من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 30793
تحميل: 5526

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30793 / تحميل: 5526
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على أخيها الحسين في كربلاء وغيرها من المواقف، وبعد وقعة الحَرَّة واستباحة المدينة كانت تقيم النياحات والمآتم على الحسين وتشنِّع على يزيد وجوره، وهي التي نفاها عمرو بن سعيد الأشدق إلى مصر وتوفِّيت فيها ودفنت في المكان الذي يقدِّسه المصريِّون ويتبرَّكون به، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تعتمد على غير الحدث والظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً.

ولقد تعرَّض الشيخ المفيد في إرشاده لأخوات الحسينعليه‌السلام خلال حديثه عن أولاد أمير المؤمنين، وعدَّ من بناته اللواتي وُلِدن له من غير فاطمة: زينب الصغرى، وخلال حديثه عن أحداث كربلاء وما رافقها من تقتيل وسلب وأسر وسبي لم يتعرَّض لغير زينب العقيلة شقيقة الحسين

لأمِّه وأبيه، وأسهب في الحديث عنها وتعداد مواقفها وما تجرَّعته من آلام وغصص من أجل أخيها وعياله وأطفاله. أمَّا زينب الصغرى هذه، فلم يتعرَّض هو وغيره من المؤلِّفين في مقتل الحسين لها، ولم يسجِّلوا لها موقفها من المواقف خلال أحداث كربلاء وما تلاها من المواقف من الكوفة وقصر الحمراء وغيرهما، وجميع أحاديثهم كانت عن العقيلة الحوراء. كما وأنَّ الذين كتبوا عن أهل البيت من أعلام الشيعة الأوائل كالكليني والصدوق والمرتضى والطوسي والحلِّي وغيرهم من المتقدِّمين لم يتعرَّضوا لزينب العقيلة وما جرى عليها بعد رجوعها من السبي إلى المدينة بأكثر من أنَّها كانت لا تدع البكاء والنحيب على أخيها ومَن قُتل معه، و لم يتعرَّضوا لا لمرقدها ولا لمراقد غيرها من الزينبيات، كما لم يتعرَّض لذلك أحد من المؤرِّخين

القدامى. ومن مجموع ذلك تبيَّن أن أقرب الأقوال إلى الواقع أنَّها دفنت في المدينة وفي البقيع - مقبرة المسلمين الأوائل - ولم تخرج من المدينة بعد رجوعها إليها من السبي مع النساء والأطفال وابن أخيها السجَّاد، وإذا صحَّ بأنَّه وجد على القبر الموجود في ضواحي الشام: (هذا

١٤١

قبر زينب الوسطى بنت علي بن أبي طالب) كما يدَّعي الشيخ فرج القطيفي، فيمكن أن يكون القبر المذكور لإحدى بنات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولكنَّ ذلك وحده لا يبعث على الاطمئنان بهذا الأمر، ولا يمنع من أن تكون الصخرة وضعت على القبر بعد ذلك بمئات السنين حينما بُني القبر وشُيِّد بشكله الحالي اعتماداً على الشهرة أو لأسباب أخرى. لعل أيدي الذي حكموا بلاد الشام من الشيعة ضالعة في ذلك.

١٤٢

المرقد الزينبي في القاهرة وضاحية الشام

الظاهر أنَّ هذين المرقدين - كما لعله أقرب الاحتمالات وبخاصة بالنسبة إلى المرقد المصري - أنَّ أحدهما؛ وهو الموجود في ضاحية الشام وفي المكان الذي يًعرف حالياً بقرية الست، هو لزينب بنت عبد الله الأصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين ومن غير

فاطمة الزهراءعليه‌السلام (1)، والمرقد الزينبي الموجود في محلَّة الفسطاط عند قناطر السباع من القاهرة الذي يقدِّسه المصريِّون ويقصدونه من سائر الجهات ويبذلون الأموال الطائلة في سبيله تقرُّباً إلى الله تعالى هو لزينب بنت يحيى المتوَّج بن الحسن الأنور بن زيد بن الحسن السبطعليه‌السلام ؛ ولأجل وضع هذا الظن موضع الاعتبار والعناية، وحتّى لا يكون كغيره من

____________

(1) لقد نصَّ في تاريخ الخميس، ص 286، المجلَّد الثاني أنَّ عبدالله الأصغر كان متزوِّجاً من أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين، وجاء في (أهل البيت) لأبي علم أنَّ زينب الشام هي ابنة أم كلثوم كما سنتعرض لذلك خلال هذا الفضل، وهي غير أم كلثوم التي تزوَّجها ابن الخطَّاب ومات عنها.

١٤٣

الأقوال العابرة حول هذا الموضوع، لا بدَّ من المرور ببعض الجوانب عن حياة الحسن الأنور وابنته السيدة نفسية المعروفة عند المصريِّين بكريمة الدارين.

لقد ذكر جماعة من المؤلِّفين في أحوال أهل البيت، ومن بينهم المؤلِّف المصري توفيق أبو علم رئيس إدارة مسجد السيدة نفسية ووكيل وزارة العدل الصادر بتاريخ 1970، فلقد عدَّه - كغيره - في كتابه المذكور من جملة أولاد زيد بن الحسن السبط، ووصفه بكرم الطبع وجلالة القدر وكثرة البر والإحسان وأنَّ الناس كانوا يقصدونه من جميع الآفاق طمعاً في برِّه وإحسانه، وأنَّه كان يتولَّى صدقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبقيت في يده إلى أن جاء للحُكم سليمان بن عبد الملك، فعزله عنها، وأرجعها إليه عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل، ومضى يقول: إنَّ محمد بن بشير الخارجي كان من جملة الشعراء الذين مدحوه، وقال فيه:

إِذا نَزَلَ اِبنُ المـُصطَفى بَطنَ تَلعَةٍ

نَفى جَدبَها وَاِخضَرَّ بِالغَيثِ عودُها

وَزَيدٌ رَبيعُ الناسِ في كُلِّ شَتوَةٍ

إِذا اِختَلَفَت أَنواؤُها وَرُعودُها

وقد توفَّى زيد بن الحسن وله من العمر تسعون عاماً، وبكاه الناس ورثاه عدد من الشعراء، ومن أولاده الحسن الأنور، وكان من علماء أهل البيت المبرَّزين وولاه أبو جعفر المنصور العبَّاسي سنة 150 هجرية إمارة المدينة بعد أن عزل عنها جعفر بن سليمان، وبقي على المدينة لسنة 65، فعزله عنها لوشاية عليه بأنَّه يساند الثوَّار العلويِّين لإعادة الخلافة إليهم ووضعه في حبسه إلى أن جاء ولده المهدي إلى الحكم فأخرجه من الحبس، وكان معروفاً بالصلاح والتقوى والبر والإحسان ومستجاب الدعاء على حدِّ تعبير المؤلف.

١٤٤

وقد خلف الحسن الأنور - كما يدَّعي توفيق أبو علم - تسعة ذكور وبنتين؛ وهما: نفيسة وأم كلثوم، ومن أولاده الذكور يحيى المتوَّج. واشتهرت نفيسة من بين أولاده بالزهد والصلاح والمعرفة وكانت تلقَّب بنفيسة الدارين ونفيسة العلم والطاهرة والعابدة، ولمَّا بلغت سنَّ الزواج خطبها العلماء والأشراف من شباب العلويِّين وفتيانهم، فكان والدها يأبى عليهم ويردُّهم رداً جميلاً، وحينما خطبها إسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام زوَّجها إيَّاه وذلك سنة 161، وكان من المعروفين بالفضل والصلاح والخير ومن المحيطين بأحاديث أبيه وأجداده كما وصفه المقريزي في خططه، وأولدها ولدين: القاسم وأم كلثوم، ومن نسل القاسم السادة بنو زهرة في حلب ونواحيها(1) .

ورحلت السيدة نفيسة الدارين مع زوجها من المدينة إلى القاهرة وفي طريقها إلى القاهرة مرَّت على دمشق الشام وزارت فيها بغوطة دمشق مقام السيدة زينب بنت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين، وأم كلثوم هذه هي المعروفة بالصغرى من بنات أمير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء وكانت زوجة لعبد الله الأصغر بن عقيل بن أبي طالب كما جاء في ص 286 من المجلَّد الثاني تاريخ الخميس. والظاهر أنَّ زينب التي زارت قبرها نفيسة هي

ابنتها؛ لأنَّ أم كلثوم الكبرى، ابنة الزهراء، كانت زوجة لعمر بن الخطَّاب، وقد أولدها ولداً سمَّاه زيداً، وبعد وفاة ابن الخطاب عنها تزوَّجها محمد بن عبدالله بن جعفر ولم تنجب منه كما جاء في تاريخ الخميس(2) .

ثم زارت قبر عمَّتها فاطمة بنت الحسن بن عليعليه‌السلام وقبر فضَّة جارية الزهراءعليه‌السلام ، وقد استقبلها جمهور كبير من أهالي دمشق وعلمائها مرحِّبين بقدومها، وبعد دخولها دمشق بأيَّام قليلة رحلت منها إلى

____________

(1) انظر: ص 283 و284 و538 لتوفيق أبو علم.

(2) المصدر، ص 285 و286.

١٤٥

القاهرة ودخلتها في شهر رمضان سنة 193 - قبل أن يدخلها الشافعي بخمس سنين - فاستقبلها المصريون رجالاً ونساء أحسن استقبال، ونزلت داراً لأحد التجَّار الكبار، وأخيراً استقرت في البيت الذي أُعدَّ لها مع زوجها، وراح الناس بمختلف فئاتهم يتردَّدون عليها وعلى زوجها يأخذون عنهما العلم والحديث واستفادوا من علمهما واستمر الناس يتدفَّقون عليهما وأصبحت رمزاً للطهر والقداسة في تلك الديار.

ولم يكن لأخيها يحيى المتوَّج سوى بنت واحدة تُدعى زينب وكانت قد رحلت مع أبيها إلى مصر، وحينما دخلتها عمَّتها وغمرتها بعطفها وحنانها وتعلَّقت بها وأبت أن تتزوَّج من أحد بالرغم من توافد الخطَّاب على أبيها، ولازمت عمَّتها ولاقت من عطف عمَّتها عليها والإحسان إليها ما جعلها تتفانى في خدمتها وتسهر على حوائجها لمدة طويلة من الزمن وبخاصة بعد أن بلغت من العمر سنا أقعدها عن القيام بأكثر حوائجها.

وروى عنها أبو علم أنَّها كانت تقول: لقد خدمت عمَّتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت بليل ولا أفطرت في نهار إلاَّ في العيدين وأيَّام التشريق.

ومضت تقول - كما جاء في ص 540 من كتاب أبو علم وكيل وزارة العدل المصرية -: كانت عمَّتي نفيسة تحفظ القرآن وتفسيره وتقرأه

وتبكي، وكنت أجد عندها ما لا يخطر بخاطري ولا أعلم مَن يأتيها به، فكنت أتعجَّب من ذلك، فتقولي لي: يا ابنة أخي، مَن استقام مع الله كان الكون بيده وفي استطاعته.

ويدَّعي توفيق أبو علم في كتابه (أهل البيت) بأن للسيدة نفيسة عشرات الكرامات التي لا تجوز على غير الأنبياء والصدِّيقين ومن عباده

الصالحين، وهي جائزة عقلاً ومن جملة الممكنات التي لا تستحيل على القدرة الإلهية وقد غمر الله سبحانه آل بنت نبيه بفضله وشملهم بفيوضاته حتّى ظهرت

١٤٦

على أيديهم الكرامات وتتابعت على الناس منهم البركات والنفحات؛ من إجابة الدعوات وكشف الكربات وقضاء الحاجات، وأضاف إلى ذلك أنَّ علماء أهل السنة قد اتفقوا على جوازها واختص بها الله مَن أحبَّ من عباده وأوليائه وأصفيائه آل بيت نبيه الطاهرين.

وبقيت السيدة نفيسة في القاهرة نحواً من عشرين سنة، ولمَّا جاء أجلُها على أثر مرض ألمَّ بها، احتضنتها ابنة أخيها زينب بنت يحيى وتوفِّيت في حضنها سنة 208 وكانت قد أعدَّت لنفسها قبراً، فدفنت فيه وراح الناس بعد ذلك يعدون قبورهم حولها تبرُّكاً بمرقدها، وفي سنة 544 أمر الحافظ لدين الله ببناء قبة على قبرها ولا تزال من أعظم المزارات عند المصريين. وكان أخوها يحيى قد توفِّي قبلها في مصر، وقبره لا يزال من المقدَّسات عند المصريين يتبرَّكون به ويتوسَّلون إلى الله في قضاء حوائجهم، وبعدهما توفِّيت زينب بنت يحيى ودفنت بجوار قبر عمرو ابن العاص. ومضى أبو علم يقول: وكان أهل مصر يأتون لزيارة قبرها من كل فج، وحتّى أنَّ الظاهر الخليفة الفاطمي كان يأتي لزيارتها ماشياً على قدميه ومعه جمهور

من الناس، وأضاف إلى ذلك: أنَّ النيل توقَّف في بعض السنين عن الجريان فتوسَّل المصريون بقبرها إلى الله، فجرى النيل على عادته، إلى غير ذلك ممَّا جاء في كتابه عن نفيسة الدارين وابنة أخيها زينب.

بعد هذه اللمحات عن حياة السيدة نفيسة حفيدة الحسن السبطعليه‌السلام يمكن القول بأنَّ المرقد المنسوب لزينب العقيلة في مصر - والذي لا يزال المصريون يقدِّسونه ويعظِّمونه - هو لزينب بنت يحيى المتوَّج، وبتعاقب العصور والأجيال أصبح ينسب لزينب العقيلة؛ لأنَّها اشتهرت من نساء العلويِّين الأوائل وأصبح اسمها مقروناً باسم أخيها الحسينعليه‌السلام بعد معركة الطف، وتحدَّث الكتَّاب والمؤلِّفون عن مواقفها الخالدة من تلك المجزرة و

ما رافقها؛ والألفاظ المشتركة تنصرف في الغالب إلى أكمل الأفراد

١٤٧

وأكثرها شيوعاً، وبلا شك فإنَّ أكمل الزينبيات وأعلاهنَّ شأناً هي زينب العقيلة، كما يحتمل أن يكون للفاطميين ضلع في نسبة ذلك المرقد لها ونسبة المرقد الثاني لرأس أخيها الحسين وهم الذين أشاعوا بأنَّ الرأس كان مدفوناً في عسقلان ونقلوه إلى القاهرة وراحوا يعظِّمون المرقدين لأسباب سياسية أو لغيرها.

أمَّا المرقد الموجود في ضاحية الشام وفي بلدة الست بالذات الذي زارته السيدة نفيسة في طريقها إلى مصر، فليس لزينب الكبرى عقيلة الطالبيِّين وبطلة كربلاء كما هو الراجح، ومن الجائز أن يكون لزينب بنت عبدالله الأصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى ابنة أمير المؤمنينعليه‌السلام من غير الزهراء وهي ليست بأم كلثوم التي تزوَّجها عمر بن الخطاب وأولدها ولده زيداً، وهذه قد تزوَّجت بعد ابن الخطاب من محمد بن جعفر ولم تنجب منه وهي شقيقة الحسين لأمِّه وأبيه.

ومهما كان الحال، فلا يمكن الجزم بشيء حول واقع تلك المراقد، وأعود لأكرِّر ما ذكرته سابقاً من أن المراقد التي يقدِّسها الشيعة وبقية المسلمين المعتدلين لا يقدسونها إلاّ بصفتها رمزاً لمَن تنتسب إليه، وتقديراً لِمَا كان يتمتَّع به من القيم والمثل العليا والجهاد والتضحيات في سبيل المبدأ والعقيدة، لا للبناء والأحجار المزخرفة والنفائس التي فيها، وسواء كانت رفات ذلك الشخص صاحب تلك الفضائل في داخل ذلك المرقد أم لم تكن في واقع الأمر، فمادام يرمز إليه فإنَّ زيارته والتوسُّل به إلى الله سبحانه من الأمور الراجحة وتعظيماً للدين وللقيم التي كان ذلك الشخص يجسِّدها ويستهين بحياته من أجلها.

إنَّ الزائر حينما يتَّجه إلى المسجد الذي فيه مقام رأس الحسين في القاهرة ومقام السيدة زينب في ضاحية الشام وفي محلة الفسطاط من القاهرة إنَّما يتَّجه بقلبه وأحاسيسه لمَن ترمز إليه تلك القباب الشامخة أي لرأس الحسين وللسيدة زينب وإن لم تكن في واقع الأمر قد ضمنت

١٤٨

رفاتهما، وليس بغريب على الله سبحانه إذا استجاب للموالين لأهل البيت علي والزهراء ومن تناسل منهما من الأئمة الأطهار والصلحاء الأبرار الذين عناهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله - كما جاء في رواية أبي بكر بن أبي قحافة - أنَّه قال: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيَّم خيمة وهو متكئ على قوس له عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، وهو يقول: (معاشر المسلمين، أنا سلم لمَن سالم أهل هذه الخيمة، وحرب لمَن حاربهم، وولي لمَن

والاهم، لا يحبهم إلاّ سعيد الجد طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلاّ شقيُّ الجد رديء الولادة)(1) .

ليس بغريب إذا أجار الله مَن استجار بمراقدهم واستجاب لمَن توسَّل إليه بهم في قضاء حوائجه؛ لأنَّهم قد بذلوا أنفسهم وكل ما يملكون في

سبيله، وتركوا الدنيا ومتعها ونعيمها بعد أن أصبحت تحت أقدامهم من أجل إعلاء كلمة الله وخير الناس أجمعين، ورحم الله القائل في وصفهم:

هم القوم مَن أصفاهم الودَّ مخلصاً

تمسَّك في أُخراه بالسبب الأقوى

هم القوم فاقوا العالمين مناقباً

محاسنهم تحكى وآياتهم تروى

موالاتهم فرض وحبُّهم هدى

وطاعتهم ودٌّ وودُّهم تقوى

____________

(1) أبو علم، أهل البيت، ص 8.

١٤٩

المآتم الحسينية ومواقف الأئمَّة منها

لقد كانت العشرة الأولى من شهر المحرم - ولا تزال - مأتماً سنوياً للأحزان والآلام عند الشيعة منذ مجزرة كربلاء التي كان على رأس ضحاياها الحسين بن علي سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة في اليوم العاشر من المحرَّم سنة إحدى وستين للهجرة، فكان الشيعة ولا يزالون في مختلف أنحاء دنيا الإسلام يجتمعون في مجالسهم وندواتهم يردِّدون مواقف أهل البيت وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة وكرامة الإنسان التي داستها أميَّة بأقدامها، وما حلَّ بهم من أحفاد أميَّة وجلاديهم من القتل والسبي والتشريد والاستخفاف بجدِّهم الأعظم الذي بعثة الله رحمة للعالمين.

هذه الذكريات الغنية بالقيم والمثل العليا والتي تعلِّمنا كيف نعيش أحراراً وكيف نموت في مملكة الجلادين سعداء منتصرين، لو أدركنا أهداف تلك الثورة وأحسنَّا استغلالها، هذه الذكريات قد اقترنت كما يبدو بعد الإحصاء الدقيق لتاريخها بتلك المجزرة الرهيبة التي أيقظت المسلمين على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم، وأدركوا بعدها أن

١٥٠

كرامة الإسلام والمسلمين قد أصبحت - بسبب تخاذلهم - تحت أقدام الأمويِّين وفراعنة العصور، فاستولى عليهم الخوف والندم لتقصيرهم في نصرته وتخاذلهم عن دعواتهم، ففريق وجدوا أنَّ التكفير عن تخاذلهم لا يكون إلاّ بالثورة والثأر له من أولئك الطغاة، وآخرون سيطر عليهم الخوف فخلدوا إلى الهدوء ينتظرون الظروف المناسبة، ولكنَّ ذلك لم يكن ليمنعهم عن الاحتفال بذكراه كلَّما هلَّ شهر المحرَّم من كل عام واستبدال جميع مظاهرهم بمظاهر الحزن والأسف، وترديد الأحداث التي رافقت تلك المجزرة من تمثيل بالضحايا وأسر وسبي وما إلى ذلك من الجرائم التي لم يعرف المسلمون لها نظير في تاريخ المعارك والغزوات قبل ذلك اليوم.

وممَّا يشير إلى أنَّ المآتم الحسينية يقترن تاريخها بتلك المجزرة ما جاء في تاريخ العراق في ظل العهد الأموي للدكتور علي الخرطبولي أنَّ بيعة أبي العبَّاس السفَّاح بدأت في الكوفة، وشاء لها القدر أن تتمَّ لأبي العبَّاس كأوَّل خليفة من خلفاء تلك الأسرة في عيد الشيعة الأكبر، وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرَّم سنة 132، وفي نفس الوقت الذي كان الشيعة يحتفلون فيه بذكرى الحسين بن عليعليه‌السلام (1) .

ومعلوم أنَّ كلمة عيد الشيعة الأكبر يوم العاشر من المحرَّم تشير إلى أنَّ الشيعة كانوا معتادين من زمن بعيد على الاحتفال بذكرى الحسينعليه‌السلام في ذلك اليوم من كل عام، وأنَّه كان من أعظم المناسبات التي اعتادوا فيها أن يندبوا الحسين ويبكونه ويردِّدون مواقفه وتضحياته من أجل الحق والمبدأ والعدالة التي تمكِّن كل إنسان من حقِّه وتحفظ له كرامته وحرِّيَّته.

وكما اتخذ الشيعة وأهل البيت تلك الأيَّام أيَّام حزن وأسف وبكاء

____________

(1) انظر: ص 226 من تاريخ العراق عن الأخبار الطوال للدينوري.

١٥١

على ما جرى للحسين وأسرته من قتل وأسر وسبي، اتخذها غيرهم من الأعياد يتبادلون فيها التهاني والزيارات ويتباهون بكل مظاهر الفرح والسرور في ملابسهم وندواتهم ومآكلهم وما إلى ذلك من مظاهر الفرح؛ تحدِّياً لشعور الشيعة واستخفافاً بأهل بيت نبيِّهم الذين فرض الله ولاءهم على كل مَن آمن بمحمد ورسالته.

وجاء في ص 202 من البداية والنهاية لابن كثير المجلّد الثامن أنَّ النواصب من أهل الشام لقد عاكسوا الرافضة والشيعة فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيَّبون ويلبسون أفخر ثيابهم ويتَّخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون الفرح والسرور فرحاً

بقتله؛ لأنَّه حاول أن يفرِّق كلمة المسلمين بعد اجتماعها على حدِّ تعبيره.

ولا يزال المسلمون في أهل السنة يعتبرون أوَّل يوم من المحرم عيداً إسلامياً يتبادلون فيه التهاني والزيارات ويصرفون أكثر ساعاته في نوادي اللهو والطرب والحفلات ويسمُّونه بعيد الهجرة، مع العلم بأنَّ هجرة النبي من مكَّة إلى المدينة كانت في السادس من ربيع الأوَّل وفي الثاني عشر منه دَخَل المدينة ونزل ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري.

ومهما كان الحال، فلقد رافقت هذه الذكرى في أوساط الشيعة مصرع الحسينعليه‌السلام وكان الأئمة يحرصون على تخليدها واستمرارها؛ لتكون حافزاً للأجيال على مقاومة الظلم والطغيان والاستهانة بالحياة مع الظالمين تقودهم بمعانيها السامية الخيِّرة للتضحية والبذل بسخاء في سبيل المبدأ والعقيدة.

لقد دخل الإمام علي بن الحسين زين العابدين إلى المدينة بعد أن أطلق سراحه وسراح عمَّاته وأخواته يزيد بن معاوية وهو يبكي أباه وأهله وإخوته، وظل لفترة طويلة من الزمن يبكيهم حتّى عدَّه الناس من

١٥٢

البكَّائين، وكان عندما يسأله سائل عن كثرة بكائه يقول: (لا تلوموني؛ فإنَّ يعقوب فقد سبطا من ولده فبكى حتّى ابيضت عيناه من الحزن ولم يعلم أنَّه مات، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا؟!).

وروى الرواة عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنَّه قال: (بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن عليعليهما‌السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنِّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون، إنِّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة لذلك).

وأحياناً كان الإمام السجَّاد يطلب المناسبة ويخلقها أحياناً ليحدِّث الناس بما جرى على الحسين وأهل بيته، فيذهب إلى سوق القصَّابين في المدينة ليسألهم عمَّا إذا كانوا يسقون الشاة قبل ذبحها وإنَّه ليعلم أنَّهم يفعلون ذلك؛ لأنَّه من السنن المأثورة، ولكنَّه يريد أن يحدِّثهم عمَّا جرى لأبيه ليبعث في نفوسهم النقمة على الظلم والظالمين، فيقول لهم: (قتل ابن رسول الله عطشانا) فيجتمعون عليه ويبكون لبكائه. وكان إذا رأى غريباً دعاه إلى بيته لضيافته ثم يقول: (قتل ابن رسول الله جائعا)، واستمر طيلة حياته حزيناً كئيباً. وهكذا كان غيره من الأئمة يحرصون على بقاء تلك الذكرى حيَّة في نفوس الأجيال خالدة خلود الدهر؛ لأنَّها لا تنفصل بمعانيها السامية عن أهداف الإسلام العليا ومقاصده الكريمة.

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام لجماعة من أصحابه دخلوا عليه في اليوم العاشر:(أتجتمعون وتتحدَّثون؟) فقالوا: نعم يا ابن رسول الله، فقال:(أتذكرون ما صُنع بجدي الحسين؟ لقد ذبح - والله - كما يذبح الكبش وقُتل

١٥٣

معه عشرون شاباً من أهله وبنيه وإخوته ما لهم على وجه الأرض من مثيل) .

وروى عنه معاوية بن وهب وقد دخل عليه في اليوم العاشر من المحرم فرآه حزيناً كاسف اللون وهو يدعو ويقول: (اللهم يا مَن خصَّنا

بالكرامة: ارحم تلك الوجوه التي غيَّرتها الشمس... وارحم تلك الخدود التي تقلَّبت على حفرة أبي عبد الله الحسين... وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا) ومضى يقول في دعائه لزوَّار الحسين والباكين عليه كما جاء في رواية ابن وهب: (اللهم إنِّي استودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس حتّى توفِّيهم على الحوض يوم العطش الأكبر). ولمَّا استغرب معاوية بن وهب ما رآه من بكاء الإمام ومن دعواته لزوَّار قبر أبي عبد الله والباكين عليه، قال له: (يا معاوية، مَن يدعو لزوَّاره في السماء أكثر ممَّن يدعو لهم في الأرض) ودعاء الإمام لزوَّار قبر الحسين يشير إلى أنَّ الشيعة كانوا يتوافدون لزيارته من ذلك التاريخ.

ودخل جعفر بن عفَّان عليه فقال له: (بلغني أنَّك تقول الشعر في الحسين و تجيد؟) فقال له: نعم، جعلني الله فداك، فقال:(قل) ثم قام وأجلس نساءه خلف الستر، فلمَّا قرأ عليه من شعره في الحسين جعل يبكي وارتفع الصراخ والعويل من داخل الدار حتّى ازدحم الناس على باب الدار مخافة أن يكون قد حدث فيها حادث، فلمَّا وقف الناس على واقع الأمر تعالى الصراخ من كل جانب، ثم قال له: (يا جعفر، والله لقد شهدك ملائكة الله المقرَّبون ها هنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام).

وكان جعفر بن عفَّان من شعراء أهل البيت، وله مواقف مع ابن أبي حفصة شاعر العبَّاسيِّين الذي كان يتملَّق إليهم بانتقاص العلويِّين وهجائهم، ومن قصائده التي كان يتملَّق بها للعبَّاسيين قوله في أبيات يخاطب بها العلويِّين:

١٥٤

خلُّو الطريق لمعشر عاداتهم

حطم المناكب كلَّ يوم زحام

ارضوا بما قسم الإله لكم به

ودعوا وراثة كلَّ أصيد حام

أنَّى يكون وليس ذلك بكائن

بني البنات وراثة الأعمام

فردَّ عليه جعفر بن عفَّان بقوله:

لِمَ لا يكون وإنَّ ذاك لكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله

والعم متروك بغير سهام

ما للطليق وللتراث وإنَّما

صلَّى الطليق مخافة الصمصام(1)

وكان الإمام الرضاعليه‌السلام يجلس للعزاء في العشرة الأولى من شهر المحرم ولا يرى ضاحكاً قط، كما كانت مظاهر الحزن والأسف تستولي على الأئمة الأطهار وأصحابهم وتبدو ظاهرة في بيوتهم ومجالسهم ويقولون لمِن يحضر مجالسهم من الخاصة والعامة: (قل متى ذكرتهم [الحسين وأصحابه]: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما) إنَّهم كانوا يريدون من أصحابهم وشيعتهم وجميع المسلمين أن يكونوا مع الحسين وأصحاب الحسين العاملين بمبادئ القرآن وسنن الأنبياء والمصلحين العاملين لخير الإنسان في كل زمان ومكان بأرواحهم وعزيمتهم وقلوبهم وبقاء هذه الذكرى خالدة خلود الإنسان، وأن يشحنوا النفوس بالنقمة على الظالمين وفراعنة العصور الذين يتحكَّمون بكرامة الإنسان وخيرات الأرض التي أوجدها الله لأهل الأرض لا للحاكمين والجلاّدين. ويريدون منهم أن يكونوا في كل زمان ومكان ثورة عارمة على مَن يحمل روح يزيد وجلاّديه ولا يختلف عنهما إلاّ بالاسم، ويضحُّوا بأنفسهم

____________

(1) انظر: مقتل المقرَّم عن رجال الكشي ومعاهد التنصيص، ص 119.

١٥٥

من أجل الحق والعدل كما ضحَّى الحسين وأصحابه في ثورته على يزيد زمانه، لقد أرادوا منهم ذلك صراحة تارة وتلميحاً أخرى كما يبدو ذلك من حثِّهم وترغيبهم على زيارة الحسين وتحمُّل المشاق وإنْ عظمت في سبيلها؛ لتبقى مواقفه وتضحياته ماثلة لدى الأجيال تتَّخذ منها دروساً في الجهاد والتضحيات في سبيل العقيدة والمبدأ.

إنَّهم كانوا يحثُّون ويرغِّبون في زيارته في أكثر من فصل من فصول السنة؛ لأنَّ الزائر عندما يقف أمام ضريحه الطاهر وكان مدركاً لواقعه، فلابدَّ وأن يتصَّور موقف الحسين وحيداً في مقابل تلك الحشود التي اجتمعت لقتاله، غير هيَّاب ولا وجِل، يدافع ويناضل عن شريعة جدِّه وكرامة الإنسان بعزيمة أثبتْ من الجبال الرواسي كما وصفها بعض شعراء الطفِّ بقوله:

من تحتهم لو تزول الأرض لتنصَّبوا

على الهوى هضباً أرسى من الهضب

هذه الخواطر التي تعترض زائر الحسين لا بدَّ وأن تحدث في نفسه نقمة على الظلم والظالمين وتدفعه على الصمود في الشدائد والأهوال وتؤكد صلاته بأهل هذا البيت الذين يجسدون الإسلام فكراً وقولاً وعملاً، هذا بالإضافة إلى أنَّ الزائر يعاهد الله ورسله وملائكته بالمضي على خطى الحسين وآبائه وأبنائه، ومتابعتهم في القول والعمل وفي مواقفهم من الظالمين حينما يقف على ضريحه ويخاطبه بقوله: (أشهد الله وملائكته وأنبياءه ورسله وأشهدكم أنِّي بكم مؤمن ولكم تابع في ذات نفسي وشرائع ديني وخواتيم عملي ومنقلبي إلى ربي).

إنَّ هذا التأكيد من الأئمة الأطهار على زيارة الحسينعليه‌السلام والترغيب المغري بها في عدد من المواسم خلال كل عام لم يصدر منهم بالنسبة لزيارة غيره من الأئمة ولا لزيارة مَن هو أعظم منه كجدِّه المصطفى وأبيه

١٥٦

المرتضى، في حين أنَّ كل واحد منهم كلٌّ يجسد الإسلام بجميع فصوله وخطوطه في أقواله وأفعاله وقد وهب حياته لله ولخير الناس أجمعين وهانت عنده الدنيا بكل ما فيها من مُتع ونعيم ومغريات. إنَّ ذلك لم يكن إلاَّ لأنَّ شهادة الحسينعليه‌السلام بما رافقها من الجرائم والفظائع تثير الأحاسيس وتحرِّك الضمائر الهامدة وتحثُّ على مقارعة الظلم والصبر في الشدائد والأهوال في سبيل المبدأ والعقيدة، ولأجل ما رافقها من تلك الأحداث القاسية التي لم يسجِّل التاريخ لها نظيراً، فقد اتخذها الأئمةعليه‌السلام وسيلة لإثارة العواطف وإلْهاب المشاعر وبعث الروح النضالية في نفوس الجماهير المسلمة؛ لتكون مهيَّأة للثورة على الظلمة والجبابرة في كل أرض وزمان، وفي الوقت ذاته فإنَّ تلك المآتم والذكريات تكشف عن طبيعة القوى التي تناهض أهل البيت وتناصبهم العداء ومدى بعدها عن الإسلام، وتبيِّن في الوقت ذاته أنَّ جوهر الصراع بينهم وبين الحاكمين ليس ذاتيَّاً ولا مصلحيَّاً كما جرت العادة عليه في الصراعات بين الناس، بل هو من أجل الإسلام وتعاليم الإسلام والجور الذي أصاب الناس.

لقد كان موقف الأئمةعليه‌السلام من تلك المآتم والحثِّ عليها والترغيب بها منذ قتل الحسينعليه‌السلام من جملة الدوافع التي جعلت الشيعة يلتزمون بها بدون انقطاع في كل بلد حلُّوا فيه، بالرغم ممَّا كانوا يتعرَّضون له من الحاكمين وأعداء أهل البيت من التنديد والتنكيل والسخرية ومع كل ما قام به الحاكمون من جور وإرهاب، فلم يفلحوا في كبح ذلك التيار الشيعي الجارف الذي بقي يتعاظم باستمرار مع الزمن وبقي في تصاعد مستمر حتّى في عهد العبَّاسيِّين الذين وصلوا إلى الحكم على حساب العلويِّين كما تؤكِّد ذلك عشرات الشواهد، ومع ذلك فقد كانوا عليهم أشدَّ من الأمويِّين وحاربوهم على جميع الجبهات وتعرَّضوا في عهودهم لأسوأ أنواع العسف والجور والتشريد.

١٥٧

فلقد قال المنصور العبَّاسي عندما عزم على قتل الإمام الصادق: (قتلتُ من ولد فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت إمامهم وسيِّدهم جعفر بن محمد) كما جاء في شرح ميمية أبي فراس والأدب في ظل التشيع(1).

وترك لخليفته المهدي ميراثاً من رؤوس العلويِّين كان قد وضعها في غرفة من غرف قصره، ودفع مفاتيحاً لزوجة خليفته ريطة وأوصاها بأن لا تفتحها إلاّ هي وزوجها بعد وفاته، فأيقنت أنَّها مملوءة من التحف والأموال، ولمَّا توفِّي، فتحها المهدي هو وزوجته ليلاً فوجدها مملوءة من رؤوس العلويِّين، بينها رؤوس شيوخ وأطفال وشبان وفي كل رأس رقعة باسمه ونسبه(2) .

وهو القائل لعمِّه عبد الصمد بن علي عندما لامه على تسرُّعه في القتل والعقوبات: إنَّ بني مروان لم تبلى رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا نستطيع أن نبسط هيبتنا إلاّ بنسيان العفو واستعمال العقوبة(2) .

لقد وصل المنصور إلى الحكم على حساب آل أبي طالب كما ذكرنا وبعد أن استتبَّت له الأمور قتل منهم ألفاً أو يزيدون ووضع السيف في رقابهم لا لشيء إلاّ لأنَّه يخاف منهم على هيبته وسلطانه، والخوف وحده يبرِّر له ويغره من الحاكمين قتل الملايين من البشر في كل عصر وزمان، وفي الوقت ذاته يتغنُّون بالحرية والديمقراطية والسلام وما إلى ذلك من الشعارات كما كان العبَّاسيون والأمويون يتستَّرون بالإسلام ورسالة الإسلام ويتقرَّبون من الوعَّاظ وشيوخ السوء ليصنعوا لهم المبرِّرات

____________

(1) الميمية، ص 159، والأدب في ظل التشيُّع، ص 68، وتاريخ الطبري، والمقريزي، النزاع والتخاصم.

(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي.

١٥٨

لجرائمهم.

وجاء في مناقب ابن شهر آشوب أنَّ المنصور قال للإمام الصادقعليه‌السلام : لأقتلنَّك ولأقتلنَّ أهلك حتّى لا أُبقي على الأرض منكم قامة سوط، ولقد هم بقتله أكثر من مرَّة وكان يستعين عليه بالله وحده، فأنجاه الله من شرِّه.

ويدَّعي عبد الجواد الكليدار آل طعمة في كتابه (تاريخ كربلاء) أنَّه أوَّل مَن تجرَّأ على قبر الحسين وهدمه عندما رأى الشيعة يتوافدون إلى زيارته ويرددون تلك المأساة الدامية التي حلَّت بأهل البيت

وجاء في (مروج الذهب) للمسعودي أنَّه جلس يوماً مع المسيَّب بن زهرة - وكان من أعوانه وجلاّديه - فذكر الحجَّاج بن يوسف ووفاءه للمروانيِّين في معرض التعريض والتنديد بأعوانه، ففهم المسيَّب غايته، فقال له المسيَّب: يا أمير المؤمنين، والله إن الحجَّاج لم يسبقنا إلى أمر من الأمور، ولم يخلق الله على وجه الأرض أحداً أحبُّ إلينا من نبينا محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك فقد أمرتنا بقتل أولاده وعترته، فأطعناك وقتلناهم، فهل كان الحجَّاج أنصح لبني مروان منَّا لك؟! فسكت المنصور ولم يرد عليه.

وروى الرواة عن أساليب تعذيبه للعلويّين أنَّه كان يضع العلويِّين في الاسطوانات ويسمِّرهم في الحيطان، وأحياناً يضعهم في سجن مظلم ويتركهم يموتون جوعاً ويترك الموتى بين الأحياء فتقتلهم الروائح الكريهة، ثم يهدم السجن على الجميع كما جاء في تاريخ اليعقوبي. ولقد فرَّ أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا المعروف بإسماعيل الديباج إلى بلاد السند خوفاً من المنصور، وقال كما جاء عنه:

لم يرْوِهِ ما أراق البغي من دمنا

في كلِّ أرض فلم يقصر من الطلب

وليس يشفي غليلاً في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابناً لبنت نبي

١٥٩

وحَكَم المسلمين من بعده ولده المهدي بنفس الروح اللئيمة الحاقدة على العلويِّين وصلحاء المسلمين، وخفَّت في عهده حدَّة القتل الجماعي للعلويِّين وشيعتهم ومطاردتهم، ولكنَّه سخَّر جماعة من أعوانه ومرتزقته لانتحال صفة الزندقة لكل مَن يناوئه من العلويِّين وشيعتهم، وأصبح الاتهام بالزندقة من أيسر التهم التي تلصق بالأبرياء كما جاء في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية.

وقال عبد الرحمن بدوي: إنَّ الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة. وفي ذلك يقول الطغرائي من جملة أبيات له:

ومتّى تولَّى آل أحمد مسلمٌ

قتلوه ووصموه بالإلحاد

ولمَّا جاء دور خليفته الهادي العبَّاسي سلَّط على العلويِّين جلاّديه وجلاوزته، فألحُّوا في طلبهم ومطاردتهم وقطع أرزاقهم وأُعطياتهم، وكتب إلى سائر المقاطعات الإسلامية يهدِّد ويتوعَّد كلَّ مَن يأويهم ويحسن إليهم، وكانت معركة فخ التي قُتل فيها أكثر من مائة وخمسين من رجال العلويِّين ونسائهم وأطفالهم بسبب ما لحقهم من الاضطهاد يومذاك وتولَّى قيادتها الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكان موسى الهادي قد استخلف على المدينة إسحاق بن عيسى، فأوعز إسحاق إلى رجل من ولد عمر بن الخطَّاب يعرف بعبد العزيز بن عبد الله، فحمل على الطالبيِّين وأفرط في التحامل عليهم ومضايقتهم، فاجتمع على الحسين بن علي صاحب فخ جماعة من الشيعة فخرج بهم، وكانت المعركة في القرب من مكَّة وفي المكان المعروف بفخ، وقُتل الحسين ومَن معه من العلويِّين وشيعتهم وحملت رؤوسهم إلى موسى الهادي، ولمَّا بلغ العُمري

١٦٠