من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 30790
تحميل: 5526

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30790 / تحميل: 5526
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليه بين الحين والآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض ويكمنوا في بيوتهم، ويحترسوا من كل ما يثير حولهم الظنون والشبهات ما دام معاوية حيَّاً.

وكما كان يعرف معاويةَ وأساليبه كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره؛ ينساق مع عواطفه وشهواته وتلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم والآثام والتحلُّل من التقاليد الإسلامية، ويندفع مع نزقه فيما يعترضه من الصعاب من غير تقدير لِمَا وراءها من المخاطر، ومن أجل ذلك وقف من بيعته ذلك الموقف، واعتبرها من أخطر الإحداث على مصير الأمَّة ومقدَّراتها، ولم يجد بدَّاً من مقاومتها. وهو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة، وأنَّ شهادته ستؤدِّي دورها الكامل وتصنع الانتفاضة تلو الأخرى.. حتّى النصر، ولم يكن باستطاعة يزيد مواجهتها بالأساليب التي اعتاد أبوه تغطية جرائمه بها؛ لأنه كما وصفه البلاذري في أنساب الأشراف من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروِّي، صغير العقل متهوراً، سطحيِّ التفكير لا يهم بشيء إلاّ ركبه. ومن كان بهذه الصفات لا بدَّ وأن يواجه الأحداث بالأسلوب الذي يتَّفق مع شخصيَّته، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه.

٢١

موقف الحسين من بيعة يزيد بن ميسون

لقد كان الحسين الوارث الوحيد لتلك الثورة التي فجَّرها جدُّه الرسول الأعظم على الجاهلية الرعناء والعنصرية والوثنية لإنقاذ المستضعفين في الأرض من الظلم والتسلُّط والاستعباد وواصلها أبوه وأخوه من قبله، وكان دوره القيادي السيرُ بها على خطى جدِّه وأبيه سَنة ستين للهجرة، حيث الأمَّة كانت بانتظار مَن ينهض بأعبائها ويكون الحارس الأمين المسؤول عنها بعد أن أخذت دعائمها تنهار وتتقوَّض تحت ضربات بني أميَّة وأعوانهم. وجميع معطياتها التي انطلقت قبل خمسين عاماً أو أكثر قد صادرها الأمويُّون وأعوانهم، والكتاب الكريم رفع على حرابهم وحراب جلاَّديهم، والفكر العقائدي الذي جاء به الإسلام ليبني العقول والقلوب خضع لتوجيه السلطات الحاكمة، وسيوف المجاهدين انتقلت إلى الجلاوزة والجلاَّدين للتنكيل بالصلحاء والأبرياء، والصدقات والغنائم التي كانت تصل إلى مسجد الرسول وتذهب منه إلى بيوت الفقراء والمساكين أصبحت تنتقل إلى قصر الخضراء لشراء الضمائر

٢٢

وتخدير المعارضين للسلطة الحاكمة، وجيل الثورة الثاني بين مَن تعرَّض للإبادة الجماعية في مرج عذراء وقصر الخضراء وبين مَن سيطرة عليهم مبادئ الردَّة والمرجئة والمجبِّرة والمتصوِّفة، فأقعدتهم عن التحرُّك وأفقدتهم القدرة على النضال، وغرست في نفوسهم وقلوبهم بذور الاستسلام للواقع المرير الذي كانت تتخبَّط فيه الأمَّة من جور الأمويين وإمعانهم في تزوير السُّنَّة وتحريف مبادئ الإسلام وتعاليمه لصالح جاهليَّتهم التي حاربت محمداً أكثر من عشرين عاماً.

ومن هنا كان دور الحسين - الوريث الوحيد لثورة جدِّه وأبيه على الشرك والوثنية والعنصرية - شاقَّاً وعسيراً؛ لأنه لم يرث معها جيشاً ولا سلاحاً ولا مالاً ولا أيَّ قوَّة جبهوية أو مجموعة منظمة غير نفسه وحفنة من بنيه وإخوته، لم يكن يملك غير ذلك، ويملك في الوقت ذاته القدرة على الانزواء للعبادة، ومكانه من الجنَّة مضمون، ولكنَّه لم يكن من طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقاً إلى الجنَّة بدلاً عن الجهاد والتضحيات؛ لأنه يدرك أن الطريق الأكمل إلى الله هو طريق الحق، وطريق الحق هو الجهاد والنضال والإلتزام بمبادئ الثورة الإسلامية وتعاليمها. وإذا جاز على غيره من صلحاء المسلمين أن ينزوي في المساجد للعبادة ويتخلَّى عن النضال والجهاد، فلا يجوز ذلك على الحسين وارث الرسول وعليعليه‌السلام بأن يتخلَّى عن وعيه النضالي ويلجأ إلى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثِّلة في حكم يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق والعدل وكرامة الإنسان. فلم يبق أمامه إلاّ الثورة، وبدونها لا يكون سبطاً للرسول وابناً لعليعليه‌السلام ووارثاً لهما، وقدره أن يكون شهيداً وابناً لأكرم الشهداء وأباً لآلاف الشهداء، وأن يكون المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل الحق والعدل والمستضعفين في الأرض من الرجال والنساء.

٢٣

لقد حاول معاوية أن يفرض بيعة ولده يزيد على الحسين فلم يتهيَّأ له ذلك ولا سكوته عنه وهو أدنى ما كان يرجوه معاوية ويتمنَّاه، واستمر الحسين على موقفه من تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين بالسلاح والمال والتشهير بمعاوية وأحداثه وتحريض المسلمين على تلك البيعة الغادرة، ومات معاوية سَنة ستِّين من الهجرة والحسين على موقفه المتصلِّب منها، كما امتنع جماعة من البيعة تاسِّياً بالحسينعليه‌السلام .

وكما ذكرنا من قبل فإنَّ يزيد بن ميسون لم يكن كأبيه في حزمه واحتياطه للمشاكل والأحداث والتستر بالدين ليسدل ذلك الستار الشفاف على جرائمه وتصرفاته كما كان يفعل أبوه من قبله، ولمَّا انتقلت السلطة إليه كان من الأولويَّات عنده أنْ يُلزم الحسين ومَن تخلَّف معه من وجوه الصحابة ببيعته؛ فكتب إلى الوليد بن عقبة - حاكم المدينة يوم ذاك - كتاباً يأمره فيه أن يأخذ البيعة من الحسين وعبدالله بن عمر وابن الزبير ولا يسمح لهم بالتأخُّير ولو لحظة واحدة، وعندما استلم الكتاب استدعي الحسين إليه ليلاً، وعندما دخل الحسين عليه أخبره بموت معاوية وقرأ عليه كتاب يزيد إليه، فأراد الحسينعليه‌السلام أنْ يتخلَّص منه بدون استعمال العنف، فقال له: (مثلي لا يبايع سرَّاً، فإذا خرجت غداً إلى الناس ودعوتنا معهم، كان الأمر واحداً). وكان الوليد يتمنَّى أن لا تضطرُّه الأمور إلى التورُّط مع الحسين بما يسيء إليه، فاقتنع بجوابه، ولكنَّ مروان بن الحكم أبت له أمويَّته الحاقدة أن يخرج الحسين من مجلس الوالي معزَّزاً مكرَّماً كما دخل، فحاول أن يستفزَّه ويشحنه عليه، فقال له: لأنْ فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها حتّى تكثر القتل بينك وبينه، ولكن احبسه، فإنْ أبى ولم يبايع، فاضرب عنقه.

وهنا لم يعد أمام الحسينعليه‌السلام في مقابل هذا التحدِّي الصارخ إلاّ أن

٢٤

يعلن عن موقفه من يزيد وحكومته وعن تصميمه على الثورة مهما كانت التضحيات، وقد أصبح وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي الذي يتحتَّم عليه أن يصنعه، فوثب عند ذلك ليعلن عمَّا ينطوي عليه بكل ما في الصراحة من معنى، فقال له: (ويلي عليك يا ابن الزرقاء، أنت تأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله وأثمت). ثم أقبل على الوليد فقال: (أيُّها الأمير! إنَّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله).

وجاء في مثير الأحزان لإبن نما أنَّ الوليد - وبتحريض من مروان - ردَّ على الحسين بأسلوب يتَّسم بالحجة والغلظة، فهجم مَن كان مع الحسين من إخوته ومواليه وبيدهم الخناجر وأخرجوه من المنزل، فقال له مروان: أمرتك فعصيتني وسترى ما يصير أمرهم إليه. فردَّ عليه الوليد بقوله(كما جاء في رواية الطبري): ويح غيرك يا مروان؛ إنَّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحب أنَّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنَّي قتلت حسيناً، سبحان الله! أأقتل حسيناً إنْ قال لا أبايع، والله إنِّي لا أظنُّ امرءاً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.

وأضاف إلى ذلك ابن عساكر في تاريخه أن أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث - زوجة الوليد - أنكرت عليه ما جرى منه مع الحسينعليه‌السلام ، فأجابها بأنه كان هو البادئ بالشتم والسب، فقالت له: سببت حسيناً؟! قال: هو بدأ فسبني. قالت: وإن سبَّك حسين تسبُّه!؟ وإن سبَّ أباك تسبُّ أباه؟! قال: لا.

لقد أعلن الحسين ثورته على يزيد ودولته بتلك الكلمات التي وجَّهها إلى الوليد بن عقبة المكلَّف بتوطيد حكمه في الحجاز وفي مدينة الرسول بالذات، ولم يكن الوالي يحسب أن الحسين سيعلنها في مجلسه بتلك الصراحة وفي المجلس من هم أشدُّ عداء لمحمد وآل محمد ورسالة محمد

٢٥

من يزيد وأبيه.

إن فيه الوزغ وابن الوزغ طريد رسول الله الذي لا يستطيع أن يزيح عن قلبه ونفسه تلك العقد الدفينة التي خلَّفتها معاركهم مع الإسلام وانتصاراته التي أرغمتهم على التظاهر به مرغمين، وما تلا ذلك من إبعادهم عن المدينة إلى مكان مقفر من بلاد الطائف، وتحريض المسلمين على مقاطعتهم ردَّاً على إيذائهم للنبي وتجسُّسهم عليه وهو في بيته مع أهله ونسائه.

هذا الموقف وما تلاه من المواقف الأخرى التي كان من جملتها موقفه مع مروان بن الحكم وهو ينصحه أن يبايع ليزيد بن معاوية فردَّ عليه بقوله: (وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد)،وقوله: (إنَّ الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان). كل هذه المواقف الحسينية تشكِّل إعلاناً صريحاً لتصميمه على الثورة ومناهضة الحكم الأموي بقيادة يزيد بن معاوية مهما بلغ حجم التضحيات في سبيلها، وقد بلغت مواقفه هذه يزيداً بأقصى حدود السرعة؛ بواسطة الأمويِّين الذين كانوا يفاوضونه ويراقبون جميع تحرُّكاته وتصرُّفاته ويحصون عليه حتّى أنفاسه.

لقد بلغت مواقف الحسين يزيداً بكل أبعادها ومضاعفاتها، فأفقدته وعيه واندفع مع نزقه ومضى يعمل للتخلص من الحسين قبل أن يخرج من مدينة جدِّه ويستفحل خطره، فدسَّ جماعة من جلاديه لقتله في المدينة قبل مغادرتها إلى العراق أو إي بلد آخر كما تؤكِّد ذلك أكثر المصادر؛ ولعل ذلك هو ما حدا بالحسين إلى مغادرة المدينة إلى مكَّة مع بنيه وأخوته وأسرته؛ ليفوِّت على يزيد بن ميسون وحفيد هند آكلة الأكباد ما كان يخطِّط له من إجهاض ثورته وهي لا تزال في مراحلها الأولى.

وقد اختار الحسينعليه‌السلام لنفسه مكَّة وهو في طريقه إلى الشهادة على تراب كربلاء ليضع المسلمين - حيث يجتمعون فيها في ذلك الفصل من جميع مناطق الحجاز - أمام الواقع المرير الذي ينتظرهم في ذلك العهد المظلم، ويضع

٢٦

بين أيديهم ما يحدق بالإسلام من دولة أبي سفيان؛ العدو الأكبر لمحمد ورسالته، وما عزم عليه من الثورة والتضحية لإنقاذ شريعة جدِّه من أولئك المردة، أحفاد أبي سفيان والحكم بن العاص طريد رسول الله، حتّى ولو كلَّفه ذلك حياته وحياة بنيه وجميع أسرته. وفيها اجتمع بتلك الوفود ومَن بقي من أنصار جدِّه، ووضعهم تجاه مسؤوليَّاتهم، واستعرضَ جميع أحداث معاوية ومواقفه المعادية للإسلام وما ينتظرهم من خليفته المستهتر الخليع، ودعاهم إلى نصرته وجهاد الظالمين، ومضى في طريقه إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى وهو يتمثَّل بقول القائل:

إنْ كان دين محمدٍ لم يستقم

إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني

تاركاً وراءه آراء المشيرين والناصحين الذين لم تتَّسع آفاقهم لأهداف ثورته وما سيكون لها من الآثار السخية بالعطاء على مدى التاريخ.

٢٧

سَنة إحدى وستِّين

لقد كانت سَنة إحدى وستِّين مسرحاً لصراع عنيف بين إرادتين، ووقف التاريخ مذهولاً بين تلك الإرادتين: إرادة الخير وإرادة الشر، تمثَّلت الأولى في شخصية عظيمة خرجت من بيت علي وفاطمة أضفت عليها القداسة هالة من الإشعاع كأنَّه إشعاع الفجر المنبلج في كبد الظلام، وتمثَّلت الثانية إرادة الشر في رجلٍ أقلُّ ما يقال فيه أنَّه كان ربيب الشرك والجاهلية وحفيداً لأبي سفيان وزوجته هند آكلة الأكباد.

والأول هو الإمام الحسين: سبط الرسول الأعظم وشبل علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ذلك الإمام العظيم والبطل الخالد.

لقد كان الحسين فرعاً لشجرة التوحيد الممتدَّة جذورها الطيِّبة الزكيَّة لهاشم سيِّد العرب في زمانه، ويزيد شوكة من حسك نابت في تربة سبخة من أرض موات أنبتت أخبث شجرة كان بنو أميَّة من نتاجها، ولقد عكست واقعة الطف الدامية التي شهدت مأساتها أرض كربلاء أثَر كلا الجانبين، بل أثر تلك الإرادتين: الإرادة الخيرة الهادفة

٢٨

للإصلاح واستئصال الشرك والوثنية؛ تلك الإرادة المتمثِّلة في الحسين وصحبه، والإرادة الثانية: الإرادة الشريرة الهادفة للفساد وسفك الدماء واستعباد الصلحاء والأحرار وإعادة الجاهلية بكل أشكالها ومعالمها كما كان يمثِّلها حفيد أبي سفيان وآكلة الأكباد.

لقد وقف الحسين في سبيل العقيدة والمبدأ وحريَّة الإنسان وكرامته وقفته العظيمة التي حيَّرت العقول بما فيها من معاني البطولات والتضحيات التي لم يحدِّث التاريخ بمثلها فرداً، أمام دولة جبَّارة تخضع لنفوذ ملك ظالم جبار يحتلُّ الصدارة في قائمة الطغاة والسفَّاحين والمجرمين

في كل أرض وزمان. لقد وقف الحسين وقفته الخالدة التي كانت ولا تزال مصدراً من أوفر المصادر حظَّاً بكل معاني الخير والفضيلة و

المُثُل العليا، رافضاً الخنوع والاستكانة لحكم ذلك الذئب الكاسر المتمثِّل في هيكل إنسان يسمِّيه الناس يزيداً، وقدَّم دمه ودماء ذويه وإخوته وأنصاره قرباناً لله وللدين؛ ليبقى حيَّاً ما دامت الإنسانية تحتضن الأجيال على مدى العصور وبقي الحسين خالداً خلود الدهر بدفاعه عن كرامة الإنسان وحرِّيته وعقيدته وبمواقفه التي أعلن فيها أن كرامة الإنسان فوق ميول الحاكمين ولا سبيل لأحد عليها.

وذهب يزيد ومَن على شاكلته من الحاكمين في متاهات الفناء والتاريخ، تتبَّعهم لعنات الأجيال إلى قيام يوم الدين.

عشْ في زمانك ما استطعت نبيلا

واترك حديثك للرواة جميلا

ولعزِّك استرخص حياتَك إنَّه

أغلى وإلاّ غادرتك ذليلاً

٢٩

تعطي الحياةُ قيادَها لك كلَّما

صيَّرتها للمكرمات ذلولا

العزُّ مقياس الحياة وضلَّ مَن

قد عدَّ مقياس الحياة الطولا

قلْ كيف عاش ولا تقل كم عاش مَن

جعل الحياة إلى عُلاه سبيلا

لا غرو إنْ طوت المنيَّةُ ماجداً

كثُرت محاسنه وعاش قليلا

قتلوك للدنيا ولكن لم تدم

لبني أميَّة بعد قتلك جيلا

٣٠

بين هجرة الرسول وهجرة الحسين

هجرتان من أجل الإسلام ورسالة الإسلام: الأولى منهما كانت فراراً من الموت الذي استهدف رسالة محمد بشخصه، وقد نفَّذها الرسول الأعظم بأمر من ربِّه؛ ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكَّة وجبابرة قريش كأبي سفيان وأمثاله، والثانية قام بها سبطه الحسين بن عليعليه‌السلام ، ولكنَّها كانت للشهادة بعد أن أدرك أنَّ الأخطار المحدقة برسالة جدِّه لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلاَّ بشهادة.

لقد هاجر رسول الله من مكَّة إلى يثرب لأجل رسالته، بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلَّص منها؛ لأنَّ بقاءها وانتشارها مرهون بحياته، وبعد أن وجدت أنَّ جميع وسائل العنف التي استعملتها معه على اختلاف اصنافها وأنواعها خلال ثلاثة عشر عاماً لم تغيِّر من موقفه شيئاً، كما لم تجْدِها جميع الإغراءات والعروض السخيَّة، وكان ردُّه الأخير على عروض أبي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما: (والله، لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر أو أموت دونه).

٣١

وعادت قريش بعد جميع تلك المراحل التي مرَّت بها معه تخطِّط من جديد للقضاء على رسالته، لاسيما بعد أن أحسَّت بأنَّ يثرب ستكون من أعظم معاقلها وستنطلق منها إلى جميع أنحاء الحجاز وإلى العالم بأسره، فاجتمع قادتها في مكان يعرف بدار الندوة وراحوا يتبادلون الآراء

للتخلُّص منه، فاقترح بعضهم أن يضعوه في إحدى البيوت مكبَّلاً بالحديد بعيداً عن أعين الناس ومجالسهم إلى أن يأتيه الموت، كما اقترح آخرون أن يُطرد من مكَّة حتّى لا يتحمَّلوا مسؤولية قتله، واتفقوا أخيراً على أنْ يباشروا قتله على أن تشترك فيه جميع القبائل المكِّيَّة، ويتولَّى ذلك من كل قبيلة فتى من أشدِّ فتيانها، واتفقوا على الزمان والمكان الذي يتمُّ فيه التنفيذ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية:( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) . والذي تعنيه الآية: أن الله قد فوَّت عليهم هذا التخطيط، وأخبر رسوله بما كان من أمرهم، وأمَرَه بالخروج من مكَّة ليلاً وأن يأمر عليَّاً في المبيت على فراشه قبيل خروجه.

وحينما عرض الأمر على عليعليه‌السلام لم يتردَّد لحظة واحدة في التضحية بنفسه في سبيله، وقال له: (أو تسلم أنت يا رسول الله إن فديتك بنفسي) فردَّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: (نعم)، فطابت نفسه عند ذلك وتبدَّد ما كان يساوره من خوف وقلق على النبي، وتقدَّم إلى فراشه مطمئن

النفس، رابط الجأش، ثابت الفؤاد، واتَّشح ببُرد الحضرمي الذي أعتاد أن يتَّشح به في نومه.

وتمَّت الهجرة في جوف الليل من مكَّة إلى الغار ومنها إلى يثرب في السادس من ربيع الأول، واعتمد المسلمون تلك الهجرة في تواريخهم منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطَّاب على أثر خصومة بين اثنين في دين يدَّعي أحدهما استحقاقه في شهر شعبان بموجب سند بيده. وسأل

٣٢

الخليفة الدائن أي شعبان هذا؟ أشعبان هذه السنة أو التي بعدها؟ ولمَّا لم يطمئن لأحد منهما، جمع المسلمين في المسجد ليعتمد لهم

تاريخاً. والمسلمون يوم ذاك لم يكن لهم تاريخ خاص، فكان بعضهم يؤرِّخ بعام الفيل، وبعضهم بحرب الفُجَار، وأكثرهم كانوا يعتمدون تواريخ الدول المجاورة لشبه الجزيرة العربية، واختلفت آراء الصحابة في الزمان الذين يعتمدونه في تواريخهم وكادوا أن يتفرَّقوا بدون أن ينتهوا إلى نتيجة حاسمة لولا أنَّ عليَّاً أقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد واقترح أن يكون التأريخ بهجرة الرسول من مكَّة إلى المدينة، فأعجب ابن الخطَّاب برأيه وهتف قائلاً: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)، واقترن رأيه هذا بإعجاب الحضور وتقديرهم؛ لأنَّ هجرة الرسول كانت المنطلق لانتصار الإسلام على الشرك و

الوثنية، وحدثا تاريخياً لعله من أبرز الأحداث في تاريخ الدعوة. واستمر المسلمون على ذلك في تواريخهم ولم يحدِّث التاريخ عنهم بأنَّهم اعتبروا شهر المحرَّم بداية لسنتهم الهجرية، ولعل ذلك لم يحدث إلاّ بعد مقتل الحسين، وبعد أن أصبحت الأيَّام الأولى من شهر المحرَّم أيَّام حزن عند أهل البيت وشيعتهم، فجعلها الأمويُّون بداية للسنة الهجرية وعيداً من أعيادهم. ولا يزال المسلمون عند مواقفهم من تلك الأيَّام الأولى من ذلك الشهر، فالشيعة يحتفلون بذكرى الحسينعليه‌السلام ويردِّدون تلك المأساة في مجالسهم ومجتمعاتهم بما تحمله وتنطوي عليه من الإخلاص للعقيدة والمبدأ والتضحيات الجسام في سبيل الحق والمستضعفين وكرامة الإنسان، وغيرهم من مسلمي السُّنَّة يحتفلون به كبقية الأعياد ويتباهون بمظاهر الفرح والزينة وأنواع الأطعمة.

ومهما يكن، فلقد كانت الهجرة من مكَّة إلى المدينة في السادس من ربيع الأول بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على ولادة الإسلام، وفي اليوم الثاني عشر منه كان النبي في المدينة بين أنصاره الجدد الذين احتضنوه

٣٣

وأخلصوا لرسالته، وأنقذه الله من تلك المؤامرة الدنيئة التي استهدفت حياته ورسالته وحاك خيوطها شيخ الأمويِّين يوم ذاك أبو سفيان

بن حرب، وسلم محمد لرسالته التي أرغمت أبا سفيان وغيره من مشركي مكَّة، بعد سنوات قليلة من تلك الهجرة، على الانضواء تحت لوائها بقلوبهم المشركة الحاقدة، يتململون بين أقدام طريدهم بالأمس يستجدون عفوه ورأفته أذلاَّء صاغرين.

وأبت نفسه الكبيرة التي اتسعت لتعاليم السماء ورسالة الإسلام إلاّ أن تتَّسع لأبي سفيان وحتّى لزوجته هند آكلة الأكباد وغيرها من المشركين والمشركات، وأعلن العفو العام حينما دخل مكَّة فاتحاً منتصراً، متجاهلاً جميع سيآتهم بكلماته الخالدة التي لا تزال سمة خزي وعار ما دام التاريخ: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وأعطى لأبي سفيان - العدو الأكبر للإسلام - ما لم يعطه لأحد من المشركين.

وهل غيّر هذا الموقف العظيم الذي لا يمكن أن يصدر من أيِّ إنسان مهما كان نوعه، هل غيّر من نفس أبي سفيان وروحه شيئاً؟ وهل أدرك أنَّ موقفاً كهذا لا يصدر إلاّ عن إنسان تسيِّره إرادة السماء؟ إن النفوس الحقودة اللئيمة لا علاج لها إلاّ بالاستئصال، والرسول العظيم يعلم ذلك، ويعلم أنَّ ما صنعه مع البيت الأموي لا يغيِّر من طبيعته، ولكن مصلحة الإسلام يوم ذاك فرضت عليه أن يعالجهم بهذا الأسلوب ويستعمل معهم العفو والرحمة بدلاً من معاملتهم بما يستحقُّون.

وبقي الحزب الأموي بقيادة أبي سفيان يتحيَّن الفرص ويستغل المناسبات، وحينما انتقلت الخلافة إلى سليل بيته عثمان بن عفَّان، أحسَّ بنشوة تملأ نفسه الحاقدة وذهب يقوده غلامه لينفِّس عمَّا تراكم في نفسه من أحقاد على الإسلام ودعاته، إلى قبر الحمزة ليركله برجله ويقول: قم يا أبا عمارة، إنَّ الذي تجالدنا عليه لقد أصبح تحت أقدامنا.

٣٤

وخلال سنوات معدودات من حكمهم، استطاعوا أن يحقِّقوا لهذا البيت أكثر أمانيه، واتجهوا يعملون لوثنيَّتهم وجاهليَّتهم حتّى لا يبقى لرسالة محمد ناطق على منبر أو محراب، وليصبح أئمة المساجد والقرَّاء والرواة أبواقاً للسلطة الحاكمة والقبضة الأموية الجديدة، التي تعمل للسلطة والجاهلية باسم الإسلام أداةً لغسل الأدمغة من عقائده وحشوها بمبادئ الردَّة والوثنية. وظلُّوا يعملون بهذا الاتجاه الوثني حتّى انقلبت القيم وسُحقت التعاليم وذهبت رياح الجاهلية بجهود المخلصين وجاءت بكنوز الذهب للمنافقين، وأصبح التوحيد ستاراً للشرك والإسلام لا يعني سوى الاستسلام للحاكمين، والسُّنَّة قاعدة للسلطة، والحديث عرضة للوضع والتزوير والتحريف، والألسن قطعت أو اشتريت بأموال الفقراء والمساكين.

أمَّا أصحاب السابقة والجهاد، فقد تقاضوا الثمن ولايات وإمارات، واعتزل فريق للعباد وفريق ساوموا على سكوتهم عن الظلم والجور حتّى لا يواجهون النفي والموت في صحراء الربذة ومرج عذراء وقصر الخضراء، وعادت الجاهلية الجديدة أثقلَ ظلَّاً وأشدَّ ظلمة ووحشية والعدو الجديد أشدَّ دهاءً وأكثر نضجاً وذكاء.

وفجأة سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي، وأضاءت للملأ ملامح أمل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق، وبدأ للعالم إنسان يخط على التراب بدمه (إنِّي لا أرى الموت إلاّ السعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما).

إنَّه الحسين بن علي وفاطمة، سبط ذلك الرسول الذي هاجر من مكَّة ليثرب قبل ستِّين عاماً لأجل رسالته وإنقاذها من الشرك والوثنية، ومرَّة ثانية وفي ظروف لعلَّها أسوأ على الإنسانية والرسالة من الظروف التي خرج فيها جدَّه من قبل لإنقاذ البشرية ممَّا كانت تعانيه من عسف وجور

٣٥

واستغلال، خرج من بيت محمد وعلي، البيت الذي وسع التاريخ كلَّه فكان أكبر منه، خرج غاضباً مصمِّماً على الموت كأنَّ في صدره إعصاراً هو في طريقه إلى الانطلاق، خرج لأجل الرسالة التي هاجر لأجلها جدَّه الرسول الأعظم من قبل، يتلفَّت من حوله وحيداً أعزل، يرى الرسالة وآمال الفقراء والمستضعفين تساق إلى قصر الخضراء في دمشق، لا يملك سلاحاً غير الشهادة التي يراها زينة للرجال كما تكون القلادة زينة للفتاة، وهاجر للحصول عليها على هدى وبصيرة وشبحها ماثل نصب عينيه يتطلَّع إلى تربة كربلاء مع ركبه بصبر وصمود وهو يقول: (خط الموت على ولْد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة... أفلا ترون أنَّ الحق لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقَّاً).

لقد هاجر من مدينة جدِّه إلى مكَّة ومنها إلى العراق بعد أن رأى رسالة الإسلام تتعرَّض للانهيار ومصير الإنسان يوم ذاك أسوأ من مصير إنسان الجاهلية، نافضاً يديه من الحياة، لا يملك في مقابل عدوِّه سوى سلاح الشهادة، وفي كل مرحلة كان يقطعها وهو يحثُّ السير إليها كان يشير إلى أنصاره الذين رافقوه في تلك الرحلة ليموتوا معه وإلى أهل بيته الذين هم كل ما يملكه من الحياة، إلى هؤلاء جميعاً كان يشير ويكشف لهم عن معاني الشهادة وأهدافها ومعطياتها، ويشهد العالم بأسره بأنَّه قد أدَّى للإنسانية كلَّ ما يقدر عليه.

لقد كان سيِّد الشهداء يدرك ويعي أهميَّة الرسالة المُلقاة على عاتقه، ويعلم بأنَّ التاريخ ينتظر شهادته، وأنَّها ستكون ضماناً لحياة أمَّة، وأساساً لبناء عقيدة، وهتكاً لأقنعة الخداع والظلم والقسوة، وأداته لسحق القيم ومحوها من الأذهان، وإنقاذاً لرسالة الله من أيدي الشياطين والجلاَّدين، وهذا هو الذي كان يعنيه بقوله لأخيه محمد بن الحنفية وهو يلحُّ عليه ويتململ بين يديه باكياً حزيناً ليرجع إلى حرم جدِّه: (شاء الله أن يراني قتيلا، وأن يرى النساء سبايا).

٣٦

لقد أعطى الحسين للعالم كلِّه بشهادته دروساً مليئة بالحياة غنية بالقيم وروعة الجمال، وأصبح هو ومَن معه من طفله إلى إخوته وأنصاره وغلمانه القدوة الغنية بمعطياتها للعالم في كل زمان ومكان، يعلِّمون الأبطال كيف يموتون في مملكة الجلاَّدين الذين ذهبت ضحية سيوفهم آمال أجيال من

الشباب، وتلوَّت تحت سياطهم جنوب النساء، وأبادوا وأجاعوا واستعبدوا رجالاً ونساء ومؤذِّنين ومعلِّمين ومحدِّثين.

لقد ترك الحسين وإخوته وأصحابه وحتّى غلمانه دروساً سخيَّة بالعطاء والقيم، حافلة بالعبر والمثل التي تنير العقول وتبعث في النفوس والقلوب قوة الإيمان بالمثل العليا والمبادئ السامية التي دعا إليها وضحَّى بكل ما يملك من أجلها، ولا تزال الأجيال تستلهم منها كل معاني الخير والعبر و

الفضيلة، وسيبقى الحسين وأنصاره مثلاً كريماً لكلِّ ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله.

لقد هاجر من مدينة جدِّه إلى أرض الشهادة والخلود ليقدِّم دمه الزكي ودماء إخوته وأنصاره الخالدين ثمناً لإحياء شريعة جدَّه الرسول الأعظم وإنقاذها من مخالب الكفر والانحراف، ولكي يضع حدَّاً لسياسة البطش والتنكيل وإراقة الدماء، وليعلن بصوته المدوِّي الذي لا يزال صداه يقضُّ مضاجع الظالمين أنَّ الإسلام فوق ميول الحاكمين، وأنَّ المثل والقيم فوق مستوى مطامعهم الرخيصة، وأنَّ الحريَّة والكرامة من حقوق الإنسان في حياته ولا سلطان للحكَّام والطغاة عليها.

أجل إنَّ رسالة الحسينعليه‌السلام كانت ولا تزال امتداداً لرسالة جدِّه، وجهاده امتداداً لجهاد جدِّه وأبيه أمير المؤمنين بطل الإسلام الخالد الذي قام الإسلام وانتشر بسيفه وجهاده.

وكما خيَّبت هجرة الرسول مساعي المتآمرين على قتله بخروجه من

٣٧

مكَّة إلى يثرب، بعد أن بات على فراشه بطل الإسلام الخالد ليدرأ عنه خطر الأعداء ويفيده بنفسه من مؤامرة أبي سفيان وحزبه، كذلك خيَّبت شهادة سبطه الثائر العظيم آمال أميَّة وأمانيها وما يطمح إليه حفيدها يزيد بن معاوية من تحطيم الإسلام وعودة الجاهلية والأصنام، آلهة آبائه وأجداده، وسجَّلت انتصاراً حطَّم أولئك الجبابرة الطغاة ودولتهم الجائرة العاتية التي قابلها الحسين وقضى عليها بشهادته ودمه الزكي الطاهر بالرجال والعتاد والأموال.

ولربَّ نصر عاد بشر هزيمة

تركت بيوت الظالمين طلولا

لقد قاتل مع الحسينعليه‌السلام اثنان وسبعون شخصاً من إخوته وأبنائه وأنصاره الأبطال الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان، فقاتلوا دفاعاً عن الحق والعقيدة ورسالة الإسلام، وأرخصوا حياتهم لإعلاء كلمة الله في الأرض، وكانوا - مع قلَّة عددهم وكثرة الحشود التي اجتمعت لقتالهم - يكرُّون على تلك الحشود بقلوبهم العامرة بالتقوى ونفوسهم المطمئنة إلى المصير الذي أعدَّه الله للمجاهدين في سبيله، فيفرُّون من بين أيدهم فرار المعزى إذا شدَّت

عليها الذئاب. ورحم الله السيِّد حيدر الحلِّي القائل:

جاءوا بسبعين إلفٍ، سَلْ بقيَّتهم:

هل قابلونا وقد جئنا بسبعين؟

لقد ترك لنا الحسين وجدِّ الحسين والأئمة من ذريَّة الحسين من أقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم مدرسة غنية بكل ما نحتاجه في الحرب و

السلم، والشدَّة والرخاء، والفقر والغنى وكل نواحي الحياة، فما أولانا ونحن ندَّعي الإسلام والتشيُّع لهم أنْ نرجع إلى سيرتهم ونسير على خطاهم، ونصنع من ميراث أمَّتنا وقادتنا خير أمَّة أُخرجت للناس.

٣٨

ولو نظرنا - ومع الأسف الشديد - إلى مبادئ التشيُّع التي تجسِّد الإسلام بكل فصوله وخطوطه، وقارنَّا بينها وبين ما نحن عليه من تخاذل وتراجع وإذلال وانحراف عن الإسلام ومبادئه وقيمه، لوجدنا أنفسنا من أبعد الناس عن علي وبنيه وعن الحسين بالذات، الذي نحتفل في كل عام بذكراه ونبكيه ونردِّد بألسنتنا: يا ليتنا كنَّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً. وأنا لا أشكُّ بأنَّ الحسين لو وُجِد في زماننا هذا، لصنع من القدس وجنوب لبنان كربلاء

ثانية، وسوف لا يناصره ممَّن يدعون الإسلام والتشيُّع ومَن يتباكون على القدس والجنوب ويتاجرون بهما في البيانات والخطب وعلى صفحات الجرائد أكثر من العدد الذي ناصره في كربلاء الأولى.

إنَّ بكاء الباكين وتباكيهم على الحسين وعلى القدس والجنوب لم يكن إلاّ لأنَّه يلتقي مع مصالحهم أو لبعض الحالات الطبيعية التي تسيطر على الإنسان أحياناً، فهل هؤلاء مع الحسين ومبادئه ومع القدس القبلة الأولى للمسلمين وفلسطين التي اغتصبتها وشردَّتَ أهاليها قوى الشر والعدوان؟ ومع جنوب لبنان الذي عبثت فيه الأهواء والأطماع ومزَّقته إلى أحزاب وشيع لا تحصى حتّى ولو تعارض ذلك مع مصالحهم وأهوائهم؟ فعشرات الشواهد والأرقام تؤكِّد أنَّ مصالحنا وأهوائنا إذا تعارضت مع الحسين وجميع القيم ومع القدس والجنوب وجميع المظلومين والمعذَّبين، فإنَّا لم نعد نتعرَّف على الحسين ولا على مبادئه وقيمه، ولا على القدس والجنوب، ولا على المظلومين والمعذَّبين. ولو خرج مَن يحمل مبادئ الحسين في زماننا هذا، لحاربناه كما حاربه أولئك بالأمس، ولقطعنا رأسه ورؤوس مَن يناصره وأهديناها لمَن يحمل روح يزيد وابن زياد، وما أكثرهم في زماننا هذا!

لقد بكى عمر بن سعد على الحسين في كربلاء وسالت دموعه على لحيته عندما رآه يجود بنفسه والدماء تنزف من جسده، وفي نفس الوقت

٣٩

أمر أصحابه بقتله وقال لهم: انزلوا إليه وأريحوه. والإنسان في الغالب قد يتأثَّر وينفعل من غير قصد واختيار كما يتنفَّس ويتألَّم ويفرح

ويحزن، وسرعان ما يتغير وكأنَّه إنسان آخر، وبذلك نستطيع أن نفسِّر بكاء أكثر الباكين على الحسين من المحبِّين والمجرمين القساة وهم يستمعون إلى حديث كربلاء وما حلَّ بها من الفجائع على أهل البيتعليهم‌السلام .

وجاء عن بعض العلويَّات أنَّها قالت: حين استشهد أخي الحسين هجم العدو على خيامنا بالسلب والنهب، ودخل خيمتي رجل أزرق العينين، فأخذ ما في الخيمة ونظر إلى زين العابدين وهو على نطع وكان مريضاً، فجذبه مِن تحته ورماه إلى الأرض، والتفت إليَّ وأخذ القناع عن رأسي وقرطين كانا في أذني وجعل يعالجهما ويبكي حتّى انتزعهما، فقلت له: تسلبني وأنت تبكي؟ فقال: أبكي لمصابكم أهل البيت.

وبلا شك فإنَّ الكثيرين من الَّذين يبكون لمصاب أهل البيت وما حلَّ بهم في كربلاء، يحملون روح هذا المجرم أزرق العينين، ولو تسنَّى لهم أن يسلبوا الحوراء أو غيرها خمارها إذا اقتضت مصلحتهم ذلك، فإنَّهم لا يقصِّرون ولا يتورَّعون، وأيُّ فرق بين أزرق العينين الذي اقتحم خيام الحسين وأخذ النطع من تحت الإمام السجاد وانتزع القرطين من أذني الحوراء وبين مَن يدَّعون التشيُّع والإسلام في زماننا هذا ويعتدون على أموال الناس وحقوق الناس وكرامتهم، غير مكترثين بالأديان ولا بالأخلاق والأعراف التي لا تقرُّ الإساءة لأحد من الناس.

إنَّ هؤلاء لا فرق بينهم وبين عمر بن سعد وأزرق العينين، ولو وجدت العقيلة الحوراء في زماننا هذا لَمَا تورَّعوا عن انتزاع قرطها ولا عن قتل أخيها وأبيها إذا اقتضت مصلحتهم ذلك، وفي الوقت ذاته يتأثَّرون وينفعلون وقد يبكون عندما يستمعون إلى حديث كربلاء وما فعله أزرق

٤٠