المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 205037 / تحميل: 8775
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الشبهة الثالثة:

التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة

ثمّة شبهة طرحها المستشرقون؛ الّذين اعتقدوا بأنّ التشيّع ظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن علّتها وسبب حدوثها، حتّى انتهوا إلى القول بأنّ التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة، والترديد بين الأمرين؛ لأجل أنّ لهم في المقام رأيين:

١ - إنّ التشيّع من مخترعات الفرس؛ اخترعوه لأغراض سياسية، ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس.

٢ - إنّ التشيّع عربي المبدأ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام، ولمّا أسلموا، اعتنقوه وصبغوه صبغة فارسيّة، لم تكن له من قبل.

أمّا الأُولى، فقد اخترعها المستشرق دوزي، وحاصله: إنّ للمذاهب الشيعي نزعة فارسيّة، لأنّ العرب كانت تدين بالحرّيّة، والفرس تدين بالمُلك والوراثة، ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا انتقل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى دار البقاء، ولم يترك ولداً، قالوا عليّ أولى بالخلافة من بعده.

يُلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ التشيّع، حسب ما عرفتْ، ظهر في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو الّذي سمّى أتباع عليّ بالشيعة، وكانوا متواجدين في عصر النبيّ وبعده، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس، سوى سلمان في الإسلام.

١٦١

إنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي، كانوا كلّهم عرباً، ولم يكن بينهم أيُّ فارسيٍّ، سوى سلمان المحمّدي، وكلّهم يتبنّون فكرة التشيّع.

وثانياً: إنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا، بالصبغة السنيّة، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه، ويقول:

كان ابرويز وجّه إلى الديلم، فأتى بأربعة الآف، وكانوا خدمه وخاصّته، ثُمَّ كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسيّة مع رستم، ولمّا قُتل وانهزم المجوس، اعتزلوا، وقالوا: ما نحن كهؤلاء، ولا لنا ملجأ، وأثرنا عندهم غير جميل، والرأي لنا أنّ ندخل معهم في دينهم، فاعتزلوا. فقال سعد: ما لهؤلاء، فأتاهم المغيرة بن شعبة، فسألهم عن أمرهم، فأخبروه بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم، فرجع إلى سعد، فأخبره، فأمنهم. فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد، وشهدوا فتح جلولاء، ثُمَّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة مع المسلمين. (١)

لم يكن إسلامهم يومذاك، إلاّ كإسلام سائر الشعوب، فهل يمكن أن يقال: إنّ إسلامهم يومذاك كان إسلاماً شيعيّاً.

وثالثاً: إنّ الإسلام كان يمشي بين الفرس بالمعنى الّذي كان يمشي في سائر الشعوب، ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع، إلى أن انتقل قسم من الأشعريّين الشيعة إلى قم وكاشان، فبذروا بذرة التشيّع، وكان ذلك في أواخر القرن الأوّل، مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني - أي في سنة ١٧هـ، وهذا يعني أنّه قد انقضت عشرات الأعوام، ولم يكن عندهم أثر من التشيّع.

____________________

(١) فتوح البلدان: ٢٧٩.

١٦٢

شهادة المستشرقين على أنّ التشيّع عربي المبدأ:

إنّ لفيفاً من المستشرقين وغيرهم، صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس، وإليك نصوصهم:

١ - قال الدكتور أحمد أمين: إنّ الفكر الفارسيّ استولى على التشيّع؛ لقدمه على دخول الفرس في الإسلام، وقال: والّذي أرى؛ كما يدلّنا التاريخ، أنّ التشيّع لعليّ بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام، ولكن بمعنى ساذج، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الأُخرى في الإسلام، وحيث إنّ أكبر عنصر دخل في الإسلام، الفرس، فلهم أكبر الأثر في التشيّع. (١)

٢ - قال المستشرق فلهوزن: كان جميع سكان العراق - في عهد معاوية - خصوصاً أهل الكوفة،شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل، خصوصاً، القبائل ورؤساء القبائل. (٢)

٣ - وقال المستشرق جولد تسيهر: إنّ من الخطأ القول بأنّ التشيّع ومراحل نموّه، يمثّل الأثر التعديلي الّذي أحدثته أفكار الأُمم الإيرانيّة في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع؛ مبنيٌّ على سوء فهم الحوادث التاريخيّة؛ فالحركة العلويّة نشأت في أرض عربيّة بحتة. (٣)

____________________

(١) فجر الإسلام: ١٧٦.

(٢) الخوارج والشيعة: ١١٣.

(٣) العقيدة والشريعة: ٢٠٤.

١٦٣

٤ - يقول المستشرق آدم متز: إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانيّة يخالف الإسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عُمان وهجر وصعدة، أمّا إيران، فكانت كلّها سنّة ما عدا قم، وكان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها انّه نبيّ مرسل. (١)

٥ - يقول الشيخ أبو زهرة: إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب، وليس التشيّع مخلوقاً لهم، ويُضيف: وأمّا فارس وخراسان وما وراءهما من بلدان الإسلام، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون، فراراً بعقيدتهم من الأُمويّين أوّلاً، ثُمَّ العباسيّين ثانياً، وإنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأُموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها. (٢)

٦ - قال السيِّد الأمين: إنّ الفرس الّذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أوّل الأمر إلاّ القليل، وجلّ علماء السنّة وأجلاّؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي، وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية. (٣)

____________________

(١) الحضارة الإسلامية: ١٠٢.

(٢) الإمام جعفر الصادق: ٥٤٥.

(٣) أعيان الشيعة: ١/٣٣.

١٦٤

تحليل النظريّة الثانيّة:

إنّ هذه النظريّة وإن كانت تعترف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسيّة بعد دخول الفرس في الإسلام.

يقول فلهاوزن: إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيّين، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الإيرانيّين، فليست تلك الملائمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخيّة تقول بعكس ذلك؛ إذ تقول إنّ التشيع الواضح الصريح كان قائماً أوّلاً في الأوساط العربيّة، ثُمَّ انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.

ولكن لمَّا ارتبطت الشيعة العربيّة بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القوميّة العربيّة، وكانت حلقة الارتباط هي الإسلام، ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم، بل نوعاً جديداً من الدين. (١)

أقول: إنّ مراده أنّ التشيع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحب والولاء لعليّ، لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر؛ وهو كون الخلافة أمراً وراثيّاً في بيت عليّ (عليه السّلام)، هذا هو الّذي يصرّح به الدكتور أحمد أمين ويقول: إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع، والمقصود من الاستيلاء، هو جعل الخلافة أمراً وراثيّاً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.

يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثيّاً لم يكن من خصائص

____________________

(١) الخوارج والشيعة: ١٦٩.

١٦٥

الفرس، بل وراثيّة الحكم كانت سائدة في جميع المجتمعات، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسّان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثة، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربيّة كان وراثيّاً، والمناصب المعروفة لدى قريش؛ من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة، كانت أُموراً وراثيّة، حتّى أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يغيّرها، بل أنّه أمضاها، ومن هنا نرى أنّه قد دفع مفاتيح البيت لبني شيبة؛ لما كانت السدانة منصباً لهم أيّام الجاهليّة، فتخصيص الفرس بالوراثة وغمض العين عن غيرهم أمر عجيب!!، فعلى ذلك يجب القول إنّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسيّة وغسّانيّة وحميريّة وأخيراً عربيّة، فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس - مع كونها آنذاك - فكرة عامّة عالميّة؟!

١٦٦

الفصل الثالث:

في بيان متطلّبات الظروف في

عصر الرسول في مجال القيادة الإسلاميّة

لا شك أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأُمّة من شؤون النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ما دام على قيد الحياة، ثُمَّ إنّه وقع الاختلاف بين أصحاب المقالات والفِرق في صيغتها بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهل كانت متبلورة في صيغة النص أو في انتخاب الأُمّة؟

الشيعة ترى أنّ القيادة منصب تنصيصي، والّذي ينصّ على خليفة الرسول هو الله سبحانه عن طريقه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بينما يرى أهل السنّة غير ذلك، ولكلّ من الاتّجاهين دلائل وبراهين، والمقصود هنا دراسة متطلّبات الظروف وتقييمها في عصر الرسالة، فهل كانت المصالح تكمن في تعيين القائد أو كانت تكمن في خلافه؟، فدراستها تسلّط الضوء على البحث الثالث وهو وجود النص من الرسول وعدمه، وإليك بيان ذلك:

إنّ الظروف السياسيّة الّتي كانت سائدة في المنطقة، كانت توجب على الرسول أن يعيّن القائد، وكانت المصلحة الإسلاميّة تقتضي ذلك؛ لأنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي: الروم، الفرس، المنافقين؛

١٦٧

وخطرهم يتمثّل بشن هجوم مفاجئ كاسح، أو إلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين، فمصالح الأُمّة كانت توجب توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي والداخلي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدو في جسم الأُمّة الإسلاميّة والسيطرة عليها، وعلى مصيرها، وبذلك يخسر الّذين كانوا يتآمرون على ضرب الإسلام بعد وفاة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

أمّا العدو الأوّل، فقد كان الإمبراطورية الرومانيّة الّتي كانت تشكّل أحد أضلاع المثلّث الخطر الّذي كان يحيط بالكيان الإسلامي ويهدده من الخارج.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربيّة، وكانت تشغل بال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على الدوام، حتّى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكريّة بين المسلمين والجيش الرومي، في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدتّ هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريّين البارزين الثلاثة؛ وهم: جعفر الطيار، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة.

ولقد أدّى انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين، إلى تزايد جرأة الجيش الرومي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في السنة التاسعة للهجرة (غزوة تبوك) على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه المواجهة العسكرية، وقد

١٦٨

استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد للأُمّة الإسلامية هيبتها من جديد.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الّذي كان يهدد الكيان الإسلامي، فكان الامبراطوريّة الفارسيّة. وقد بلغ غضب هذه الامبراطوريّة على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومعاداتها لدعوته، أن أقدم إمبراطور إيران (خسروپرويز) على تمزيق رسالة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وتوجيه الإهانة إلى سفيره بإخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه في اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو يقتله إن امتنع.

وخسرو هذا وإن قُتل في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إلاّ أنّ استقلال اليمن الّتي رزحت تحت استعمار الإمبراطورية الفارسيّة ردحاً طويلاً من الزمن، لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم، لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلاميّة) لهم.

والخطر الثالث؛ وهو الأعظم؛ كان هو خطر حزب النفاق الّذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس، على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل، إلى درجة أنّهم حاولوا اغتيال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب يقول في نفسه: إنّ الحركة الإسلاميّة سينتهي أمرها بموت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ورحيله، وبذلك يستريح الجميع!

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الأقوياء الّذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصحّ أن يترك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أُمّته

١٦٩

الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس، من دون أن يعيّن لهم قائداً دينيّاً سياسيّاً؟!

إنّ المعطيات الاجتماعيّة توحي بأنّه كان من الواجب أن يدفع رسول الإسلام، بتعيين قائد للأُمّة، ظهور أي اختلاف وانشقاق فيها من بعده، ويضمن بذلك استمرار وبقاء الأُمّة الإسلاميّة، وإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حولها.

إنّ تحصين الأُمّة وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كلّ فريق الزعامة لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن متحققاً إلاّ بتعيين قائد للأُمّة، وعدم ترك الأُمور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعيّة تهدينا إلى صحّة نظريّة (التخصيص على القائد بعد الرسول)، ولعلّه لهذه الجهة ولجهات أُخرى، طرح الرسول مسألة الخلافة في بدء الدعوة، واستمر بذلك إلى آخر ساعة من عمره الشريف.

***

إنّ الرسول الأكرم لم تقتصر مسؤوليّاته على تلقّي الوحي الإلهي وإبلاغ الآيات النازلة عليه، بل كانت تتجاوز ذلك كثيراً، فقد كانت وظائف ثلاث تقع على عاتقه، بالإضافة إلى ما يقوم به من سائر الوظائف:

١ - كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يفسّر الكتاب العزيز، ويشرح مقاصده، ويبيّن أهدافه، ويكشف رموزه وأسراره.

١٧٠

٢ - وكان يبيّن أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع الإسلامي، عن طريق القرآن الكريم وسنّته.

٣ - وكان يصون الدين من التحريف والدَّس، فكان وجوده مدار الحق وتمييزه عن الباطل، وكانت حياته ضماناً لعدم تطرّق الدسّ والتحريف إلى دينه.

ولا شكّ أنّ موت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفقدانه، سيوجدان فراغات هائلة في المجالات الثلاثة، فيجب إعداد قائد له القابليّة والصلاحيّة في سدّ تلك الفراغات، لا يقوم به إلاّ من كان يتمتّع به الرسول؛ عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي، فيكون وعاء علم النبيّ ومخزن أسراره ومودع حكمه حتّى يقوم بتلك الوظيفة العظيمة.

ومن الواضح أنّ هذه الكفاءات والمؤهّلات المعنويّة، لا تحصل لشخص بطريق عادي، ولا بالتربية البشرية المتعارفة، بل لابدّ من إعداد إلهي خاص، وتربية إلهيّة خاصّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يمكن للأُمّة أن تتعرّف بنفسها على هذا الشخص، وتكتشف من تتوفّر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات بالطرق العادية.

كلّ ذلك يُثبت نظريّة التنصيص وإنّه لا محيص عن تعيين القائد بتنصيص الرسول بأمر من الله سبحانه؛ أي تنصيب من يتّصف بتلك الكفاءات الّتي لا يكتسبها إلاّ من تربّى في حضن الرسالة والرسول.

١٧١

الفصل الرابع:

ما هو مقتضى الكتاب والسنّة

في صيغة الخلافة بعد الرَّسول؟

إنّ مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة القيادة بعد الرسول، هو التنصيص، لا التفويض إلى الأُمّة، ولا ترك الأمر إلى الظروف والصدف. فنقدّم الكلام في السنّة، فإنّها صريحة في التعيين، وأمّا الكتاب، فسيأتي البحث عنه.

فنقول: إنّ سيرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ونصوصه، وفي مواقف مختلفة، تُثبت بوضوح أنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) غرس النواة الأُولى في أمر القيادة منذ أن أصحر بالدعوة وتعاهدها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

وهذه النصوص من الكثرة والوفرة بحيث إنّه لا يمكن استيعابها ولا ذكر كثير منها، ويكفينا مؤونة ذلك الموسوعات الحديثيّة في المناقب والفضائل والمؤلفات الكلاميّة في أمر الولاية. ونحن نكتفي بالقليل من الكثير.

[ مرجعيَّة أهل البيت السّياسيَّة بعد الرسول: ]

١ - التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة:

بُعث الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لهداية الناس وإخراجهم من الوثنيّة إلى التوحيد، ومن

١٧٢

الشر إلى الخير، ومن الشقاء إلى السعادة، وكانت الظروف المحدقة به قاسية جداً؛ لأنّه بُعث في أُمّة عريقة في الوثنيّة، ويخاطبهم سبحانه: ( لِتُنذِرَ قَوْماً مّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) (١) ، فأخذ بالدعوة سرّا،ً ونشر دينه خفاء سنوات عديدة، إلى أن نزل قوله سبحانه: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) ، فعند ذلك أمر الرسول، عليّ بن أبي طالب؛ وهو شاب يافع يتراوح عمره بين ١٣ إلى ١٥ سنة، أمره رسول الله أن يعدّ طعاماً ولبناً، ثُمَّ دعا ٤٥ رجلاً من سُراة بني هاشم ووجوههم، وبعد أن فرغوا من الطعام، قال رسول الله: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله الّذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنّها الجنة أبداً أو النار أبداً».

ثُمَّ قال: «يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزَّ وجلَّ أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».

ولمّا بلغ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى هذا الموضع، وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم، قام عليّ (عليه السّلام) فجأة وقال: «أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله»، فقال له رسول الله: اجلس، ثُمَّ كرر دعوته ثانية وثالثة، وفي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليّ ويعلن استعداده لمؤازرة النبيّ ويأمره رسول الله بالجلوس، حتّى إذا كان في المرّة الثالثة، أخذ رسول الله بيده، والتفت إلى

____________________

(١) يس: ٦.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

١٧٣

الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا». (١)

وينبغي الإشارة إلى نكتة؛ وهي أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أعلن وزيره وخليفته ووصيّه يوم أعلن رسالته، وكأنّهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان، وما القيادة بعد النبيّ إلاّ استمرار لوظائف النبوّة، وإن كانت النبوّة مختومة؛ ولكن الوظائف والمسؤوليّات كانتا مستمرّتين.

٢ - حديث المنزلة:

روى أصحاب السير والحديث، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خرج إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه، فقال له عليّ: «أخرج معك؟» فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لا»، فبكى عليّ، فقال له رسول الله: «أمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؛ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي».

أخرجه البخاري في صحيحه (٢) ، والاستثناء يدلّ على ثبوت ما لهارون من المناصب لعلي، سوى النبوّة.

٣ - حديث الغدير:

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة؛ رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كلّ عصر وجيل، ولسنا بصدد إثبات تواتره وذكر مصادره، فقد

____________________

(١) مسند أحمد: ١/١١١، تاريخ الطبري: ٢/٦٢ - ٦٣، الكامل في التاريخ: ٢/٤٠ - ٤١.

(٢) صحيح البخاري: ٥/ باب فضائل أصحاب النبيّ، باب مناقب عليّ.

١٧٤

قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة، وإنّما الهدف إيقاف القارئ على نصوص الخلافة في حق عليّ، حتّى يقف على أنّ النبيّ الأعظم هو الباذر الأوّل لبذرة التشيّع والدعوة إلى عليّ بالإمامة والوصاية، وعلى أنّ مسألة التشيّع قد نشأت قبل رحلته، ونذكر في المقام ما ذكره ابن حجر، وقد اعترف بصحة سنده، يقول: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خطب بغدير خم؛ تحت شجرات، فقال: «أيّها الناس؛ إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلاّ نصف عمر الّذي يليه من قبله، وإنّي لأظنّ أن يوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟».

قالوا: نشهد إنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً.

فقال: «أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: (اللّهم اشهد)، ثُمَّ قال: «يا أيّها الناس، إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا - يعني عليّاً - مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

ثُمَّ قال: «يا أيّها الناس، إنّي فرطكم وإنّكم واردون عليّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عزّ وجلّ، سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا

١٧٥

ولا تبدلّوا، وعترتي أهل بيتي، فإنّه نبأنّي اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتّى يردا عليّ الحوض». (١)

وأخرجه غير واحد من أئمة الحديث، منهم: الإمام أحمد في مسنده (٢) ، والحاكم في مستدركه (٣) ، والنسائي في خصائصه (٤) .

ولو أردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته، من الصحابة والتابعين والعلماء، لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد، وقد قام بحمد الله أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود.

والمهمّ هو دلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويكفي في ذلك التدبّر في الأُمور التالية:

١ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال في خطبته: «أنا أولى بهم من أنفسهم» ، ثُمَّ قال: «فمن كنت مولاه»، وهذه قرينه لفظيّة على أنّ المراد من المولى هو الأولى، فالمعنى: إنّ الله أولى بي من نفسي، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومن كنت أولى به من نفسه، فعليّ أولى به من نفسه، وهذا هو معنى الولاية الكبرى للإمام (عليه السّلام).

٢ - ذيل الحديث؛ وهو قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»، وفي بعض الطرق: «وانصر من نصره، واخذل من خذله» ، فإنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا نصبه إماماً

____________________

(١) الصواعق: ٤٣ - ٤٤.

(٢) مسند الإمام أحمد: ٤/٣٧٢.

(٣) مستدرك الحاكم: ٣/١٠٩.

(٤) الخصائص العَلَويّة: ٢١.

١٧٦

على الأُمّة بعده، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده، وفيهم من يحقد عليه، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء، فعاد يدعو لمن والاه ونصره، وعلى من عاداه وخذله، ليتمّ أمر الخلافة، وليعلم الناس أنّ موالاته موالاة الله، وأنّ عداءه عداؤه.

والحاصل: إنّ هذا الدعاء لا يناسب إلاّ من نصب زعيماً للإمامة والخلافة.

٣ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صدّر كلامه بأخذ الشهادة من الحضّار بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ثُمَّ قال: «إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم»، فقال: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».

٤ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ذَكَر قبل بيان الولاية قوله: «كأنّي دعيت فأجبت» ، أو أما ما قرب من ذلك، وهو يُعرب أنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يبق من عمره إلاّ قليل، يحاذر أن يدركه الأجل، فأراد سدَّ الفراغ الحاصل بموته ورحلته بتنصيب عليّ إماماً وقائداً من بعده.

هذه القرائن وغيرها، الموجودة في كلامه، تُوجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد العظيم؛ ليس إلاّ إكمال الدين وإتمام النعمة، من خلال ما أعلن عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّ عليّاً قائد وإمام الأُمّة.

شبهتان واهيتان:

ثمّة لفيف من الناس؛ ممّن يعاند الحقيقة ولا يرضى بقبولها، أبدى شبهتين ضعيفتين، نذكرهما على وجه الإجمال:

١٧٧

الشبهة الأُولى:

إنّ المولى يُراد به معان مختلفة، فمنها المحبّ والناصر، فمِن أين عُلم أنّ المراد بها المتولِّي، والمالك للأمر، والأولى بالتصرّف؟

يُلاحظ عليه: أنّ لفظ المولى ليس له إلاّ معنى واحد وهو الأولى. قال سبحانه: ( فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (١) .

وقد فسّره غير واحد من المفسّرين؛ بأنّ المراد أنّ النار أولى بكم، غير أنّ الّذي يجب التركيز عليه؛ هو أنّ الأولى هو المعنى الوحيد للمولى، وأنّ كلّ ما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته.

الشبهة الثانية:

المراد أنّه أولى بالإمامة مآلاً، وإلاّ كان هو الإمام مع وجود النبيّ، ولا تَعَرُّض فيه لوقت المآل، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمّة الثلاثة عليه. (٢)

وهذه الشبهة من الوهن بمكان، وذلك لأنّه لا يجتمع مع حكمة المتكلّم وبلاغته، ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة، وهو يستلزم أن لا تعمّ ولايته جميع الناس والحضّار، فيخرج عن ولايته الخلفاء الثلاثة، مع أنّ الشيخين

____________________

(١) الحديد: ١٥.

(٢) الصواعق المحرقة: ٤٤.

١٧٨

حينما سمعا قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قالا له: بخٍ بخٍ لك يا عليّ، أمسيت مولاي ومولى كلَّ مؤمن ومؤمنة. (١)

مرجعية أهل البيت الفكريّة بعد الرّسول:

دلّت الأحاديث السابقة على أنّ الزعامة السياسية والخلافة بعد الرسول تتمثّل في عليّ وعترته، وهناك أحاديث متوفرّة تسوقنا إلى مرجعيّتهم الفكريّة، منها:

٤ - حديث الثقلين:

إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أيقظ الغافلين، وبيّن مرجع الأُمّة بعد رحلته بهتافه المدوّي، وقال: «يا أيّها الناس، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي». (٢)

وأخرجه غير واحد من كبار المحدّثين، منهم: الإمام أحمد في مسنده (٣) ، والحاكم في مستدركه. (٤)

٥ - حديث السفينة:

إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يشبّه أهل بيته بسفينة نوح، ويقول: «ألا إنّ مثَل أهل بيتي

____________________

(١) مسند أحمد: ٤/٢٨١.

(٢) كنز العمّال: ١/٤٤.

(٣) مسند أحمد: ٥/١٨٢.

(٤) المستدرك: ٣/١٤٨.

١٧٩

فيكم مثَل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق». (١)

ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق، لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج الله ولفيف من أهل بيته.

والمراد من تشبيهّهم (عليهم السّلام) بسفينة نوح: إن من لجأ إليهم في الدّين؛ فأخذ فروعه وأُصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب الله، ومن تخلّف عنهم كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله، غير أنّ ذاك غرق في الماء، وهذا غرق في الجحيم.

وفي هذه الأحاديث الخمسة غنى وكفاية لطلاّب الحق.

الأئمة الاثنا عشر في حديث الرسول:

إنّ هناك روايات تحدّد وتعيّن عدد الأئمّة بعد الرسول وإن لم تذكر أسماءهم، ولكنّها تذكر سماتهم، وهذه هي أحاديث الأئمة الاثني عشر، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد، نذكرها إكمالاً للبحث:

١ - أخرج البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله، يقول: «يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: «كلّهم من قريش». (٢)

٢ - أخرج مسلم عنه أيضاً، قال: دخلت مع أبي على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فسمعته

____________________

(١) المستدرك: ٣/١٥١.

(٢) صحيح البخاري: ٩/١٠١، كتاب الأحكام، الباب ٥١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) )

التّفسير

يوم البعث والنشور :

تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.

يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار ، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب انزجارهم عن القبائح والذنوب :( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) وذلك ليلقي عليهم الحجّة.

وبناء على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين ، وما يوجد من

٣٠١

نقصان أو خلل يمكن فيهم ، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية ، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الأمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم ، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار ، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى :( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلّا أنّها لا تفيد أهل العناد(١) (٢) .

تبيّن هذه الآية أن لا نقص في «فاعلية الفاعل» ، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة ، وإلّا فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الأمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة كلّ هذه الأمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحقّ ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة إلى الحساب ، حيث يقول سبحانه :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٣) .

وعلى هذا تكون عبارة :( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) . لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للأخرى ، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) جاءت بصيغة الأمر للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عند ما يدعوهم

__________________

(١) (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).

(٢) نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الأمم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس ، ويحتمل البعض أنّ (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأوّل هو الأنسب. وضمنا فإنّ (ما) في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست استفهامية.

(٣) في الآية أعلاه (يوم) يتعلّق بمحذوف تقديره (اذكر) ويحتمل البعض أنّها تتعلّق بـ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.

٣٠٢

الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدّا.

وهنا يثار السؤال التالي : هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عند ما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟

ذكر المفسّرون احتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل ، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى :( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) ،(١) يرجّح الرأي الأوّل. رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.

أمّا المراد من( شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٢) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الأمور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة :( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) .

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا بالجراد المنتشر لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة انتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو ، مضافا إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

نعم ، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله

__________________

(١) الإسراء ٢

(٢) (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.

٣٠٣

تعالى :( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(١)

والحقيقة أنّ هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (٤) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه :( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) .

وأمّا قوله تعالى :( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) فإنّ كلمة «مهطعين» تأتي من مادّة (إهطاع) أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب ، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت ، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين ، لذا يضيف سبحانه معبّرا عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله :( يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) .

والحقّ أنّه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكّده البارئعزوجل بقوله :( وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) .(٢)

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) الفرقان ، ٢٦.

٣٠٤

مسألة

لماذا كان يوم القيامة يوما عسيرا؟ :

ولماذا لا يكون عسيرا؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة ، وخاصّة عند ما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون :( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) ،(١) هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان ، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها ، سواء كانت صالحة أم طالحة :( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) .(٢)

ومن جهة ثالثة ، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة ، والاعتذار عن التقصير ، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اخرى إلى الحياة يقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .(٣)

ونقرأ كذلك في قوله تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .(٤) . ولكن هيهات.

ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تنسي الامّهات أولادها ، وتسقط الحوامل أجنّتهن ، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد ، قال تعالى :( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

(٢) لقمان ، ١٦.

(٣) البقرة ، ٤٨.

(٤) الأنعام ، ٢٧.

٣٠٥

النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) .(١)

والدليل على اضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالافتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم ، قال تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ، كَلَّا إِنَّها لَظى ) .(٢)

إذا ، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الأخرى المهولة التي وردت في آيات اخرى أن يكون ذلك اليوم يوما مريحا وبعيدا عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!

(حفظنا الله جميعا في ظلّ لطفه ورعايته).

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) المعارج ، ١١ ـ ١٥.

٣٠٦

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) )

التّفسير

قصّة قوم نوح عبرة وعظة :

جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذارا وتوضيحا (للكفّار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلّا إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

٣٠٧

وفي هذه السورة ، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداء من قوم نوح كما في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) . فمضافا إلى تكذيبه واتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته.

فتارة يقولون له مهدّدين ومنذرين( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) .(١)

وتارة اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه ، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول : «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(٢) .

وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم ، ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.

والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ (التكذيب) قد ورد مرّتين ، ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الاولى (مختصرا) وفي الثانية (مفصّلا).

والتعبير بـ «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد ، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد ، كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به.

والظريف في هذه الآية أنّ الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم ، ممّا يكون سببا في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى :

__________________

(١) الشعراء ، ١١٦.

(٢) تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث

٣٠٨

( قالُوا ) .

ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عند ما يئس من هداية قومه تماما :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) .

والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة ، وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء ، فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.

نعم ، فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم ، ولكن عند ما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أنّ ينتقم منهم.

ثمّ يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي ابتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه :( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) .

إنّ تعبير انفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّا ، ويستعمل عادة عند هطول الأمطار الغزيرة.

(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء ، ويستعمل هذا التعبير أيضا عند ما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.

والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد أصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت ، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم ، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ما حقا ومميتا لهم(٢) .

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط ، بل

__________________

(١) (انتصر) : طلب العون كما في الآية (٤١) سورة الشورى ، وهنا جاءت بمعنى طلب الانتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).

(٢) روح المعاني هامش الآية مورد البحث.

٣٠٩

كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى :( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) (١) وهكذا اختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة :( فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة (قد قدر) بقولهم : إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة ، إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.

وخلاصة الأمر : إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء ، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحرا عظيما وطوفانا شديدا.

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان ، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافيا فتنتقل إلى سفينة نجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول تعالى :( وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ) .

(دسر) جمع (دسار) على وزن (كتاب) ، كما يقول الراغب في المفردات ، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترنا مع حالة عدم الرضا ، ولكون المسمار عند ما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).

وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك ، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظرا لذكر كلمة (ألواح).

على كلّ حال ، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف ، لأنّه كما يقول البارئعزوجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم ، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة

__________________

(١) «عيونا» : يمكن أن تكون تميّزا للأرض والتقدير فجرنا عيون الأرض ، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعا تحوّلت إلى عيون.

٣١٠

نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب ، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه ، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.

ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياسا مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوحعليه‌السلام كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة ، وطبقا للتواريخ فإنّ نوحعليه‌السلام قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع (من كلّ زوجين إثنين) من مختلف الحيوانات فيها.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول سبحانه( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة ، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (٣٧) من سورة هود :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة ، وبناء على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى :( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) (١) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين ، ونظرا لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوحعليه‌السلام ، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضا لسبب أعلاه.

ثمّ يضيف تعالى :( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) (٢) .

__________________

(١) «أعين» جمع عين ، وإحدى معانيها العين الباصرة ، والمعنى الآخر لها هو : الشخصية المعتبرة ، ولها معان اخرى.

(٢) يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول ، والمراد به نوحعليه‌السلام الذي كفر به ، وليس فعلا معلوما يشير إلى

٣١١

نعم إنّ نوحعليه‌السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية ، إلّا أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(١) .

ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار :( وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل ، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.

واستنادا إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة ، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوحعليه‌السلام ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو (سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم ، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوحعليه‌السلام ، ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوحعليه‌السلام كانت حتّى عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز ، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.

ولهذا فإنّ قصّة نوحعليه‌السلام كانت آية للعالمين ، وكذا سفينته التي بقيت ردحا من الزمن بين الناس(٢) .

وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّرا ومهدّدا للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

هل هذه حقيقة واقعة ، أم قصّة واسطورة؟

__________________

الكفّار.

(١) إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوحعليه‌السلام حين أنّهعليه‌السلام يكون النعمة التي (كفر) بها ، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر ، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوحعليه‌السلام وتعاليمه.

(٢) لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصة قوم نوحعليه‌السلام في هامش الآيات الكريمة ٢٥ ـ ٤٩ من سورة هود

٣١٢

ويضيف مؤكّدا هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها ، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيبا وتهديدا ، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين ، واحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة ، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصا عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة ، حتّى لو هيّأ لزراعتها أخصب الأراضي ، وسقيت بماء الكوثر ، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين ، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبدا.

* * *

٣١٣

الآيات

( كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) )

التّفسير

مصير قوم عاد :

تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وباختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح ، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى :( كَذَّبَتْ عادٌ ) .

لقد بذل هودعليه‌السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله ، وكانعليه‌السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لانتشالهم من الكفر والضلال ازدادوا إصرارا ونفورا ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشئ من الثراء والإمكانات المادية ، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة انغماسهم في الشهوات ، جعلتهم صمّ الآذان ،

٣١٤

عمّي العيون ، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد ، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) .

«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ) ، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد ، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز ، لذا اطلق عليها (صرصر).

أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الاحمرار الشديد) الذي يظهر في الأفق أحيانا ، كما يطلق العرب أيضا كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان ، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر» صفة لـ (يوم) أو لـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .(١)

وتعني في الحالة الثانية استمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.

كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر ، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعند ما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم ، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أمرت بعذابهم والانتقام منهم ، كما في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ. مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين ، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة

__________________

(١) الحاقّة ، ٧

(٢) الأحقاف ، ٢٤.

٣١٥

مورد البحث.

ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) .

«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته ، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.

كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم ، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اخرى ، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.

«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خلف أو تحت ، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها ، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس ، ثمّ قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه ، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان ، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!

وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار

٣١٦

الربّاني؟.

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) حيث تكرّرت مرّتين : الأولى : في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد ، والثانية : في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى ، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وانتقاما ، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

* * *

بحث

سعد الأيّام ونحسها :

الشيء المتعارف بين الناس ، هو أنّ بعض الأيّام سعيدة ومباركة ، والبعض الآخر نحس ومشؤوم ، مع وجود اختلاف كثير في تشخيصها.

ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلاميا ، وهل أنّها مأخوذة من تعاليم الإسلام أم لا؟.

من الناحية العقلية لا يعدّ اختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا ، بأن يتّصف بعضها بالنحوسة والاخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي استدلال عقلي لإثبات أو نفي هذا المعنى ، ولهذا نستطيع القول : إنّ هذا الأمر بهذا القدر شيء ممكن ، ولكنّه غير ثابت من الناحية العقلية.

وبناء على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق الوحي فلا مانع من قبولها ، بل الالتزام بها.

وحول (نحس الأيّام) تشير الآيات القرآنية مرّتين إلى هذا الموضوع ، الاولى في الآيات مورد البحث ، والثانية : في قوله تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

٣١٧

صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) (١) (٢) .

وفي مقابل «النحوسة» فإنّنا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك) كما في قوله تعالى حول ليلة القدر :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) .(٣)

وقلنا إنّ «نحس» مأخوذ في الأصل من صورة الاحمرار الشديد في الأفق ، الذي يشبه النار المتوهّجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه المناسبة استعمل في معنى الشؤم.

ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتطرّق لهذه المسألة إلّا من خلال إشارة مغلقة فقط. لكنّنا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية ، يواجهنا العديد من الرّوايات في هذا المجال ، مع العلم أنّ الكثير منها ضعيف ، وأنّ البعض الآخر منها موضوع أو ملفّق ، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعا كذلك ، بل هناك ما هو معتبر منها وموضع اطمئنان كما يؤكّد المفسّرون صحّة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.

ويذكر لنا المحدّث الكبير العلّامة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال في بحار الأنوار(٤) .

وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية :

أ ـ لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيّام ، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها ، حيث نقرأ في الرّواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطيّر منه وثفله ، وأي أربعاء هو) ، قالعليه‌السلام : «آخر أربعاء من الشهر ، وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ، ويوم الأربعاء أرسل

__________________

(١) يجدر الانتباه إلى أنّ نحسات جاءت صفة للأيّام ، وذلك يعني أنّ الأيّام المذكورة وصفت بالنحوسة ، في الوقت الذي ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة لـ (النحس) وليست وصفا ولكن بقرينة الآية أعلاه يجب القول : إنّ الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الانتباه).

(٢) فصّلت ، ١٦.

(٣) الدخان ، ٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٥٩ كتاب السماء والعالم ، ص ١ ـ ٩١ وما بعدها.

٣١٨

اللهعزوجل الريح على قوم عاد»(١) .

ومن هنا فإنّ الكثير من المفسّرين يرتّبون أثرا على هذه الرّوايات ، ويعتبرون أنّ آخر أربعاء من كلّ شهر هو يوم نحس ، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا تتكرّر.

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ اليوم الأوّل من كلّ شهر هو سعد ومبارك ، وذلك لأنّ آدمعليه‌السلام خلق في هذا اليوم ، وكذلك فإنّ اليوم ٢٦ من كلّ شهر يوم مبارك ، حيث : (ضرب موسى فيه البحر فانفلق)(٢) .

كما أنّ اليوم الثالث من كلّ شهر ، هو يوم نحس ، نزع عن آدم وحواء لباسهما وأخرجا من الجنّة(٣) .

كما أنّ اليوم السابع من كلّ شهر هو يوم مبارك ، لأنّ نوحعليه‌السلام قد ركب في السفينة (ونجا من الغرق)(٤) .

ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا المعنى حول يوم (النوروز) حيث يقول :

«... يوم مبارك استوت فيه سفينة نوح على الجودي ، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها وهو اليوم أمر النّبي أصحابه أن يبايعوا عليا بإمرة المؤمنين ...»(٥) .

وقد اقترن سعد ونحس الأيّام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيّئة كما في العديد من الرّوايات ، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي اعتبره الامويون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٣ حديث (٢٥).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦١.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٩٢.

٣١٩

يوم سعد لمّا حقّقوا فيه وبظنّهم من انتصار على أهل البيتعليه‌السلام نلاحظ الرّوايات تنهى بشدّة عن التبرّك في مثل هذا اليوم ، كما تحذر من ادّخار الأقوات السنوية فيه ، والابتعاد عن أجواء الاحتفالات التي كان يقيمها الامويون في هذا اليوم وكذلك تؤكّد على تعطيل الأعمال فيه.

ومن ملاحظة مجموعة الرّوايات السابقة ، دفع البعض أن يفسّر مسألة سعد ونحس الأيّام على أنّها مجعولة من أجل شدّ المسلمين بهذه الحوادث التاريخيّة المهمّة ، وحثّهم عمليّا على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه من معطيات ، وكذلك الابتعاد عن محطّات الحوادث السيّئة واجتناب سبلها.

ويمكن أن يصدّق هذا التّفسير في قسم من هذه الرّوايات ولا يصدق على القسم الآخر منها ، ذلك لأنّ المستفاد من البعض منها أنّ هنالك تأثيرا ملموسا في بعض الأيّام (إيجابا وسلبا) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.

ب ـ ممّا يجدر الانتباه إليه أنّ هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس الأيّام ، بحيث إنّهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلّا بالاعتماد على هذه الخلفية ، وبذلك يفوتون عليهم فرصا كثيرة يمكن الاستفادة منها.

وبدلا من التعمّق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح والخسارة والاستفادة من الفرص والتجارب الثرية فإنّهم يرجعون كسب الأرباح إلى سعد الأيّام والانتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيّام وهذا المنهج يعبّر عن الانهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذّره ونتجنّبه بشدّة.

والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذانا صاغية لأقوال المنجّمين والإشاعات المنتشرة في الأجواء الاجتماعية المتخلّفة ، ولا لحديث أولئك الذين يدّعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص ، ونستمرّ في حياتنا العملية بجهد حثيث وخطى ثابتة وبالتوكّل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثّر بهذه

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377