من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 30777
تحميل: 5526

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30777 / تحميل: 5526
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العينين.

وسلام الله على الحسين وأنصاره شيوخاً وشباناً الذين لا تزال ذكراهم حيَّة تثير الأسى والشجن في نفوس المحبِّين وحتّى في نفوس الكثيرين في زماننا هذا من أمثال ابن سعد وأزرق العينين، ولكن ذلك الأسى سرعان ما يتبخَّر ولا يعلق من تلك الذكرى وأهدافها السامية في النفوس والعقول إلاّ صوراً لا تتجاوز عالمها ومحيطها، ثم تتبخَّر وكأنَّها لم تكن.

وأعود لأكرِّر بأنَّ المسلمين لو استغلُّوا ذكراك يا أبا عبدالله وتضحياتك الجسام في سبيل الإسلام وخير الإنسانية، واستغلُّوا مولد الرسول وسيرته العطرة الغنية بمعطياتها الذي يحتفلون به في هذه الأيَّام من كل عام من على منابرهم وبالهتاف والتصفيق في شوارعهم لبضع ساعات ثم يعودون مسرعين إلى نوادي القمار والخمور والبغاء وخدمة أعداء الإسلام بأموالهم وجميع طاقاتهم، لو استغلُّوا ذكرى سيد الشهداء ومولد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لمرضاة الله ورسوله ولصالح الإسلام والمسلمين وبثِّ الوعي ورصِّ الصفوف في مقابل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين، لا لإشاعة الجهل والتفريق والاتجار بالدين وعواطف الناس، لكانوا من أفضل الأمم وأقواها في مشرق الدنيا ومغربها، وسلام الله على الحسين الذي لم يحدِّث عن مثله التاريخ:

٤١

ورحم الله مَن قال في وصفه:

أضمير غيب الله كيف لك القنا

نفذت وراءَ حجابه المخزون

وتصكُّ جبهتك السيوفُ

وإنَّها لولا يمينُك لم تكن ليمين

ما كنتَ حين صُرعتَ مضعوف القوى

فأقول لم تُرفد بنصر معين

أمَا وشيبتِكَ الخضيبةِ إنَّها

لأبرُّ كلِّ إليّةٍ ويمين

لو كنتَ تستامُ الحياةَ لأرخصت

منها لك الأقدارُ كلّ ثمين

أو شئتَ محوَ عداك حتَّى لا يُرى

منهم على الغبراء شخص قطين

لأخذتَ آفاقَ البلادِ عليهم

وشحنتَ قطريها بجيش منون

حتَّى بها لم تُبق نافخَ ضرمةٍ

منهم بكلِّ مفاوزٍ وَحصون

لكنْ دعتك لبذل نفسكِ عصبةٌ

حان انتشارُ ضلالِها المدفون

فرأيتَ أنَّ لقاء ربِّك باذلاً

للنفس أفضلُ من بقاء ضنين

٤٢

ما أروع يومك يا أبا الشهداء

شموخ مع التاريخ وصمود مع الأجيال يتجلَّى بكل وضوح في أفق الحياة الواسع ومع سير الزمن السرمدي، لا يطويه دوران الأيَّام ولا تنسيه الدهور والأعوام، يُجدِّد الآلام ويثير الأحزان والأشجان بالرغم من مرور المئات من الأعوام؛ ذلك هو يومك الخالد يا أبا عبدالله، الذي ضربت فيه أمثالاً بلغت أقصى حدود السمو في التضحية والفداء، وأوضحت المعالم البارزة للسبل التي يجب أن تكون منهجاً لعبور العقبات الصعاب في هذه الحياة، فما أروع هذا الخلود، وما أسمى معانيه لو بَرَزت بوضوح حقائقها ورُسمت دقائق خطوط أهدافها؛ لترفع المشعل الوهَّاج للأجيال المتعاقبة وتلتهم ثمرات تلك المآثر السامية، وتستلهم منها الصبر والعقيدة لتحقيق الأهداف التي دعا إليها الإسلام وكافح من أجلها دعاته الوفياء؛ لتطهير الأرض المقدَّسة من دنس الظالمين والغاصبين.

ما أروع يومك يا أبا عبدالله ويا أبا الشهداء، ذلك اليوم الذي وقفتَ فيه تخاطب أنصارك وأهل بيتك قائلاً:

(أمَّا بعد، فإنَّه قد نزل بنا من الأمر ما

٤٣

قد ترون، ألا وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، واستمرَّت حذاء ولم يبق منها إلاَّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقَّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟!، فليرغب المؤمن في لقاء ربه محقَّاً، فإنِّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما).

فكانت التضحية وكان الداء الذي أدمى القلوب ومزَّقها وكان النصر حليفه، فلقد استقامت بشهادتك يا أبا عبدالله أركان الإسلام وتبين الرشد من

الغي، وظلَّت كلمة لا إله إلاّ الله محمد رسول الله - التي حاربها الحزب الأموي - مدوِّية في الفضاء، خالدة في أجوائه خلود يومك.

لقد أراد لها يزيد بن ميسون الفناء بقتلك وأراد الله لك ولها البقاء، فبقيتْ وبقيتَ مع التاريخ تستنير الأجيالُ بذكراك ويستلهم منها المخلصون سُبُل الثورة على الظلم والطغيان، وبقي ذكر أولئك الطغاة عاراً تتبرَّأ منه الأحفاد والأجيال وتتبعهم اللعنات ما دام التاريخ.

فما أصبرك يا أبا عبدالله، وما أروع يومك حينما وقفتَ في أرض المعركة وحيداً لا ناصر لك ولا معين، تتلفتُ يميناً وشمالاً، فلا ترى سوى أصحابك وبنيك وإخوتك صرعى على ثرى الطفِّ المديد، والأعداء تحيط بك من كل نواحيك، تحدِّق في خيامك الخالية إلاّ من النساء و

الأطفال، والصراخ يتعالى من هنا وهناك، وأنت تتلوَّى لهول ذلك المشهد وتلك الحشود الهائلة وقد شهرت أسنَّة رماحها في وجهك، فتغمض عينيك من هول ذلك المنظر وممَّا حلَّ ببيت الرسالة وأحفاد الرسول، فلا تجد من يأويهم ويكفلهم من بعدك.

ثم تتلفَّت إلى أنصارك فلا ترى سوى الجثث المبعثرة من حولك، فما أهوله من منظر وما أرزأها من مصيبة لم يحدِّث التاريخ بمثلها، ومع كل

ذلك، فلم تلنْ لأولئك الطغاة، ومضيت في ثورتك على الباطل، ثورة الإيمان بكل معانيه وأبعاده على الكفر بكل أباطيله، تقول: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد) وبقيت خالداً خلود الدهر.

٤٤

لقد تمخَّضت مواقف الحسين بن عليعليه‌السلام يوم عاشوراء، ذلك اليوم التاريخي، من خلال ما ارتسم فيها من البطولات والصمود أمام تلك الجحافل العاتية عن جلائل المعاني السامية، وتجلَّتْ من سطورها الدامية روائع من صفحات الإيمان الثابت والعقيدة المخلصة، وطفقتْ تحمل في مشاعلها نزعة الانعتاق من ربقة الاستغلال والاستعباد، واندفعت تخطُّ للأجيال أبعاد الكفاح الثوري وترسم للعصور سمات للصمود والثبات، وتدفع بالمناضلين المكافحين إلى تعلُّقهم بما يرسمونه من تخطيط لمعتقداتهم الفكرية، وما ينتهجونه من تحديد لمنطلقاتهم النضالية في المسار النضالي، وما يحدِّدونه من مواقف جريئة أمام تحدِّيات الحاكمين واستغلالهم لخيرات الشعوب وأرزاق العباد.

ان المسار الثوري الذي حفلت به ثورة الحسينعليه‌السلام لقد عزز الكثير من طموح الشعوب المستغلة من اجل انهاض هذه الشعوب وايقاد فتيل الثورة للاطاحة بالنظم المستبدة وايجاد المجتمعات السليمة التي تحقق للشعوب حريتها وكرامتها وطموحاتها في التخلص من الاستغلال وتطوير الحياة وما يضمن لتلك الشعوب أمنها ورفاهيتها.

إنَّ ثورة الحسين تركت في دروب الأحرار المجاهدين والصامدين علامات مضيئة تنير مسالك الكفاح، وتمهِّد الطريق الذي يمكِّن كل ثائر - إذا اعتمد في الدرجة الأولى على نزعة السخاء بالأرواح وبذل الأنفس من أجل العقيدة الثابتة ومن أجل مواقع الصمود - للوصول إلى النصر.

إنَّ طرح الحسين الخالد لهذا السخاء العظيم بتقديمه نفسه وذويه وصحبه واستشهادهم إلى جانبه، مكَّن هذه الثورة من الديمومة والبقاء لتكون المنار لكل الثائرين الصامدين عبر مسيرات الانتفاضات الشعبية التي تحدث هنا وهناك، ومكَّن لها الانتصار إذا اقترنت بالنزاهة والإخلاص وبمثل ذلك السخاء الذي قدَّمه الحسين وأنصاره من أجل الإنسان وكرامته. لقد انتصر الحسينعليه‌السلام باستشهاده انتصاراً لم يسجِّل

٤٥

التاريخ انتصاراً أوسع منه، ولا فتحاً كان أرضى لله منه، وكان واثقاً من هذا الانتصار ومن هذا الفتح كما كان واثقاً من هزيمته عسكرياً كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه إلى الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق؛ فقد قال فيه: (أمَّا بعد، فإنَّه مَن لحق بي استشهد ومَن تخلَّف لم يبلغ الفتح).

وكما ذكرنا؛ فالفتح الذي يعنيه الحسين من كتابه إلى الهاشميين هو ما أحدثته ثورته من النقمة العامة على الأمويِّين وما رافقها من الانتفاضات التي أطاحت بدولتهم.

٤٦

(إنَّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا)

لقد كان محمد بن الحنفية، شقيق الحسين، في طليعة أولئك الذين حاولوا مع الحسينعليه‌السلام أن لا يستجيب لأهل العراق، وأن يبقى بعيداً عنهم، وقد ذكَّره مع مَن ذكَّروه بمواقفهم مع أبيه وأخيه، وكان قد أشار عليه أن يذهب إلى اليمن أو بعض نواحي البر ولا يذهب إلى الكوفة، فوعده الحسينعليه‌السلام أن ينظر في الأمر، وفي مطلع الفجر من تلك الليلة أُخبر ابن الحنفية أن الحسينعليه‌السلام قد تهيَّأ للخروج مع إخوته وبني عمومته ونسائه إلى العراق، فأقبل عليه وقد أشرف موكبه على التحرُّك، فأخذ بزمام ناقته وهو يبكي، وقال له: ألم تعدني النظر فيما سألتك فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فردَّ عليه الحسين قائلاً: (أتاني رسول الله بعد ما فارقتك فقال: يا حسين، أخرج فإنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلا) فاسترجع ابن الحنفية وقال: إذا كان الأمر كما تقول، فما معنى حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية، فقال له: (إنَّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا).

بهذا الجواب القصير وبهاتين الكلمتين بما لهما من المدلول الواسع

٤٧

وبدون مواربة أو تمويه أجاب الحسين أخاه محمد بن الحنفية وعيناه تنهمر بالدموع والألم يحزُّ في قلبه ونفسه. وكما قال أبو عبداللهعليه‌السلام : (إنَّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا) كما شاء أن يراه قتيلاً موزَّع الأشلاء، هو ومَن معه من أسرته وأصحابه على ثرى الطف، لإنَّ سبيهنَّ بعده من بلد إلى بلد لم يكن أقل أثراً على تلك الدولة الجائرة وعلى تلك الأسرة التي تكيد للإسلام من شهادته، إن لم يكن أشدُّ وقعاً على نفوس المسلمين من استشهاده.

لقد كان لسبي النساء والأطفال والطواف بهنَّ من بلد إلى بلد أثراً من أسوأ الآثار على الأمويَِّين ودولتهم، وكان الجزء المتمِّم للغاية التي أرادها الحسين من نهضته؛ فلقد أثار الأحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف أسرار الأمويين وواقعهم السيىء للقاصي والداني، وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان أنَّ الأمويِّين من ألدِّ أعداء الإسلام؛ يبطنون الكفر والإلحاد ويتظاهرون بالإسلام رياء ودجلاً ونفاقاً. وفي الوقت ذاته، فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة إلى العلويِّين ومبدأ التشيُّع لأهل البيت، ولعن مَن شايع وتابع وبايع على قتل

الحسين، وقد أشارت إلى ذلك العقيلة الكبرى في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء:فوالله ما فريت إلاَّ جلدك، وما حززت إلاّ لحمك .

لقد حملهم معه وهو على يقين بأنَّ الأمويِّين سيطوفون بهم في البلدان إلى أن يصلوا بهنَّ إلى عاصمتهم الشام، وسيراهم كل إنسان مكشفات الوجوه وفي أيديهم الأغلال والسلاسل، وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة على الأمويِّين، وبالأسف والحزن لآل بيت نبيِّهم الذي بعث رحمة للعالمين.

جاء في كتاب المنتخب أنَّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي

٤٨

الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضمَّ إليهم إلف فارس وأمرهم بإيصال السبايا والرؤوس إلى الشام.

ويدَّعي أبو مخنف أنَّهم مرُّوا بهم بمدينة تكريت وكان أغلب أهلها من النصارى، فلمَّا اقتربوا منها وأرادوا دخولها، اجتمع القسِّيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزناً على الحسين، وقالوا: إنَّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيِّهم، فلم يجرأوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها

في البرية.

وهكذا كانوا يُقابَلون بالجفاء والإعراض والتوبيخ كلَّما مرُّوا بدَير من الأديرة أو بلد من بلاد النصارى، وحينما دخلوا مدينة لينا، وكانت عامرة يومذاك، تظاهر أهلها رجالاً ونساءً وشيباً وشبَّاناً وهتفوا بالصلاة والسلام على الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويِّين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة وتعالى الصراخ من كل جانب، وأرادوا الدخول إلى جهينة من بلاد سوريا، فتجمَّع أهلها لقتالهم، فعدلوا عنها واستقبلتهم معرَّة النعمان

بالترحاب، بلدة المعري الذي يقول:

أليس قريشكم قتلت حسيناً

وصار على خلافتكم يزيد

وقال:

وعلى الأفق من دماء الشهيدين

علي ونجله شاهدان

وحينما أشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم، فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم: والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد أن منعتم الحسين وأصحابه منه، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين: أكفراً بعد إيمان وضلالاً بعد هدى، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً، ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة، فدقَّت الطبول وقدَّموا لهم الطعام والشراب.

٤٩

وجاء عن سبط بن الجوزي عن جدِّه أنَّه كان يقول: ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسيناً، وإنَّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال.

قد رأى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر ممَّا رأوه في قتل الحسين، وهذا ما أراده الحسينعليه‌السلام من الخروج بالنساء والصبيان، ولو لم يخرج

بهنَّ، لَمَا حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعَّالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته؛ وهو انهيار تلك الدولة الجائرة.

ولو افترضنا أنَّ السيدة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة بقيت في المدينة وقتل أخوها في كربلاء، فما عساها تصنع؟ وأيُّ عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب وإقامة العزاء؟ وهل كان يتسنَّى لها الدخول على ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيِّه محمد، وطهَّرنا من الرجس تطهيراً، وإنَّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله) وهل كان بإمكانها أن تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء وهو مزهو بملكه وسلطانه، وتلقى تلك الخطب التي أعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده، وقالت له فيما قالت: (أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك إماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا... ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك إنِّي لاستصغر قدرك وأستعظم تقريعك) إلى غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيَّرت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته، ممَّا اضطره لأن يتنصَّل من تلك الجريمة ويلعن

ابن زياد، ويحاول أن يحمِّله مسؤوليتها بعد أن بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقرى التي مرَّ بها موكب السبايا، واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلى أهل بيته، وبعد أن رأى الوجوه تغيَّرت عليه حين وقفت في مجلسه ذلك الموقف التاريخي الذي

٥٠

لا يزال حديث الأجيال.

بعد أن رأى ذلك وسمع ما أحدثه موكب السبايا في نفوس الناس وقلوبهم وبخاصة بعد أن عرف الناس في عاصمته وخارجها أنَّ هذا الموكب لآل الرسول وبناته ن جعل يتنصَّل من تلك الجريمة ويحمل أوزارها لإبن زياد ومعاونيه. لقد كان باستطاعة يزيد ومعاونيه لو لم يتعرَّض لأسر النساء والأطفال وسبيهن من بلد إلى بلد، أن يموِّه على الناس ويقول لهم: لقد نازعني الحسين ملكي وقاتلني فقتلته، ولكنَّه بعد أن صنع مع النساء والأطفال ما صنع من الأسر والسبي والامتهان، ضاقت عليه الحجج والذرائع ولم يعد أمامه إلاّ أن يتنصَّل منها ويضع مسؤوليَّتها على غيره حيث لا يجديه التنصُّل ولا تستره الأعذار، وقد أيقن بعدها الكثير من الناس بأنَّه كان في عمله هذا مسيَّراً لأمويَّته الحاقدة على بيت محمد ورسالته، ولو أنَّه ترك النساء والأطفال بعد تلك المجزرة وشأنهم، ولم يعاملهم بتلك المعاملة التي لم يعامل المسلمون بها أسرى المشركين ونسائهم، لم يكن لجريمته كل ذلك الصدى الذي هزَّ العالم الإسلامي بكل فئاته وطبقاته.

لقد كان الحسين يرى من وراء الغيب بأنَّ شهادته وحدها لا تعطي النتائج المطلوبة ولا تحقِّق له جميع أهدافه ما لم تقترن بسبي النساء والأطفال والطواف بهنَّ من بلد إلى بلد؛ ليتاح لشقيقته العقيلة أن تؤدِّي دورها ورسالتها، فقال لأخيه ابن الحنفية وهو يتململ بين يديه باكياً حزيناً[نقلاً عمَّا قاله له رسول الله في رؤياه]: (إنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلا... إنَّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا) وكان على أميَّة وحفيدها يزيد بن ميسون لو كانت تملك ذرَّة من الوفاء والشرف، أن تعود إلى الوراء قليلاً لترى ما فعله جد زينب والحسين وبقية العلويِّين والعلويَّات مع أبي سفيان وزوجته هند بنت عتبة التي مثَّلت بعمِّه الحمزة وأكلت من كبده وكيف عاملهما بالعفو والصفح وجعل لهما ما لم يجعله

٥١

لأحد من مشركي مكَّة وطواغيتها، ورحم الله بعض الشعراء الذي ذهب يعاتب الأمويِّين بقوله:

وعليك خزي يا أميَّة دائم

يبقى كما في النار دام بقاك

فلقد حملت من الآثام جهالة

ما عنه ضاق لمَن دعاك دُعاك

هلا صفحت عن الحسين ورهطه

صفح الوصي أبيه عن أباك

وعففت يوم الطف عفَّة جدِّه

المبعوث يوم الفتح عن طلقاك

أفهل يد سلبت إماءك مثلما

سلبتْ كريماتِ الطفوف يداك

أم هل برزن بفتح مكَّة حُسَّراً

كنسائه يوم الطفوف نساك

ورحم الله القائل في وصف السبايا:

وزاكية لم تلقَ في النوح مُسعداً

سوى أنَّها بالسوط يزجرها زجر

ومذعورة أضحت وخِفَاق قلبها

تكاد شظاياه يطير بها الذعر

ومذهولة من دهشة الخيل أبرزت

عشية لا كهف لديها ولا خدر

تُجاذبها أيدي العدو خمارَها

فتستر بالأيدي إذا أعوز الستر

٥٢

سرتْ تتراماها العداة سوافرات

يروح بها مِصر ويغدو بها مصر

تطوف بها الأعداء في كل مهمة

فيجذبها قِفر ويقذفها قفر

٥٣

بطولات الشَّباب في كربلاء

إذا كانت مطامح الشباب عيشاً رغيداً ومستقبلاً سعيداً حافلاً بكل ألوان النعيم كما نشاهد ونرى، فشباب كربلاء كانت كل أمانيهم ومطامحهم صموداً في الأهوال وصبراً في البأساء واستشهاداً بحدِّ السيوف، ولم يكن لتلك الفتوَّة الغضَّة والصبا الريَّان أن تهتمَّ أو تفكِّر بما أُعدَّ لها من غضارة الدنيا وما ينتظرها من صفو الحياة ولهوها ومتعها، بل كان كل همِّهم التطلُّع إلى أيِّ سبيل من سُبُل الشهادة يعبرون وأيِّ موقف من مواقف البطولات يقفون.

هناك وعلى مشارف العراق وفي الطريق إلى كربلاء كان الحسينعليه‌السلام يسير على رأس قافلة الشباب الأبطال متحدِّياً أقوى سلطة وأبشع طغيان وأسوأ مَن عرفه التاريخ من الحاكمين، متحدِّياً كل ذلك بسبعين من الرجال والشباب؛ ليحطِّم بهذا العدد القليل قوى الشر والطغيان ومعاقل البغي و

العدوان؛ وليعلِّم أبناء آدم كيف يموتون في سبيل العزَّة والكرامة.

٥٤

كان يسير أبو عبدالله على رأس تلك القافلة ممَّن اصطفاهم الله إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها تَحفظ لشريعة جدِّه ممَّا كان يخطِّطه لها الحزب الأموي الحاكم الذي سخَّر جميع طاقات الأمَّة وإمكانيَّاتها وفئاتها للقضاء عليها.

كان يسير إلى الشهادة ومِن حوله عشرون شاباً، أو أكثر، من بنيه وإخوته وأبناء أخيه الحسن السبطعليه‌السلام وأبناء أخته بطلة كربلاء وشريكته في الجهاد والتضحيات وأحفاد عمِّه عقيل بن أبي طالب، وما أسرع أن كبّر قائلا: (الله أكبر)، ولم يكن الموقف موقف تكبير! فلا بدَّ وأن يكون تكبيره

لأمر ما، أو لهمٍّ من همومه أراد أن يستنجد عليه بالله سبحانه. وإذا كان للتكبير روعته مهما كانت دوافعه وأسبابه، فما أحسب أن تكبيراً في تلك الساعة كان له من الروعة ما كان لتكبير الحسينعليه‌السلام وهو منطلق في تلك الصحراء المديدة إلى الهدف الأسمى والغاية العليا تحت سماء العراق الصافية. على رأس ذلك الركب كبّر الحسين، فكانت تكبيرة لم يعرف التاريخ تكبيراً أكثر منها دويَّاً، تكبيرة اقتحمت تلك البيداء ومضت من صعيد إلى صعيد تهزُّ النفوس وتثير الضمائر الحيَّة وتحضُّ على الظالمين والعابثين بتراث محمد ورسالته.

وما كان لعلي الأكبر ابن العشرين الذي كان يسير إلى جنب أبيه إلاّ أن يسأل أباه لم كبّرت يا أبتاه؟ فقال له: (يا بني، إنِّي خفقت خفقة، فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير في إليهم، فعلمت أنَّها نفوسنا نعيت إلينا).

لقد كان جواب الحسين لولَده موجزاً وبكلمة واحدة، لا مواربة فيها ولا تمويه، إنه الموت ينتظرنا على الطريق وسوف نموت ولا نستسلم للطغاة ولا نهادن الجور والتسلُّط على عباد الله والمستضعفين في الأرض، مع أنَّه لا سبيل لنا إلى استنهاض ثورة عارمة تدكُّ عروش أولئك الطغاة

٥٥

بقوَّتها المادية تنتصر عليهم بقوُّة السلاح وكثرة الرجال.

إنَّ سبيلنا الوحيد هو بين أيدينا ورهن إرادتنا؛ وهو أنْ نكون وحدنا الثورة، ومن غير المعقول أن نتغلَّب بهؤلاء السبعين على ألوفهم ونهزم بهم سبعين ألفاً من رجالهم، ولكن باستطاعتنا أن نقلب الدنيا على رؤوسهم إذا ضحَّينا وقُتلنا في سبيل الإسلام ورسالته.

وكان الحسينعليه‌السلام وهو يلقي كلماته هذه على ولده علي الأكبر ابن العشرين وأشبه الناس بجده الرسول الأمين خَلقاً وخُلقاً؛ يريد أن يَسمع رأي ولده الأكبر، ولم ينتظر الإمام طويلاً حتّى سمع جواب الشاب الذي بادره بقوله: يا أبتاه - لا أراك الله سوء - أولسنا على الحق؟ هذا هو القول الفصل عند علي بن أبي طالب وأبنائه شيوخاً وشباباً، والقرار الأول والأخير أنَّهم يسعون إلى الحق ويعملون من أجله ويحاربون الباطل، وحيث يكون الحق فهو هدفهم وغايتهم مهما كلَّفهم ذلك من جهود وتضحيات.

أولسنا على الحق يا أبتاه؟ هكذا كان جواب الأكبر ابن العشرين لأبيه، وكان رد الحسينعليه‌السلام : (بلى، والذي إليه مرجع العباد)، وردَّ عليه ولده بقوله: إذن، لا نبالي بالموت ما دمنا نموت محقِّين.

إنَّ الحسينعليه‌السلام لم يكن ينتظر من ولده غير هذا الجواب، ولكنَّه لم يتمالك إلاّ أن يزهو بمثل هذه الروح التي يحملها شاب في مطلع شبابه، فردَّ عليه قائلاً: (جزاك الله من ولد خيرَ ما جزى ولداً عن والده).

إنَّ علي الأكبر بكلماته هذه لم يكن يعبر عن نفسه وروحه خاصة بل، كان يتكلَّم باسم الشباب العشرين من أحفاد أبي طالب وكان يعلن قرارهم الأخير الذي هاجروا من المدينة لأجله، وكان في طليعة أولئك الشباب العشرين العبَّاس بن علي أكبرهم سنَّاً، وكان الحسين يحبُّه حبَّ الأخ لأخيه والوالد لولده الوحيد، وللعبَّاس من المؤهِّلات والصفات الفاضلة ما جعله

٥٦

محبَّباً لكلِّ عارفيه. وكما تكلَّم الأكبر باسم الطالبيِّين جميعاً، فقد تكلَّم العبَّاس باسمهم بمناسبة أخرى وبنفس الروح والعزيمة والاستهانة بالحياة التي كان يحملها الأكبر؛ وذلك عندما عرض عليه ابن ذي الجوشن الأمان لاتصال أمه أم البنين بنسبه، فردَّ عليه العبَّاس بعد أن أمره الحسين

بالردِّ عليه قائلاً: لعنك الله ولعن أمانك؛ أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟! ولقد كرَّروا تصميمهم على التضحية في سبيل الحق الذي يمثِّله الحسين مرة أخرى؛ وذلك عندما جمع الحسين أنصاره وأهل بيته وأذن لهم بالانصراف، وقال: (ألا وإنِّي أظن يومناً من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإنِّي قد رأيت

لكم فانطلقوا جميعاً فليس عليكم مني ذمام، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي) وكان أوَّل المتكلِّمين باسمهم جميعاً العبَّاس بن علي، فقال: (ولم نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك يا أبا عبدالله! لا أراني الله ذلك أبدا)، وتتابعوا جميعاً على الكلام بنفس الروح واللغة التي تكلَّم بها العبَّاس.

وفي اليوم العاشر من المحرَّم؛ اليوم الحاسم الرهيب، كان الشباب أحفاد أبي طالب يتسابقون إلى الموت بأرواحهم الطيبة السخية بالبذل والفداء في سبيل الحسين، وكما كان الأكبر يتكلَّم باسمهم ويعبِّر عمَّا في نفوسهم وضمائرهم، فقد كان أوَّل شهيد من أولئك الشباب الأبطال، وحينما أقبل على المعركة قال:

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

وتناولته السيوف والرماح بعد أن فتك بهم فتكا ذريعاً وقَتل نحواً من مائتين من فرسانهم وأبطالهم الأشداء وأدَّى للبطولة حقَّها وللشهادة

كرامتها، وتتابع الطالبيُّون من بعده شاباً بعد شاب دفاعاً عن الحق

٥٧

والعقيدة وكرامة الإنسان ومبادئ الإسلام مطمئنين بالمصير الذي أُعدَّ لهم والنصر المبين.

عشرون شاباً من نسل أبي طالب وأحفاد محمد بن عبدالله رفضوا الذلَّ والهوان ومشوا إلى الموت بأنوف شامخة ورؤوس مرفوعة عالية لحماية الإسلام من الوثنية والجاهلية الرعناء، التي حمل لوائها يزيد بن ميسون بعد أبيه معاوية وجدِّه أبي سفيان عدو الإسلام الأكبر الذي أرغمه الإسلام على الاستسلام عام الفتح ووقف بين يدي محمد بن عبدالله ذليلاً يستجديه العفو والصفح. مشوا إلى الموت يرددون مقالة جدِّهم أبي طالب وهو يخاطب أبا سفيان وحزبه يوم كانوا يطاردون النبي في مكَّة ويسومونه كل أنواع العسف والجور ويساومون أبا طالب ليتخلَّى عنه وهو يقول لهم:

كذبتم وبيت الله نخلي محمداً

ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتّى نصرع حوله

نذهل عن أبنائنا والحلائل

إنَّ أبا طالب حينما أنشد هذين البيتين لم يقصد بهما نفسه ولا جيله من الهاشميِّين والطالبيِّين، بل كان يقصد بهما كلَّ هاشمي من نسله، ويناشد كل جيل من أحفاده أن يضحِّي بنفسه وبكل ما لديه عندما يرى رسالة محمد معرَّضة للتحريف والتزوير والاستغلال، كان يخاطبهم من وراء الغيب أينما وجدوا ليكونوا حماة لرسالة محمد ونهجه، وهكذا كان؛ فلقد نفَّذوا جميع وصاياه وناضلوا وضحُّوا بأنفسهم من أجلها حتّى استشهدوا حول

الحسين، تاركين للعالم وللتاريخ صوراً ناصعة من الوفاء، ودروساً غنية بالعطاء والمثل العليا تستلهم منها الأجيال كلَّ معاني الخير والنبل والفضيلة.

٥٨

لقد نفَّذ أحفاد أبي طالب كل وصاياه ووقفوا في وجه أولئك الجلاَّدين والفراعنة أحفاد أبي سفيان، يناضلون ويدافعون عن رسالة محمد وتعاليم محمد بنفس الروح والعزيمة التي كان جدُّهما أبو طالب يدافع ويناضل بهما ويقول لابن أخيه:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسَّد في التراب دفينا

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البريَّة دينا

إنَّ أبا طالب الذي وقف إلى جانب الدعوة ودافع وناضل عنها وعن صاحبها بكل ما لديه من مال وجاه وقوة منذ أن بزغ فجرها، ولم يتنازل عن مواقفه منها بالرغم من مغريات قريش وجبروتها، وفي الوقت ذاته كان يعلن بكل مناسبة بأن دين محمد من خير أديان البرية، ويأمر بني ذويه بالسير على خطا باعثها وحاميها واعتناق الإسلام. إنَّ أبا طالب صاحب هذه المواقف الكريمة الخالدة لقد مات كافراً وفي ضحضاح من نار عند إخواننا أهل السنَّة، ومعاوية وأبا سفيان اللذين لم يفارقا الأصنام ولم يتنازلا عن وثنيَّتهما لحظة واحدة كما تؤكِّد ذلك مواقفهما من الإسلام وحماة الإسلام في عشرات المناسبات، ماتا مسلمين مؤمنين ومن عدول الصحابة. وعشرات الشواهد تدلُّ على أنَّ أبا طالب (سلام الله عليه) لا ذنب له عند الأمويِّين ورواتهم ومحدِّثيهم إلاّ أنَّه والد الإمام علي بن أبي طالب الذي ضعضع كبريائهم وداس عنصريَّتهم ووثنيَّتهم بقدميه في بدر وأُحد والأحزاب، وفضح مخطَّطاتهم في سيرته وسلوكه وسياسته، ولو استطاعوا أن يلصقوا به الشرك لم يقصِّروا، ومع ذلك فقد وضع لهم أبو هريرة وابن جندب وكعب الأحبار والزبيريُّون وابن شهاب الزهري عشراتِ الأحاديث في ذمِّه وتجريحه ولعنوه على منابرهم نحواً من مائة عام،

٥٩

ولكنَّهم كانوا بما اقترفوه في حقِّه كأنَّهم يأخذون بضبعه إلى السماء، وكأنَّهم كانوا ينشرون جيف الحمير فيما وضعوه من الأحاديث في فضل بعض الصحابة والأمويِّين على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة لولديهما.

ومهما كان الحال فستبقى مواقف أنصار الحسين وشباب كربلاء بالذات في سبيل الحق والمبدأ والعقيدة مثلاً كريماً لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله، وسلام الله عليهم وعلى جدِّهم أبي طالب حين ولدوا وحين استشهدوا وحين يُبعثون مع الأنبياء والصدِّيقين وشهداء بدر وأُحد ورحمته وبركاته.

ونتمنَّى على شبابنا الذين ينشدون التحرُّر من الاستغلال والاستعباد وتسلُّط الحاكمين أن يرجعوا إلى تعاليم الإسلام وسيرة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم من وثنية الأمويِّين وعنصريَّتهم ومن كل ما هو غريب عن الإسلام وبعيد عنه، ونتمنَّى عليهم أن يرجعوا أيضاً إلى مدرسة كربلاء ليقتدوا بشبابها الذين كانوا ثورة عارمة على الظلم والتسلُّط والاستغلال واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وسيجدون فيها وفي الإسلام ما يغنيهم عن تلك المبادئ المستوردة من هنا وهناك والتي تنطوي على أسوأ أنواع التسلُّط واستعباد الشعوب باسم الحرية والعدالة والديمقراطية وما إلى ذلك من الشعارات البرَّاقة الجوفاء التي يتاجرون فيها لتضليل الشعوب والبريئين من الناس، ومنه سبحانه نستمدُّ لهم الهداية والوعي السليم ليدركوا ما تنطوي عليه تلك المبادئ من تضليل وهدم للقيم والأخلاق واستغلال للضعفاء إنَّه قريب مجيب.

لقد أوصى الحسين أهل بيته بالصبر بعد ما استشهد جميع أصحابه ولم يبق معه إلاّ أولئك الشباب من ولده وولد علي وجعفر وعقيل

والحسن السبط، فاجتمعوا يودِّع بعضهم بعضاً وهم في مطلع شبابهم

٦٠