كربلاء فوق الشبهات

كربلاء فوق الشبهات0%

كربلاء فوق الشبهات مؤلف:
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام

كربلاء فوق الشبهات

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
تصنيف: المشاهدات: 11986
تحميل: 5419

توضيحات:

كربلاء فوق الشبهات
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 16 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11986 / تحميل: 5419
الحجم الحجم الحجم
كربلاء فوق الشبهات

كربلاء فوق الشبهات

مؤلف:
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الأوّل:

للتمهيد وللإعداد فقط

بداية:

إنّنا قبل أن ندخل في موضوع البحث الذي نحن بصدده، نودّ التأكيد على عدّة اُمور ترتبط بشكل أو بآخر بموقفنا من أحداث كربلاء، وبطريقة تعاملنا مع ما يُنقل لنا من أحداث عاشورائية أو غيرها، وذلك ضمن النقاط التالية:

الاستهجان لا يصلح أساساً للرفض:

بديهي أنّ استهجان أمرٍ من الاُمور لا يصلح دائماً أساساً لردّه والحكم عليه بالبطلان إلاّ إذا نشأ هذا الاستهجان من آفة حقيقية يُعاني منها النصّ في مدلوله، توجب إثارة حالة من الشك والريب فيه.

أمّا إذا كان منشأ هذا الاستهجان هو عدم وجود تهيؤ نفسي وذهني لقبول أمرٍ ما، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على توفّر مناخ الوعي والاستيعاب للحقائق العالية، والمعاني الدقيقة، فإنّ هذا الاستهجان لا يصلح أساساً لإيجاد ولو ذرّة من الشك والريب والتردّد في صدقية النصّ، أو في أيّ شيء ممّا يرتبط به.

ولنأخذ مثالاً على ذلك تلك الاُمور التي ترتبط بمقامات الأولياء والأصفياء التي يحتاج وعيها وإدراك آثارها بعمق إلى سبق المعرفة اليقينية بمناشئها ومكوّناتها. وكذلك الحال فيما لو استند هذا الاستهجان إلى افتراضات غير واقعية، فيما يرتبط بالمؤثرات والبواعث والحوافز لنشوء حدث تاريخي مّا.

وفي كلتا هاتين الحالتين فإنّ المطلوب هو الإعداد الصحيح، والتشبث بالمعرفة اليقينية لكلّ العناصر المؤثّرة في تكوين التصوّر السليم، بعيداً عن أسر التصوّرات الارتجالية والخاطئة التي تدفع إلى الاستهجان غير المسؤول، ثمّ إلى الرفض غير المنطقي ولا المقبول.

وإنّ الإعداد القوي والرصين لإنجاز عمل معرفي، وتربية إيمانيّة وروحية، وإعداد نفسي يهيّئ لتحقيق درجة من الانسجام بين المعارف الإيمانيّة ويقينياتها، وبين ما ينشأ عنها من آثار وتجلّيات في حركة الواقع، وفي الوعي الرسالي للأحداث. نعم، إنّ الإعداد لإنجاز هذا المهمّ يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً، وله مقام الأفضلية والتقدّم بالقياس إلى ما عداه من مهام.

وبدون ذلك فإنّنا سنبقى نواجه حالة العجز عن التعبير الصادق والصريح عن تجلّيات الواقع، واستجلاء آفاقه الرحبة.

الحقد والتآمر على عاشوراء:

وإذا أردنا أن نقترب قليلاً من أحداث كربلاء الدامية فإنّنا نشعر أنّها مستهدفة من فئات شتى، ولأهداف شريرة متنوّعة؛ بإثارتهم أجواء مسمومة حولها، الأمر الذي يدعونا إلى المزيد من اليقظة والحذر، ونحن نواجه هذه الموجة الحاقدة التي ترفع في أحيان كثيرة شعارات خادعة، وعناوين طنّانة ورنّانة، وتتّخذ - أحياناً - لبوس الإخلاص والغيرة؛ للتستر على تآمرها القذر على هذا التراث الإيماني الزاخر بالعطاء الإلهي السني والمبارك.

ولكن، ورغم كيد الخائنين ومكر أخدان الأبالسة والشياطين، فإنّ عاشوراء ستبقى الشوكة الجارحة التي تنغرس في أحداق عيونهم التي أعماها كيدهم اللئيم، وطمسها حقدهم الخبيث.

لا بدّ من تحمّل المسؤولية:

ونحن في نفس الوقت الذي نرفض فيه كلّ هذا المكر الشيطاني والحقد الإبليسي، وكلّ هذا التجنّي على هذا الدين وأحكامه، ورسومه وأعلامه، فإنّنا نهيب بكلّ المخلصين من أبنائه أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في الدفاع عنه بصدق وبوعي، والعمل على قطع الطريق على كلّ اُولئك الحاقدين والمتآمرين؛ وذلك عن طريق نشر المعارف الصحيحة، وكشف زيف الشبهات التي يثيرونها بالاُسلوب العلمي الهادئ والرصين، وبالكلمة الرضيّة والمسؤولة.

وذلك يحتاج إلى التشمير عن ساعد الجدّ، والعمل الدائب في مجالات البحث العلمي، وتوفير وسائله وأدواته، وإفساح المجال لأصحاب الأقلام الواعية والنزيهة والمخلصة للمشاركة في إنجاز هذا الواجب الذي هو في الحقيقة جهاد في سبيل الله سبحانه، وما أشرفه وأجلّه من جهاد مبارك وميمون!

الحاقدون وهدم المنبر الحسيني:

ولقد تفطّن أعداء عاشوراء في وقت مبكر جدّاً إلى أنّ أنجع الأساليب وأقواها فتكاً في محاربة عاشوراء الإمام الحسينعليه‌السلام ، هو: هدم المنبر الحسيني المبارك؛ لأنّهم أدركوا أنّ المنبر الحسيني هو الذي يربّي الناس أخلاقياً، وإيمانياً، وسلوكياً، وعاطفياً، وعقائدياً، وهو الذي يمدّهم بالثقافات المتنوّعة، ويثير فيهم درجات من الوعي الرسالي، ويعمّق مبادئ عاشوراء في وجدانهم، ويعيدهم إلى رحاب الفطرة الصافية، وينشر فيهم أحكام الله، ويربّي وجدانهم وضميرهم الإنساني، ويصقل مشاعرهم، وينميّها ويغذيها بالمشاعر الجيّاشة والصادقة.

فإذا ما تمّ لهم تدمير المنبر الحسيني فإنّهم يكونون قد حرموا الناس من ذلك كلّه وسواه، وكذلك حرموهم من ثواب إقامة هذه الشعيرة الإلهية. وما أعظمه من ثواب، وأجلّها من كرامة إلهية سنيّة! وكان التشكيك بهذا المنبر الشريف وبما يُقال فيه من أبسط وسائل التدمير، وأقلّها مؤونةً، وأعظمها أثراً، وأشدّها فتكاً.

ولقد كان الأنكى من ذلك كلّه والأدهى هو أنّ بعض مَنْ يُفترض فيهم أن يكونوا حماة هذا الدين، والذابين عن حريمه، والمدافعين عن حياضه من العلماء الذين محضهم الناس حبّهم وثقتهم، وأخلصوا لهم لا لأجل أشخاصهم، وإنّما حبّاً وإخلاصاً منهم لدينهم ومعتقداتهم التي يرون أنّهم الأمناء عليها، والحريصون على حفظها ونشرها، إنّ هذا البعض قد أسهم عن غير عمد - وبعضهم عن عمد وقصد - في صنع هذه الكارثة التي من شأنها أن تأتي على كلّ شيء، كالنار في الهشيم.

فعملوا على إثارة شكوك الناس بخطباء هذا المنبر المقدّس، وفيما يقدّمونه من ثقافة عاشورائية، واتّهموهم بالكذب وبالتحريف، وبالافتعال المتعمّد للأحداث، كلّ ذلك ملفّع بأحكام عامة، وبمطلقات غائمة، وشعارات رنّانة، يغدقونها بلا حساب؛ إسهاماً منهم في زعزعة ثقة الناس بهذه المجالس؛ الأمر الذي لا يمكن أن يصبّ إلاّ في خانة الخيانة للدين، والاعتداء على عاشوراء وعلى الإمام الحسينعليه‌السلام في رسالته، وفي أهدافه الجهاديّة والإيمانيّة الكبرى.

إنّ الطريقة التي توجه فيها التهم إلى قرّاء العزاء توحي للناس بأنّهم - وحدهم - تجسيد للأُمّيّة والجهل، ولقلّة الدين، ومثال حيّ لأناس يعانون من الخواء من الأخلاق النبيلة، ومن الدين، ومن الفضيلة، ومن كلّ المعاني الإنسانيّة، وإنّ كلّ همّهم يتّجه إلى تزييف الحقائق، وتزيين الخرافات والأباطيل، واجتراح الأساطير للناس بلا كلل ولا ملل.

ولنفترض وجود بعض الهنات فيما يقرؤونه، ولسنا نجد من ذلك ما يستحق الذكر؛ فإنّ ذلك لا يبرّر لنا اتهامهم بوضع الأساطير والأباطيل؛ لأنّهم ينقلون ما وجدوه، ويتلون علينا ما قرؤوه، فإن كان ثمة من ذنب فإنّما يقع على غيرهم دونهم.

حجم التزوير:

وفي حين إنّنا لا ننكر وجود شاذّ نادر حاول أن يزوّر، أو يحرّف، أو يختلق أمراً، أو أن ينسج من خياله تصويراً لمشهد بعينه، لكنّنا نقول: إنّ هذا النوع من الناس في ندرته، وفي قلّته، وفي حجم محاولاته، وفي تأثيره أشبه بالشعرة البيضاء في الثور الأسود، فلا يمكن أن يبرّر ذلك إطلاق تلك الأحكام العامّة والشاملة الهادفة إلى نسف الثقة بكلّ شيء.

نقول هذا، وكلّنا شموخ واعتزاز لإدراكنا أنّ عاشوراء حدث هائل، بدأت إرهاصاته منذ ولد وحتّى قبل أن يولد الإمام الحسينعليه‌السلام ، واستمرت الارتجاجات التي أحداثها تتوالى عبر القرون والأحقاب، ولسوف تبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

وقد اشتمل هذا الحدث نفسه بالإضافة إلى إرهاصاته وتردداته وآثاره على مئات الحوادث والتفصيلات والخصوصيات، الصغيرة والكبيرة، والمؤثّرة على أكثر من صعيد، وفي أكثر من مجال.

ولكن، وبرغم هذا الاتّساع والشمول فإنّ أحداً لم يستطع، ولن يستطيع - مهما بلغ به الجد - أن يُثبت علميّاً أيّاً من حالات التزوير أو الخرافة، إلاّ الشاذّ النادر الذي يكاد لا يشعر به أحد بالقياس إلى حجم ما هو صحيح وسليم، رغم رغبة جهات مختلفة بالتلاعب بالحقيقة، وبالتعتيم عليها؛ وذلك لشدّة حساسية هذا الحدث، وتنوّع مراميه، وتشعّب مجالاته، واختلاف حالاته وتأثيراته.

وحتّى الذين يُنسب إليهم أنّهم أسهموا في إثارة هذه الحملة الشعواء يسجّلون هذه الحقيقة بوضوح ويعتزّون بها.

فيذكر الكتاب المنسوب إلى الشهيد المطهّري عن المرحوم الدكتور آيتي قوله: (إنّ تأريخ أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام يعتبر نسبة إلى كثير من التواريخ الأُخرى تاريخاً محفوظاً من التحريف، ومصاناً منه). وذلك إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ الله سبحانه قد حفظ هذا الدم الزاكي؛ ليكون هو الحافظ لهذا الدين، فأراد له أن يبقى مصوناً صافياً نقيّاً إلى درجة ملفتة وظاهرة.

ويتجلّى هذا اللطف الإلهيّ والعناية الربانيّة حين تُفاجِئُنا الحقيقة المذهلة، وهي أنّه حتّى تلك الموارد النادرة جدّاً التي يدّعيها هذا البعض لم تدخل في تاريخ كربلاء؛ لأنّها قد جاءت مفضوحة إلى درجة أنّها تُضحك الثكلى، وتدعو إلى الاشمئزاز والقرف.

وذلك من قبيل قولهم - كما سيأتي -: إنّ عدد جيش يزيد في عاشوراء كان مليوناً وستمئة ألف مقاتل، وإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد قتل منهم بيده ثلاث مئة ألف، وأنّ طول رمح سنان بن أنس الذي يُقال: إنّه احتزّ رأس الحسينعليه‌السلام ، كان ستين ذراعاً، وإنّ الله قد بعثه إليه من الجنة، وكذلك الحال بالنسبة لعرس القاسم.

وظهر بذلك مصداق قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحسينعليه‌السلام إنّه: «مصباح هدى، وسفينة نجاة».

فصدق الله، وصدق رسوله، وصدق أولياؤه الأبرار الطاهرون، والأئمّة المعصومون.

تمنّيات:

ويا ليت هذا الجهد الذي يصرفه ذلك البعض في سياق تشكيك الناس بالمنبر الحسيني قد صرفه ويصرفه باتّجاه توطيد ثقة الناس بهذا المنبر، ومضاعفة إقبالهم عليه!

ويا ليته يهتمّ أو يُسهم ولو لمرّة واحدة بعمل تحقيقي علمي يستند إلى الأرقام والدلائل والبراهين، ويكفّ عن ممارسة النقد العشوائي والتجريح والقمع!

ويا ليته أيضاً ولو لمرّة واحدة مارس عمليّاً تطوير أساليب المنبر الحسيني، وعمل على رفع مستوى العطاء فيه، وأسهم في تحاشيهم الوقوع في بعض السلبيات أو الأخطاء التي لم يزل يشنّع بها على جميع أهل هذا المنبر، والتي ربما تصدر عن قلّةٍ من خطبائه، ممّن لم تتوفّر فيهم شروطه، ولا بلغوا مستويات العطاء فيه.

لا يؤخذ البريء بالمسيء:

وإنّ من أبده البديهيات أنّ المجرم هو الذي يُعاقب، ولا يؤخذ غيره بجرمه. فلو افترضنا أنّ أحداً من الخطباء قد أساء إلى هذا المنبر، وارتكب من الأخطاء ما يفرض موقفاً بعينه، فإنّ المسؤولية الشرعيّة والإنسانيّة تقضي بحصر الأمر بخصوص ذلك الذي ارتكب هذا الأمر، ولا يجوز بأيّ حال من الأحوال إطلاق الكلام بنحو يثير أيّة علامة استفهام على مَنْ عداه. فإن كان ثمّة مَنْ كَذَبَ وزوّر فليُذكَر لنا اسمه، وإن كان ثمّة مَنْ اجترح الأساطير والخرافات فليُحدَّد للناس شخصه.

التهويل والاستنساب:

وفي سياق آخر فقد نجد لدى اُولئك الذين لا يمتلكون قدرة وجلداً على البحث والتحليل، والتتبّع والتمحيص توجّهاً نحو اُسلوب الاستنساب والمزاجية في اختيار النصوص، ثمّ في عرض الأحداث وترصيفها، وربط بعضها ببعض، فضلاً عن تحديد مناشئها والتكهّن بآثارها.

يُصاحب ذلك سعي للتحصّن خلف الادعاءات العريضة والشعارات، والتعميمات غير المسؤولة، من خلال تنميق العبارات، واختيار المصطلحات الباهرة والرنّانة.

وقد يستعملون إلى جانب ذلك اُسلوب التهويل والتعظيم، والتضخيم والتفخيم لاُمور جزئية وصغيرة، وربما تكون خارجة عن الموضوع الأساس، ثمّ تكون النتيجة هي استبعاد كثير من النصوص الصريحة والصحيحة، والتشكيك بأحداث أو بخصوصيات لم يكن من الإنصاف التشكيك فيها، ثمّ استنساب نصّ بعينه هنا، وعدم استنساب نصّ آخر هناك؛ الأمر الذي ينتهي بجريمة - ولا أعظم منها - في حقّ دين الله، وفي حقّ أصفيائه وأوليائه، وبالتالي في حقّ عباده أيّاً كانوا، وحيثما وجدوا.

وبالنسبة لقضية كربلاء بالذّات، فإنّ الجريمة ستكون أكثر فظاعة وهولاً حتّى من جريمة يزيد؛ لأنّ يزيد (لعنه الله) إنّما قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهؤلاء إنّما يحاولون قتل إمامة الحسينعليه‌السلام ، والقضاء على كلّ نبضات الحياة في حركته الجهاديّة؛ ليكونوا بذلك قد أحرقوا سفينة النجاة، وأطفؤوا مصباح الهدى، أو هكذا زيّن لهم.

علينا أن نخطط للبكاء في عاشوراء:

أمّا بالنسبة للبكاء على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسّلام) فما هو إلاّ للتعبير عن توفّر حالة من الإثارة العاطفيّة التي تعني استجابة المشاعر والأحاسيس ليقظة وجدانية، وحياة ضميرية، أثارتها مأساة لا يجد أحد في فطرته، ولا في عقله، ولا في وجدانه أيّ مبرّر لها.

إذاً فحياة الوجدان ويقظة الضمير تجعل المنبر الحسيني قادراً على الإسهام الحقيقي في صنع المشاعر، وفي صقلها وبلورتها؛ باعتبارها الرافد الأساس للإيمان، والحافظ له من أن يتأثّر بالهزّات، أو أن ينهار أمام الكوارث والأزمات.

هذا الإيمان الذي يفترض فيه أن يكون مرتكزاً إلى الرؤية اليقينيّة، وإلى الوضوح والواقعية؛ لأنّ الفكر الذي لا يحتضنه القلب ولا ترفده المشاعر لن يتحوّل إلى إيمان راسخ، ولن يكون قادراً على أن يفتح أمام هذا الإنسان آفاق التضحية والفداء، والإيثار والجهاد، وسائر المعاني والقيم الكبرى التي يريد الله للإنسان أن يقتحم آفاقها بقوّة وعزيمة، وبوعي وثبات.

وذلك يحتّم علينا - إذا كنّا نشعر بالمسؤولية - أن نخطّط لهذا البكاء الذي يُحيي الضمير ويُطلق الوجدان من أسر الهوى، ومن عقال الغفلات، ويبعده عن دائرة الهروب واللامبالاة، كما خطّط الأئمّةعليهم‌السلام لذلك حين أقاموا مجالس العزاء هذه، بل لقد روي أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام قد شارك دعبلاً ببيتين من الشعر يكون بهما تمام قصيدته، بما لها من المضمون الحزين المثير للبكاء.

ولتكن قصّة ذبح إبراهيم لإسماعيلعليهما‌السلام ، وقصّة حجر بن عدي الذي عمل على أن يقتل ولده قبله، وكذلك الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيتهعليهم‌السلام في كثير من مفردات كربلاء، ثمّ ما جرى على سيّدة النساء، وعلى أمير المؤمنين، وعلى الإمام الحسنعليهم‌السلام ، وسائر مواقف الجهاد والتحدّي. نعم، ليكن ذلك كلّه وسواه هو تلك الوسائل والمفردات التي أراد الله لها أن تخدم ذلك الهدف السامي والنبيل.

الارتفاع إلى مستوى الخطاب الحسيني:

وبعد، فإنّ علينا أن نرتفع بالناس إلى مستوى الخطاب الحسيني من خلال تبنّي مناهج تربويّة وتثقيفية في مجالات العقيدة والإيمان، تهتم بتعريف الناس على المعايير والضوابط المعرفية والإيمانيّة، وتقدّم لهم ثقافة تجعلهم يطلّون من خلالها على مختلف حقائق هذا الدين، وعلى آفاقه الرحبة، وليميّزوا من خلال هذه الثقافة بالذّات بين الأصيل والدخيل، وبين الخالص والزائف في كلّ ما يُعرض عليهم أو يواجههم في مختلف شؤون الدين والتاريخ والحياة.

وليخرجوا بذلك عن أسر هذا الذي اُدخل في وعيهم عن طريق التلقين الذكي: إنّ الإسلام مجرّد سياسة واقتصاد، وعبادة وأخلاق، وعلاقات اجتماعيّة، فهو أشبه بالقانون منه بالدين الإلهي؛ لأنّ هذا الفهم يهيِّئ لعملية فصل خطيرة للشريعة عن واقع المعارف الشاملة والمتنوّعة التي ترفد ذلك كلّه وسواه، وتشكّل - بمجموعها - قاعدة إيمانيّة صلبة، تفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً يشتاق إلى اقتحامها، وتعطيه مزيداً من الإحساس بالغيب، والمزيد من الأهلية والقدرة على التعامل معه، وإدخاله إلى الحياة ما دام إنّ الإنسان لن يسعد ولن يذوق طعم الحياة الحقيقية بدونه.

وإنّ أبسط ما يفرضه علينا هذا الأمر هو أن لا نقدّم الأئمّةعليهم‌السلام للناس على أنّهم مجرّد شخصيات تتميّز بالذكاء الخارق، والعبقرية النادرة، قد عاشت في التاريخ، وكانت لها سياساتها، وعباداتها، وأخلاقها، وعلاقاتها الاجتماعيّة، ثمّ(ما وراء عبادان قرية) .

بل علينا أن نعرّفهم لهم بأنّهم فوق ذلك كلّه؛ إنّهم أُناس إلهيون بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، وأن نلخّص لهم - وفق تلك البرامج التثقيفية والتربويّة التي أشرنا إليها - كلّ المعارف التي وردت في كتاب الكافي الشريف، وفي كتاب البحار على سبيل المثال، ولو على سبيل الفهرسة الإجمالية للمضامين لتمرّ على مسامعهم أكثر من مرّة إن أمكن؛ لأنّ المعصومينعليهم‌السلام ما قالوا شيئاً ليبقى مغيّباً في بطون الكتب والموسوعات، بل أرادوا له أن يصل إلينا، وأن يدخل في حياتنا ويُصبح جزءاً من وجودنا كلّه.

فلا بدّ إذاً من إعداد ذهنيّة الإنسان المسلم، وروحه وعقله، لتقبّل هذه المعارف، وللتعامل معها من خلال معاييرها ومنطلقاتها الإيمانيّة والعلمية الصحيحة.

كما إنّ ذلك يُعطي الفرصة للإنسان المؤمن ليستمع أو يطّلع على الكثير ممّا قاله قرآنه وأنبياؤه وأئمّته المعصومون عن السماء والعالم، وعن الخلق والتكوين، وعن الآخرة والدنيا، وعن كلّ شيء. نعم كلّ شيء. ولسوف يجد في ذلك كلّه ما يحفّزه للسؤال عن المزيد، ويفتح أمام عينيه آفاقاً رحبة، يجد نفسه ملزماً باستكناه كثير من جوانبها، واكتشاف ما أمكنه اكتشافه من حقائقها.

اُسلوب الانتقاء إدانة مُبطّنة:

وغني عن القول: إنّ انتهاج اُسلوب الانتقاء والاستنساب العشوائي الذي قد يكون خاضعاً لظرف سياسي أو نفسي، أو لقصور في الوعي الديني، أو لغير ذلك من اُمور، إنّ انتهاج هذا الاُسلوب من شأنه أن يُعطي الانطباع السيِّئ عن كثير من مفردات الثقافة الإيمانيّة الصحيحة من خلال ما يستبطنه من إدانة، أو اتّهام لكلّ نصّ لم يقع في دائرة الاستنساب هذه؛ الأمر الذي ينتهي بحرمان الآخرين من فرصة التفكير المنطقي في شأن التراث بالاستناد إلى المبرّرات العلمية، والتزام الضوابط والمعايير المقبولة والمعقولة، بعيداً عن أيّ إيحاء يهيّئ لحالة نفرة غير منطقية من كثير من النصوص التي تواجهنا ونواجهها في سيرتنا الثقافية والإيمانيّة.

وكذلك بعيداً عن كلّ أساليب التهويل والتضخيم حتّى ولو بالصوت الرنّان، والنبرات الحادة، وعن تهويلات وإيحاءات اليد في إشاراتها وحركاتها، والوجه في تقبّضاته وتجهّماته، فضلاً عن اللسان ولذعاته، وما إلى ذلك من اُمور؛ فإنّ ذلك لن يفيد شيئاً في تأكيد حقّانية أمر وفرض الالتزام به، ولا في استبعاد ما عداه والتنكّر له. بل تبقى الكلمة الفصل للفكر الأصيل، وللبحث الموضوعي، وللدلائل والشواهد القوية والحاسمة.