المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية0%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 195133
تحميل: 7981

توضيحات:

المذاهب الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195133 / تحميل: 7981
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ونقول: إنّ الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال الله عزّ وجلّ: ( كَلّا إِنّهُمْ عَن رَبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) . (1) وإنّ موسى (عليه السّلام) سأل الله عزّ وجلّ الرؤية في الدنيا، وإنّ الله تعالى تجلّى للجبل، فجعله دكّاً، فاعلم بذلك موسى أنّه لا يراه في الدنيا.

22. وندين بأن لا نكفّر من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنى والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنّهم كافرون.

ونقول: إنّ من عمل كبيرة من هذه الكبائر، مثل: الزنا والسرقة وما أشبههما، مستحلاًّ لها غير معتقد لتحريمها، كان كافراً.

23. ونقول: إنّ الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كلّ إسلام إيماناً.

24. وندين بأنّ الله تعالى يقلّب القلوب، (وأنّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن) (2) ، وأنّه سبحانه (يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع) (3) كما جاءت الرواية عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من غير تكييف.

____________________

(1) المطففين: 15.

(2) رواه مسلم رقم (2654) في القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، وأحمد: 2/168 و173، من حديث عبد الله بن عمرو، وابن ماجة برقم (3834) في الدعاء: باب دعاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والترمذي رقم (2141) في القدر: باب ما جاء أنّ القلوب بين أصبعي الرحمن من حديث أنس بن مالك، وأحمد: 6/302 و315، والترمذي رقم (3517) في الدعوات، باب 89 من حديث أُمّ سلمة، وأحمد: 6/251 من حديث عائشة 302، 315.

(3) أخرجه البخاري: 13/335، 336، 369 و397 في التوحيد: باب قوله تعالى: ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ ) وباب قوله تعالى: ( إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، وباب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء، و8/423 وفي التفسير: باب قوله تعالى: ( وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ

٢١

25. وندين بأنّ لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا ناراً، إلاّ من شهد له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا معذَّبين.

ونقول: إنّ الله عزّ وجلّ يخرج قوماً من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمّد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (1)

26. ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وإنّ الميزان حقّ، والصراط حقّ، والبعث بعد الموت حقّ، وإنّ الله عزّ وجلّ يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.

27. وإنّ الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الّتي رواها الثقاة، عدل عن عدل، حتّى تنتهي الرواية إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

28. وندين بحُب السلف، الذين اختارهم الله عزّ وجلّ لصحبة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين.

____________________

الْقِيَامَةِ )، ومسلم رقم (2786) (21) في المنافقين: باب صفة القيامة والجنة والنار، والترمذي رقم (3236) و(3238) في التفسير: باب: (ومن سورة الزمر)، كلّهم من حديث عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه).

(1) خروجهم من النار بعد أن امتحشوا وحديث الشفاعة، رواه البخاري: 13/395 - 397 في التوحيد: باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. و13/332 باب قوله تعالى ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ ) . و13/398 باب قوله: ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) . و8/122 في تفسير سورة البقرة: باب ( عَلّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلّهَا ) . ومسلم رقم (193) من حث أنس بن مالك. والبخاري: 6/264 و265. ومسلم (194) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها من حديث أبي هريرة. والبخاري: 11/367 و371 من حديث جابر.

٢٢

29. ونقول: إنّ الإمام الفاضل بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أبو بكر الصديق (رضوان الله عليه)، وإنّ الله أعزّ به الدين وأظهره على المُرتدِّين، وقدَّمه المسلمون للإمامة، كما قدمه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للصلاة، وسمّوه بأجمعهم خليفة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ثمّ عمر بن الخطاب، ثمّ عثمان بن عفان، وإنّ الذين قتلوه، قتلوه ظلماً وعدواناً، ثمّ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فهؤلاء الأئمّة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وخلافتهم خلافة النبوّة.

ونشهد بالجنّة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بها، ونتولّى سائر أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونكفُّ عمّا شجر بينهم، وندين الله بأنّ الأئمّة الأربعة خلفاء راشدون مهديُّون فضلاء، لا يوازيهم في الفضل غيرهم.

30. ونُصدِّق بجميع الروايات الّتي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأنّ الربّ عزّ وجلّ يقول: (هل من سائل، هل من مستغفر) (1) ، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل.

31. ونُعوِّل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربّنا تبارك وتعالى وسنّة نبيّنا (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم.

____________________

(1) رواه مسلم (758) (170) (172) في صلاة المسافرين: باب الترغيب والدعاء والذكر في آخر الليل. وللحديث صيغ أُخرى رواها البخاري في التهجّد: باب الدعاء والصلاة من آخر الليل. وفي الدعوات: باب الدعاء نصف الليل وفي التوحيد: باب قوله تعالى: ( يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُوا كَلاَمَ اللّهِ ) ومسلم (758) (168) (169). وأبو داود رقم (4733 في السنّة. والترمذي رقم (3493) في الدعوات. وأحمد: 2/258 و267 و282 و419 و3687 و504 و521 من حديث أبي هريرة.

٢٣

32. ونقول: إنّ الله عزّ وجلّ يجيء يوم القيامة كما قال: ( وَجَاءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ) (1) ، وإنّ الله عزّ وجلّ يقْرب من عباده كيف شاء كما قال: ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (2) ، وكما قال: ( ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى‏ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏ ) (3) .

33. ومن ديننا أن نصلّي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كلّ برّ وفاجر، كما رُوي عن عبد الله بن عمر: إنّه كان يصلّي خلف الحجّاج.

34. وإنّ المسح على الخُفّين سنّة في الحضر والسفر، خلافاً لقول من أنكر ذلك.

35. ونرى الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة.

36. ونقرّ بخروج الدجّال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (4)

37. ونؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم.

____________________

(1) الفجر: 22.

(2) ق: 16.

(3) النجم: 8 - 9.

(4) صحيح البخاري: 13/87 في الفتن: باب ذكر الدجال، وفي الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، و13/89 - 91، وفي فضائل المدينة: باب لا يدخل الدجال المدينة. ومسلم (2933) في الفتن: باب ذكر الدجال وصفته ومن معه ولغاية (2947)، والترمذي (2235) لغاية (2246) في الفتن، وأبو داود (4315) في الملاحم ولغاية (4328)، وأحمد في (المسند): 1/4، 7؛ 2/33، 37، 67، 104، 108، 124، 131، 237، 349، 429، 457، 530؛ 3/42؛ 5/32، 38، 43، 47. وابن ماجة من (4071) ولغاية (4081) في الفتن باب فتنة الدجال.

٢٤

38. ونصدّق بحديث المعراج. (1)

39. ونصحّح كثيراً من الرؤيا في المنام، ونقرّ أنّ لذلك تفسيراً.

40. ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم، ونؤمن بأنّ الله ينفعهم بذلك.

41. ونصدّق بأنّ في الدنيا سحراً وسحرة، وأنّ السحر كائن موجود في الدنيا.

42. وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة؛ برّهم وفاجرهم وتوارثهم.

43. ونقرّ أنّ الجنة والنّار مخلوقتان.

44. وإنّ من مات أو قتل، فبأجَله مات أو قتل.

45. وإنّ الأرزاق من قبل الله عزّ وجلّ يرزقها عباده حلالاً وحراماً.

46. وإنّ الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه، خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عزّ وجلّ: ( الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ) (2) ، وكما قال: ( مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنّاسِ * الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ * مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ ) . (3)

____________________

(1) رواه البخاري: 13/399 - 406 في التوحيد: باب ما جاء في قوله عزّ وجلّ: ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) ، وفي الأنبياء: باب صفة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومسلم رقم (162) في الإيمان: باب الإسراء برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى السماوات، والنسائي: 1/221 في الصلاة: باب فرض الصلاة، والترمذي رقم (3130) في التفسير: باب ومن سورة بني إسرائيل.

(2) البقرة: 275.

(3) الناس: 4 - 6.

٢٥

47. ونقول: إنّ الصالحين يجوز أن يخصّهم الله عزّ وجلّ بآيات يظهرها عليهم.

48. وقولنا في أطفال المشركين: إنّ الله يؤجّج لهم في الآخرة ناراً، ثمّ يقول لهم اقتحموها، كما جاءت بذلك الروايات. (1)

49. وندين الله عزّ وجلّ بأنّه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون.

50. وبطاعة الأئمّة ونصيحة المسلمين.

51. ونرى مفارقة كلّ داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتجّ لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه ممّا لم نذكره، باباً باباً وشيئاً شيئاً، إن شاء الله تعالى. (2)

***

____________________

(1) اختلف العلماء قديماً وحديثاً في أولاد المشركين على أقوال، منها: القول الّذي ذكره الأشعري أنّهم يمتحنون في الآخرة؛ بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى عذّب. رواه البزّار من حديث أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري (رضي الله عنهما)، ورواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل (رضي الله عنه).

قال الحافظ في (الفتح)، 3/195: وقد صحّت مسألة الامتحان في حقّ المجنون ومن مات في الفترة، من طرق صحيحة. ومن الأقوال: إنّهم في الجنة. قال النووي: وهو المذهب الصحيح الّذي صار إليه المحقّقون؛ لقوله تعالى: ( وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى‏ نَبْعَثَ رَسُولاً ) . وانظر (الفتح): 3/195 - 196.

(2) الإبانة: 8 - 12، باب: في إبانة قول أهل الحق والسنّة، مقالات الإسلاميين: 320 - 325.

٢٦

نظرنا في بعض هذه الأُصول:

1. ما ذكره في الأُصول الثلاثة: السابع والثامن والتاسع؛ من أنّ لله وجهاً ويدين وعيناً بلا كيف، حاول بذلك الجمع بين أمرين مهمين:

أ - إثبات هذه الصفات لله سبحانه بمعانيها اللغوية حذراً من تأويل المعتزلة.

ب - الاحتراز من وصمة الجمسانيّة؛ وذلك بإضافة قيد (بلا كيف)، وبذلك جمع بين الإثبات بالمعنى اللُّغوي والتنزّه عن صفات الجسمانيّة.

وهذه المحاولة وإن كانت مقبولة في بدء النظر، ولكنّه عند الإمعان ينقض أحدهما الآخر، فإنّ إثبات اليد لله سبحانه بمعانيها اللُّغويّة يلازم الكيفيّة، إذ واقع اليد هو كيفيتها المشتركة بين الإنسان والدواب. هذا من جانب.

ونفي الكيفية من جانب آخر نفيُ إثبات هذه الصفات بمعانيها اللغوية، وهذا ظاهر لمن دقّق النظر، وأمّا ما هو الصحيح في إثبات الصفات الخبرية، فسيوافيك في الفصول الآتية.

2. ما ذكره في الأصل السابع عشر: من أنّ أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة كما قال: ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (1) . إنّ الاستدلال بالآية غفلة عن سياقها، إذ ليس المراد من (ما) الموصولة أعمال الإنسان؛ بل الأصنام الّتي كان يعمل فيها العباد بالنحت والتسوية، يقول سبحانه: ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (2) .

____________________

(1) فاطر: 3.

(2) الصافات: 95 - 96.

٢٧

3. ما ذكره في الأصل الحادي والعشرين: بأنّا ندين بأنّ الله يرى في الآخرة بالأبصار، وهذا تعبير آخر عن كونه سبحانه متحيّزاً يرى في جهة، وذلك لأنّ المرئي يوم القيامة إمّا كلّه سبحانه أو قسم منه، فعلى الأوّل يكون متحيّزاً وعلى الثاني يكون مركّباً، فالقول بالرؤية من العقائد اليهوديّة المستوردة، وقد حيكت الروايات على منوال تلك العقيدة ونسبت إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

4. ما ذكره في الأصل الخمسين: (وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين) كلام لا يقبل على إطلاقه، وقد ذهب أبو الحسين الملطي إلى لزوم الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم من عدل وجور، وإنّه لا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا. (1)

وقد قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله:

السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البَرّ والفاجر، ومن ولّي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف وسُمّي أمير المؤمنين. والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة، البَر والفاجر. وإقامة الحدود إلى الأئمة، وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم. ودفع الصدقات إليهم جائز، من دفعها إليهم أجزأت عنه، براً كان أو فاجراً. وصلاة الجمعة خلفه وخلف كلّ من ولّي، جائزة إقامته، ومن أعادها، فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنّة.

ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه، أكان بالرضا أو بالغلبة، فقد شقَّ الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فإن مات الخارج عليه، مات ميتة جاهليّة. (2)

____________________

(1) لاحظ: التنبيه والرد، 14 - 15.

(2) تاريخ المذاهب الإسلامية، أبو زهرة، 2/322.

٢٨

وأين هذه العقيدة ممّا نقله السبط الشهيد، أبو الشهداء، الحسين بن علي، عن جدِّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حينما خطب أصحابه وأصحاب الحرّ، قائد جيش عبيد الله بن زياد آنذاك، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال:

(أيّها الناس: إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيّر). (1)

إكمال:

كان أصحاب الحديث قبل تصدّر أحمد بن حنبل لمنصَّة الإمامة في مجال العقائد على فِرَق وشيع، والأُصول الّتي كتبها الإمام ووحّدهم على تلك الأُصول لم تكن مورد قبول القدامى منهم، وقد أخذت هذه الأُصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع في أيام المتوكل لصالح الإمام أحمد.

والشاهد على ذلك أنّ جلال الدين السيوطي في كتابه (تدريب الراوي)، يذكر الفرق المختلفة لأصحاب الحديث الّذين لم يكونوا على وتيرة واحدة كما صاروا كذلك بعد الإمام أحمد، بل كان أصحاب الحديث بين:

مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان وأنّه لا تَضرُّ معه معصية، كما

____________________

(1) تاريخ الطبري: 4/304، حوادث سنة 61.

٢٩

لا تنفع مع الكفر طاعة. ونقدّم إليك بعض أسمائهم؛ من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه، نظراء:

1 - إبراهيم بن طهمان. 2 - أيوب بن عائذ الطائي. 3 - ذر بن عبد الله المرهبي. 4 - شبابة بن سوار. 5 - عبد الحميد بن عبد الرحمن. 6 - أبو يحيى الحماني. 7 - عبد المجيد بن عبد العزيز. 8 - ابن أبي رواد. 9 - عثمان بن غياث البصري. 10 - عمر بن ذر. 11 - عمر بن مرة. 12 - محمد بن حازم. 13 - أبو معاوية الضرير. 14 - ورقاء بن عمر اليشكري. 15 - يحيى بن صالح الوحاظي. 16 - يونس بن بكير.

إلى ناصبي لعلي وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، نظراء:

1 - إسحاق بن سويد العدوي. 2 - بهز بن أسد. 3 - حريز بن عثمان. 4 - حصين بن نمير الواسطي. 5 - خالد بن سلمة الفأفاء. 6 - عبد الله بن سالم الأشعري. 7 - قيس بن أبي حازم.

إلى متشيّع يحب علياً وأولاده، ويرى الولاء فريضة نزل بها الكتاب، ويرى الفضيلة لعلي في الإمامة والخلافة، نظراء:

1 - إسماعيل بن أبان. 2 - إسماعيل بن زكريا الخلقاني. 3 - جرير بن عبد الحميد. 4 - أبان بن تغلب الكوفي. 5 - خالد بن محمد القطواني. 6 - سعيد بن فيروز. 7 - أبو البختري. 8 - سعيد بن أشوع. 9 - سعيد بن عفير. 10 - عباد بن العوام. 11 - عباد بن يعقوب. 12 - عبد الله بن عيسى. 13 - ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى. 14 - عبد الرزاق بن همام. 15 - عبد الملك بن أعين. 16 - عبيد الله بن موسى العبسي. 17 - عدي بن ثابت الأنصاري. 18 - علي بن الجعد. 19 - علي بن هاشم

٣٠

بن البريد. 20 - الفضل بن دكين. 21 - فضيل بن مرزوق الكوفي. 22 - فطر بن خليفة. 23 - محمد بن جحادة الكوفي. 24 - محمد بن فضيل بن غزوان. 25 - مالك بن إسماعيل أبو غسان. 26 - يحيى بن الخراز.

إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم ومعاصيهم إلى أنفسهم، ولا يسند فعلهم إلى الله سبحانه، نظراء:

1 - ثور بن زيد المدني. 2 - ثور بن يزيد الحمصي. 3 - حسان بن عطية المحاربي. 4 - الحسن بن ذكوان. 5 - داود بن الحصين 6 - زكريا بن إسحاق. 7 - سالم بن عجلان. 8 - سلام بن مسكين. 9 - سيف بن سلمان المكي. 10 - شبل بن عباد. 11 - شريك بن أبي نمر. 12 - صالح بن كيسان. 13 - عبد الله بن عمرو. 14 - أبو معمر عبد الله بن أبي لبيد. 15 - عبد الله بن أبي نجيح. 16 - عبد الأعلى بن عبد الأعلى. 17 - عبد الرحمن بن إسحاق المدني. 18 - عبد الوارث بن سعيد الثوري. 19 - عطاء بن أبي ميمونة. 20 - العلاء بن الحارث. 21 - عمرو بن زائدة. 22 - عمران بن مسلم القصير. 23 - عمير بن هاني. 24 - عوف الأعرابي. 25 - كهمس بن المنهال. 26 - محمد بن سواء البصري. 27 - هارون بن موسى الأعور النحوي. 28 - هشام الدستوائي. 29 - وهب بن منبه. 30 - يحيى بن حمزة الحضرمي.

إلى جهمي ينفي كلَّ صفة لله سبحانه، ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه، نظير: بشر بن السري.

إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم، ويتبرأ منه ومن عثمان ومن طلحة والزبير وأُم المؤمنين عائشة ومعاوية وغيرهم، نظراء:

٣١

1 - عكرمة مولى ابن عباس. 2 - الوليد بن كثير.

إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث والقدم، وإنّه مخلوق أو غير مخلوق، نظير: علي بن هشام.

إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمة الجور ولا يباشره بنفسه، نظير: عمران بن حطان (1) .

إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء؛ الذين قضى عليهم الدهر وعلى آرائهم ومذاهبهم بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمّة الإمامة في العقائد. فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأُصول الّتي استخرجها أحمد، وجعل الكلّ كتلة واحدة، بعد ما كانوا على سُبل شتى.

هذه ملحمة أهل الحديث وسلفهم وعقيدتهم، والأسف أن المفكّرين من أهل السنّة يتخيَّلون أنّ هذه الأُصول الّتي يدينون بها هي نفس الأُصول الّتي كان عليها المسلمون الأُول إلى زمن الإمام أحمد.

وهذا التاريخ الواضح يفرض على المفكّرين المتعطّشين لمعرفة الحق دراسة هذه الأُصول من رأس؛ حتّى لا يعبأوا بما جاء في هذه الكتب ممّا عليه ماركة (عقيدة السلف) أو (عقيدة الصحابة والتابعين) أو تابعي التابعين.

والّذي يوضح ذلك، هو أنّ كلّ واحد من هذه الأُصول ردٌ لمذهب نجم في القرون الأُولى، فلأجل التبرّي منه صار خلافه شعاراً لمذهب أهل الحديث. وعقائد أهل الحديث كأنّها مركّبة من عدة ردود للفرق وأصحاب المقالات.

____________________

(1) تدريب الراوي: 1/328.

٣٢

2

السّلفيّة

السلف في اللغة: كلّ من تقدّمك من آبائك وذوي قرابتك، وربّما يستعمل جمعاً للسالف بمعنى: الماضي.

وفي المصطلح: عبارة عن جماعة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين؛ حيث تُعدُّ اجتهاداتهم وآراؤهم في الأُصول والفروع أسوة للآخرين، ولا يجوز الخروج عنها قيد شعرة، ويجب التمسّك بها والدعوة إليها على أنّها مظهر الدين الحق، وعنوان العقيدة الصحيحة، معتمداً على ما رواه الشيخان من رواية عبد الله بن مسعود: (خير الناس قرني، ثمّ الّذين يلُونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته). (1)

ولا شك أنّ المراد من الخيريّة؛ هو خيريّة أهل القرون الثلاثة من المسلمين؛ لا نفس الزمان، فالّذين يمثّلون الحلقة الأُولى من تلك السلسلة هي حلقة الصحابة، والحلقة الثانية تمثّل التابعين الّذين لم يستضيئوا بنور النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مباشرة، ولكن غمرهم ضياء النبوّة باتّباعهم لأصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والاهتداء بهدهم.

____________________

(1) السلفيّة، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص11.

٣٣

وأمّا الحلقة الثالثة فهي تمثّل تابعي التابعين، وبعد انتهاء هذه الحلقات الثلاث ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وتتابعت الفِرق الضالّة الّتي تشذ عن صراط تلك العصور الثلاثة، كلّ فِرقة تشقُّ لنفسها من ذلك الطرف العريض سبيلاً متعرجة تقف على فمه وتدعو إليه، مخالفة بذلك قول الله عز وجل: ( وَأَنّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَتَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُم بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ) (1) .

فهذا هو السلف، والسلفيّة عبارة عن الخَلف الّذين يقتدون بهم في الأُصول والفروع، ولا يخرجون عمّا رأوا من الفعل والترك قيد شعرة.

والسلفية بهذا المعنى تعتمد على رواية عبد الله بن مسعود، فلنتناولها بالبحث والتمحيص، فنقول:

القرن في اللغة أهل زمان واحد، المقدار الّذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمالهم وأحوالهم، يقال: هو على قرني، أي على سنّي وعمري.

وأمّا إطلاقه على مائة سنة، فاصطلاح جديد، لا يُحمل عليه الكتاب والسنّة.

وعلى ضوء ذلك، فلا محيص عن حمل الحديث على الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم.

ولكن ابن تيميّة وأتباعه راحوا يحدّدون السلفية بثلاث قرون، أي 300 سنة، فكلّ ما حدث في هذه الحقبة من الزمان، فهو مظهر دين الحق، وعنوان العقيدة الصحيحة.

____________________

(1) الأنعام: 153.

٣٤

وبذلك يبرّرون أعمالهم في تحريم البناء على قبور الأولياء؛ بأنّه حدثَ بعد القرون الثلاثة.

وربّما يؤيّد الحديث بما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إنّه قال:

«وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي». (1)

أقول: أوّلاً: لا يمكن الركون إلى هذا المؤيِّد؛ لأنّ النصوص هنا مختلفة.

روى الحاكم (2) وأبو داود (3) وابن ماجة (4) بأنّ النبيّ قال: إلاّ واحدة وهي الجماعة، أو قال: الإسلام جماعتهم.

وروى الحاكم أيضاً أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حدّد أعظم الفِرق هلاكاً، وقال: «ستفترق أُمّتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فرقة قوم يقيسون الأُمور برأيهم، فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام». وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (5)

وروى صاحب الروضات، عن كتاب الجمع بين التفاسير: إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: «هم أنا وشيعتي». (6)

____________________

(1) سنن الترمذي: 5/26، كتاب الإيمان، الحديث 2641، ونقله الشهرستاني في الملل والنحل: 1/13.

(2) المستدرك: 1/128.

(3) سنن أبي داود: 4/198، كتاب السنّة.

(4) سنن ابن ماجة: 2/479، باب افتراق الأُمم.

(5) المستدرك: 4/430.

(6) روضات الجنان: 508، الطبعة الحجريّة.

٣٥

وعلى هذا لا يمكن الاعتماد على هذا النقل.

وثانياً: إنّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة، إلاّ بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قليلاً، فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.

وعلى ذلك فعطف (وأصحابي) على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يخلو من غرابة!!

***

هذا ما يرجع إلى دراسة الرواية من حيث اللفظ، وأمّا دراستها من حيث المعنى، فنقول:

أوّلاً: إنّ إضفاء القداسة على جماعة خاصة، على نحو يكون رأيهم في الأُصول والفروع حجة لغيرهم، ولا يجوز الخروج عنه قيد شعرة، بمثابة حجيّة قولهم في مجالي الأفعال والتروك، مع أنّه لم يدلّ دليل عليها، غاية الأمر أنّ قول الصحابي أو التابعي حجّة لهما، لا لغيرهما.

وبعبارة جامعة: قول الثقة إذا نقله عن النبيّ الصادع بالحق حجة، وإلاّ فقول الصحابي فضلاً عن التابعي بما هو هو ليس بحجة، سواء أكان من القرون الثلاثة الأُولى أم ما بعدها.

وثمّة كلمة قيّمة للإمام الشوكاني، نذكرها بنصها:

والحق إنّه - رأي الصحابي - ليس بحجة، فإنّ الله لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وليس لنا إلاّ رسول واحد وكتاب واحد، وجميع الأُمّة مأمورة

٣٦

باتّباع كتابه وسنّة نبيه، ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية وباتّباع الكتاب والسنّة، فمن قال: إنّها تقوم الحجة في دين الله عزّ وجلّ بغير كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وما يرجع إليها، فقد قال في دين الله بما لا يثبت. (1)

ثانياً: إنّ الخيريّة الّتي أخبر عنها الرسول حسب الرواية، هل يراد منها أنّها ثابتة لجميع أفراد هذه القرون الثلاثة، ممّن يُظلّلهم الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، أو أنّها ثابتة لمجموع المسلمين في تلك العصور الثلاثة؟

أمّا الأفراد فقد لا تنطبق الخيرية على بعضهم، قال ابن حجر:

هل هذه الأفضليّة بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟، محل بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأوّل قول ابن عبد البر.

وقال أيضاً: واتّفقوا أنّ آخر من كان من أتباع التابعين؛ ممّن يقبل قوله، مَن عاش حدود 220هـ، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً لم يزل في نقص إلى الآن، وظهر قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ثمّ يفشو الكذب ظهوراً بيّناً، حتّى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات». (2)

فعلى ضوء ما ذكره، آخر ما بقي من تابعي التابعين أصل انتهاء الخيريّة، وبدأ الشرِّ بعده.

____________________

(1) إرشاد الفحول: 214.

(2) فتح الباري: 7/4.

٣٧

أمّا الوجه الأوّل، أي كون الخيريّة لأفراد هذه الأُمة قاطبة، فدون إثباتها خرط القتاد؛ إذ كيف يعقل خيريّة كلِّ من عاش بعد رحيل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى نهاية عام 220هـ، وقد ظهر فيهم الفساد ودبّت فيهم نار الفتنة والشقاق!!

ومن استقرأ تاريخ الإسلام وتاريخ العقائد، يقف على أنّ تلك البرهة من الزمان من أحلك العصور ظلمة، ولنستعرض النماذج التالية:

1. قاد جماعة من الصحابة والتابعين حملة شعواء ضد عثمان، حتّى انتهى الأمر إلى الإطاحة به وقتله، وقد بلغ من غضب الثوّار على عثمان بمكان أنّ الإمام أمير المؤمنين وأبناءه لم يتمكنّوا من صدّهم عنه، فهل الخير كان إلى جانب الثوّار أو إلى جانب عثمان؟!

2. هذا هو طلحة والزبير قد جهّزا جيشاً جرّاراً لحرب الإمام عليّ (عليه السّلام)، وأعانتهما أُمّ المؤمنين عائشة، فقُتل جرّاء ذلك خلق كثير عند هجومهما على البصرة، وعند قتالهما للإمام (عليه السّلام)، فهل الخير كان إلى جانب جيش الإمام أو إلى جانب طلحة والزبير؟!

3. كما صنع معاوية نظير ذلك؛ حيث حارب الإمام في صفِّين، وكان مع عليّ (عليه السّلام) من البدريّين جماعة كثيرة، حاربوا جيش الشام وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، فهل الخير كان إلى جانب الإمام وجيشه أو إلى جانب جيش معاوية، وقد ذهب ضحيّة تلك الحرب سبعون ألفاً (1) من العراقيّين والشاميّين؟!

____________________

(1) مروج الذهب: 2/404.

٣٨

وهل يمكن لأحد أن يصف الفئة الباغية بالخير؟!؛ وقد قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مخاطباً عمّار: (إنّك لن تموت حتّى تقتلك الفئة الباغية الناكبة عن الحق، وإنّ آخر زادك من الدنيا شربة لبن). (1)

4. إنّ معاوية أوّل من بدّل نظام الحكم الإسلامي من الشورى إلى النظام الملكي الّذي ساد بين الأُمويّين ما يقرب من ثمانين عاماً، فهل تعدّ تلك العصور الدمويّة المليئة بالقتل وسفك الدماء خير القرون؟!

نقل صاحب المنار: إنّه قال أحد علماء الألمان في الآستانة لبعض المسلمين، وفيهم أحد شرفاء مكّة: إنّه ينبغي لنا أن نُقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا في عاصمتنا (برلين)، قيل له: لماذا؟، قال: لأنّه هو الّذي حوّل نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطيّة إلى عصبيّة الغلب (الملك لمن غلب)، ولو لا ذلك لعمّ الإسلام العالم كلّه، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أُوربا عرباً مسلمين. (2)

وبكلمة جامعة، إنّا إذا استعرضنا العهد الأُمويّ الّذي تسلّم فيه الأُمويّون منصّة الخلافة، ابتداءً من معاوية بن أبي سفيان، فيزيد بن معاوية، فمروان بن الحكم، ثم أبنائه الأربعة، فهل يمكن أن نعدَّ هذه الحقبة من التاريخ خير القرون، وقد قُتل فيها سبط النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ الحسين بن عليّ (عليه السّلام)، وأُبيحت دماء أهل المدينة وأعراض نسائهم، وحوصرت مكّة وهتكت حرمتها على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، واستُعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونُقش على أيديهم كما يُنْقش على

____________________

(1) الكامل في التاريخ: 3/157.

(2) تفسير المنار: 11/269، في تفسير سورة يونس.

٣٩

أيدي غلمان الروم، إلى غير ذلك من الجرائم البشعة الّتي يندى لها جبين الإنسانيّة؟!

فإذا كان هذا حال الأفراد، فيعلم منه حال المجموع، فكيف يمكن أن يقال: إنّ المجموع في هذه القرون الثلاثة أفضل من بقية مجاميع سائر القرون؟!، ولا يقول ذلك إلاّ من غضَّ الطرف عن قراءة التاريخ والحوادث المريرة الّتي جرت في العصور الأُولى.

وثالثاً: إنّ ابن حجر يذكر: بأنّ البدع ظهرت بعد (220) سنة، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رؤوسها... الخ، ولكنّه لم يقرأ تاريخ العقائد، فإنّ قسماً كبيراً من المناهج الثلاثة، سواء أصحّت أم لم تصحّ، قد وُضِعت لبناتها الأُولى في هذه الحقبة من الزمان.

فهذه هي المحكّمة الّذين يكفّرون عامّة المسلمين ظهرت في مختتم العقد الرابع من القرن الأوّل في مسألة التحكيم، ودامت حروب الخوارج من عصر عليّ إلى قرون متمادية، وزهقت خلالها نفوس كثيرة.

ثم ظهرت المرجئة في العقد التاسع من القرن الأوّل، وهم الذين يقدّمون الإيمان ويؤخّرون العمل، وكانت عقيدتهم ردّ فعل لما عليه المحكّمة. لأنّهم كانوا يكفّرون مرتكب الكبيرة، فالمرجئة تتسامح في كل ذلك، وتعدّ الجميع من أهل النجاة والفلاح، لأنّ المهم هو الإيمان دون العمل.

ثمّ ظهر الاعتزال عام 105هـ على يد واصل بن عطاء (المتوفّى عام 131هـ) وزميله عبيد بن عمرو (المتوفّى 143هـ).

٤٠