المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية0%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 195127
تحميل: 7980

توضيحات:

المذاهب الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195127 / تحميل: 7980
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المذاهب الإسلاميّة

جعفر السبحاني

١

٢

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

قال تعالى:

( إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الْإِسْلاَمُ )

آل عمران: 19

وقال تعالى:

( وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا )

العنكبوت: 69

٣

٤

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل بريته محمد وآله الطيّبين الطاهرين، ومن اهتدى بهداهم من الأوّلين والآخرين، سلاماً ما دامت السماء ذات أبراج والأرض ذات فجاج.

أمّا بعد؛ فهذه وجيزة في المِلل والنِّحل، لخّصتها من موسوعتنا الكبيرة (بحوث في المِلل والنِّحل)، لِمَا وجدتُ من أنّ الجيل الحاضر إلى الإيجاز أميل وعن الإسهاب أعرض، واستعرضت فيها الملل والفرق بما لها من أُصول وعقائد، وتركتُ التعرُّض لما يتفرّع عنها، كما تركتُ التعرّض إلى التحليل والنقد، إلاّ شيئاً يسيراً يقتضيه الحال. واقتصرت على دراسة المذاهب الموجودة، وأعرضتُ عن ذكر الفِرَقِ البائدة الّتي أكل عليها الدهر وشرب، ومن ابتغى التحليل والنقد لهذه الفرق، فليرجع إلى موسوعتنا المذكورة.

وقبل الخوض في البحث، نقدِّم بحوثاً تمهيديّة تُنير السبيل لهذا العلم.

المؤلف

٥

٦

بحوث تمهيديَّة

وقبل الخوض في صلب الموضوع، نقدّم أُموراً تمهيديّة تنير السبيل لروّاد هذا العلم:

1. الملّة والنحلة في اللغة:

الملّة بمعنى: الطريقة المقتبسة من الغير، يقول سبحانه: ( بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (1) .

وأمّا النحلة، فهي بمعنى: الدعوى والدِّين، ولكن تستعمل كثيراً في الباطل، يقال: انتحال المبطلين. وفي المصطلح: المناهج العقائدية لأُمّة خاصّة أو جميع الأُمم، سواء كانت حقّاً أم باطلاً.

2. الصلة بين علم العقائد وعلم الملل والنحل:

إنّ علم الكلام يبحث عن المسائل العقائدية الّتي ترجع إلى المبدأ والمعاد، ويوجِّه عنايته إلى إثبات فكرة خاصة في موضوع معيّن، ولكن علم الملل والنحل يسرد المناهج الكلاميّة وعقائد الأقوام، دون أن يتحيّز إلى منهج دون منهج، وهمّه عرض هذه الأُسس الفكرية على روّاد الفكر والمعرفة؛ فنسبة هذا العلم إلى علم العقائد نسبة تاريخ العلم إلى نفسه.

____________________

(1) البقرة: 135.

٧

3. تعريفه، موضوعه، مسائله، غايته:

إنّ علم الملل والنحل كسائر العلوم، له: تعريفه، وموضوعه، ومسائله، وغايته.

أمّا تعريفه: فهو العلم بتاريخ نشوء المذاهب والديانات عبر القرون، ومقارنتها مع بعض.

وأمّا موضوعه: فهو عقائد الأُمم الّذي يعبَّر عنه بالملل والنحل.

وأمّا مسائله: فهي الاطّلاع على آراء أصحاب الديانات.

وأمّا غايته: فتتَّحد غايته مع تاريخ العلوم على وجه الإطلاق، وهي إعطاء البصيرة للمحقّق الكلامي في نشوء العقائد واشتقاق بعضها من بعض.

4. المصنّفات في الملل والنحل:

إنّ ما كُتب في هذا المجال على قسمين: قسم منه: يتناول جميع أديان البشر أو أكثرها. وقسم منه: يختصّ بالفرق الإسلامية.

أمّا القسم الأوّل، فهو:

1. (الآراء والديانات): تأليف حسن بن موسى النوبختي (المتوفّى 298هـ).

2. (المقالات): تأليف محمد بن هارون الورّاق البغدادي (المتوفّى سنة 347هـ).

يصفه النجاشي بقوله: كتاب كبير، حسن، يحتوي على علوم كثيرة، قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبد الله (1) .

3. (أُصول الديانات): لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (المتوفّى عام 345هـ) صاحب مروج الذّهب، يذكر فيه كتابه هذا.

4.(الملل والنحل): لابن حزم الظاهري (المتوفّى عام 456هـ).

____________________

(1) رجال النجاشي: برقم 146.

٨

5. (الملل والنحل): لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (479 - 548هـ).

وأمّا القسم الثاني، فنظير:

1. (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين): لشيخ الأشاعرة: أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260 - 324هـ).

2. (التنبيه والرد): لأبي الحسين الملطي (المتوفّى عام 377هـ).

3. (الفرق بين الفرق): تأليف الشيخ عبد القاهر البغدادي التميمي (المتوفّى عام 429هـ).

4. (التبصير في الدين): الطاهر بن محمد الاسفرايني (المتوفّى عام 471هـ).

5. (فرق الشيعة): الشيخ أبي القاسم سعد بن عبد الله القمي (المتوفّى 299هـ). وربّما يُنسب هذا الكتاب إلى حسن بن موسى النوبختي.

وكتابنا هذا يركّز البحث على الفرق الإسلامية وما يمت إليها بصلة، وإن لم يكن في الحقيقة منها.

5. علل تكوّن الفرق الإسلامية:

لبّى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) دعوة ربّه وانتقل إلى جواره وترك لأُمتّه ديناً قيِّماً، عليه سمات من أبرزها بساطة العقيدة ويسر التكليف. كما ترك للاهتداء بعده: كتاب الله لعزيز الّذي فيه ( تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ ) (1) ، وسنّته الوضّاءة المقتبسة من الوحي (2) السليم من الخطأ، وعترته الطاهرة قرناء الكتاب (3) .

وكان الجدير بالمسلمين التمسّك بالعروة الوثقى وتوحيد الكلمة في عامّة

____________________

(1) النحل: 89.

(2) النجم: 4.

(3) حديث الثقلين.

٩

المواقف، إلاّ فيما كان الاختلاف فيه أمراً ضرورياً لا يُجتنب، ولكن مع الأسف، نجم بينهم فرق ومذاهب يختلف بعضها عن بعض في جوهر الإسلام وأُصوله.

وأمّا ما هو العامل أو العوامل لتكوِّن الفِرَق؟ ؛ نشير إليها إجمالاً:

العامل الأوّل: الاتجاهات الحزبية والتعصّبات القبلية:

إنّ أعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف في قضيّة الإمامة، وما سلّ سيف في الإسلام وفي كلّ الأزمنة على قاعدة دينية مثلما سلّ على الإمامة.

ومع أنّ الرسول لم يترك الأُمّة سدى؛ بل نصب خليفة للمسلمين ومن يقوم بوظائف النبوّة بعده، وإن لم يكن نبيّاً بل إماماً منصوصاً،لكن مع الأسف، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة - قبل تجهيز النبيّ ومواراته - ثمّ التحق بهم نفر من المهاجرين؛ لا يتجاوز عددهم الخمسة، فكثُر الاختلاف والنزاع بينهم، فكلُّ طائفة كانت تحاول جرّ النّار إلى قُرصها؛ فيقول مندوب الأنصار رافعاً عقيرته: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب، إلى أن قال: استبدّوا بهذا الأمر دون الناس.

وقال نفر من المهاجرين: من ذا الّذي ينازع المهاجرين في سلطان محمّد وإمارته، وهم أولياؤه وعشيرته.

فصارت المناشدة في السقيفة، الحجر الأساس للتفرق وانثلام الكلمة ونسيان الوصية الّتي أدلى بها النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في غير واحد من المواقف، منها يوم الغدير.

العامل الثاني: سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق:

ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة الّتي ارتكبها عُمّاله في هذه البلاد، وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب عليّ مكانه، وقد

١٠

قام عليّ (عليه السّلام) بعزل الولاة آنذاك، عملاً بواجبه أمام الله سبحانه وأمام المُبايعين له، غير أنّ معاوية قد عرف موقف عليّ بالنسبة إلى عمال الخليفة، فرفض بيعة الإمام، ونجم عن ذلك حرب صفّين، بين جيش عليّ وجيش معاوية، فلمّا ظهرت بوادر الفتح لصالح عليّ (عليه السّلام)، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة عليّ (عليه السّلام)، وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب، وقام بتبيين الخدعة، غير أنّ الظروف الحاكمة على جيش الإمام، ألجأته إلى وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحَكَمين وإعلان الهدنة.

ومن عجيب الأمر أنّ الّذين كانوا يُصرّون على إيقاف الحرب، ندموا على ما فعلوا، فجاءوا إلى الإمام يُصرّون على نقض العهد، غير أنّ الإمام وقف في وجههم؛ لِمَا يتضمّن اقتراحهم من نقض العهد، وعند ذلك ظهرت فرقة باسم المحكِّمة؛ حيث زعموا أنّ مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ ) ؛ وما هذا إلاّ نتيجة سوء الفهم واعوجاج السليقة، لأنّ الإمام أرجأ المسألة إلى حكم الحَكَمين على ضوء القرآن والسنّة، فكيف يكون ذلك مخالفاً لقوله سبحانه: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ ) ، فإنّ الحكم على وفقها حكم لله سبحانه، وقد صار هذا الاعوجاج مبدأً لظهور الخوارج بفرقها المختلفة على ساحة التاريخ.

العامل الثالث: المنع عن كتابة الحديث:

قد منع الخلفاء بعد رحيل الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن كتابة الحديث وتدوينه، بل التحديث عنه، إلى أواخر القرن الأوّل، بل إلى عهد المنصور العباسي، مع أنّ حديث الرسول عِدْل القرآن الكريم؛ فالقرآن وحي بلفظه ومعناه، وسنته

١١

وحي بمعناه لا بلفظه. وقد اعتمدوا في منع كتابة السنّة ونشرها على روايات مزوّرة؛ مخالفة للكتاب والسنّة الثابتة.

وقد ترك هذا المنع آثاراً سلبية؛ أقلّها حرمان الأُمّة من السنّة النبويّة الصحيحة قرابة قرن ونصف، فظهر الوضّاعون والكذّابون بين المسلمين، فرووا عن لسان الرسول ما شاءوا وما أرادوا، وصارت هذه الحيلولة سبباً لازدياد الحديث؛ حتّى أخرج محمد بن إسماعيل البخاري صحيحه عن ستمائة ألف حديث. وأين حياة الرسول، المليئة بالأحداث، من التحديث بهذا العدد الهائل من الأحاديث؟!، ولذلك غربلها البخاري، فأخرج منها ما يقارب ألفين وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً، ولا يقلّ عنه صحيح مسلم وكُتب السُّنن.

العامل الرابع: فسح المجال للأحبار والرهبان:

إنّ الفراغ الّذي خلّفه المنع عن نقل أحاديث الرسول، أوجد أرضيّة مناسبة لتحديث الأحبار والرهبان عن العهدين، فصاروا يحدّثون عن الأنبياء والمرسلين بما سمعوه من مشايخهم أو قرأوه في كتبهم.

يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه، وكلّها مستمدة من التوراة (1) .

ويقول الكوثري: إنّ عدّة أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين، ثم أخذوا بعدهم في بثِّ ما عندهم من الأساطير (2) .

____________________

(1) الملل والنحل: 1/16.

(2) مقدّمة تبيين المفتري: 30.

١٢

ولو كان نشر الحديث وتدوينه وتحديثه أمراً مسموحاً، لما وجد الأحبار والرهبان مجالاً للتحديث عن كتبهم المنحرفة، ولانشغل المسلمون عن سماع ما يبثّون من الخرافات بالقرآن والسنّة، ولكنّ الفراغ الّذي خلّفه المنع أعان على تحديثهم واجتماع الناس حولهم، ومن قرأ سيرة كعب الأحبار، ووهب بن منبه اليماني، وتميم بن أوس الداري وغيرهم، يقف على دورهم في نشر الأساطير وإغواء الخلفاء بها.

العامل الخامس: الاحتكاك الثقافي:

التحق النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرفيق الأعلى، وقام المسلمون بفتح البلدان والسيطرة عليها، وكانت الأُمم المغلوبة ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب.

وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلُّم ما في هذه البلاد من آداب وفنون، فأدّت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أوّلاً، ونَقْل كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً، حتّى انتقل كثير من آداب الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي، ولا شكَّ أنّ من تلك المعارف ما يُضَاد مبادئ الإسلام، وكان بين المسلمين من لم يتدرّع في مقابلها، ومنهم من لم يتورّع عن أخذ الفاسد منها، فصار ذلك مبدأً لظهور ديانات وعقائد على الصعيد الإسلامي، عندما صبغوا ما أخذوه من الكتب بصبغة الإسلام.

العامل السادس: الاجتهاد في مقابل النص:

إذا كانت العوامل الخمسة سبباً لنشوء المذاهب الكلامية، فهناك

١٣

عامل سادس صار مبدأً لتكوّن المذهب الكلامي والمذهب الفقهي، وهو تقديم الاجتهاد - لمصلحة مزعومة - على النّص.

إنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد أوصى المسلمين بعترته وشبّههم بسفينة نوح، وقال في محتشد عظيم: (يا أيّها النّاس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (1) . ومع ذلك استأثر القوم بالأمر يوم السقيفة، وقضوا أُمورهم من دون مشورة أو حوار مع أهل البيت، فصار ذلك سبباً لظهور مذاهب فقهيّة مبنيّة على تقديم المصلحة المزعومة على نص النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعلى هذا الأساس منعوا من متعة الحج ومتعة النساء وتوريث الأنبياء إلى غير ذلك من المذاهب الفقهيّة، كما حدثت مذاهب كلاميّة، لأجل الاستبداد بفكرهم، من دون عرضها على الكتاب والسنّة.

هذه هي العوامل الستة الّتي صارت سبباً لظهور المذاهب بين الإسلاميين. ومن حسن الحظ أنّ أغلب الطوائف تشترك في الأُمور الّتي بها يناط الإسلام والإيمان، وإن كانوا يختلفون في مباحث كلاميّة أو مسائل فقهيّة.

إلى هنا تمّت البحوث التمهيديّة، وسنشرع في سرد المذاهب.

____________________

(1) كنز العمال: 1/44، باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

١٤

1

أهل الحديث والحشويّة

إنّ للحديث النّبويّ من علو الشأن وجلالة القدر ما لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج في إثباته إلى برهان، إذ هو الدعامة الثانية - بعد الذكر الحكيم - للدين والشريعة والحكم والأخلاق.

وهذه المنزلة الرفيعة تقتضي المزيد من الاهتمام بالمنقول عنه، ودراسته وتمحيصه بأفضل نحو حتّى يتميّز الصحيح عن السقيم، والمعقول عن غيره، وموافق الكتاب عن مخالفه.

وذلك لِما دقَّ رسول الله جرس الإنذار وقال: (من كذب عليَّ متعمِّداً، فليتبوّأ مقعده من النار). وذلك يعرب عن أنّ الرسول كان يعلم بإذن الله أنّ أعداء دين الإسلام وسماسرة الحديث سيكذبون عليه، ويضعون الحديث على لسانه.

وقد صدق الخُبر الخبرَ؛ حيث وضع الوضّاعون أحاديث على لسانه، وبثّوها بين صفوف المسلمين بأساليب مختلفة، فصار تمييز الصحيح عن غيره أمراً بعيد المنال.

وقد كان لمنع كتابة الحديث وتحديثه ما يزيد على قرن، مضاعفات جمّة؛

١٥

أهمّها انتهاز الوضّاعين لوضع الحديث وجعله ونشره بين المسلمين، فلمّا وقف المحدّثون على مدى الخسارة الّتي مُني بها الحديث، أخذوا بتقييد وضبط كلِّ ما دبّ وهبّ بحرص شديد، سواء وافق العقل أم خالفه، وافق الكتاب أم خالفه، إلى حد تجاوزت منزلة الحديث، الكتاب العزيز، ويُعلم ذلك من الأُصول الّتي اتّخذها أهل الحديث مقياساً لأخذ الحديث وجمعه، فقالوا:

1. إنّ السنّة لا تُنسخ بالقرآن، ولكن السنّة تَنسخ القرآن وتقضي عليه، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها. (1)

2. إنّ القرآن أحوج إلى السنّة، من السنّة إلى القرآن. (2)

3. إنّ القول بعرض الأحاديث على الكتاب، قول وضعه الزنادقة. (3)

والّذي يُعرب عن كثرة الموضوعات، اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم الصحاح والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن ذلك الهوش الهائش. قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث، وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث.

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً، اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث.

وفي صحيح مسلم أربعة الآف حديث أُصول، دون المكرَّرات، صنّفها من ثلاثمائة ألف.

____________________

(1) مقالات الإسلاميين: 2/251.

(2) جامع بيان العلم: 2/ 234.

(3) عون المعبود في شرح سنن أبي داود: 4/429.

١٦

وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد أنتخبها من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث، وكتب أحمد بن الفرات (المتوفّى 258هـ) ألف ألف وخمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها. (1)

ثم إنّ الإمام أحمد بن حنبل (164 - 241هـ) قد كتب رسالة بيّن فيها عقائد أهل الحديث تحت بنود خاصة.

قال في مقدّمته: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنّة المتمسّكين بعروقها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى يومنا هذا، وأدركتُ من أدركت من علماء الحجاز والشام عليها؛ فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة وزائل عن مذهب السنّة وسبيل الحق.

ثم شرع في بيان الأُصول. (2)

كما كتب أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (المتوفّى377هـ) عقائد أهل الحديث في كتابه المعروف بـ (التنبيه والرَّد) (3)

وقد سرد الإمام الأشعري عقيدة أهل الحديث في كتابيه: الإبانة ومقالات الإسلاميّين، ولعلّ ما كتبه أحسن تناولاً ممّا كُتب قبلَه، ونحن نستعرض جملة من أقواله المبيّنة لعقائد أهل الحديث حيث يقول:

____________________

(1) خلاصة التهذيب: 9، الغدير: 5/292 - 293.

(2) السنّة: أحمد بن حنبل، 44 - 50.

(3) التنبيه والرد: 14 - 15.

١٧

وجملة قولنا:

1. إنّا نُقرّ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لا نُرِدُّ من ذلك شيئاً.

2. وإنّ الله عزّ وجلّ إله واحد لا إله إلاّ هو، فرد صمد لم يتَّخذ صاحبة ولا ولداً.

3. وإنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ.

4. وإنّ الجنّة والنار حقّ.

5. وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور.

6. وأنّ الله استوى على عرشه؛ كما قال: ( الرّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) . (1)

7. وإنّ له وجهاً بلا كيف؛ كما قال: ( وَيَبْقَى‏ وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ ) . (2)

8. وإنّ له يدين بلا كيف؛ كما قال: ( خَلَقْتُ بِيَدَيّ ) . (3) ، وكما قال: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) . (4)

9. وإنّ له عيناً بلا كيف؛ كما قال: ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) . (5)

10. وإنّ من زعم أنّ أسماء الله غيره، كان ضالاً.

____________________

(1) طه: 5.

(2) الرحمن: 27.

(3) ص: 75.

(4) المائدة: 64.

(5) القمر: 14.

١٨

11. وإنّ لله علماً؛ كما قال: ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) . (1) ، وكما قال: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى‏ وَلاَ تَضَعُ إِلّا بِعِلْمِهِ ) . (2)

12. ونُثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهميّة والخوارج.

13. وثبت أنّ لله قوّة؛ كما قال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً ) . (3)

14. ونقول: إنّ كلام الله غير مخلوق، وإنّه لم يخلق شيئاً إلاّ وقد قال له: كن فيكون؛ كما قال: ( إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‏ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . (4)

15. وإنّه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلاّ ما شاء الله، وإنّ الأشياء تكون بمشيئة الله عزّ وجلّ. وإنّ أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله.

16. ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عزّ وجلّ.

17. وإنّه لا خالق إلاّ الله، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة؛ كما قال: ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) . (5)

وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وهم يخلقون؛ كما قال: ( هَلْ منْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) . (6) ، وكما قال: ( لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) . (7) ، وكما قال:

____________________

(1) النساء: 166.

(2) فاطر: 11.

(3) فصلت: 15.

(4) النحل: 40.

(5) الصافات: 96.

(6) فاطر: 3.

(7) النحل: 20.

١٩

( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاّ يَخْلُقُ ) . (1) ، وكما قال: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (2) ، وهذا في كتاب الله كثير.

18. وإنّ الله وفَّق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم وهداهم، وأضلَّ الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: ( مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) . (3)

وإنّ الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم، حتّى يكونوا مؤمنين، ولكنّه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنّه خذلهم وطبع على قلوبهم.

19. وإنّ الخير والشر بقضاء الله وقدره. وإنّا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشرّه، حلوه ومرّه، ونعلم أنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأنّ العباد لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، إلاّ ما شاء الله، كما قال عزّ وجلّ: ( قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ ) (4) ، وإنّا نلجأ في أُمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كلّ وقت إليه.

20. ونقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.

21. وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

____________________

(1) النحل: 17.

(2) الطور: 35.

(3) الأعراف: 178.

(4) الأعراف: 188.

٢٠