سليمان بأشنع التهم وأفظعها ، وعلى هذا فإنّ سليمان بريء من احتمال حيازة السلطة أو الزعامة إلى نفسه ، وحقيقة الأمر كما نرى أنه رجل كسائر التوابين غير أنه امتاز عليهم بالحنكة السياسية والدهاء العسكري ، ولذا وقع عليه الاختيار وتزعّم الحركة التوابية.

وعلى الرغم من فشل ثورة التوابين لكنها أعطت الغذاء والقاعدة لثورة المختار فيما بعد.

٤٦

بوادر ثورة المختار

بعد أن خرج سليمان بن صرد الخزاعي ، واتباعه لقتال ابن زياد ، وأهل الشام ، أثارت نشاطات المختار شكوك قادة الكوفة ، الذين كان كثير منهم قد شارك في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

فقد حذروا الوالي الزبيري من المختار قائلين : «أن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد. أن سليمان إنّما خرج يقاتل عدوكم ، ويذللهم لكم ، وقد خرج عن بلادكم ، وأن المختار ، إنّما يريد ، أن يثب عليكم في مصركم».

ولو حللنا مضمون تحذير زعماء الكوفة للوالي الزبيري من المختار لاستنتجنا ، أن من وراء هذا التحذير أسبابا خاصة منها :

1 ـ أن أغلبهم كانوا متهمين بالاشتراك مع النظام الأموي في واقعة الطف. وبما أن المختار ، توعّد كل من اشترك ، أو قام بالتواطئ على قتل الحسينعليه‌السلام ، فمن مصلحتهم والحال هكذا ، أن يحذروا الوالي من تحرك المختار.

2 ـ لعلّ والي الكوفة هو الذي بثّ مثل هذا الخبر ، خوفا على منصبه الذي سيخرجه منه المختار رغم أنفه فيما بعد ، ولخشيته أن لا يُحرج مع ابن الزبير في حالة تعاطفه مع المختار.

3 ـ أو ربما أن ابن الزبير هو الذي كلّف زعماء الكوفة لإشاعة مثل هذا

٤٧

الخبر ، للإيقاع بالمختار ، لتخوّفه منه ، إذ قد يعد المختار جيشا ويزحف به إليه ، ويقصيه عن عرشه.

ونتيجة لذلك قُبِضَ على المختار وسجن ، حيث بقى حتى رجوع أتباع سليمان بن صرد من المعركة (عين الوردة) ، 63ه ، التي استُشهد فيها سليمان ومعظم أتباعه ، ولما قدم أصحاب سليمان بن صرد من الشام ، كتب إليهم المختار من الحبس :

« أما بعد : فإنّ اللّه أعظم لكم الأجر ، وحطّ عنكم الوزر ، بمفارقة القاسطين ، وجهاد المحلين ، إنكم لن تنفقوا نفقة ، ولم تقطعوا عقبة ، ولم تخطوا خطوه ، إلاّ رفع اللّه لكم بها درجة ، وكتب لكم حسنة ، فابشروا فإنّي لو خرجت إليكم ، جرّدت فيما بين المشرق والمغرب من عدوكم بالسيف بإذن اللّه ، فجعلتهم ركاما ، وقتلتهم فردا ، وتوأما ، فرحم اللّه لمن قارب واهتدى ولا يبعد اللّه إلاّ من عصى وأبى ، والسلام يا أهل الهدى » (1).

فلما جاء كتابه ، وقف عليه جماعة من رؤساء القبائل وأعادوا الجواب : « قرأنا كتابك ، ونحن حيث يسرك ، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك من الحبس فعلنا ». فأخبره الرسول ، فسرّ باجتماع الشيعة له ، وقال : « لا تفعلوا هذا فإنّي أخرج في أيامي هذه » ، وكان المختار قد بعث إلى عبد اللّه بن عمر بن الخطاب : « أما بعد فإنّي حبست مظلوما ، وظن بي الولاة ظنونا كاذبة ، فأكتب فيّ رحمك اللّه إلى هذين الظالمين ، وهما عبد اللّه بن يزيد الخطمي ، وإبراهيم ابن محمد ، كتابا عسى اللّه أن يخلّصني من أيديهما بلطفك ومنِّك ، والسلام

__________________

(1) البحار 45 : 363.

٤٨

عليك » (1).

فكتب إليهما ابن عمر : « أما بعد فقد علمتما الذي بيني وبين المختار من الصهر ، والذي بيني وبينكما من الودّ ، فأقسمت عليكما لما خلّيتما سبيله ، حين تنظران في كتابي هذا والسلام عليكما ، ورحمة اللّه وبركاته » (2).

فلما قرءا الكتاب ، طلبا من المختار كفلاء فأتاهم بجماعة من أشراف الكوفة ، فاختار منهم عشرة ضمنوه ، وحلفوه أن لا يخرج عليهما ، فإن هو خرج فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ، ومماليكه كلهم أحرار. فخرج وجاء داره.

قال حميد بن مسلم ، سمعت المختار يقول : « قاتلهم اللّه ما أجهلهم ، وأحمقهم حيث يرون أني أفي لهم بايمانهم هذه. أما حلفي باللّه فإنّه ينبغي إذا حلفت يمينا ، ورأيت ما هو أولى منها أن أتركها ، وأعمل الأولى ، وأكفر عن يميني ، وخروجي خير من كفيّ عنهم ، وأما هدي ألف بدنة فهو أهون علي من بصقة ، فوددت أن يتمّ لي أمري ولا أملك بعده مملوكا أبدا (3).

ويبدو لنا ، أن المختار كان قد حلف على أساس من التقوى ، وهو مضطر معتمدا على فحوى قوله تعالى :( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْءَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ

__________________

(1) الطبري 6 : 8.

(2) الطبري 6 : 8.

(3) الطبري 6 : 9.

٤٩

تَشْكُرُونَ» (1) وهنا يجب أن نلتفت إلى أمرين ، هما :

الأمر الأول : أنّ المختار كان متعطّشا لملاقاة قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، خاصة وأنّه قد أحسّ بأنّهم أمنوا الطلب ، وأن الناس قد هرمت قلوبهم ، وقد استسلموا للكسل في طلب ثار آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فقد أراد أن يكسب وقتا ليحرّك فيه الناس ويدبر دوافع الثورة والثأر.

الأمر الثاني : استهانة المختار بملك الدنيا ، والمتمثل بالمال والعبيد الذين كان يملكهم.

على أية حال ، استقرالمختار في داره ، واختلف إليه الناس ، واجتمعت عليه ، واتفقوا على الرضا به ، وكان قد بويع له وهو في السجن ولم يزالوا يكثرون ، وأمرهم يقوى ويشتد. وقد أدرك عبد اللّه بن الزبير في هذا الوقت خطر المختار وحركته ، فعيّن واليا جديدا على الكوفة هو عبد اللّه بن مطيع. الذي قدمها في 27 رمضان سنة 65 (6 مايس سنة 685م) وقد مكن قدوم هذا الوالي الجديد ، المختار من العمل بحرية أكثر ، إذ لم تكن بينهما أية ارتباطات أو عهود (2).

وفي خطبته الأولى أخبر ابن مطيع أهل الكوفة بأنّه سيسير معهم بسيرة عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وحذّرهم من الفرقة وإثارة المتاعب (3).

وعلى الرغم من ذلك فقد عارض الكوفيون هذا الوالي علنا ، حتى أجبروه على التراجع فأعلن في النهاية أنه سيتّبع السياسة التي تعجبهم (4).

__________________

(1) سورة المائدة : 5 / 89.

(2) الخلافة الأموية / د. عبد الأمير دكسن : 70.

(3) الطبري 6 : 10.

(4) الطبري 6 : 11.

٥٠

لقد ظهرت هذه المعارضة العلنية للوالي الجديد بصورة واضحة ، وعدم إطاعتهم لعبداللّه بن الزبير ، وكذلك عكست القوة التي أصبح عليها المختار وأتباعه.

في هذا الوقت بدأ المختار ، يستعد للسيطرة على الكوفة في محرم 66 هـ (آب 685م) ، فأرسل لأتباعه وأخذ يجمعهم في الدور حوله ، وبينما هو منشغل في التحضير للثورة ، شك جماعة من بين أتباعه في ادعائه أن ابن الحنفية (1) أرسله إليهم ، فقرروا الذهاب إلى مكة ليسألوه عن ادعاء المختار هذا ، وفي مكة التقى الوفد بمحمد بن الحنفية ، فلما سمع كلامهم قال لهم : «قوموا بنا إلى إمامي ، وإمامكم علي بن الحسين» ، فلما دخل ودخلوا

__________________

(1) هو محمد بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي وكنيته أبو عبد اللّه وقيل أبا القاسم ، أمه خولة بنت جعفر بن قيس بن بكر بن وائل. ويقال أنها من سبي اليمامة فصارت إلى الإمام عليعليه‌السلام ، وأخو الحسن والحسينعليهما‌السلام ابني فاطمة الزهراءعليها‌السلام . وأما سبب تسميته بابن الحنفية ، أن أباه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كان له ثلاثة أولاد محاميد وهم محمد الأكبر ، ومحمد الأوسط ، ومحمد الأصغر. أما الأصغر فكنيته أبو بكر ، وأمه ليلى بنت مسعود ، وهو الذي استشهد مع اخوته في واقعة الطف بكربلاء. وأما الأكبر فلقب بلقب أمه خولة كي يميزه عن الآخرين ، الأوسط والأصغر.

واختلفت الآراء في وفاتهرضي‌الله‌عنه فقيل توفي في أول محرم 72 ـ 73 هـ بالمدينة المنورة ، ودفن بالبقيع وقيل إنّه توفي ببلاد أيلة. وايليا اسم مدينة ببيت المقدس ، وقيل معناه بيت اللّه. وقد سمي بيت المقدس ايليا بقول الفرزدق :

وبيتان بيت اللّه نحن ولاته

وقصر بأعلى إيليا مشرق

معجم البلدان / الحموي البغدادي 1 : 294 ، أجوبة المسائل الدينية / السيّد عبد الرضا الحسيني المرعشي الشهرستاني 3 : 85.

٥١

عليه ، أخبر خبرهم الذي جاءوا لأجله. قال : «يا عم لو أن عبدا زنجيا تعصّب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد ولّيتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت ».

فخرجوا وقد سمعوا كلامه ، وهم يقولون : « أذن لنا زين العابدين ، ومحمد ابن الحنفية » (1). وبعد شهر عاد الوفد ، وأخبر المختار بأن ابن الحنفية أمرهم بتأييده ، ونصرته. عند ذلك جمع المختار أهل الكوفة وأعلن لهم تأييد علي ابن الحسينعليهما‌السلام ومحمد بن الحنفية له.

وقد أكّد ذلك رئيس الوفد وأتباعه الذين خطبوا بهذه المناسبة ، ثم أن المختار جمع من كان قريبا فقال :

« يا معشر الشيعة ، إن نفرا أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به ، فخرجوا إلى إمام الهدى ، والنجيب المرتضى ، وابن المصطفى المجتبى ، علي زين العابدينعليه‌السلام ، فعرفهم ، أني ظهيره ، ورسوله ، وأمركم باتباعي وطاعتي » (2).

ويرى البلاذري أن وجوها من الشيعة جاءوا لمحمد بن الحنفية وقالوا : « أنكم أهل بيت قد خصّكم اللّه بالفضيلة وشرّفكم بالنبوة وقد أصبتم بحسينرحمه‌الله ، وأتانا المختار يزعم أنه جاء من تلقائك يطلب بدمه فمرنا بأمرك؟» فقال ابن الحنفية : « إنّ الفضل من اللّه يؤتيه من يشاء وما جاءكم المختار إليه فواللّه لوددت أن اللّه انتصر لنا بمن شاء » (3).

فقالوا : هذا إذن منه رخصة.

__________________

(1) البحار 45 : 365.

(2) البحار 45 : 365.

(3) أنساب الأشراف 5 : 221.

٥٢

أما اليعقوبي ، فيؤكّد أن محمدا كان يشجّع دعوة المختار شأنه في ذلك شأن من سبقه حيث قال ابن الحنفية لهم حينما سألوه : « ما أحبّ إلينا من طلب بثأرنا وأخذ لنا حقّنا وقتل عدونا » (1).

والمقدسي يرى أن محمد بن الحنفية كان سبب قيام المختار بالدعوة (2).

ولكن (محمد بن الحنفية) ، لم يستقل بإعطاء الرأي وحده دون أن يأخذ رأي ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، فقد قال له كما تقدم : «يا عم لو أن عبدا زنجيا تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت ».

وبذلك ، أصبح المختار قائدا ، وواليا رسميا على الكوفة وحواضرها. فلنمضِ سوية مع المختار القائد. لنشاهده وهو يهوي بسيف الحق على رقاب الذي أضلّوا طريق اللّه.

ولا بأس أن تشير قبل الحديث عن المختار القائد إلى أن أذناب الشجرة الملعونة ورواتها قد أشاعوا الكذب على المختار الثقفيرحمه‌الله لا سيّما إمامهم الشعبي سفير طاغية بلاط الشام وسفيره إلى الروم ، ومن ثم تلقّفت مزاعمه كثير من الأبواق المأجورة المحسوبة على الخط الأموي ، ولم تزل كذلك إلى يوم الناس هذا.

__________________

(1) التاريخ 2 : 308.

(2) البدء والتاريخ 6 : 20.

٥٣

المختار ، وابن الأشتر

كان المختار يرى أن انضمام إبراهيم بن مالك الأشتر (1) إلى قواته ، سيؤدّي إلى ترجيح كفته ، وسيساعده على تحقيق النصر ، خاصة وأنه مقبل على رحلة صعبة ومعقّدة ، تتمثّل بمواجهة الأمويين الذين بدّلوا نهج اللّه ورسوله بنهج أبي سفيان وجاهليته.

إن تصرفا مثل هذا لا يصدر إلاّ عن ذي عقل راجح ، فمكانة إبراهيم بين أفراد قبيلته (مذحج) عظيمة جدا ، إذ أن وجود إبراهيم إلى جانب المختار سيزيد من احتمالات تحقيق انتصاره على الأمويين بشكل عام ، وعلى قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام بشكل خاص.

إن عقل المختار يهضم ما قد يصعب فهمه على بعضهم فهو جمّ من

__________________

(1) قال الطبري في التاريخ ، الأشتر مالك بن الحارث بن عبيد بن يغوث بن مسلمة ابن ربيعة بن الحارث بن جديمة بن سعد بن مالك بن النخع بن مذحج. وهو والد إبراهيم.

ولد في عصر الجاهلية ، وكان رئيس قومه ، لقب بالأشتر ، لضربه من قبل رجل من أياد يوم اليرموك على رأسه فسالت الجراحة إلى عينيه فشتر به.

مات الأشتررحمه‌الله سنة 39 هـ في مصر ، سمه الوغد معاوية بن أبي سفيان. وكان مالك رضي اللّه تعالى عنه من أصحاب الإمام عليعليه‌السلام ، وشهد معه الجمل ، وصفين ومشاهده كلها.

٥٤

التواضع والرحمة ، واللين ، وشديد ، وصلب عنيف في المواقف الصعبة ، ولا ينقص من قدر المختار ، أو يناله بسوء ما ذهب إليه ، وروّجه بعض كتبة التاريخ والسير الدائرين في فلك الأفق المعادي لأهل البيتعليهم‌السلام من أن المختار كان يهدف إلى غاياته الخاصة ، حيث يطمح بالاستحواذ على الكوفة والسلطة ، غير أن الحقيقة عكس ذلك. لأنّ وجهته كانت للّه ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولآلهعليهم‌السلام ، واستشهاده في سبيل ذلك خير دليل ، وشهادة متينة على ما نقول.

وبعد أن استقرّ الوضع للمختار ، رحّب إبراهيم بالزعيم الجديد ترحيبا حارا افتتح المختار معه الكلام : « إنَّ اللّه أكرمك وأباك في موالاة بني هاشم ونصرتهم ومعرفة فضلهم وما أوجب اللّه من حقهم ـ ثم قال ـ وهذا كتاب محمد بن علي وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء اللّه ورسله يأمرك أن تنصرنا وتؤازرنا ، فإن فعلت اغتبطت ، وإن امتنعت فهذا الكتاب حجّة عليك ، وسيغني اللّه محمدا وأهل بيته عنك ».

يقول الشعبي وهو من رواة الشجرة الملعونة : «وكان المختار قد دفع إليّ كتابا مختوما حين خرجنا إلى المنزل فلما فرغ من كلامه هذا ، قال : ادفع الكتاب إلى إبراهيم ، فدفعه إليه ففضّه وقرأه فإذا فيه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر. سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو.

أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي ، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنّك إن نصرتني وأجبت دعوتي ، كانت لك بذلك عندي فضيلة ، ولك أعنَّة الخيل وكل جيش غازٍ وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة

٥٥

وأقصى بلاد الشام.

عليّ الوفاء بذلك ، عليَّ عهد اللّه فإن فعلت نلت به عند اللّه أفضل الكرامة ، وإن أبيت هلكت هلاكا لاتستقيله أبدا » (1).

تلكّأ إبراهيم بادي الأمر ، لكنه سرعان ما قبل الفكرة ، وبايع المختار حينما شهد له مشيخة المصر والثقاة فيهم.

وبعد مداولات ناجحة قام بها المختار مع إبراهيم ، انضم إبراهيم إلى قوات المختاررضي‌الله‌عنه .

كان لانضمام إبراهيم بن الأشتر إلى المختار كسبا عظيما لحركته ، فقد كان ابن الأشتر من أبرز شخصيات عصره ، كما كان عصبة قوية أصبحت تضمّها صفوف المختار.

وقد انتهى بانضمام ابن الأشتر ورجاله إلى المختار دور الاستعداد للثورة ، وبدأ الدور الإيجابي ، دور الثورة.

وكان إبراهيم ظاهر الشجاعة ، واري زناد الشهامة ، نافذ حد الصراحة ، مشمّرا في محبّة أهل البيتعليهم‌السلام عن ساعديه ، متلقّيا راية النصح بكلتا يديه ، فجمع عشيرته ، وإخوانه ، وأهل مودّته ، وأعوانه ، وكان يتردّد بهم إلى المختار في هامة الليل ، ومعه حميد بن مسلم الأزدي ، حتى تصوب النجوم ، وتنفض الرجوم ، وقد اجتمع رأي المختار ، وأصحابه على الثورة وحدّدوا يوم الخميس 14 ربيع الأول سنة 66 هـ الثلاثاء (19 تشرين الأول سنة 685م).

وكان إياس بن مضارب صاحب شرطة عبد اللّه بن مطيع أمير الكوفة ،

__________________

(1) جمهرة رسائل العرب 2 : 126.

٥٦

فقال له : « إنّ المختار خارج عليك لا محالة ، فخذ حذرك ، ثم خرج إياس مع الحرس ، وبعث ولده راشد إلى الكناسة (1) وجاء هو إلى السوق ، وأنفذ ابن مطيع إلى الجبايات ، بالرجال يحرسها من أهل الريبة.

تقدم قائد المختار الكبير إبراهيم على رأس فرقة من مائة جندي مسلح ، والتقى في طريقه بإياس بن مضارب رئيس الشرطة ، وقام صدام مسلح بين الفريقين انتهى بمصرع إياس.

وأقبل إبراهيم إلى المختار ، وعرفه ذلك فاستبشر وتفاءل بالنصر ، والظفر ، ثم أمر بإشعال النار في هرادي القصب ، وبالنداء :

« يا لثارات الحسين » ، ولبس درعه ، وسلاحه ، وهو يقول :

قد علمت بيضاء حسناء الطلل

واضحة الخدين عجزاء الكفل

أني غداة الروع مقدام بطل

لا عاجز فيها ولا وغد فشل

فأقبل الناس من كل ناحية وجاء عبيد اللّه بن الحر الجعفي في قومه ، وتقاتلوا ، قتالاً عظيما ، فانهزم الناس ومن كان في الطريق ، والجبانات من أصحاب السلاح ، وتفرّقوا في الأزقة خوفا من إبراهيم ، وأشار شبث بن ربعي على الأمير ابن مطيع بالقتال ، فعلم المختار ، فخرج مع أصحابه حتى نزل (دير هند) ، مما يلي بستان زائدة في السبخة ، ثم جاء أبو عثمان النهدي في جماعة من أصحابه إلى الكوفة ونادوا « يا لثارات الحسين » ، « يا منصور أمت » وهذه علامة بينهم ، يا أيها الحيُّ المهتدون ، ألا إن أمين آل محمد ، قد خرج فنزل (دير هند) ، وبعثني إليكم داعيا ، ومبشرا ، فاخرجوا إليه

__________________

(1) مكان خارج الكوفة ، يتخذ سوقا ، للمباريات الأدبية وكان يشبه في ذلك مربد البصرة حاليا.

٥٧

رحمكم اللّه.

قال الوالبي ، وحميد بن مسلم ، والنعمان بن أبي الجعد :

« خرجنا مع المختار ، فواللّه ما انبلج الفجر حتى فرغ من تعبئة عسكره ، فلما أصبح تقدّم ، وصلّى بنا الغداة فقرأ ، والنازعات ، وعبس ، فواللّه ما سمعنا إماما أفصح لهجة منه » (1) ، ونادى ابن مطيع في أصحابه ، فلما جاءوا ، بعث بشبث بن ربعي في ثلاثة آلاف ، وراشد بن إياس في أربعة آلاف ، وحجّار بن أبجر العجلي في ثلاثة آلاف ، وعكرمة بن ربعي ، وشدّاد بن أبجر ، وعبد الرحمن بن سويد في ثلاثة آلاف.

وتتابعت العساكر نحوا من عشرين ألفا ، فسمع المختار أصواتا مرتفعة ، وضجّة ما بين سليم ، وسكة البريد ، فأمر باستعلام ذلك ، فإذا هو شبث بن ربعي ، ومعه خيل عظيمة ، وأتاه في الحال ، سعد بن أبي سعر الحنفي ، وهو ممن بايع المختار ، يركض من قبل مراد ، فلقي راشد بن إياس ، فأخبر المختار ، فأرسل المختار ابن الأشتر في تسعمائة فارس ، وستمائة راجل ، ونعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس ، وستمائة راجل ، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة فقاتلهم حتى أدخلوهم البيوت ، وقتل من الفريقين جمع قتل نعيم بن هبيرة ، وجاء إبراهيم ، فلقي راشد بن إياس ، ومعه أربعة آلاف فارس ، فقال إبراهيم لأصحابه ، لا يهولنكم كثرتهم ، فلرب فئة قليلة غلبت فئة كبيرة ، واللّه مع الصابرين.

فاشتد قتالهم ، وبصر خزيمة بن العبسي براشد وحمل عليه فطعنه فقتله ،

__________________

(1) الطبري 6 : 23 ، البحار 45 : 368.

٥٨

ثم نادى خزيمة ، قتلت راشدا ، ورب الكعبة ، فانهزم القوم ، وانكسروا ، وجفلوا ، إجفال النعام ، وأطلوا عليهم كقطع الغمام واستبشر أصحاب المختار وحملوا على أهل الكوفة ، وواصلوا سوقهم ، حتى أوصلوهم إلى السكك ، وادخلوهم الجامع ، وحاصروا الأمير ابن مطيع ثلاثا في القصر ، ونزل المختار بعد هذه الواقعة جانب السوق ، وولي حصار القصر إبراهيم بن الأشتر.

فلما ضاق الحصار عليه وعلى أصحابه وعلموا أنه لا تعويل لهم على مكر ، ولا سبيل للمفرّ ، أشاروا عليه أن يخرج ليلاً في زي امرأة ، ويستتر في بعض دور الكوفة ، ففعل ، وخرج حتى صار إلى دار الحقود أبي موسى الأشعري ، فآواه.

وأما جماعته فإنهم طلبوا الأمان ، فآمنهم ، وخرجوا ، وبايعوه ، وصار يُمنّيهم ، ويحسن السيرة فيهم (1).

قد يفسر البعض ، أن تصرّف المختار هذا ، مع أعدائه على أنه نوع من أنواع الخدعة ، أو المجاملة ، فهو يريد من خلال ذلك كسب ودّ أعدائه بهذه الطريقة الغريبة نوعا ما ، لكن هذه هي حقيقة أخلاق المختار ، رجل رحوم حتى مع ألدّ أعدائه ، وإن لم يكن في كسب ودّ الأعداء ، وتحييدهم ضير ، بل هو بحدّ ذاته هدف يسعى إليه كل صاحب دعوة على مرّ التاريخ ، وقد مارس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذلك بقدر ما حينما جعل لأبي سفيان منزلة عند دخولهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة منتصرا ، كما جعل اللّه سبحانه وتعالى للمؤلّفة قلوبهم حصّة من الصدقات ، حيث قال تعالى :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ

__________________

(1) البحار 45 : 369.

٥٩

عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّه وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّه وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

وبسبب طيبته ، وحلمه قام المختاررضي‌الله‌عنه ، بمدّ يد العون إلى ابن مطيع الوالي السابق على الكوفة ، وهو عدو له وعفى عنه ، ومنحه مبلغا قدره مائة ألف درهم وطلب ، منه أن يترك الكوفة ، كما أنه طلب من أتباعه أن لا يقتلوا أحدا من أصحابه (2).

نقف ومن خلال تحليلنا لموقف المختار على أنه كان متمسكا بهدف مركزي هو تنبيه الغافلين بمنكر الأمويين ، وفحشاء (يزيد) ، والأخذ بثار الإمام الحسينعليه‌السلام ، ليس إلاّ.

يتحدّث البلاذري عن المختار فيقول : «وكان المختار قد وجد في بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف درهم ـ أي تسعة ملايين درهم ـ فأعطى أصحابه ، ومن بايعه ، وأحسن المختار مجاورة أهل الكوفة ، والسير فيهم وأكرم الأشراف».

كان المختار على جانب كبير بعلم النفس ، والإلمام بوسائل الدعاية ، والإعلام ، فقد كان يخاطب عواطف الناس ، كما كان يخاطب عقولهم ، وكان لا يكتفي بوسائل الدعاية المعروفة حينذاك كالخطابة ، والشعر ، بل لجأ إلى وسائل كثيرة للدعاية ، ومنها التمثيل ـ التشابيه ـ ، والمظاهرات والإشاعات.

كما لجأ إلى ما نسميه الآن بالانقلاب العسكري ، حينما انتزع الكوفة من

__________________

(1) سورة التوبة : 9 / 60.

(2) تاريخ الطبري 6 : 33 (سنة 66) ، البحار 45 : 370.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لا ينبغي لأحد أن يفضّل أي فئة منهما على الأُخرى، حتّى لا تحدث فتنة. (١)

٢ - حرّمت الإباضيّة الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الّذي يحارب الفاحشة. (٢) وقد انفردوا به من بين سائر المذاهب.

٣ - منعت الإباضيّة المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال؛ فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حَرُم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح. (٣)

مؤسّس المذهب الإباضي ودعاته في العصور الأُولى:

قد تعرّفت على عقائد الإباضيّة، فحان البحث عن أئمّتهم ودعاتهم في العصور الأُولى.

١ - عبد الله بن إباض، مؤسّس المذهب:

هو عبد الله بن إباض، المقاعسي، المري، التميمي، ابن عبيد، ابن مقاعس، من دعاة الإباضيّة، بل هو مؤسّس المذهب.

____________________

(١) انظر: الإباضيّة في مصر والمغرب: ٦١.

(٢) الإباضيّة في موكب التاريخ: ١١١ - ١١٢.

(٣) الإباضيّة في موكب التاريخ: ١١٦.

١٤١

قد اشتهرت هذه الفِرقة بالإباضيّة من أوّل يوم، وهذا يدلُّ على أنّه كان لعبد الله بن إباض، دور في نشوء هذه الفِرقة وازدهارها.

٢ - جابر بن زيد العماني، الأزدي:

جابر بن زيد، أبو الشعثاء، الأزدي، اليحمدي، البصري، مشهور بكنيته، فقيه الإباضيّة، مات سنة ٩٣هـ، ويقال: مائة. يروي عن عبد الله بن عبّاس.

٣ - أبو عبيدة، مسلم بن أبي كريمة (المتوفّى حوالي ١٥٨هـ):

مسلم بن أبي كريمة التميمي، توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة ١٥٨هـ، قال عنه ابن الجوزي: مجهول.

أخذ العلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وضمار السعيدي، وجعفر السمّاك وغيرهم.

حمل العلم عنه الربيع بن حبيب الفراهيدي؛ صاحب المسند، وأبو الخطّاب المعافري، وعبد الرحمن بن رستم، وعاصم السدراتي، وغيرهم.

٤ - أبو عمرو، ربيع بن حبيب الفراهيدي:

هو من أئمّة الإباضيّة، وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة، ويُعدّ في طليعة الجامعين للحديث والمصنّفين فيه.

١٤٢

٥ - أبو يحيى عبد الله بن يحيى الكندي:

عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة؛ عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن، خرج بحضرموت والتفَّ حوله جماعة عام ١٢٨هـ، وبسط سيطرته على عُمان واليمن والحجاز، وفي عام ١٣٠هـ جهّز مروان بن محمد جيشاً بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطيّة السعدي، فكانت بينهم حرب عظيمة، قُتل فيها عبد الله بن يحيى وأكثر من معه من الإباضيّة، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

دول الإباضيّة:

قد قام باسم الإباضيّة، عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلاميّة:

١ - دولة في عُمان، استقلّت عن الدولة العباسيّة في عهد أبي العباس السفّاح، سنة ١٣٢هـ، ولا تزال إلى اليوم.

٢ - دولة في ليبيا، سنة ١٤٠هـ، ولم تعمّر طويلاً؛ فقد انتهت بعد ثلاث سنوات.

٣ - دولة في الجزائر، قامت سنة ١٦٠هـ، وبقيت إلى حوالي ١٩٠هـ، ثُمَّ قضت عليها الدولة العبيديّة.

١٤٣

٤ - دولة قامت في الأندلس، ولا سيّما في جزيرتي ميورقة ومينورقة، وقد انتهت يوم انتهت الأندلس.

هذه هي الإباضيّة، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدّمنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ونشأتهم وشخصيّاتهم وعقائدهم.

١٤٤

١٣

الشِّيعة الإماميّة

الشّيعة لغة واصطلاحاً:

الشيعة لغة هم: الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: ( فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه ) (١) ، وقال تعالى: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢) .

وأمّا اصطلاحاً، فلها إطلاقات عديدة، بملاكات مختلفة:

١ - الشيعة: من أحبَّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذين فرض الله سبحانه مودّتهم، قال عزَّ وجلَّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) . والشّيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين، إلاّ النواصب؛ بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم، ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

يـا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

____________________

(١) القصص: ١٥.

(٢) الصافات: ٨٣ - ٨٤.

(٣) الشورى: ٢٣.

١٤٥

كـفاكم مـن عـظيم الشأن أنّكم

مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له (١)

٢ - من يفضّل عليّاً على عثمان، أو على الخلفاء عامّة، مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم؛ لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم.

٣ - الشيعة من يشايع علياً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده، نَصَبهم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيَّاتهم. والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنه في المقام، وقد اشتُهر بأنّ عليّاً هو الوصيّ حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم، وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة». (٢)

ومُجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كلَّ من قال إنّ قيادة الأُمّة لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنّه يقوم مقامه في كلِّ ما يمتُّ إليه، سوى النبوّة ونزول الوحي عليه، كلّ ذلك بتنصيص من الرسول.

وعلى ذلك، فالمقوّم للتشيّع، وركنه الرّكين، هو القول بالوصاية والقيادة، بجميع شؤونها، للإمام (عليه السّلام)، فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك، فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع، ولا يدور عليه إطلاق الشيعة.

____________________

(١) الصواعق: ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٢.

١٤٦

الفصل الأوّل:

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه

زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلاميّة، من إفرازات الصراعات السياسيّة، وذهب بعض آخر إلى القول إنّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلاميّة، وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الأُمّة الإسلاميّة، باعتباره قطاعاً تكوّن على مرّ الزمن؛ لأحداث وتطورات سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، أدَّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ثُمَّ اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسيّة أو فكريّة، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع وُلِد منذ عهد النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لَمَا تسرّعوا في إبداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه، وانّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام، من أوّل يوم أمَر بالصدع وإظهار الحقيقة، إلى أن لبىَّ دعوة ربه.

١٤٧

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته، عن طريق من نصبه إماماً للناس وقائداً للأُمّة، حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كانّ التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصيّ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الاسلام، والنصوص الواردة عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، هم الّذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى؛ الّذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة؛ حيث تركوا النصوص وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حق شيعة الإمام عن لسان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ترفع اللّثام عن وجه الحقيقة، وتُعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصيّ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شك من هذا الأمر، فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

____________________

(١) الحجرات: ١.

١٤٨

١ - أخرج ابن مردويه، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟، قال: يا عائشة، أما تقرأين ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (١) . (٢)

٢ - أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة. (٣)

٣ - أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيّين». (٤)

٤ - أخرج ابن مردويه، عن عليّ، قال: قال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ألم تسمع قول الله: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محج<لين». (٥)

٥ - روى ابن حجر في صواعقه، عن أُم سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندي، فأتته فاطمة، فتبعها عليّ (رضي الله عنه)، فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنة». (٦)

____________________

(١) البينة: ٧.

(٢ و٣ و٤ و٥) الدر المنثور: ٦/٥٨٩.

(٦) الصواعق: ١٦١.

١٤٩

٦ - روى أحمد في المناقب: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعليّ: «أمَا ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذريّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا». (١)

٧ - أخرج الديلمي: (يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولذريّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر إنّك الأنزع البطين). (٢)

٨ - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخلون من أُمّتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم»، ثُمَّ التفت إلى عليّ، فقال: «هم شيعتك وأنت أمامهم». (٣)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي تُعرب عن أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان متميّزاً بين أصحاب النبيّ؛ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفِرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول، تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته، ويعتقد بإمامته ووصايته، ويَظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات؛ نشير إلى بعضها:

١ - روى المسعودي في حوادث وفاة النبيّ: إنّ الإمام عليّاً أقام ومن

____________________

(١) الصواعق: ١٦١.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) مناقب المغازلي: ٢٩٣.

١٥٠

معه من شيعته في منزله، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر. (١)

٢ - وقال النوبختي (المتوفّى ٣١٣هـ): إنّ أوّل الفِرق، الشيعة؛ وهم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته. (٢)

٣ - وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم: الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (٣)

٤ - ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً. (٤)

٥ - وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالإمامة، وولْده من بعده. (٥)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تُعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده، إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة عليه.

____________________

(١) الوصيّة: ١٢١.

(٢) فِرق الشيعة: ١٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين: ١/٦٥.

(٤) الملِل والنحل: ١/١٣١.

(٥) الفصل في الملِل والنحل: ٢/١١٣.

١٥١

رواد التشيع في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

وإليك أسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

١ - عبد الله بن عبّاس. ٢ - الفضل بن العبّاس. ٣ - عبيد الله بن العبّاس. ٤ - قثم بن العبّاس. ٥ - عبد الرحمن بن العبّاس. ٦ - تمام بن العبّاس. ٧ - عقيل بن أبي طالب. ٨ - أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. ٩ - نوفل بن الحرث. ١٠ - عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ١١ - عون بن جعفر. ١٢ - محمد بن جعفر. ١٣ - ربيعة بن الحرث بن عبد المُطّلب. ١٤ - الطفيل بن الحرث. ١٥ - المغيرة بن نوفل بن الحارث. ١٦ - عبد الله بن الحرث بن نوفل. ١٧ - عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث. ١٨ - العبّاس بن ربيعة بن الحرث. ١٩ - العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب. ٢٠ - عبد المُطّلب بن ربيعة بن الحرث. ٢١ - جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم، فإليك أسماء لفيف منهم:

٢٢ - سلمان المحمّدي. ٢٣ - المقداد بن الأسود الكندي. ٢٤ - أبوذر الغفاري. ٢٥ - عمّار بن ياسر. ٢٦ - حذيفة بن اليمان. ٢٧ - خزيمة بن ثابت. ٢٨ - أبو أيّوب الأنصاري. ٢٩ - أبو الهيثم مالك بن التيهان. ٣٠ - أُبي بن كعب. ٣١ - سعد بن عبادة. ٣٢ - قيس بن سعد بن عبادة. ٣٣ - عدي بن حاتم. ٣٤ - عبادة بن الصامت. ٣٥ - بلال بن رباح الحبشي. ٣٦ - أبو رافع مولى رسول الله. ٣٧ - هاشم بن عتبة. ٣٨ - عثمان بن حُنيف. ٣٩ - سهل بن حُنيف. ٤٠ - حكيم بن جبلة العبدي. ٤١ - خالد بن سعيد بن العاص. ٤٢ - أبو الحصيب الأسلمي. ٤٣ - هند بن أبي هالة

١٥٢

التميمي. ٤٤ - جعدة بن هبيرة. ٤٥ - حجر بن عدي الكندي. ٤٦ - عمرو بن الحمق الخزاعي. ٤٧ - جابر بن عبد الله الأنصاري. ٤٨ - محمّد بن أبي بكر. ٤٩ - أبان بن سعيد بن العاص. ٥٠ - زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم، فليرجع إلى الكتب المؤلَّفة في الرجال.

١٥٣

الفصل الثاني:

شبهات حول تاريخ الشيعة

قد تعرّفت على تاريخ التشيع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنيّة؛ وإنّما هو وجه آخر للإسلام، وهما وجهان لعملة واحدة، إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات، ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وراحوا يثيرون الشبهات حول تاريخه، وإليك استعراض هذه الشبهات نقداً وتحليلاً.

الشبهة الأُولى:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وقد تخيّل لبعض المؤرخين أنّ التشيّع ظهر بعدها.

يقول الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء - إلى أن

١٥٤

قال: - فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً، ثُمَّ قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ، وفيه طلحة والزّبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزّبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتّى يُبَايَع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقالا: خذوا سيف الزبير. (١)

يُلاحظ عليه: أنّ هذه النصوص تدلّ على أنّ فكرة التشيّع لعليّ، كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت عليّ، الّذي أوصّاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به طيلة حياته؛ إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على عليّ في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب، فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبيّ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً، ولمّا جاء، قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم، لَمَا اختلف عليكم اثنان. (٢)

وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم، ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيّات: إنّ عامّة المهاجرين، وجلّ الأنصار، كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢/٤٤٣ - ٤٤٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢/١٠٣.

١٥٥

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: إنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار، كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: إنّه لمّا بويع أبو بكر واستقرَّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم. (١)

ومن المستحيل عادة، اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء، في يوم واحد، بل يُعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق عليّ وعترته، في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفةن ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى عليّ؛ إنّما هو لأجل مشايعتهم لعليّ زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وما هذا إلاّ إخلاصاً و وفاءاً منهم للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأين هو من تكوّن التشيع يوم السقيفة؟!

الشبهة الثانية:

التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

كتب الطبري في تاريخه يقول:

كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثُمَّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ البصرة، ثُمَّ الكوفة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشّام، فأخرجوه حتّى أتى

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ٦/٤٣ - ٤٤.

١٥٦

مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذِّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (١) ، فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلّموا فيها، ثُمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمّد، ثُمَّ قال: محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، وإنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله.

وقد بثّ عبد الله بن سبأ دُعاته في البلاد الإسلاميّة، وأشار عليهم أن يُظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير، والتابعي الصالح، من أمثال: أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئيّة تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأمراءن وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين؛ بتحريض السبئيّين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره؛ حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم.

إنّ المسلمين بعدما بايعوا علياً، ونكث طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك

____________________

(١) القصص: ٨٥.

١٥٧

سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسّوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة، دون علم غيرهم، وإنّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل، قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبئيّين في جيش عليّ، من كان بإزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثُمَّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم. (١)

إلى هنا انتهت قصة السبئيّة؛ الّتي ذكرها الطبري في تاريخه.

نظرنا في الموضوع:

١ - إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء، وأسلم في عصر عثمان، استطاع أنّ يُغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد، واستطاع أن يكوّن خلايا ضدَّ عثمان، ويستقدمهم إلى المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلاميّة، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل، وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب!!

إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم أُمّه ساذجة؛ يغترّون بفكر يهوديٍّ وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكرون.

٢ - إنّ القراءة الموضوعيّة للسيرة والتاريخ، تُوقفنا على سيرة عثمان بن

____________________

(١) انظر تاريخ الطبري: ٣/٣٧٨، نقل بتصرف وتلخيص.

١٥٨

عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة؛ لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر؛ حتّى أنفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه. إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمالها، يغضّون الطرف عمّن يؤلّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويل والويلات على كيانهم!!

٣ - إنّ رواية الطبري، نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم؛ مثلاً: السري؛ الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

أ - السري بن إسماعيل الهمداني؛ الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ. (١)

ب - السري بن عاصم بن سهل الهمداني؛ نزيل بغداد (المتوفّى عام ٢٥٨هـ)، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته؛ يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات؛ لا يحلّ الاحتجاج به، فالاسم مشترك بين كذّابين، لا يهمّنا تعيين أحدهما.

٤ - عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخيّة، لأنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته، يُشرف

____________________

(١) ميزان الاعتدال: ٢/١١٧.

١٥٩

المحقّق على القول: بأنّ عبد الله بن سبأ، شخصيّة خرافيّة، وضعها القصّاصون، وأرباب السمر والمجون، في عصر الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة.

وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخيّة، حاكها أعداء الشيعة، نكاية بالشيعة؛ حيث قال:

وأكبر الظنِّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا، إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويّين والعباسيّين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته، من ناحية، وليشنعوا على عليّ وشيعته من، ناحية أُخرى، فيردوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديٍّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟!، وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم؛ في أمر عثمان، وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه، موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثُمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثُمَّ أُتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أنّ تُقام عليها أُمور التاريخ. (١)

____________________

(١) الفتنة الكبرى: ١٣٤.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377