تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
حملات التشكيك
إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ شيعة أهل البيتعليهمالسلام
كانوا في الأحقاب السالفة يواجهون في بعض البلاد متاعب ومصاعب وتحدّيات حتّى على مستوى الأمن في مناسبة عاشوراء.
ولكنّ هذه الظاهرة قد انحسرت - ولله الحمد - على وجه العموم، وإن كنّا نجد بعض الإثارة لهذه الأجواء في بعض البلدان حتّى في أيامنا هذه. ولكنّها أصبحت مرفوضة، ومحاصرة، وممجوجة لا يرضى بها الإنسان في القرن العشرين؛ فكان أن استبدلوها بما هو أخطر منها حينما حوّلوا المعركة إلى الجانب الإعلامي الذكي، والهادف إلى إسقاط عاشوراء عن طريق إسقاط مضمونها؛ وذلك بزرع بذور الشك والريب فيها.
فأصبحنا في كلّ سنة، وفي حلول موسم عاشوراء على وجه الخصوص، نواجه حملة شرسة من هذا الإعلام المركّز والمدروس الذي يهدف إلى النيل من كربلاء من نواحٍ مختلفة؛ وذلك عندما تبدأ التحذيرات، ثمّ الاعتراضات، ثمّ التشنيع القوي والتجريح الحاقد، تتوالى وتنهمر إلى درجة أنّ الإنسان الشيعي يجدها ويسمعها ويقرأها، ويواجهها في كلّ اتجاه، وفي أيّ موقع، وفي مختلف المناسبات.
وتصدر البيانات، وتُلقى الخطب والمحاضرات، وتلهج الإذاعات، وتكتب الصحف والمجلاّت، وتُبذل جميع الطاقات في هذا السبيل.
وأكثر الاهتمام ينصبّ على ثلاثة اُمور:
الأوّل:
الطعن في خطباء المنبر الحسيني، ورميهم بالجهل والأُميّة، وقذفهم بتهم الكذب والتزوير، وقلّة الدين، والتصنّع والتمثيل، والاستعراض والتخلّف، وما إلى ذلك ممّا تحويه مجاميعهم اللغوية من شتائم مقذعة وتعبيرات جارحة.
الثاني:
التشكيك في مضمون المنبر الحسيني، وأنّه يعتمد الخرافات، ويروّج للأساطير، وينشر الأباطيل، وما إلى ذلك ممّا يحويه قاموسهم الغني بهذا النوع من التعابير التي تؤدّي إلى عجز المنبر الحسيني عن أداء دوره الرسالي في تثقيف الناس، وتربيتهم وتثبيتهم على خط الإيمان والجهاد.
الثالث:
العمل على التخفيف من قيمة الارتباط العاطفي بعاشوراء، ومضامينها العاطفيّة؛ وذلك بازدراء حالات البكاء، والتشنيع على مواكب العزاء، وإدانة اللطم على الصدور، ورمي هذه المواكب بالتخلّف والتحجّر، والإساءة إلى الدين، وأنّها توجب احتقار العالم المتحضر للمسلمين، وانتقادهم لهم.
والدعوة في مقابل ذلك إلى اللطم الحضاري الهادئ، والتوجّه أيضاً إلى العمل المسرحي والثقافي، واختزال المشاهد العاطفيّة البكائيّة مهما أمكن؛ لتصبح عاشوراء منبراً ثقافياً تُنشأ فيه المحاضرات، وتُعقد ندوات تُدار من قبل متخصصين، ثمّ(ما وراء عبادان قرية)
.
وداؤك فيك وما تشعر:
والملفت للنظر هنا أنّنا قد نجد من بعض المخلصين ما يوحي بموافقتهم على هذا الأمر، بل وبمشاركتهم فيه بنحو أو بآخر. ولو صح ما يُنسب إلى بعض المخلصين في هذا الاتجاه فإنّ إخلاصهم يكون هو الشافع لهم؛ لأنّ ممّا لا ريب فيه أنّهم لو التفتوا إلى واقع الحال لكان موقفهم في خلاف هذا الاتجاه قطعاً.
وربما يذكر اسم الشهيد مطهري في ضمن هؤلاء لو صحت نسبة كتاب (الملحمة الحسينيّة) إليه، ونحن لا نشكّ فقط، بل نجزم بعدم صحة النسبة.
كما إنّنا في مجال التفريق بين المخلص والحاقد، وبين ما يُرمي إليه الشهيد مطهري - لو صح أنّه قال ما ذكروه عنه - نجد لزاماً علينا التفريق بين نوعين من الناس، وما أسهل التفريق والتمييز بينهما.
وهما:
النوع الأوّل:
نوع قضى حياته في البحث والتمحيص، ونصرة هذا الدين، والذّب عن حياضه وتأييده، وتسديده بالدليل العلمي القاطع، والبرهان الساطع، وهو ملتزم بالطريق الوسطى التي هي الجادة، لا يكاد يحيد أو يشذ عنها حتّى يعود إليها...
ولا نشكّ في أنّ الشهيد مطهري هو من هذا الرعيل، وقد استحقرحمهالله
نتيجة لهذا الجهد الصادق والجهاد النقي أن ينال وسام الثناء العاطر من قِبل ذلك الرجل العظيم آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني (قدّس سرّه الشريف).
فإنّهرحمهالله
حين وجد حالة من الضياع لدى الشباب في قراءاتهم، وجَّههم لقراءة مؤلّفات الشهيد مطهريرحمهالله
، وكان توجيهاً صحيحاً وسديداً كما عوّدنا (رضوان الله تعالى عليه).
ولكنّ ذلك لا يعني أن يكون الشهيد مطهريرحمهالله
معصوماً عن الخطأ، مُبرّأً من الزلل، ولا أنّه قد أصاب كبد الحقيقة في كلّ كلمة قالها أو كتبها، ولا أن تكون كتبه هي والقرآن الكريم على حدّ سواء، أو أن تكون على حدّ كلام الأنبياء والأئمّة الأصفياء (عليهم الصلاة والسّلام).
بل قد يُخطئ المطهري في الاُمور العلمية كما يُخطئ غيره فيها، خصوصاً في أوائل حياته العلمية، ولأسباب عديدة اُخرى قد نُشير إلى بعضها.
ولكنّ المسار العام لهذا الشهيد السعيد هو مسار الصدق والاستقامة على جادة الحقّ، والاهتمام بالبحث والتمحيص، كما أنّ سمته العامة هي اعتماد الدليل والبرهان سنداً ومعتمداً في معظم أطواره، وفي اختيار الأعم الأغلب من أفكاره.
وذلك يفيدنا أنّه حين يُخطئ؛ فإنّ ذلك لا يكون منه عن سوء نيّة، ولا عن خبث طويّة، ولا لدوافع شخصانيّة، ولا لعُقد نفسيّة.
النوع الثاني:
وثمّة نوع آخر من الناس قد عوّدنا على إثارة الاُمور بطريقة خطابيّة تعتمد التعميمات، وتنحو نحو الغموض، بل إنّك لا تكاد تعثر له في كلّ حياته العلميّة ولو على مورد واحد استقل ببحثه وتمحيصه، استناداً إلى الدليل العلمي.
رغم كثرة ما يُكتب ويُنشر، ويُنظم ويُنثر، غير أنّه يتميّز بسمات ثلاث:
الاُولى:
تصيُّد شواذ الأقوال من هنا وهناك، وقد يعثر على بعض أدلّتها الواهية فيبادر إلى اختلاسها، ثمّ هو يجمع بين متفرّقات تلك الأقوال، ويؤلّف بين مختلفاتها، مضيفاً لها ما جال في خواطره ممّا يسانخه أو يشاطره حالة الشذوذ، والبعد عن الحقيقة، وظهور الزيف والبطلان.
وقد يمتد به المدى إلى درجة أن يجتمع لديه ركام هائل يضم العشرات والمئات، بل وربما الآلاف من هذه المزاعم، ولا يدري هو ولا غيره أين سينتهي به المطاف في نهاية الأمر.
الثانية:
إنّك لا تجد عند هذا النوع من الناس إلاّ ادّعاءات عريضة، وخطابات رنّانة، وشعارات فضفاضة، وآراء تعدّ بالعشرات والمئات في مختلف شؤون الدين، قد شذّ فيها عن طريقة علمائنا الأبرار، وعن ثوابت المذهب وقطعياته، وحاول من خلالها أن يقتحم المسلّمات على حدّ تعبيره.
إلى جانبه سيل من التجريح، وطوفان من الإهانات، والسباب الممنهج والمميّز في عمل إرهابي قوي مدمّر، وصاعق ماحق، يختار مفرداته من قاموس مصطلحات خاص به، ويا ليتك تراه وهو يتألّق ويتأنّق عندما يصف مخالفيه بالتخلّف والعقدة، وبالحمار يحمل أسفاراً، وبالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وينسبهم إلى المخابرات الأمريكيّة والموساد، ويصفهم بأنّهم يكذبون، ويحرفون الكلام عن مواضعه، وأنّهم - حتّى مراجع الدين منهم - بلا تقوى، وبلا دين، وهلمّ جرّا...
ولكنّ الأمر بالنسبة إليه يختلف تماماً؛ حيث إنّه هو وحده المنفتح المتوازن، العاقل المفكر المجدّد، ورجل الحوار، وسطَّر ما شاءت لك قريحتك، واجترحه وهمك، ولامسه خيالك، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وما أروع وما أحلى كلمة الحوار وهو يديرها في فمه، وكأنّها قطعة حلوى، وما أرقاه من حوار!
قرأت آنفاً بعض مفرداته، وتلك هي حالاته، يرفض فيه مدّعيه أن يكتب حرفاً واحداً، ثمّ يرفض مناقشة أيّ من أفكاره أمام ثلّة من العلماء؛ ليكونوا الحكم والمرجع، ويصرّ على أن يكون حواراً في بيته، وخلف الجدران، ممهّداً له بتلك الأوصاف وبغيرها ممّا يطلقه على مخالفيه وناصحيه. فبورك من حوار، وحيهلا بداعيته، وحامل لوائه، ومطلق شعاراته!
ثمّ هو يشفع ذلك بالظهور، بلباس الصفح والتسامح، وبالمواعظ الرقيقة، إلى أن ينتهي الأمر بقراءته للآية الشريفة التي تجعل حاله مع مَنْ يخالفه الرأي كحال رسول اللهصلىاللهعليهوآله
مع المشركين، حيث يقول بصوت رقيق وأنيق، وبالإنصات له حقيق: «اللّهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون».
الثالثة:
إنّ هذا النوع من الناس الذي ربما لم يمارس أيّ عمل علمي تحقيقي، اللّهمّ إلاّ ما حاول أن يتخفّى خلفه ممّا يختلسه من هنا وهناك من أدلّة واهية لأقوال وأفكار خاطئة وشاذة، يستخدمها للتغطية على واقع لا نحبّ توصيفه، كما يستخدم اُسلوب إغراق الساحة بأسرها بسيل من الأوامر، وبطوفان من الزواجر والتوجيهات الفوقية التي تعني غيره فقط، ولا تعنيه هو بشيء؛ فتجده في مناسبة وبلا مناسبة لا يزال يردّد قوله:
إنّ علينا أن...
ويجب علينا أن...
ولا بدّ لنا من... وهلمّ جرّا
وتأتي هذه الأوامر والزواجر بعد هجمات ساحقة، وحملات ماحقة على هذا الشرق المتخلّف، وعلى المجتمع المسلم الجاهل والمعقد، إلى آخر مفردات قاموسه التي أصبحت معروفة ومألوفة.
والدليل على ما نقول: ما سوف نواجهه من لوم وتقريع واتهام من قبل محبّيه؛ لأجل نفس هذه الكلمات التي سيعتبرونها موجّهة إليه دون سواه، مع أنّنا لم نصرّح باسمه، ولا أشرنا إلى كتابه، ولا إلى غير ذلك ممّا يرتبط به.
الغاية تبرّر الواسطة عنده:
والغريب في الأمر أنّه يهاجم المنبر الحسيني وخطباءه بنفس الحدّة والشدّة، ويتهمهم بالكذب والتزوير وما إلى ذلك ممّا تقدم، مع أنّه يقول - ويا لسوء هذا القول وسوء آثاره -: إنّ الغاية تبرّر الوسيلة، أو الواسطة، لا بل تنظّفها!
بل هو يسجّل هذه القاعدة للناس في كتبه ومؤلّفاته.
وهي قاعدة خطيرة بما تمثّله من دعوة للناس - وخطباء المنبر منهم - إلى أن يمارسوا حتّى الكذب والتزوير والتحريف، وأيّ اُسلوب آخر، ويتقرّبوا بذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ ما دام أنّ الغاية شريفة ونبيلة ومقدّسة، وما دام الشرع يريدها كما هو الحال في إحياء ذكرى عاشوراء.
غير أنّنا رأينا أخيراً أنّه قد ألمح إلى تراجعه عن هذه القاعدة حين تحدّث عن إثبات الحقّ بأساليب الباطل، فقال: (إنّ الدعوة إلى الحقّ تُفترض أن تعتبر الحقّ هو العنصر الأساس في الوسيلة، والعنصر الأساس في النتيجة).
وإن كنا لا نستطيع أن نطمئن إلى أنّه قد تراجع حقّاً؛ وذلك لكثرة التناقضات التي اعتدنا صدورها منه، مع إصراره على إلزام الآخرين بكلّ أطرافها مع وضوحها لدى الجميع.
التوطئة والتمهيد
ومهما يكن من أمر فقد أُثيرت حول كربلاء وأحداثها، وما سبق ولحق ممّا له ارتباط بها - أُثيرت - ولا تزال عاصفة من التشويه المتعمّد، المستند إلى زعم تسلل عنصر الخرافة والكذب إلى ما ينقل من أحداثها، وقد نُسب إلى الشهيد مطهري مساهمة قويّة في هذا الاتجاه.
وقد أحببنا أن نسجّل موقفاً ممّا يجري، لعلّ الإمام الحسينعليهالسلام
ينظر إلينا نظرة الرحمة في يوم الشفاعة.
ولكنّنا قبل أن نبدأ الحديث عمّا قيل إنّه مكذوب وخرافة في حديث كربلاء، وقبل أن نناقش ما نُسب إلى الشهيد العلاّمة المطهّري حول الخرافات في عاشوراء، ولا سيّما حول قصة حضور ليلى في كربلاء التي أصبحت عنواناً ومفتاحاً ومدخلاً، ومناسبة ومبرّراً لإطلاق الاتهامات بالكذب والدجل لخطباء المنبر الحسيني، ثمّ رمي حديث كربلاء ومنبر عاشوراء بالاُسطورة والخرافة وما إلى ذلك.
نعم، إنّنا قبل أن نبدأ بالحديث عن ذلك نقدّم تمهيداً لعلّه يفيد في إيضاح مقصودنا، وذلك فيما يلي من صفحات.
والحمد لله، والصلاة والسّلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله الطاهرين.
2 ذي الحجة 1420هجري
جعفر مرتضى العاملي