المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية10%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213166 / تحميل: 9443
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

١

٧

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (١) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(١) الكهف: ٢٩.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى ١٢٨هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

١ - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

٢ - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

٣ - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

٤ - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

٥ - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

٦ - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (١)

____________________

(١). الخطط المقريزيّة: ٣/٣٤٩، ولاحظ: ص٣٥١.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (١)

____________________

(١) السنّة: ٤٩.

٨٣

الحركات الرجعيّة

٢

٨

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (١) (المتوفّى عام ١٥٠هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(١) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: ٧/٢٨١].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (١)

____________________

(١) لاحظ: ميزان الاعتدال، ٤/١٧٣. وراجع تاريخ بغداد، ١٣/١٦٦.

٨٥

الحركات الرجعية

٣

٩

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام ٢٥٥هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة ٢٥٥هـ. (١)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (٢)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(١) ميزان الاعتدال: ٤/٢١.

(٢) الفرق بين الفِرق: ٢٢٢.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

٤

١٠

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (٢٠٠ - ٢٧٠هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

١ - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

٢ - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (١) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (٢) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(١) الإسراء: ٢٣.

(٢) الأنفال: ٣٨.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (١) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (٢) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(١) يونس: ٥٩.

(٢) الوسائل: ١٨، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي، الحديث ١٠.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (٣٨٤ - ٤٥٨هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

١ - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

٢ - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

٣ - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (١)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(١) بحوث في الملل والنحل: ٣/١٤١ - ١٤٦.

٩١

١١

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام ٤١٥هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (١)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

١ - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

٢ - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

٣ - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

٤ - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(١) الملل والنحل: ١/٦٢.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (١)

٥ - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

٦ - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

٧ - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(١) كشف المراد: ١٩٥، شرح المقاصد للتفتازاني: ٢/١٤٣.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

٨ - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

٩ - المفنية.

١٠ - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (١)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(١) الخطط المقريزيّة: ٤/١٦٩.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

١ - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

٢ - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (١) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

٣ - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(١) الأنفال: ٤٢.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

٤ - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

٥ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى ٣٠٣هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى ٣٢١هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (١)

____________________

(١) الأُصول الخمسة: ١٤٢، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: ٣/٢٥٤ - ٢٥٥.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

١. واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

١ - كتاب أصناف المرجئة.

٢ - كتاب التوبة.

٣ - كتاب المنزلة المنزلتين.

٤ - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

٥ - كتاب معاني القرآن.

٦ - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

٧ - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

٨ - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

٩ - كتاب في الدعوة.

١٠ - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (١)

٢. عمرو بن عبيد (٨٠ - ١٤٣هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(١) فهرست ابن النديم: ٢٠٣، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

الفجر بوضوء المغرب. وحجّ أربعين حجّة ماشياً، وبعيره موقوف على من أحصر، وكان يحيي اللّيل بركعة واحدة، ويرجّع آية واحدة.

وقد روى نظيره في حق الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد قلنا: إنّه من المغالاة في الفضائل، إذ قلّما يتّفق لإنسان ألاّ يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة أربعين سنة، حتّى يصلّي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة.

مناظرة هشام مع عمرو بن عبيد:

روى السيّد المرتضى في أماليه، وقال: إنّ هشام بن الحكم قدم البصرة، فأتى حلقة عمرو بن عبيد، فجلس فيها وعمرو لا يعرفه، فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟، قال: بلى، قال: ولِمَ؟، قال: لأنظر بهما في ملكوت السماوات والأرض فأعتبر، قال: وجعل لك فماً؟، قال: نعم، قال: ولِمَ؟، قال: لأذوق الطعوم وأُجيب الداعي، ثُمَّ عدّد عليه الحواس كلّها.

ثُمَّ قال: وجعل لك قلباً؟، قال: نعم، قال: ولِمَ؟

قال: لتؤدّي إليه الحواس ما أدركته، فيميّز بينها.

قال: فأنت لم يرض لك ربُّك تعالى إذ خلق لك خمس حواس حتّى جعل لها إماماً ترجع إليه، أترضى لهذا الخلق الّذين جشأ بهم العالم ألاّ يجعل لهم إماماً يرجعون إليه؟، فقال له عمرو: ارتفع حتّى ننظر في مسألتك، وعَرِفه. ثُمَّ دار هشام في حلق البصرة، فما أمسى حتّى اختلفوا. (1)

____________________

(1) أمالي المرتضى: 1/176 - 177.

١٠١

أقول: ما أجاب به عمرو بن عبيد هشام بن الحكم، يدلّ على دماثة في الخُلق وسماحة في المناظرة، مع أنّه طعن في السنّ، وهشام بن الحكم كان يُعدّ في ذلك اليوم من الأحداث، وقد استمهل حتّى يتأمّل في مسألته، ولم يرفع عليه صوته وعقيرته بالشتم والسَّب، كما هو عادة أكثر المتعصِّبين، ولم يرمه بالخروج عن المذهب.

وأخيراً روى السيّد المرتضى أنّ أبا جعفر المنصور مرَّ على قبر عمرو بن عبيد بمرّان - وهو موضع على ليال من مكّة على طريق البصرة ـ، فأنشأ يقول:

صـلى الإله عليك من متوسّد

قـبراً مـررت به على مرّان

قـبراً تضمّن مؤمناً متخشعاً

عَـبَدَ الإلـه ودان بـالفرقان

وإذا الرجال تنازعوا في شبهة

فـصل الخطاب بحكمة وبيان

فلو أنّ هذا الدهر أبقى صالحاً

أبـقى لنا عُمْراً أبا عثمان (1)

وفود عمرو على الإمام الباقر (عليه السّلام)

رُوي أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر (عليه السّلام)؛ لامتحانه بالسؤال عن بعض الآيات، فقال له: جعلت فداك، ما معنى قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) (2) ، ما هذا الرتق والفتق؟

فقال أبو جعفر (عليه السّلام): «كانت السماء رتقاً لا يُنْزل القطر، وكانت الأرض رتقاً

____________________

(1) أمالي المرتضى: 1/178؛ وفيّات الأعيان: 2/462.

(2) الأنبياء: 30.

١٠٢

لا تُخْرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات».

فانطلق عمرو ولم يجد اعتراضاً، ومضى.

3. أبو الهذيل العلاّف (135 - 235هـ):

إنّ أبا الهذيل محمد بن الهذيل العبدي، المنسوب إلى عبد القيس، الملقَّب بالعلاّف؛ لنزوله العلاّفين في البصرة، أحد أئمة المعتزلة، وقد وصفه ابن النديم؛ وقال: كان شيخ البصريِّين في الاعتزال، ومن أكبر علمائهم، وهو صاحب المقالات في مذهبهم، وصاحب مجالس ومناظرات.

نقل ابن المرتضى، عن صاحب المصابيح، أنّه كان نسيج وحده وعالم دهره، ولم يتقدّمه أحد من الموافقين ولا من المخالفين. كان إبراهيم النظّام من أصحابه، ثُمَّ انقطع عنه مُدَّة، ونظر في شيء من كتب الفلاسفة، فلمّا ورد البصرة كان يرى أنّه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق إلى أبي الهذيل. قال إبراهيم: فناظرت أبا الهذيل في ذلك، فخيّل إليَّ أنّه لم يكن متشاغلاً إلاّ به؛ لتصرّفه فيه، وحذقه في المناظرة فيه. (1)

قال القاضي: ومناظراته مع المجوس والثنوية وغيرهم طويلة ممدودة، وكان يقطع الخصم بأقلّ كلام، يقال أنّه أسلم على يده زيادة على 3000 رجل.

قال المبرّد: ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة. شهدتُه في مجلس، وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت...، وفي مجلس المأمون استشهد في عرض كلامه بسبعمائة بيت. (2)

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 225 - 226.

(2) المنية والأمل: 26 - 27.

١٠٣

تآليفه:

حكى ابن المرتضى، عن يحيى بن بشر، أنّ لأبي الهذيل ستين كتاباً في الرّدِّ على المخالفين في دقيق الكلام. (1)

وذكر ابن النديم في باب الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن، أنّ لأبي الهذيل العلاّف كتاباً في ذلك الفن. (2)

وقال ابن خلّكان: ولأبي الهذيل كتاب يعرف بالميلاس، وكان ميلاس رجلاً مجوسيَّاً وأسلم، وكان سبب إسلامه؛ أنّه جمع بين أبي الهذيل وبين جماعة من الثنوية، فقطعهم أبو الهذيل، فأسلم ميلاس عند ذلك. (3)

وذكر البغدادي كتابين لأبي الهذيل؛ هما: (الحجج)، و(القوالب)، والثاني ردٌّ على الدّهريّة. (4)

4. النظّام (160 - 231هـ):

إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام، هو الشّخصيّة الثالثة للمعتزلة، ومن متخرّجي مدرسة البصرة للاعتزال.

قال الشريف المرتضى: كان مقدّماً في علم الكلام، حسن الخاطر، شديد

____________________

(1) المنية والأمل: 25.

(2) الفهرست، ابن النديم: 39، الفن الثالث من المقالة الأُولى.

(3) وفيّات الأعيان: 4/266.

(4) الفَرق بين الفِرق: 124.

١٠٤

التدقيق والغوص على المعاني، وإنّما أدّاه إلى المذاهب الباطلة الّتي تفرّد بها واستشنعت منه، تدقيقه وتغلغله، وقيل: إنّه مولى الزياديين من ولْد العبيد، وأنّ الرّق جرى على أحد آبائه. (1)

وذكره القاضي عبد الجبار في طبقات المعتزلة، وقال: إنّه من أصحاب أبي الهذيل، وخالفه في أشياء. (2)

رُوي أنّه كان لا يكتب ولا يقرأ، وقد حفظ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها، مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف النّاس في الفُتْيا. (3)

وقال الجاحظ: الأوائل يقولون: في كلِّ ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحاً، فهو أبو إسحاق النظّام. (4)

وقد تعرّض لهجوم الأشاعرة، وردود بعض المعتزلة، ممّا يُعرب عن شذوذ في منهجه، وانحراف في فكره.

النظّام ومذهب الصِرْفَة في إعجاز القرآن:

من الآراء الباطلة الّتي نسبت إلى النظّام، هو حصر إعجاز القرآن في الإخبار عن المغيّبات، وأمّا التأليف والنظم، فقد كان يجوّز أن يقدر عليه العباد، لولا أنّ الله منعهم بمنع. وقد نقل عنه البغدادي في (الفَرق)؛ بقوله: إنّه أنكر إعجاز القرآن في نظمه. (5)

____________________

(1) أمالي المرتضى: 1/187.

(2) فضِّ الاعتزال وطبقات المعتزلة: 264.

(3) المنية والأمل: 29.

(4) المنية والأمل: 29.

(5) الفَرق بين الفِرق: 132.

١٠٥

وقال الشهرستاني: قوله في إعجاز القرآن: إنّه من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً، حتّى لو خلاّهم، لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله؛ بلاغة وفصاحة ونظماً. (1)

أقول: لا شكَّ أنّ مذهب الصِرْفة في إعجاز القرآن مذهب مردود بنص القرآن وإجماع الأُمّة، لأنّ مذهب الصِرفة يرجع إلى أنّ القرآن لم يبلغ في مجال الفصاحة والبلاغة حدّ الإعجاز؛ حتّى لا يتمكّن الإنسان العادي من مباراته ومقابلته، بل هو في هذه الجهة لا يختلف عن كلام الفصحاء والبلغاء، ولكنّه سبحانه يحول بينهم وبين الإتيان بمثله، إمّا بصرف دواعيهم عن المعارضة، أو بسلب قدرتهم عند المقابلة.

ومن المعلوم أنّ تفسير اعجاز القرآن بمثل هذا، باطل للغاية، لأنّ القرآن عند المسلمين مُعْجِز بكونه خارقاً للعادة؛ لِمَا فيه من ضروب الإعجاز في الجوانب الأربعة:

1 - الفصاحة القصوى.

2 - البلاغة العليا.

3 - النظم المهذَّب.

4 - الأسلوب البديع.

فقد تجاوز عن حدّ الكلام البشري، ووصل إلى حدّ لا تَكْفي في الإتيان بمثله القدرة البشرية.

____________________

(1) الملل والنحل: 1/56 - 57.

١٠٦

مؤلّفاته:

مع أنّه كَثُر اللَّغط حول آراء النظّام، إلاّ أنّ طبيعة الحال تقتضي، أن يكون له تصانيف عديدة، غير أنّه لم يصل من أسماء مؤلّفاته إلاّ نزراً يسيراً:

1 - التوحيد.

2 - العالم (1) .

3 - الجزء (2) .

4 - كتاب الرّدُّ على الثنوية. (3)

5. أبو علي الجبائي (235 - 303هـ):

إنّ أبا علي محمد بن عبد الوهاب الجبّائي أحد أئمة المعتزلة في عصره، وهو من بلدة جبّاء بلد أو كورة من خوزستان، يعرّفه ابن النديم في فهرسته، يقول: وهو من معتزلة البصرة، ذلّل الكلام وسهّله، ويسّر ما صعب منه، وإليه انتهت رئاسة البصريّين، لا يدافع في ذلك. وأخذ عن أبي يعقوب الشّحّام. وَرَد البصرة وتكلّم مع من بها من المتكلّمين، وصار إلى بغداد، فحضر مجلس أبي... الضرير، وتكلّم، فتبين فضله وعلمه، وعاد إلى العسكر. (4)

وقال ابن خلّكان: إنّه أحد أئمة المعتزلة، كان إماماً في علم الكلام، وأخذ

____________________

(1) ذكرهما أبو الحسين الخيَّاط في الانتصار: 14 و172.

(2) مقالات الإسلاميّين: 2/316.

(3) الفَرق بين الفِرق: 134.

(4) فهرست ابن النديم: 217 - 218.

١٠٧

هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحّام البصري؛ رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره. له في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة، وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام، وله معه مناظرة روتها العلماء.

تأليفاته:

يظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزير الإنتاج، قال: قال أبو الحسين: وكان أصحابنا يقولون: إنّهم حرَّروا ما أملاه أبو عليّ، فوجدوه مائة ألف وخمسين ألف ورقة، قال: وما رأيته ينظر في كتاب، إلاّ يوماً نظر في زيج الخوارزمي. ورأيته يوماً أخذ بيده جزءاً من الجامع الكبير، لمحمد بن الحسن، وكان يقول: إنّ الكلام أسهل شيءٍ؛ لأنّ العقل يدلّ عليه. (1)

لمحة من أحواله:

روى ابن المرتضى وقال: قال أبو الحسن: وكان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً - إلى أن قال: وكان إذا روى عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال لعلي والحسن والحسين وفاطمة: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم» ، يقول: العجب من هؤلاء النوابت (2) ، يروون هذا الحديث، ثُمَّ يقولون بمعاوية. (3)

وروى عن عليّ (عليه السّلام)، أنّ رجلين أتياه، فقالا: ائذن لنا أن نصير إلى معاوية،

____________________

(1) المنية والأمل: 47.

(2) النوابت تُطلق على الحشويّة ومن لفّ لفّهم.

(3) المنية والأمل: 47.

١٠٨

فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه، فقال عليّ (عليه السّلام): «أمَا إنّ الله قد أحبط عملكما بندمكما على ما فعلتما». (1)

قال أبو الحسن: والرافضة لجهلهم بأبي عليّ ومذهبه يرمونه بالنصب، وكيف وقد نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر، ولم ينقض كتاب الإسكافي المسمّى (المعيار والموازنة) في تفضيل علي على أبي بكر. (2)

6. أبو هاشم الجبّائي (277 - 321هـ):

عبد السّلام بن محمد بن عبد الوهاب بن أبي علي الجبّائي، قال الخطيب: شيخ المعتزلة، ومصنّف الكتب على مذاهبهم. سكن بغداد إلى حين وفاته. (3)

وقال ابن خلّكان: المتكلّم المشهور، العالم بن العالم، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما، وكان له ولَد يسمّى أبا عليّ، وكان عاميّاً لا يعرف شيئاً. فدخل يوماً على الصاحب بن عبّاد، فظنّه عالماً، فأكرمه ورفع مرتبته، ثُمَّ سأله عن مسألة، فقال: لا أعرف نصف العلم، فقال له الصاحب: صدقت يا ولدي، إلاّ أنّ أباك تقدّم بالنصف الآخر. (4)

وقال القاضي، نقلاً عن أبي الحسن بن فرزويه، أنه بلغ من العلم ما لم يبلغه رؤساء علم الكلام. وذكر أنه كان من حرصه يسأله أبا عليّ (والده) حتّى يتأذى

____________________

(1) المصدر السابق: 47.

(2) المصدر نفسه.

(3) تاريخ بغداد: 11/55.

(4) وفيّات الأعيان: 3/183.

١٠٩

منه، فسمعت أبا عليّ في بعض الأوقات يسير معه لحاجة، وهو يقول: لا تؤذنا، ويزيد فوق هذا الكلام. (1)

كان أبو هاشم أحسن الناس أخلاقاً، وأطلقهم وجهاً. واستنكر بعض الناس خلافه مع أبيه في المسائل الكلاميّة، وليس خلاف التابع للمتبوع في دقيق الفروع بمستنكر، فقد خالف أصحاب أبي حنيفة إيّاه، وقال أبو الحسن بن فرزويه في ذلك شعراً، وهو قوله:

يـقولون بـين أبـي هـاشم

وبـين أبـيه خـلاف كـبير

فـقلت: وهـل ذاك من ضائر

وهـل كـان ذلك ممّا يضير

فـخلّوا عن الشيخ لا تعرضوا

لـبحر تـضايق عنه البحور

فإنّ أبــا هـاشم تـلوه

إلـى حـيث دار أبـوه يدور

ولـكن جرى في لطيف كلام

كـلام خـفي وعـلم غـزير

فـايّـاك ايّـاك مـن مـظلم

ولا تعد عن واضح مستنير (2)

تأليفاته:

ذكر ابن النديم فهرس كتب أبي هاشم، وقال: وله من الكتب:

1 - الجامع الكبير. 2 - كتاب الأبواب الكبير. 3 - كتاب الأبواب الصغير. 4 - الجامع الصغير. 5 - كتاب الإنسان. 6 - كتاب العوض. 7 - كتاب المسائل

____________________

(1) طبقات المعتزلة، القاضي، 304.

(2) طبقات المعتزلة، القاضي، 305.

١١٠

العسكريات. 8 - النقض على أرسطوطاليس في الكون والفساد. 9 - كتاب الطبايع والنقض على القائلين بها. 10 - كتاب الاجتهاد. (1)

انتشار مذهبه:

يظهر من الخطيب البغدادي أنّ مذهبه كان منتشراً في أوائل القرن الخامس في بغداد، وقد سمّى أتباعه بالبهشميّة، وقال: هؤلاء أتباع أبي هاشم الجبائي، وأكثر معتزلة عصرنا على مذهبه؛ لدعوة ابن عباد وزير آل بويه إليه. (2)

7. قاضي القضاة عبد الجبار (324 - 415هـ):

هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي، الملقّب بقاضي القضاة، ولا يُطلق هذا اللّقب على غيره.

قال الخطيب: كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع، ومذاهب المعتزلة في الأُصول، وله في ذلك مصنّفات، وولِّي قضاء القضاة بالرَّي، وورد بغداد حاجّاً وحدّث بها. (3)

ّ

قرأ على أبي إسحاق ابن عياش أوّلاً، ثُمَّ على الشيخ أبي عبد الله البصري، وكلاهما من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة، وقد أطراه كلّ من ترجم له.

____________________

(1) فهرست، ابن النديم، الفن الأوّل من المقالة الخامسة، 222.

(2) تاريخ بغداد: 11/113.

(3) تاريخ بغداد: 11/113.

١١١

وفي مقدّمة كتاب (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) ترجمة وافية له، ومن أشهر تآليفه: كتاب (المُغني)؛ الّذي يقع في عشرين جزءاً ممّا أملاه على تلاميذه، ولمّا فرغ من كتاب (المُغني)، بعث به إلى الصاحب بن عباد، فقرّره الصاحب بما هو مذكور في كتاب شرح العيون للحاكم الجشمي. (1)

قال الحاكم: إنّ له أربعمائة ألف ورقة ممّا صنّف في كلّ فن، وكان موفَّقاً في التصنيف والتدريس، وكتبه تتنوّع أنواعاً، فله كتب في الكلام لم يسبق إلى تصنيف مثلها في ذلك الباب، ثُمَّ سرد أسماء كتبه البالغة إلى 43، أشهرها (المُغني) كما سبق، و(الأُصول الخمسة)، والأخير أحسن ما أُلف في عقائد المعتزلة.

وأمّا المطبوع من كتبه وراء (المُغني)، ووراء (الأُصول الخمسة)، فكتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن)، فقد أجاب فيه عن كثير من الأسئلة الّتي تدور حول الآيات.

وكتابه الآخر (متشابه القرآن)، وقد طُبع في القاهرة، في جزءين.

وكتاب (المحيط في التكليف)، حقّقه السيّد عزمي، وطُبع بمصر.

إلى هنا تمَّ ما نُريد من ذكر أئمة المعتزلة، وهناك من يُعَدّ من أعلامهم، وهم شاركوا الأئمة في نضج المذهب ونشره، ولكنّهم دونهم في العلم والمنزلة، منهم:

1 - أبو سهل بشر بن المعتمر (المتوفّى عام 210هـ)، مؤسّس مدرسة اعتزال بغداد، وذكره الشريف المرتضى في أماليه. (2)

____________________

(1) لاحظ شرح العيون: 369 - 371.

(2) أمالي المرتضى: 186 - 187.

١١٢

2 - معمّر بن عبّاد السلمي (المتوفّى عام 215هـ)، خرّيج مدرسة اعتزال البصرة.

3 - شمامة بن الأشرس النميري (المتوفّى عام 213هـ)، خرّيج مدرسة اعتزال بغداد.

وصفه ابن النديم، بقوله: نبيه، من أجلّة المتكلّمين المعتزلة. (1)

4 - أبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم (المتوفّى 225هـ)، خرّيج مدرسة اعتزال البصرة.

5 - أبو موسى عيسى بن صبيح المزدار (المتوفّى 226هـ).

6 - أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي (المتوفّى 240.

يعرّفه الخطيب، بقوله: محمد بن عبد الله، أبو جعفر المعروف بالإسكافي، أحد المتكلّمين من معتزلة بغداد، له تصانيف معروفة. (2)

وقد أكثر ابن أبي الحديد النقل عنه في شرح النّهج، قال: كان شيخنا أبو جعفر الإسكافي (رضي الله عنه) من المتحقّقين بموالاة عليّ (عليه السّلام)، والمبالغين في تفضيله؛ وإن كان القول بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديّين من أصحابنا كافّة، إلاّ أنّ أبا جعفر أشدّهم في ذلك قولاً، وأخلصهم فيه اعتقاداً. (3)

7 - أحمد بن أبي دؤاد (المتوفّى عام 240هـ)، عرّفه ابن النديم بقوله: من

____________________

(1) فهرست، ابن النديم، الفن الأوّل من المقالة الخامسة، 207 .

(2) تاريخ بغداد، 5/416.

(3) شرح ابن أبي الحديد، 4/63.

١١٣

أفاضل المعتزلة، وممّن جرّد في إظهار المذهب والذب عن أهله والعناية به. (1) ولكن الأشاعرة وأهل الحديث يبغضونه كثيراً، لأنّه هو الّذي حاكم الإمام أحمد في قوله بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق، فأفحمه.

8 - أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى عام 255هـ).

هو الّذي جمع إلى علم الكلام والفصاحة، العلم بالأخبار والأشعار والفقه، وله كتب، أحسنها: كتاب (الحيوان) في أربعة أجزاء، و(البيان والتبيين) في جزءين، و(البخلاء)، و(مجموعة الرسائل)، وأردأ كتبه كتاب (العثمانيّة).

وقال المسعودي في (مروج الذهب)، عند ذكر الدولة العباسية: وقد صنّف الجاحظ كتاباً استقصى فيه الحِجاج عند نفسه، وأيّده بالبراهين، وعضَّده بالأدلّة فيما تصوّره من عقله، وترجمه بكتاب (العثمانية)، يُحلّ فيه عند نفسه فضائل عليّ (عليه السّلام) ومناقبه، ويحتج فيه لغيره؛ طلباً لإماتة الحق ومضادة لأهله، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

ثُمَّ لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب (العثمانية) حتّى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانيّة وأقوال شيعتهم، ورأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية في الانتصار له من عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) وشيعته الرافضة، يذكر فيه رجال المروانية ويؤيد فيه إمامة بني أُميّة وغيرهم.

ثم صنّف كتاباً آخر ترجمه بكتاب (مسائل العثمانية)، يذكر فيه ما فاته ذكرُه ونقضُه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومناقبه فيما ذكرنا. وقد نقَضْتُ عليه ما ذكرنا من كتبه لكتاب العثمانية وغيره.

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 212.

١١٤

وقد نقضها جماعة من متكلّمي الشيعة، كأبي عيسى الورّاق، والحسن بن موسى النخعي، وغيرهما من الشيعة، ممّن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة، مجتمعة ومتفرقة. (1)

9 - أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد المعروف بالخيّاط (المتوفّى 311هـ)، خرّيج مدرسة بغداد.

ترجمه القاضي في فضل الاعتزال، وقال: كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر، وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي وغيره، وهو أُستاذ أبي القاسم البلخي، ومن أشهر كتبه (الانتصار)، فيه رد على كتاب (فضيحة المعتزلة) لابن الراوندي، وطُبع بالقاهرة.

10 - أبو القاسم البلخي الكعبي (المتوفّى 317هـ)، خرّيج مدرسة بغداد.

عبد الله بن أحمد بن محمود أبي القاسم البلخي، قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين، صنّف في الكلام كتباً كثيرة، وأقام ببغداد مدة طويلة، وانتشرت بها كتبه، ثُمَّ عاد إلى بلخ، فأقام بها إلى حين وفاته.

مؤلّفاته:

قد استقصى فؤاد السيّد، في مقدّمته على كتاب (ذكر المعتزلة) لأبي القاسم البلخي، أسماء كتبه، وأنهاها إلى 46 كتاباً.

وقد نقل النجاشي في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن قبة، مكاتبته مع

____________________

(1) مروج الذهب: 3/237 - 238.

١١٥

البخلي، قال: نقل شيخنا أبو عبد الله المفيد، قال: سمعت أبا الحسين السوسنجردي، وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين، وله كتاب في الإمامة معروف به، وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة، يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ، بعد زيارتي الرضا (عليه السّلام) بطوس، فسلّمت عليه، وكان عارفاً، ومعي كتاب أبي جعفر بن قبة في الإمامة، المعروف بالإنصاف، فوقف عليه، ونقضه بـ (المُسْتَرْشِد في الإمامة)، فعدت إلى الرَّي، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة، فنقضه بـ (المُسْتَثْبِت في الإمامة)، فحملته إلى أبي القاسم، فنقضه بـ (نقض المستثبت)، فعدت إلى الرَّي، فوجدت أبا جعفر قد مات. (1)

أُفول المعتزلة:

لقد ابتسم الدهر للمعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور (136 - 158هـ)، وقد كان بينه وبين عمرو بن عبيد صلة وثيقة، ولمّا هلك المنصور لم يُر للمعتزلة بعد زمانه نشاط يُذكر، خصوصاً في أيّام المهدي؛ الّذي كان عدوّ المعتزلة، إلى أن أخذ المأمون زمام الحكم، وكان محباً للعلم والتعقّل، فنرى في عصره رجالاً من المعتزلة يتّصلون ببلاطه، وكان لهم تأثير بالغ عليه، ولمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن، كتب المأمون (عام 218هـ) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدّثين في خلق القرآن، فأحضر إسحاق بن إبراهيم المحدّثين، فأقرّوا بحدوث القرآن فخلّى سبيلهم، ثم أحضرهم مرة أُخرى، وبلغ عددهم إلى 26، فسأل عن عقيدتهم في خلق القرآن، فأقرَّ أكثرهم - تقية - بحدوث القرآن، إلاّ قليلاً منهم، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.

____________________

(1) رجال النجاشي: برقم 1023.

١١٦

ثُمَّ دعا المنكرين مراراً، وفي كلِّ مرَّة يستجيب عدد آخر ويقرّ بحدوث القرآن، حتّى لم يبق منهم إلاّ أربعة أشخاص، فدعاهم إسحاق بن إبراهيم مرّة أُخرى، فأقرّ اثنان منهم بحدوث القرآن، وبقى شخصان - أعني: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح - على قولهما، فشُدّا بالحديد وبُعثا إلى طرسوس وكُتب معهما كتاباً، فلمّا صار إلى الرّقة، بلغتهم وفاة المأمون، فأمر والي الرّقة بإرجاعهم إلى إسحاق بن إبراهيم، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثُمَّ أطلق سراحهم. (1)

ولمّا تسلّم المعتصم مقاليد الحكم، ضرب أحمد بن حنبل 38 سوطاً ليقول بخلق القرآن، وكان ذلك عام 219هـ.

وهذا هو المعروف بمحنة أحمد أو محنة خلق القرآن.

قضى المعتصم نحبه وخلفه ابنه الواثق (227 ‌232هـ)، وكان للمعتزلة في عصره شوكة، ولمّا قضى الواثق نحبه قام مقامه المتوكِّل، فأمر الناس بترك النظر والبحث، وترك ما كانوا عليه في أيام الخلفاء الثلاثة، وأمر شيخ المحدِّثين بالتحديث وإظهار السنّة، ومن هنا أخذ نجم المعتزلة بالأُفول، وإقصائهم عن الساحة الفكرية، وفسح المجال للمحدّثين، وكانوا يجلسون في المساجد ويروون الأحاديث ضد الاعتزال ويكفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد؛ عمّن يقول: إنّ القرآن مخلوق، فقال: كافر، قال: فابن دؤاد؟ قال: كافر بالله العظيم. (2)

ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم، هو تشتّت مذاهبهم وفرقهم. فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين: مدرسة معتزلة بغداد، ومدرسة معتزلة البصرة، ولم تكن

____________________

(1) تاريخ الطبري: 7/195 - 206، بتلخيص.

(2) تاريخ بغداد: 3/285.

١١٧

ـ حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما - وحدة في التّفكير، فصاروا فِرقاً تنوف على العشرين، وعند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون، كأبي عليّ الجبّائي (المتوفّى 303هـ)، وولده أبي هاشم (المتوفّى 321هـ).

وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ، الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي وتلميذه، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً، ونادى بأعلى صوته: (من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا أعرّفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للردّ على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم) (1) .

فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس، وبذلك أخذ الدهر يقلب عليهم ظهر المجنّ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلك المصنوعة، بين بالغ إلى ساحل النّجاة وهالك في أمواج الدّهر.

هذا هو القادر بالله، أحد خلفاء العبّاسيين، قام في سنة (408هـ) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول الحافظ ابن كثير: وفي سنة (408هـ)، استتاب القادر بالله الخليفة، فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرّجوع؛ وتبرّأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنّهم متى خالفوا، أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم،

____________________

(1) فهرست، ابن النديم، الفن الثالث من المقالة الخامسة، 231، وفيّات الأعيان: 3/275.

١١٨

وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك، واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها؛ في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة وصلبهم وحبسهم، ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنّة في الإسلام. (1)

قال الخطيب: (وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول، ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن، وكان الكتاب يُقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي، ويحضر النّاس سماعه). (2)

____________________

(1) البداية والنهاية: 12/6.

(2) تاريخ بغداد: 4/37 و38.

١١٩

12

الخوارج

ارتحل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ملبّياً دعوة ربه في العام الحادي عشر من هجرته، بعدما بذل كلّ جهده لتوحيد الأُمّة ورصّ صفوفها، منادياً فيهم بقول الله سبحانه: ( إِنّ هذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) .

غير أنّ المسلمين اختلفوا بعد رحيله - وجثمانه بعد ما واراه التراب - في مسألة الخلافة والولاية، فِرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعين، وفِرقة تبنّت فكرة الشورى واختيار القائد من خلالها، غير أنّ الفرقة الثانية غلبت على الفرقة الأُولى؛ وأخذت بزمام الحكم، فقام أبو بكر بأعباء الخلافة، ثمَُّ قام بعده عمر بن الخطاب والمسلمون يجتازون البلاد ويفتحون القلاع ويعيشون بسيرة من تقدّمهم. فلمّا أحسّ عمر بن الخطاب بموته جعل الخلافة في جماعة من قريش؛ وهم: عليِّ، وعثمان، وطلحة، والزُّبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فلمّا دُفن عمر، اجتمع هؤلاء في بيت، غير أنّ تركيب الأعضاء كان يُعرب عن حرمان عليّ ونجاح غيره، فتمّ الأمر لصالح عثمان، فقام في أيام خلافته بأُمور نُقِمَ بها عليه وأوجد ضجّة بين المسلمين، نظير:

أ - تعطيل الحدود الشرعية.

____________________

(1) الأنبياء: 92.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377