من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 30791
تحميل: 5526

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30791 / تحميل: 5526
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في كلامه ويتَّهمه بالإسراف والتبذير، فقال عبدالله ليزيد: إنِّي لأرفع نفسي عن جوابك، ولو قالها صاحب السرير لأجبته، فقال معاوية: كأنَّك تظنُّ أنَّك أشرف منه يا عبدالله، فقال عبدالله: أي والله، ومنك ومن أبيك وجدِّك يا معاوية، فردَّ عليه معاوية بقوله: ما كانت أحسب أنَّ أحداً في عصر حرب بن أميَّة جدي أشرف منه، فقال عبدالله بلى والله، إنَّ أشرف منه مَن أكفءَ عليه إناءه وأجاره بردائه، فقال: صدقت يا أبا جعفر(1) .

وكان يقول كما جاء عنه: إن الله قد عوَّدني أن يتفضَّل عليَّ، وعوَّدته أن أتفضَّل على عباده، وأضاف: إنْ يقطع عني إذا قطعت عن عباده(2) .

وقد تحدَّث المؤرِّخون وأكثروا عن كرمه وسخائه وإيثاره الأيتام والمساكين وأبناء السبيل على نفسه وولْده، ولقد رأته العقيلة يصنع كل ذلك فلم تعارضه في شيء من عطائه وسخائه، بل كانت تشاركه أحياناً وتشجِّعه على البذل والعطاء. وظلَّت العقيلة وفيَّة لزوجها ساهرة على راحته وتربية أولادها، وفي الوقت ذاته على صلة دائمة بأخويها الحسن والحسين وبقيَّة إخوتها، وتحمَّلت من المحن والمصائب ما لا يقوى على حمله أحد من

الناس، وثبتت لجميع تلك الأهوال وتحمَّلت مرارتها وآلامها وبصبر وشجاعة قلَّ نظيرهما في تاريخ الأبطال وعظماء العالم، وقد تحدَّث المؤرِّخون والكتَّاب القدامى والمحدثون عن مواقفها وبطولاتها في معركة الطفِّ وما تلاها من الأحداث في الكوفة والشام وعن تحدِّياتها لأولئك الطغاة والجلاَّدين التي زعزعت فيها عروشهم وضعضعت كبرياءهم

____________

(1) جعفر نقدي، زينب الكبرى، ص 89، ط النجف.

(2) ابن عبد ربه، العقد الفريد.

١٠١

وأصبحوا لعنة على لسان الأجيال إلى أن تقوم الساعة، ولم يتحدَّثوا عن حياتها مع زوجها عبدالله لأنَّها في تلك الفترة من تاريخها كانت منصرفة لبيتها وأولادها وإعدادهم الإعداد السليم كما كان أبوها يعدُّها ويعدُّ إخوتها، وقد اكتفتْ بذكر الله وعبادته والتضرَّع إليه في ليلتها ونهارها والاستفادة من مدرسة أمِّها وأبيها وأخويها الحسن والحسين عن ذكر الناس والقيل والقال والاشتراك في الفتن والأحداث.

وقد اعتاد المؤرِّخون والكتَّاب أن يتحدَّثوا عن المرأة من خلال نزعاتها واشتراكها في الفتن وأحداث عصرها وركوبها الجمال والبغال في ساحات الحروب والمعارك، وعمَّا ترويه من الأحاديث المكذوبة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كالتي كانت تنسبها بعض زوجاته إليه زوراً وافتراء، كما يتحدَّثون أحياناً عن ربَّات البيوت من خلال مظاهر البذخ والترف وعدد الجواري والعبيد ومجالس الغناء والشراب. أمَّا البيوت التي تكون لله وفي سبيل الله والتهجد والعبادة وللعلم والتعليم والإرشاد، فلا يعنيهم من أمرها شيئاً.

لقد كان بيت العقيلة من تلك البيوت التي وصفها بعض الشعراء بقوله:

منازل كانت للرشاد وللتقى

وللصوم والتطهير والصلوات

ووصفها أبو فراس الحمداني في قصيدته التي يعدِّد فيها فضائل العلويِّين ومساوئ الأمويِّين والعبَّاسيِّين بقوله وهو يخاطب العبَّاسيِّين:

تنشي التلاوة في أبياتهم سَحَراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغم

ما في ديارهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للسوء معتصم

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم

ولا يرى لهم قرد له حشم

الركن والبيت والأستار منزلهم

وزمزم والصفا والخيف والحرم

١٠٢

لقد رُوى عنها أعيان الصحابة، وكان عبدالله بن العبَّاس عندما يروي عنها يقول: حدَّثتني زينب ابنة عليعليه‌السلام .

وولد لعبد الله من زوجته زينب أربعة ذكور وأنثى واحدة، وهم: علي ومحمد وعبَّاس وعون وأم كلثوم، وكان قد خطبها معاوية لولده يزيد بن ميسون وحاول بكل وسائله ومغرياته إتمام هذه الصفقة، ولكن خالها الحسينعليه‌السلام كان له بالمرصاد، فزوَّجها من ابن عمِّها القاسم بن محمد بن

جعفر(1) ، وقُتل محمد وعون مع الحسين في كربلاء وقدَّمتهما العقيلة لينالا شرف الشهادة مع أخيها، فبرزَ عون وهم يقول كما تروي كتب المقاتل:

إن تنكروني فأنا ابن جعفر

شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجناح أخضر

كفى بهذا شرفاً في المحشر

ومضى يقاتل حتّى قتل ثلاثة فوارس وثمانية عشر رجلاً، ثم تكاثروا عليه وقتلوه. وبرز بعده أخوه محمد بن عبدالله وهو يقول:

أشكو إلى الله من العدوان

فِعال قوم في الردى عميان

قد بدَّلوا معالم القرآن

ومحكم التنزيل والتبيان

وقَتل من أهل الكوفة عشرة من فرسانهم، ثم حملوا عليه وقتلوه، وكان الذي تولَّى قتله ابن نهشل التميمي كما ذكر أرباب المقاتل، ولم يحدِّث التاريخ ولا أرباب المقاتل أنَّ العقيلة زينب ندبت ولديها أو تعلَّقت بهما كما كانت الأمهات يصنعن حين خروج أولادهنَّ ومصرعهم، بل كان الحسين شاغلها الوحيد الذي أنساها كل شيء وهان عليها مصابها بهما

____________

(1) انظر: أعيان الشيعة، المجلَّد 33، ص 191، ط 1950.

١٠٣

لأنَّهما قتلا في سبيله، وحتّى أنَّ زوجها عبدالله والدهما كان يقول بعد أن بلغته أخبار تلك المجزرة وما جرى لولديه: لقد هوَّن عليَّ مصابهما أنَّهما قتلا مع أخي وابن عمِّي مواسين له صابرين معه، وإذا لم أكن قد واسيته بيدي فلقد واسيته بولْدي. ودخل عليه أحد غلمانه يبكيهما ويقول: ماذا لقينا من الحسين بن علي، فغضب عبدالله وحذفه بنعله وقال له: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا، والله لو شهدته لَمَا فارقته حتّى أقتل دونه وأفديه بنفسي.

والسؤال الذي قد يعترض هو: لماذا لم يخرج مع الحسين كما خرجت معه زوجته وأكثر الطالبيِّين ومَن هو أولى من عبدالله بذلك؟ وقد اعتذر عنه جماعة بأعذار لا تعدو أن تكون من نوع الحدس والتخمين، والذي أراه أنَّ عبدالله بن جعفر لم يتخلَّف عن الحسينعليه‌السلام إلاّ برأيه، وقد أمره بالبقاء في المدينة لأسباب تفرضها المصلحة كما أمر أخاه محمد بن الحنفية بذلك، ولم يحدِّث التاريخ عن عبدالله بأنَّه كان يعصي للحسن والحسين أمراً أو يخالفهما في شيء. وقد ذكرنا أنَّ معاوية حينما خطب ابنته لولده يزيد ترك أمرها إلى الحسين بالرغم من العروض السخيَّة التي عرضها عليه معاوية، كما ترك أمر زوجته زينب من حيث خروجها معه إليه وإليها، وهو الذي أمر ولديه بالخروج معه وكان مغتبطاً باستشهادهما معه ومواساتهما له، وإنَّ سيرته ومواقفه بعد الحسينعليه‌السلام لأصدق شاهد على إيمانه وإخلاصه في ولائه لعمِّه وأبناء عمِّه ولدينه وعقيدته.

١٠٤

افتراءات الأمويِّين على عبدالله بن جعفر

وجاء في العيون والمجالس للبيهقي أنَّ عبدالله بن عبَّاس وعمرو بن العاص كانا في مجلس معاوية فتعرَّض عمرو بن العاص لعبدالله بن جعفر ونال منه، فقال له ابن عبَّاس (رحمه الله): إنَّ عبدالله ليس كما تذكر يا ابن العاص، ولكنَّه لله ذَكُوْراً ولنعمائه شكوراً وعن الخني زجوراً، جواد كريم وسيَّد حليم، لا يدَّعى لدعي ولا يدنو لدني، كما اختصم فيه من قريش شرارها وغلب عليه جزارها، فأصبح آلامها حسباً وأدناها نسباً. ومضى يقول: وليت شعري بأيِّ قدم تتعرَّض للرجال وبأيِّ حسب تبارز عند النضال، أبنفسك وأنت الوغد الزنيم أم بمَن تنتمي إليه من أهل السفه والطيش والدناءة في

قريش، لا بشرف في الجاهلية اشتهروا ولا بقديم في الإسلام ذُكروا. وكان ابن عبَّاس في قوله هذا يعرِّض بابن العاص لأنَّه كان متَّهماً في نسبه كما تؤكِّد ذلك أكثر المصادر التي تعرَّضت لتاريخه.

أمَّا ما جاء في بعض المجاميع عنه من أنَّه في الشطر الأخير من حياته كان مولعاً بالقيان والغناء واللهو والفساد وما إلى ذلك من الافتراءات،

١٠٥

فهو من وضع الأمويِّين الذين سخَّروا بعض الرواة والقصَّاصين للنيل من مقام أمير المؤمنينعليه‌السلام ومَن يتَّصل به بنسب قريب أو بعيد، وعبدالله بن جعفر هو بمنزلة أولاده والابن المفضَّل عنده من أولاد أخيه جعفر وزوج ابنته عقيلة بني هاشم وكان من أبرز الطالبيِّين بعد أولاده عمِّه أمير المؤمنينعليه‌السلام في أكثر صفاته ومواهبه.

لقد شقَّ على معاوية وحزبه أن يبرز حفيد أبي طالب على أقرانه من أبناء المهاجرين والأنصار بفضله وعبادته وجوده وكرمه، وأن يسميه الناس بحر الجود، وأن يتحدَّثون عنه في نواديهم ومجالسهم بأكرم الصفات والمزايا، ولا يذكرون أحداً من أحفاد أميَّة وفتيانهم إلاّ بما هم عليه من ممارسة الفجور والفساد والغناء وانتهاك الحرمات، فسخَّر رواته وقصَّاصيه لينسبوا إليه ممارسة الغناء والفساد والتلهِّي بالجواري والراقصات؛ حتّى لا يبقى الفساد والفجور من محتكرات أبنائهم وأحفادهم ووقفاً على قصورهم ومنتجعاتهم،وليصرف الأنظار عمَّا شاع وذاع عن ولده الخليع الفاجر. وليس ذلك بغريب على ابن هند وسليل أميَّة؛ فلقد كان يعمل بكل ما لديه وبدون حياء وخشية هو ومَن سخَّرهم من الرواة والقصَّاصين، ويفتري على علي وولده الحسن سبط الرسول، فوضعوا له عشرات الأحاديث التي تسيء إليهما وترفع من شأنه وشأن أسرته، ويبذل الأموال بلا حساب في هذا السبيل، وكان بذلك كأنَّه يأخذ بضبعيهما إلى السماء، وكانوا بما رووه له في أسرته وذويه كأنما ينشرون جيف الحمير على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة بن الزبير.

لقد حاول أن يضع من شأن الحسن السبط فسخَّرهم لأن يقولوا أنَّ عليَّاًعليه‌السلام كان إذا مرَّ على حشد من النساء يقول لهن: (مَن منكنَّ تحبُّ أن تكون زوجة لأمير المؤمنين؟) فيقلن له: كلُّنا مطلَّقات ولدك الحسن، وأنَّ الحسنعليه‌السلام تزوَّج بأكثر من مائتين وخمسين إمرأة إلى غير ذلك من

١٠٦

مفترياته، ولم يعد غريباً عليه إذا سخَّر أذنابه ليلصقوا بحفيد أبي طالب عبدالله بن جعفر وبحر الجود كما كان يصفه الناس: أنَّه كان منصرفاً إلى القيان والغلمان والجواري الراقصات؛ ليستر بذلك إسراف ولده وأسرته، أحفاد أميَّة، بالفجور والمنكرات.

وعلى ذلك مضى مَن جاء بعده من الأمويِّين؛ فحيث كانت قصورهم تعجُّ بالغلمان والندمان والراقصات، وكانت بناتهم ونساؤهم يمارسن الفجور والرقص والغناء إلى جانب الرجال والغلمان، سخَّروا القصَّاصين والكذبة من الرواة لينسبوا إلى سكينة بنت الحسينعليه‌السلام شقيقة الإمام زين العابدين أنَّها كانت تجتمع إلى المغنِّين والمغنِّيات والشعراء والمخنَّثين وتبادلهم الشعر والغناء، وعندما يستبد بها الطرب أو الإعجاب بشعر أحدهم تمدُّ لهم يدها لينتزعوا الحلي من سواعدها، وما إلى ذلك من المنكرات؛ ليستروا بذلك مفاسدهم وفجورهم واستهتارهم، نساءً ورجالاً، بالإسلام وتعاليمه وقيمه وآدابه.

١٠٧

لمحات عن المصائب التي اعترضت حياة زينب منذ طفولتها

لقد شاءت الأقدار والصُّدف أن تتعرَّض الحوراء زينب بنت علي وفاطمة لتلك الأحداث الجسام منذ طفولتها حتّى النفس الأخير من حياتها، وأصبحت حياتها محفوفة بسلسلة من الآلام منذ البداية وحتّى النهاية.

صحيح أنَّ كل الناس لا تخلو حياتهم من الهموم والمتاعب والآلام، من غير فرق بين عامَّة الناس وبين ذوي الجاه والسلطان والثراء، وقديماً قيل: (إذا أنصفك الدهر، فيوم لك ويوم عليك)، ومَن الذي استطاع في حياته أن ينجو من البلاء والنكبات وأن يحقِّق جميع رغباته وما يطمح إليه في حياته، ولم يبتلى إمَّا بنفسه أو بعزيز من أعزَّائه وأبنائه أو بأشخاص من خارج أسرته ينغِّصون عليه حياته.

ولكن من غير المألوف أن يكون الإنسان مستهدفاً للمحن والأرزاء والمصائب منذ طفولته وحتّى أخر لحظة من حياته، وأن يعيش في خضم الأحداث والمصائب والأرزاء كما عاشت عقيلة الهاشميِّين التي أحاطت بها الشدائد والنوائب من كل جهاتها، وتوالت عليها الواحدة تلو الأخرى حتّى وكأنَّها وإيَّاها على ميعاد، وأصبحت تعرف بأمِّ المصائب أكثر ممَّا تعرف

١٠٨

باسمها.

فقد شاهدت جدَّها المصطفى وهو يصارع الموت وأمَّها وأبوها وخيار الصحابة يتلوَّون بين يديه مذهولين عن كل شيء إلاَّ عن شخصه الكريم ومصير الإسلام من بعده، وشاهدت وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى وفجيعة المسلمين به وبخاصة أبيها وأمِّها، وسمعت أباها أمير المؤمنين يقول يومذاك: (فنزل بي من وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع) وليس ذلك بغريب ولا مستهجن إذا أُصيب أهل البيت بذلك وأكثر منه؛ فإنَّ تأثير المصائب والأحداث إنَّما يكون حسب جسامتها وما يرافقها ويحدث بعدها على ذوي الفقيد وعلى مجتمعه، وأهل البيتعليه‌السلام من أعرف الناس بمقام النبي وأكثرهم انصهاراً بمبادئه ورسالته وبما قدَّمه للبشرية في كل عصر وزمان، ويدركون الأخطار التي ستحيط بالرسالة وبهم ممَّن لم يخالط الإسلام قلوبهم وممَّن كانوا ينتظرون وفاته بفارغ الصبر.

هذا بالإضافة إلى أنَّه كان قد حدَّث أهل بيته بكل ما سيجري عليهم من بعده وكرَّره على مسامعهم أكثر من مرَّة تصريحاً وتلويحاً، وحتّى ساعة وفاته كان ينظر إليهم ويبكى وقال لمَن سأله عن بكائه: (أبكي لذرَّيتي وما تصنعه بهم شرار أمتي من بعدي).

لقد شاهدت زينب كل ذلك وكانت تتلوَّى وتتألَّم إلى جانب أمِّها وأبيها، وشاهدت محنة أمِّها الزهراء وبكائها المتواصل على أبيها في بيت الأحزان، ودخول القوم إلى بيتها وانتهاك حرمتها واغتصاب حقِّها وإرثها وإسقاط جنينها، وهي تستغيث وتناشد القوم أن يراعوا وصية

١٠٩

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها وفي أهل بيته فلا تغاث. هذا وبلا شك فإنَّ العقيلة يومذاك كانت تتلوَّى وتصرخ إلى جانب أمِّها وتكاد صرختها تخرج من حشاها اللاَّهب الذي يقطعه الأسى والألم، وبعد أيَّام معدودات من مواقف القوم وإسقاط جنينها من آثار تلك الصدمة شاهدت أمَّها جثة هامدة على المغتسل تجهزها أسماء بن عميس وجاريتها فضة إلى مقرِّها الأخير بجوار أبيها الذي بشَّرها بالموت السريع وقال لها: (إنَّك أوَّل أهلي لحوقاً بي) فابتسمت للموت السريع الذي لا يَبتسم له إلاّ مَن اتَّخذ عند الرحمن عهداً، ورأت أباها وهو يبكيها ويندبها بقوله: (قلَّ - يا رسول الله - عن صفيَّتك صبري ورَّق عنها تجلُّدي... لقد استُرجعت الوديعة، وأُخذت الرهينة، وستنبئك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها، فأحفَّها السؤال واستخبرها الحال. أمَّا حزني فسرمد، وأمَّا ليلي فمسهَّد) إلى أخر ما جاء عنه في وداعها وهي تتلوَّى لفقد أمِّها وما حلَّ بأبيها.

وظلَّت تتجرَّع آلام تلك الأحداث طيلة حياتها، وشاهدت بعد أن أصبحت زوجة وأمَّاً لأسرة من أحفاد جدِّها أبي طالب مصرع أبيها

أمير المؤمنين، وآثار تلك الضربة الغادرة بسيف البغي والعدوان في رأسه وسريان السُّمِّ في جسده الشريف ودموعه تتحدَّر على خدَّيه وهو يقلِّب طرفه بالنظر إليها تارة والى أخويها الحسن والحسين أخرى ويتلوَّى لِمَا سيجري عليهم من بعده من مردة الأمويِّين وطواغيتهم.

وشاهدت أخاها الحسن السبط أصفر اللون يجود بنفسه ويلفظ كبده قطعاً من آثار السُّمِّ الذي دسَّه إليه ابن هند، وكان مَن في البيت قد وضعوا طشتاً بين يديه وهو يقذف كبده فيه، ولمَّا أحسَّ بدخولها عليه كالمذهولة أمرهم بإخراج الطشت من أمامه إشفاقاً عليها، وحينما حمل المسلمون نعشه لمواراته إلى جانب مرقد جدِّه كما كان يتمنَّى جاءت عائشة المسمَّاة بأم المؤمنين على بغلة وحولها طواغيت بني أميَّة وهي

١١٠

تصيح بأعلى صوتها: (والله، لا يدفن الحسن مع جدِّه أو تجزُّ هذه) مشيرة إلى ناصيتها، وتقول لمَن كان محيطاً بنعشه من الهاشميِّين: (يا بني هاشم، لا تُدخلوا بيتي مَن لا أحب) وهي لا تملك من البيت غير الثُّمن من التُّسع. ورأت أخاها الحسينعليه‌السلام حينما واراه في قبره يبكيه بلوعة وأسف ويقول:

سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة

وما اخضرَّ في دوح الحجاز قضيب

أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي

وخدك معفور وأنت سليب

غريب وأكناف الحجاز تحوطه

ألا كلُّ مَن تحت التراب غريب

فلا يفرح الباقي ببَعد الذي مضى

فكل فتى للموت فيه نصيب

بكائي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيد والمزار قريب

وليس حريباً مَن أصيب بماله

ولكنَّ مَن وارى أخاه حريب

وكانت العقيلة شريكته في كل ما كان يعانيه لفقد أخيه وما رافق ذلك من أحداث تلت وفاته، واستمرت طيلة حياتها في سلسلة من المصائب والأحزان بين الحين والأخر طيلة تلك الأعوام، حتّى كانت مصيبتها الكبرى بأخوتها وسراة قومها على صعيد كربلاء واشتركت بأكثر فصولها، ولم يبق غيرها لتلك القافلة من النساء والأيتام والأسرى بعد تلك المجزرة الرهيبة وخلال مسيرتها من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، عاصمة الجلاّدين.

هكذا كانت حياة السيدة زينب من حين طفولتها إلى الشطر الأخير من حياتها حياة مشبعة بالأحزان متخمة بالمصائب والآلام. وبعد هذه الإشارة الموجزة إلى جميع مراحل حياتها يحقُّ لنا أن نتساءل عن مواقفها من تلك الأحداث، هل أصيبت بما تُصاب به النساء وحتّى الرجال من الاضطراب؟ وهل هيمنت عليها العاطفة العمياء التي لا يبقى معها أثر لعقل

١١١

ودين، وخرجت عن حدود الاحتشام والاتزان كما يخرج عامة الناس في مثل هذه الحالات والأحداث الجسام؟

لقد كانت ابنة محمد وعلي وفاطمة وأخت الحسنين وحفيدة أبي طالب أثبت من الجبال الرواسي وأقوى من جميع تلك الأحداث والخطوب التي لا يقوى على مواجهتها أحد من الناس، لقد وقفت في مجلس ابن زياد في الكوفة متحدِّية لسلطانه وجبروته تنقض عليه كالصاعقة غير هيَّابة لوعيده ولا لسياط جلاَّديه، كما وقفت نفس الموقف في مجلس بن ميسون وأثارت عليه الرأي العام الإسلامي بحجَّتها ومنطقها ممَّا جعله يتباكى على الحسين ويكيل الشتائم لابن مرجانة كما ذكرنا.

لقد تحوَّلت تلك المحن والمصائب بكاملها إلى عقل وصبر وثقة بالله، وكشفت كل نازلة نزلت بها عن أسمى معاني الكمال والجلال في نفسها و

عقلها، وعن أسمى درجات الإيمان والصبر الجميل. ولم يكن اعتصامها بالله وثقتها به إلاّ صورة صادقة لاعتصام جدِّها وأبيها وثقتهما به في أحلك الساعات وأشدِّ الأزمات، وأيُّ شيء أدلُّ على ذلك من قيامها بين يدي الله سبحانه للصلاة ليلة الحادي عشر من المحرم وأخيها الحسين وبنيها وإخوتها وأبناء عمومتها وأصحاب أخيها جثث على ثرى الطفِّ تسفي عليهم الرياح، ومن حولها عشرات النساء والأطفال في صياح وعويل يملأ صحراء كربلاء وجيش ابن زياد وابن سعد يحيط بها من كل جانب.

إنَّ صلاتها في تلك الليلة وفي ذلك الجو الذي يذهل فيه الإنسان عن نفسه مهما بلغ من رباطة الجأش وقوَّة الإرادة كصلاة جدِّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد الحرام في مطلع الدعوة والمشركون يومذاك على شراستهم يحيطون به من كل جانب ومكان، يرشقونه بالحجارة وبما أعدُّوه لإهانته من الأوساخ والنافيات ويتوعَّدونه بكل أنواع الإساءة،

١١٢

وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في وسط المعركة في صِفِّين والقتلى تتساقط عن يمينه وشماله، ومعاوية يحرِّض جيشه على مواصلة القتال واغتياله بكل الوسائل، وكصلاة أخيها سيِّدة الشهداء في وسط المعركة يوم العاشر من المحرَّم وسهام أهل الكوفة تنهال عليه من كل جانب ومكان. وإن لم يكن لها إلاّ قولها حين مرُّوا بموكب السبايا في طريقهم على مصارع القتلى ورأت أخاها الحسين وبنيها وإخوتها وأبناء عمومتها وأنصارهم أشلاء مبعثرة هنا و

هناك، إن لم يكن لها إلاّ قولها حين نظرت إلى تلك الأشلاء: (اللَّهُم تقبَّل منَّا هذا القربان) يكفها لأنَّ تكون فوق مستوى الإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة والصبر وقوة الإيمان.

وخلال حديثي عن ثورة الحسينعليه‌السلام لقد عرضتُ بعض الجوانب من مواقف العقيلة في كربلاء خلال المعركة وبعدها، وفي الكوفة مع أهالي الكوفة الذي خرجوا يبكون ويندبون الحسين ومَن قُتل معه، ومع ابن مرجانة في قصر الخضراء حينما رأت الابتسامة تملأ شدقيه ورأس أخيها سيد الشهداء بين يديه ينكث ثناياه بمخصرته ويتمنَّى حضور أشياخه الذين صرعهم علي بن أبي طالب والد الحسين في معركة بدر، إلى غير ذلك من مواقفها الكريمة التي ضربت فيها أروع الأمثلة في البطولات والشمم والمثل العليا، وبيَّنتْ - بمواقفها - للعالم في كل عصر وجيل أنَّ المرأة المسلمة باستطاعتها أن تزعزع عروش الطغاة وفراعنة العصور وأن تقلب الدنيا على رؤوسهم كما فعلت ابنة علي والزهراء.

١١٣

مرقد العقيلة زينب بنت عليّعليه‌السلام

وأرى بعد هذا العرض السريع للمراحل التي مرَّت بها العقيلة في بيت أبيها وزوجها ومع أخيها في رحلته إلى الشهادة أن أتحدَّث ولو بأقصى ما يمكن من الإيجاز عن مرقدها الذي ادَّعته الأقطار الثلاثة: المدينة المنورة في الحجاز، ومحلّة الفسطاط من القاهرة في مصر، ومحلة الغوطة في القرب من دمشق الشام. لها مرقدان حتّى يومنا هذا في القاهرة ودمشق الشام تقصدها مئات الألوف كل عام من المسلمين لزيارتها والتبرُّك بمرقدها والتوسُّل إلى الله بجدِّها المصطفى وأبيها المرتضى وأمِّها الزهراء لقضاء حوائجهم. أمَّا قبرها في المدينة، فلقد كان في البقيع إلى جانب غيره من قبور أهل البيت وصلحاء المسلمين من صحابة الرسول وغيرهم، ولمَّا انتقلت السلطة إلى الوهابيِّين وحكموا الحجاز هدَّموا قبور أهل البيت وغيرهم من المسلمين وحاولوا هدم قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحجة أنَّ بناء القبور وزيارتها من أنواع الشرك بالله لولا الضجة العالمية من جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم التي اعترضت تصميمهم على هدمه.

إنَّهم يرون زيارة البناء الذي يضم رفات الأنبياء والصدِّيقين والأئمَّة

١١٤

الطاهرين شركاً وإلحاداً. أمَّا القصور التي تجمع بين جدرانها آلاف الجواري والراقصات ومئات الأطنان من الخمور، فلا تتنافى مع الإسلام ولا مع تعاليمه ومقدَّساته عند أدعياء الإسلام وحكَّام العصور. إنَّ تقديس المسلمين لقبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبور الأئمَّة الطاهرين وزيارتهم اللَّذين ضحوا بأنفسهم وبكل ما يملكون في سبيل الإسلام ومقدَّساته ومن أجل الإنسان وكرامته التي داسها الأمويَّون وفراعنة العصور بأقدامهم، ليست إلاّ احتجاجاً صارخاً على الباطل وأهله، وتعبيراً صادقاً عن الإخلاص للحق والنقمة على الجور، وصواعقاً تنهال على رؤوس الطغاة والظالمين في كل زمان ومكان.

١١٥

مع الوهَّابيِّين بمناسبة الحديث عن مرقد العقيلة

بهذه المناسبة وقبل الخوض في تفاصيل ما قيل حول مرقدها، ونظراً لأنَّ الوهابيِّين يرون تشييد قبور الأولياء وزيارتها من أنواع الشرك ولا يزالون يواصلون حملاتهم المسعورة على الشيعة، رأيت نفسي مدفوعاً إلى هذه الوقفة القصيرة معهم لأعود بعدها إلى مواصلة الحديث عن مرقدها الذي تضاربت الآراء حوله؛ لأنَّ السكوت الذي التزمناه عن أولئك المسعورين حرصاً منَّا على وحدة الصف لم يضع حدَّاً لعدوانهم، بل زادهم إمعاناً في البغي والعدوان والتعامل مع الشيعة بأسوأ من معاملتهم لغير المسلمين كما سنقدِّم بعض الأرقام على ذلك.

إنَّ حماة الحرمين يحافظون على معابد السُّنَّة ومقابرهم ويبذلون لتشييدها وترميمها الملايين من الدولارات، ونحن نبارك عملهم هذا لو كانوا لا يميزون بين مسجد ومسجد ولا بين مقبرة ومقبرة، ولكنَّهم - ومع الأسف الشديد - لا يبذلون قرشاً واحداً على مساجد الشيعة ومعابدهم، ويتتبَّعون قبور صلحائهم وأوليائهم بالهدم والتخريب ويدَّعون بأن تشييد قبور الأنبياء والأئمَّة من ذرِّية الرسول كفر وشرك بالله، مع العلم

١١٦

بأنَّ الشيعة إنَّما يحترمون قبور الأنبياء والأئمَّة باعتبارها رمزاً لمَن حلَّ بها من أولئك الذين ضحُّوا بأنفسهم وبكل ما يملكون في سبيل الله والإسلام والمستضعفين في الأرض وكانوا ثورة على الشرك والظلم والعدوان ومن أجل الإنسان وكرامة الإنسان.

ولم يكتف الوهابيُّون بذلك، بل يعاملون الشيعة بأسوأ ممَّا يعاملون به الكفَّار والمشركين بالله كما ذكرنا، فلا يقبلون شهادة الشيعي على غيره مهما بلغ من الدين والتقوى، ويقبلون شهادة السُّنِّي والبدوي عليه ولو خرجا من نوادي القمار وموائد الخمور ومن بين أحضان البغايا والمومسات، في حين أنَّ الشيعة يقبلون شهادة البدوي والقروي والنجدي على الشيعي وغيره إذا كان الشاهد عادلاً ملتزماً بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، هذا مع العلم بأنَّ الحنابلة الذين يعمل الوهابيُّون بفقههم لا يقبلون شهادة البدوي على القروي ويقبلها الوهابيُّون إذا كان البدوي نجدياً والقروي من خارج نجد(1) .

إنَّ الوهابيِّين يفرِّقون بين الشيعي وغيره في أكثر الأحكام الشرعية، ويحاربون جميع الآثار الشيعية، ويبذلون ملايين الدولارات للدسِّ والكذب على الشيعة وأئمة الشيعة الذين بذلوا حياتهم وجميع ما يملكون في سبيل الإسلام والمسلمين، ولم يفرِّقوا بين فئة وفئة ولا فريق وفريق ما دام الجميع يشهدون لله بالوحدانية ولمحمد بالنبوة والرسالة.

إنَّهم يتعاملون مع الشيعة بنفس الروح التي كان يتعامل بها معهم الأمويُّون والعبَّاسيُّون، ويراقبون جميع تحرُّكاتهم وتصرُّفاتهم حتّى وكأنَّهم من ألدِّ أعداء العرب والإسلام. ولم يأخذوا بأيِّ أثر من آثار أهل البيت التي

____________

(1) ميزان الشعراني في باب الشهادات.

١١٧

تجسِّد إسلام محمد بن عبدالله ويمنعون جميع الكتب الشيعية القديم منها والحديث من الدخول للبلاد التي يحكمونها في شبه الجزيرة العربية و، يحظرون على بائعي الكتب استيراد جميع المؤلفات الشيعية التي تتحدث عن الدين والأخلاق الإسلامية والأدب والفلسفة والتاريخ وما إلى ذلك من المواضيع الإسلامية، مع العلم بأنَّ أصحاب تلك المؤلَّفات يحملون روحاً إسلامية صادقة تدافع وتناضل عن كل مَن ينتسب إلى الإسلام حتّى ولو لم يكن شيعياً، ولا يتعرَّضون في مؤلَّفاتهم للعائلة الحاكمة ولا لسياستهم وسيرتهم وإسرافهم في اللهو والمنكرات كما تتحدَّث عنهم الصحف ووكالات الأنباء العالمية والأجنبية، ولا ذنب للشيعة إلاّ أنَّهم يوالون أهل بيت نبيهم محمد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين أمر الله بمودَّتهم كما جاء في الآية:( لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) وأكَّدته عشرات النصوص التي روتها مجاميع الحديث السُّنِّة وصحاحهم.

إنَّهم يمنعون الكتب الشيعية ومؤلَّفات الشيعة القديم منها والجديد من الدخول لبلادهم ويعاقبون مَن يستوردها ويقتنيها ويقتنون ويستوردون كتب الفسوق والفجور والخلاعة والمستشرقين من أعداء الاستلام، والكتب التي تعلمَّ الناس الفوضى والفساد والكفر والإلحاد، والتي تعود بالحياة مئات السنين والأعوام إلى الوراء، ويحاربون الكتب التي تدعو إلى الاستلام وتدافع عنه وتحثُّ على العمل بكتاب الله وسنة نبيه رسول الرحمة والحرية والكرامة.

إنَّ شيوخ الوهابية في أواخر القرن العشرين يحكمون بعدم صحة زواج السُّنَّة من الشيعي الموالي لعلي وآل بيت نبيهم محمد بن عبدالله رسول الرحمة والعدالة والمحبة كما يحكمون بعدم صحة زواجها من المشركين.

فقد جاء في جريدة الجزيرة السعودية، عدد 3105/ تاريخ 14 شباط/

١١٨

سنة 1981 - 10 ربيع الثاني 1401 جاء فيها سؤال موجَّه إلى أحد شيوخ الوهابية من شخص يدَّعى حسين حاجي في الرياض يسأل فيه: ما حكم زواج السُّنِّيَّة من الشيعي؟ ويقول الشيخ الوهابي في جوابه كما جاء في الجريدة المذكورة: لا يجوز زواج السُّنِّيَّة من الشيعي، ولا يقبل هذا

الزواج، ويفسخ إذا حصل ويعاقب مَن يفعل ذلك؛ لأنَّ أهل السُّنَّة والجماعة طريقهم معروف في القول والعمل والاعتقاد والشيعة طريقهم معروف، ولا مقاربة بينهما لا في الأصول ولا في الفروع.

بهذه الصلافة والوقاحة والجرأة على الله ورسوله يتكلَّم أحد شيوخ الوهابية، ويحكم بفساد عقد النكاح إذا وقع بين سُنِّيَّة مسلمة وشيعي

مسلم، وبفسخه ومعاقبة مَن يفعل ذلك، وينطلق شيخ الوهابيِّين لجوابه هذا - وهو في أواخر القرن العشرين - من أنْ الشيعة لا يلتقون ولو من بعيد مع أهل السُّنَّة لا في أصول الإسلام ولا في فروعه.

وهذا الجواب وأن كان من نوع اللغو والهذيان ولا يستحق غير السخرية، ولكنِّي أرى لزاماً عليَّ أن أقول لهذا الشيخ ولغيره من شيوخ السوء الحاقدين على أهل البيت وشيعتهم والذين يتكلَّمون بلغة الأمويِّين وابن تيميَّة ومحمد بن عبد الوهاب: إنَّ أصول الإسلام عند الشيعة هي: توحيد الله الواحد الأحد، وعدله، ونبوَّة محمد بن عبدالله، والمعاد. وفروع الإسلام هي: الصلاة والصيام والحجُّ والزكاة وجهاد الكافرين والظالمين المستهترين بأحكام الله وحقوق الناس وكرامتهم. وهذه الأصول والفروع يجب الالتزام بها على كلِّ بالغ عاقل قولاً وعملاً، والشيعة يعتقدون بأنَّهم يلتقون مع إخوانهم أهل السُّنَّة في أصول هذه المبادئ والاعتراف بها؛ وعلى أساس ذلك فهم يزوِّجون أهل السُّنَّة من بناتهم ويتزوَّجون بنات أهل السُّنَّة.

وإذا كان المذهب الوهابي الذي قيل عنه في جميع الأوساط

١١٩

السُّنِّيَّة بأنَّه بدعة - ولا يزال هذا الوصف شائعاً عنه بين أهل السُّنَّة - إلى جانب قولهم بأنَّه لا يمتُّ إلى الإسلام بسبب، إذا كان المذهب الوهابي لا يعترف بهذه الفروع والأصول أو ببعضها، فلا مقاربة بين الشيعة والوهابية كما يدَّعي فضيلة الشيخ الوهابي. والشيعة بناء لذلك لا بدَّ وأن يلتزموا بأنَّه لا يصحُّ زواج الشيعية من الوهابي، وإذا وقع بينهما زواج، يفسخ الزواج ويعاقب مَن يفعل ذلك، ويجب أن يعلم فضيلة الشيخ الوهابي الذي يكفِّر الشيعة لأنَّهم يوالون أهل البيتعليه‌السلام أنَّه لولا المليارات التي تتدفَّق على البلاد الإسلامية من السعودية لكان المذهب الوهابي بدعة بنظر أكثر علماء السُّنَّة ومفكِّريهم، وقد سبق لعلماء السُّنَّة قبل أن يظهر البترول في تلك البلاد وفي عهد إبراهيم باشا بالذات الذي ملك بلادهم ودخل عاصمتهم الدرعية أن حكموا على المذهب الوهابي بذلك وعلى أساسه قُتل إبراهيم باشا نحواً من خمسمائة من علمائهم وفقهائهم.

فقد جاء في كتاب إبراهيم باشا للمستشرق (بيير كربيس) ص 40 طبعة سنة 1937 جاء فيه أنَّه لمَّا تغلَّب إبراهيم باشا على السعوديِّين وملك بلادهم ودخل عاصمتهم الدرعية وخضع له جميع أمراء البيت السعودي استدعى رجالَ الدين والفقهاء السعوديِّين، وكان عددهم خمسمائة، وقال لهم: لقد أحضرت معي من القاهرة جماعة من أكابر العلماء السُّنِّيين أريد أن تجتمعوا بهم وتبحثوا أسباب الخلاف المستحكم بين عقائدكم وعقائد أهل السُّنَّة من المسلمين، فاجتمع الفريقان نزولاً عند أمره وظلَّ خطباؤهم ثلاثة أيَّام كاملة يتناقشون في الفروق الدقيقة بين المذهبين، وإبراهيم باشا معهم يستمع لأقوال الفريقين، ولمَّا لم يتوصَّلوا إلى نتيجة حاسمة، أقفل باب الجدل وتوجَّه بالسؤال إلى كبير مشايخ الوهابيِّين وقال له:

هل تؤمن بأن الله واحد وأنَّ الدين الصحيح هو دينكم وحده؟ فقال له الشيخ: إنِّي أؤمن بذلك، فقال له ابراهيم باشا: ما رأيك في الجنَّة

١٢٠