الفصل الثاني:
الخرافات والأساطير في عاشوراء
الأساطير والحقائق في عاشوراء:
قد نُسب إلى الشهيد السعيد العلاّمة الشيخ مرتضى مطهّري أنّه ساق طائفة من الموارد التي اعتبرها مصنوعة وموضوعة اُضيفت إلى تاريخ عاشوراء بعد أن لم تكن. وحين تتبّعناها وجدنا أنّ القسم الأعظم منها لا يمكن قبول هذا الحكم القاسي عليه.
ونستطيع أن نُقسّم ما نُسب إليهرحمهالله
إلى أقسام ثلاثة، هي:
1 - ما هو مكذوب بالفعل ممّا يرتبط بالسيرة الحسينيّة، ويتحدّث عن أحداث كربلاء، أو عن ما يتّصل بها من المبدأ إلى المنتهى.
2 - ما لا يصح الحكم عليه بأنّه مكذوب من تلك الأحداث العاشورائية، أو ما يتّصل بها، ممّا سبقها ولحقها.
3 - ما لا يرتبط بأحداث عاشوراء، ولا يتعرّض لما سبقها ولحقها في شيء، وإنّما هو اُمور يدّعى أنّها حصلت بعد عشرات السنين، قد يكون منها السليم والسقيم؛ سواء أكان يدخل في نطاق الكرامات، أو المنامات، أو الأحداث، أو غيرها، مثل قصّة قاطع الطريق ومنامه حول غبار زوار الإمام الحسينعليهالسلام
، وما أشبهها من قصص وحكايات.
ولا يعنينا هنا هذا القسم الأخير في شيء، ولا يهمّنا تمييز الصحيح منه من غير الصحيح، والحقيقة من الاُسطورة فيه.
أمّا القسمان الأوّلان فنحن نختصر الحديث عن كلّ واحد منهما بطريقة واضحة وصريحة تضع النقاط على الحروف، فنقول:
القسم الأوّل: المكذوب والمختلق
إنّ عدداً من تلك الموارد التي أشار إليها الشهيد المطهّريرحمهالله
- على ما نُسب إليه في الملحمة الحسينيّة - هي أشبه بالقصص التي تنتجها أوهام الكذّابين حينما يتبارون فيما بينهم في مجال اجتراح حكايا التضخيم والتهويل؛ لغرض التسلية والتباهي الفارغ.
وهي قصص قاصرة عن أن تصبح تاريخاً يألفه العقلاء، أو يُدخِلها الكتّاب والمؤلّفون ولو في دائرة الاحتمالات البعيدة لتشكلات عناصر الحدث التاريخي.
وقد نُسب إلى الشهيد السعيد أنّه ذكر طائفة من هذا القسم، وأنّه قد أقام الدنيا ولم يكد يقعدها في هجمات صاعقة ماحقة تُثير رياحاً عاصفة هوجاء، وأجواء محمومة ومخيفة.
مع أنّ الأمر أبسط من ذلك؛ فإنّ أكثر هذه الأكاذيب لا يمكن أن يدخل في وجدان أو في عقل أيّ إنسان مهما كان أُمّيّاً وجاهلاً، وحتّى ساذجاً أيضاً. وبعضها الآخر يكتشِف زيفه أيّ كان من الناس بأدنى مراجعة للكتب الحديثيّة والتاريخيّة.
وهذه الموارد هي التالية:
1 - إنّ طول رمح سنان بن أنس (لعنه الله) - والذي يُقال: إنّه هو الذي احتز رأس الإمام الحسينعليهالسلام
- ستون ذراعاً، وإنّ هذا الرمح قد بعثه الله إليه من الجنة.
2 - إنّ عدد الذين حاربوا الإمام الحسينعليهالسلام
كان ستمئة ألف من الخيّالة، ومليوناً من المشاة، أو إنّ عددهم ثمانمئة ألف، وإنّ الإمام الحسينعليهالسلام
قد قتل منهم ثلاثمئة ألف، وقتل العباس منهم خمسة وعشرين ألفاً.
وفي حديث آخر لهم أنّ الإمام الحسينعليهالسلام
قد قام بعدّة حملات، يقتل في كلّ حملة منها عشرة آلاف.
مع أنّ النصّ التاريخي المعتمد يقول: إنّ عدد جيش يزيد (لعنه الله) كان ثلاثين ألفاً أو ثمانين، أو مئة ألف في أكثر الروايات.
كما إنّ المسعودي في إثبات الوصية يقول: إنّ مَنْ قتلهم الإمام الحسينعليهالسلام
بيده هم 1800رجلاً، وذكر محمّد بن أبي طالب أنّ عددهم هو 1950رجلاً.
3 - إنّ هاشم المرقال قد حضر واقعة كربلاء.
ومن الواضح: إنّ هاشماًرحمهالله
قد استشهد في حرب صفين التي سبقت واقعة كربلاء بنيف وعشرين سنة.
وإن كنّا نحتمل أن يكون ثمة سقط من الرواية بحيث يكون الحاضر في كربلاء هو أحد أبنائه؛ فسقط المضاف وبقي المضاف إليه، والإسقاط في الروايات يحصل بكثرة، ولكنّ قولهم: إنّ لحربته ثمانية عشر شقاً يبقى بلا معنى مفهوم.
4 - عرس القاسم: فإنّه أيضاً من الاُمور التي قد لا نجد لها مبرّراً مقبولاً أو معقولاً.
5 - إنّ طول يوم عاشوراء (70) ساعة، حيث يمكن عدّ هذا الأمر من هذا القسم أيضاً.
6 - وقد تكون قصّة ترتيب الإمام السجادعليهالسلام
لأحذية الحاضرين في مأتم الإمام الحسينعليهالسلام
من هذا القبيل كذلك.
النتيجة:
فتلاحظ قارئي العزيز أنّ عدد ما يصح اعتباره مكذوباً ممّا يتّصل بأحداث عاشوراء، وما سبقها وما لحقها ممّا يرتبط بهذا الحدث العظيم لم يتجاوز الستة موارد، بل هو قد لا يصل إليها ما دام إنّ بعضها لا يستحيل ثبوته وإثباته إذا توفّرت المرونة العلمية اللازمة لذلك.
القسم الثاني: ما لا مبرّر لتكذيبه
وأمّا ما لا نجد مبرّراً مقبولاً للحكم عليه بأنّه مكذوب ومفتعل، سوى مجرّد الاستبعاد الذي لا يستند إلى دليل، أو إنّ دليله ضعيف ومردود، أو إنّه يحتاج إلى المزيد من التقصِّي والتتبّع والشواهد والدلائل، فهو الموارد التالية:
1 - ما نُسب إلى الشهيد المطهّري من أنّه قال: (ليس صحيحاً بأنّهم لم يذوقوا طعم الماء لثلاثة أيام متوالية كما يدّعي أصحاب الأساطير).
وحجّته على ذلك: إنّهم وإن كانوا قد مُنِعوا عن الوصول إلى الشريعة، لكنّهم بفضل العباس استطاعوا الوصول إلى الشريعة وجلب الماء، لا سيّما ليلة العاشر من المحرّم؛ حيث استطاعوا الاغتسال في تلك الليلة.
ونقول:
أوّلاً:
لا ندري كيف اغتسلوا في تلك الليلة، وصرفوا جميع ما عندهم من ماء، وهم يعلمون أنّهم محاصرون ممنوعون من الماء؟! فلماذا لم يحسبوا لهذا الأمر أيَّ حسابٍ وهم يعرفون أنّ معهم أطفالاً ونساءً وشيوخاً؟!
ثانياً:
قد عرفنا أنّ سبب استشهاد العباسعليهالسلام
هو محاولته جلب الماء من الشريعة، فخرقوا قربته وقطعوا يديه... إلى آخر ما هناك ممّا هو معروف ومشهور، وفي كتب التاريخ مسطور، وقد ذكره أيضاً نفس مؤلّف كتاب الملحمة في نفس الجزء والصفحة.
وواضح أنّه لو كان العباس (رضوان الله تعالى عليه) قد بذل أيّة محاولة قبل ذلك الوقت لكان قد تعرّض للممانعة الشديدة من قبل أربعة آلاف فارس، كان ابن سعد قد وكّلهم بالشريعة؛ لمنعه عن الاستقاء منها، ولكانت القربة خُرقت، والجريمة في حقّه ارتُكبت.
2 - دعوى قدوم السيدة زينب ووقوعها على جسد أبي عبد الله وهو يحتضر، وقيل: فرمقها بطرفه، وقال لها أخوها: «ارجعي إلى الخيمة؛ فقد كسرتِ قلبي، وزدتِ كربي».
ولا ندري لماذا تُجعل هذه الحادثة من الوقائع الكاذبة والمحرّفة، إلاّ إذا كان الكاتب ومَنْ سبقه يعتبر أنّ كلام الإمامعليهالسلام
الموجه لها يدلّ على أنّها قد أساءت في مجيئها إليه؟!
والحقيقة هي: إنّه لا يدلّ على أكثر من أنّهعليهالسلام
قد رثى لحالها، وتألّم لما يجري لها.
كما إنّ نفس مؤلّف كتاب الملحمة الحسينيّة سيقول لنا: إنّ الإمامعليهالسلام
كان يتعمد صنع مشاهد كربلائيّة دمويّة وغيرها؛ من أجل الإعلام للحركة الجهاديّة المباركة التي يخوضها.
3 - قصّة زيارة الأربعين، حيث عرج الأسرى على كربلاء في العشرين من صفر، أي بعد أربعين يوماً من الوقعة. فإنّ هذا الأمر لم يذكره إلاّ السيد ابن طاووس في اللهوف، ونقله من بعده ابن نما في كتابه مثير الأحزان، وقد تمّ تأليفه بعد وفاة ابن طاووس بأربعة وعشرين عاماً.
بالإضافة إلى أنّه ليس هناك أي دليل عقلي على حصولها، وأنّ الطريق إلى المدينة لا يمرّ عبر كربلاء، بل يفترق عنه من الشام نفسها.
ونقول:
أوّلاً:
إنّ اعتبار هذا الأمر من جملة المكذوب والمحرّف؛ لمجرّد عدم وجدانه في كتب من عدا ابن طاووس، لا يدلّ على عدم الوجود، فلعلّ السيد ابن طاووس قد نقل ذلك عن كتب لم تصل إلينا.
ثانياً:
إنّ شأن السيد ابن طاووس أجلّ من أن يُتّهم باختراع الأكاذيب.
ثالثاً:
هل الحدث التاريخي يحتاج إلى دليل عقلي يدلّ على حصوله؟
رابعاً:
هل الطريق إلى كربلاء الذي يفترق عن طريق المدينة من الشام هو نفسه الذي كان يسلكه أهل ذلك الزمان؟! وهل كان هو الطريق الوحيد الذي يسلكه المسافرون إلى هذين البلدين؟!
خامساً:
لقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله تعالى) بسنده عن فاطمة بنت علي (صلوات الله وسلامه عليهما) نصاً يقول: (ثمّ إنّ يزيد (لعنه الله) أمر بنساء الحسينعليهالسلام
فحُبسنَ مع علي بن الحسين في محبس لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ حتّى تقشرت وجوههم إلى أن تقول: إلى أن خرج علي بن الحسينعليهالسلام
بالنسوة، وردّ رأس الحسين إلى كربلاء).
وصرّح البيروني - المتوفّى سنة 420 هـ - أنّ الرأس رُدّ في العشرين من صفر، وكذا قال غيره؛ كابن حجر، والقزويني المتوفّى سنة 682 هـ.
فالقزويني معاصر لابن طاووس تقريباً، والبيروني متقدّم عليه بحوالي 250 سنة.
ومن الواضح أنّ الأسرى لم يبقوا في الشام إلى السنة الثانية، بل عادوا في نفس السنة، بل عن مصباح المتهجّد أنّهم وصلوا إلى المدينة في يوم العشرين من صفر، فكيف ينسبون إلى الشهيد أنّه قال قوله: إنّ أوّل مَنْ تحدّث عن ذلك هو ابن طاووس.
4 - حكاية حامل الرسالة إلى الإمام الحسينعليهالسلام
بالمدينة، حيث إنّه حين مجيئه إليه صادف أن رأى خروجه إلى مكة، وحوله بنو هاشم، وحولهم الرجال والحراس، والأحصنة المزيّنة المحمّلة بالأمتعة وأنواع الديباج والحرير.
ونقول: إن كانرحمهالله
قد حكم على هذه الرواية بالوضع والتحريف لجهة أنّ الإمامعليهالسلام
لم يخرج معلناً كما يُفهم من هذه الرواية، وإنّما خرج خائفاً يترقّب، فإنّ حديث هذا الرسول لا ينافي سرّية الخروج؛ لأنّ اجتماع بني هاشم حول الإمامعليهالسلام
حين خروجه بعياله لا يمنع من كون الاجتماع سرّياً بالنسبة للهيئة الحاكمة.
وإن كان حكمه عليها بذلك بسبب ذكر الديباج والحرير، فذلك لا يعني أنّ الإمامعليهالسلام
قد لبس ذلك الحرير وارتكب بذلك محرّماً، بل هو لا يعني أنّ ذلك الديباج والحرير كان ملكاً لهعليهالسلام
، فلعلّه لبعض مَنْ معه من الرجال أو النساء.
5 - دعوى أنّ الحوراء زينب قد خرجت ليلة العاشر فاطّلعت على اجتماعين: أحدهما لبني هاشم، والآخر للأصحاب، يظهرون فيهما استعدادهم للحرب؛ فأخبرت أخاها الحسينعليهالسلام
بذلك.
ولا ندري لماذا يحكون على هذه القضية بأنّها مكذوبة أو محرّفة؟!
6 - مجيء زينب إلى أخيها الحسينعليهالسلام
وهو صريع يجود بنفسه، فرمت بنفسها عليه، وهي تقول: أنت أخي! أنت رجاؤنا! أنت كهفنا! أنت حمانا!
ولا نعلم سبب عدّهم هذه القضية أيضاً من الأكاذيب؛ فإنّ الإمام الحسينعليهالسلام
كان يهتم برسم المشاهد العاطفيّة؛ انسجاماً مع رسالته الإعلاميّة حسبما ذكره الكتاب المنسوب إلى الشهيد المطهّري، والمسمّى باسم (الملحمة الحسينيّة).
7 - دعوى أنّ الإمامعليهالسلام
قد دخل على ولده السجّادعليهالسلام
بعد استشهاد أهل بيته وأصحابه، وصار الإمام السجّادعليهالسلام
يسأله عمّا جرى وعن الأصحاب فرداً فرداً، وجواب الإمامعليهالسلام
له بأنّ الحرب قد وقعت، وأنّه لم يبقَ من الرجال غيرهما، ممّا يوحي بأنّ الإمام السجّادعليهالسلام
لم يكن واعياً لِما كان يجري.
وما المانع من حدوث هذه الأسئلة بهدف إظهار حجم المأساة، وتقرير وقائعها، ولغير ذلك من أهداف؟ فإنّ ذلك لا يستدعي الحكم على الإمامعليهالسلام
أنّه كان فاقداً لوعيه.
8 - دعوى عدم وجود أحد من أصحاب الإمام الحسينعليهالسلام
ليقدّم له جواده، فقامت السيدة زينب بذلك، وكذلك الحوار الذي جرى له معهاعليهماالسلام
.
والحديث عن هذه القضية أيضاً يُعلم ممّا قدّمناه في سابقاتها.
9 - إنّ زينب أثناء وداعها لأخيها تذكّرت وصية أُمّها بأن تقبّلهعليهالسلام
في هذا الموقف في عنقه، فقبّلته في هذا الموضع نيابة عنها، مع أنّ عمر العقيلة لدى وفاة أُمّها الزهراء لم يكن يتجاوز الخمس سنوات.
ونقول: إنّنا لا نرى مانعاً من أن تعي العقيلة وصيّة أُمّها وهي في هذا السن المبكّر، وهي التي شهد لها الإمام السجّادعليهالسلام
بتميّزها العظيم حين قال لها: «أنتِ بحمد الله عالمة غير معلّمة، فهمة غير مفهمّة».
والطفل يتذكّر أشياء كثيرة، خصوصاً ما له جهة عاطفية، فكيف إذا كان هذا الطفل هو السيدة زينبعليهاالسلام
؟!
10 - حكاية عدم انطلاق الفرس مع الإمام الحسينعليهالسلام
إلاّ بعد وصول أحد أطفال أهل البيت، ولقائه بالحسينعليهالسلام
.
وما المانع من ذلك إذا كان الله يريد إظهار هذا الجانب العاطفي بواسطة هذه الكرامة في هذه اللحظات الحرجة؟!
11 - قدوم أبي حمزة الثمالي إلى بيت الإمام السجّادعليهالسلام
، ففتحت له الجارية التي فرحت بقدومه؛ لأنّه سيسلّي الإمام المضطرب، والغائب عن الوعي، فدخل على الإمامعليهالسلام
وصار يواسيه، فأخبره الإمام بحال الأسرى من النساء والأهل والأطفال.
ونقول: ما المانع من صحة هذه الرواية، وما هو السبب في اعتبارها خرافة؟! اللّهمّ إلاّ عبارة (المضطرب والغائب عن الوعي) التي نحتمل احتمالاً قوياً أن يكون ذلك سوء تعبير من الراوي.
كما إنّه قد يكون تعبيراً منها عن شدّة الأسى الذي كان يظهر على الإمام إلى درجة أنّه كان لا يهتمّ بما تهتمّ به تلك الجارية، ولا يدير له بالاً.
12 - حكاية حضور هشام بن الحكم لمجلس عزاء، ثمّ أخبر الإمام الصادقعليهالسلام
بالأمر، فأعلمهعليهالسلام
أنّه كان حاضراً في ذلك المجلس دون أن يراه أحد. وذكر له الإمامعليهالسلام
كشاهد على ذلك أنّ رداءه قد وقع عن كتفه عند الباب في حال خروجهم من ذلك المجلس؛ فعرف هشام صحة ذلك.
ولا ندري أيضاً سبب الحكم على هذه الرواية بأنّها مكذوبة! وما المانع من صحتها؛ فإنّ للأئمّةعليهمالسلام
كرامات أعظم من ذلك؟!
13 - اختلاق بنات من الذرّيّة الطاهرة، لا سيّما لأبي عبد اللهعليهالسلام
، ومنهنّ مَنْ قالوا: إنّها بقيت في المدينة، وأُخرى زوّجوها في كربلاء، وثالثة أماتوها من العطش؛ تصديقاً لكلام جبرائيل صغيرهم يميتهم العطش، وأُخرى قُتلت في ساحة الوغى مثل عبد الله بن الحسن.
ونقول: إنّ مراجعة التواريخ التي هي في أعلى درجات الاعتبار عند هؤلاء تظهر لكلّ أحد إلى أيّ حدّ بلغت الاختلافات والأقوال المتهافتة وغير المتهافتة في مثل هذه الاُمور التي يقع الرواة في الوهم والخطأ والخلط فيها، وفيما بينها لأكثر من سبب.
كما إنّ الوهم والخلط قد يقع في أزمنة متأخّرة عن عصر الرواة؛ بسبب خطأ النسّاخ، وما يقع من سقط وتصحيف وذهول أثناء نسخهم الكتب وما إلى ذلك. ولو كان هذا سبباً للحكم على المؤلّفين بالكذب لم يبقَ لنا كتاب نعتمد عليه.
14 - قصّة الطفل الذي كان لأبي عبد الله الحسينعليهالسلام
في الشام، وكيف أنّه أراد رؤية أبيه، فجاؤوه برأس الحسينعليهالسلام
ومات هناك كما عن (نَفَس المهموم).
ونقول: لعلّ سبب حكمهم على هذه القضية بالكذب أنّهم يعتقدون أنّه لم يبقَ للإمام الحسينعليهالسلام
ولد بعد واقعة عاشوراء إلاّ الإمام السجّادعليهالسلام
.
وجوابنا: إنّ ذلك لا يوجب ردّ هذه الرواية والحكم عليها بالاختلاق؛ لاحتمال وجود تحريف أو إسقاط فيها بحيث يكون الطفل المذكور ليس من أولادهعليهالسلام
، بل يكون أحد أبناء الشهداء من أهل بيته (صلوات الله وسلامه عليه)، وما أكثر ما يحصل من هذا القبيل.
15 - الطفل الأسير الذي سحله (أي سحبه) أحد الفرسان بواسطة الخيل حتّى خُنق ومات.
ولا ندري ما هو المانع من أن تكون هذه القصّة صحيحة أيضاً؛ فإنّ الحديث فيها لا يبعد عن الحديث في سابقاتها.
16 - قصّة الفتاة اليهوديّة المشلولة التي شُفيت بتزريق الطير نقطة من دم الحسينعليهالسلام
في بدنها.
17 - قصّة بقاء فاطمة الصغرى في المدينة، وإبلاغ الطير الأخبار لها.
فإنّ هاتين الحادثتين ربما يكون لهما نصيب من الصحة حتّى لو أمكنت المناقشة في بعض الخصوصيات المذكورة فيهما.
18 - بعض القراءات أو العبارات التي ترد في المآتم، التي تظهر أهل البيت أو أصحاب الحسينعليهمالسلام
يلتمسون شربة الماء بكلّ ذلّ من الأعداء.
وقد تقدّم أنّ الإمام الحسينعليهالسلام
كان يهتمّ بإظهار الحالة المأساوية، ومستوى الإجرام لدى اُولئك المجرمين الحاقدين، وكذلك بإظهار مقامات الصبر والتحدّي، والتحمّل واليقين والمعرفة بالله لدى أصحابه.
وهذه هي الحقيقة التي أكّدها الكتاب المنسوب للشهيد المطهّري نفسه؛ حيث قال: التكتيك الخامس كان في خلقه وإيجاده لمشاهد أكثر مساعدة لإيصال رسالته التبليغية؛ وذلك من خلال صبغ المشاهد الحساسة للمعركة بلون الدم القاني؛ كرمي دم الرضيع نحو السماء، وقولهعليهالسلام
: «عند الله أحتسبه»، ومن ثمّ تخضيب وجهه ورأسه بذلك الدم، وقوله: إنّه يريد لقاء الله بتلك الحالة، وإلى جانب ذلك يمكن ذكر مشاهد عناق الإمام للقاسم، ولحبيب بن مظاهر.
وقد تكرّر هذا المعنى أكثر من مرّة في هذا الكتاب فراجع.
بل يقول: إنّ واقعة الإمام الحسينعليهالسلام
يبدو أنّها جاءت لتعبّر عن عرض مسرحي حماسي ونهضوي، ومأساوي وعظي، وتبلور للعشق الإلهي، والمساواة الإسلاميّة، والعواطف الإنسانيّة، وكلّ ذلك في أعلى أوج ممكن... إلخ.
19 - حديث وجود ليلى في كربلاء، وسيأتي الحديث عن ذلك بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
خلاصة وبيان:
ونعود إلى التذكير هنا بعدّة أمور:
أوّلها:
إنّ من الواضح أنّه إن كان ثمة من مكذوب في حديث كربلاء فهو الشاذّ النادر جدّاً، والقليل الذي لم يستطيعوا رغم كلّ ما بذلوه من جهد وعناء أن يبلغوا به إلى عدد أصابع اليدين، بل هو ربما لا يصل إلى ستة موارد في قضية تزيد أحداثها، وما سبقها ولحقها ممّا يتّصل بها على العشرات والمئات، خصوصاً فيما يرتبط بالجزئيات والتفاصيل.
وقد جاء هذا المكذوب مفضوحاً مقبوحاً، شواهد الكذب ظاهرة عليه ظهور الشمس في رابعة النهار، ولا يكاد يخفى ذلك على ذي مسكة.
كما إنّه لم يدخل في ثقافة الناس، ولن يتسنّى له الدخول، ولن يكون جزءاً من تاريخ عاشوراء في أيّ وقت؛ فلا يستحق كلّ هذا الصخب والضجيج والعجيج، والتهويل والتطويل، والتهديد والوعيد والتحذير، والهتك والفضيحة والتشكيك وما إلى ذلك.
الثاني:
إنّ هنا طائفة من الأحداث قد توهّموا أنّها مكذوبة ومختلقة، وليس ثمّة ما يُشير أو ما يصلح للإشارة أو للدلالة على ذلك؛ ومجرد الدعوى لا تصلح دليلاً على نفسها.
وما اعتقدوه شاهداً لذلك لا يصلح شاهداً عليه، وبإمكان أيّ إنسان عاقل أن يلتفت إلى وجه الخلل في الاستدلال به. هذا على الرغم من أنّنا لا نمانع من أن تكون بعض التشويهات أو التصحيفات، أو السقطات أو الأخطاء قد لحقت ببعض النصوص لأسباب مختلفة، قد تكون لدى الراوي بسبب نسيانه، أو اختلاط الاُمور عليه، أو بسبب تكرّر نسخ المؤلّفات وتداولها وما إلى ذلك.
ولكنّ ذلك لا يسقط هذا النصوص عن أن تكون ذات قيمة علمية؛ فإنّ هذا الأمر حاصل في مختلف المصنّفات والمؤلّفات حتّى في تلك التي هي في أعلى درجات الاعتبار.
الثالث:
إنّ وجود نصّ يُعلم بأنّه مكذوب أو غير صحيح في كتاب ما لا يُسقط ذلك الكتاب ولا مؤلّفه عن الاعتبار، وإلاّ لكان اللازم إسقاط أوثق الكتب، وأعظم المؤلّفين عن درجة الاعتبار؛ إذ ربما لا يخلو كتاب من أمثال هذه الاُمور باستثناء كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الرابع:
إنّ الحديث الذي يُعلم أنّه مكذوب إذا وجد في كتاب فإنّ ذلك لا يعني أنّ مؤلّف ذلك الكتاب هو الذي اختلقه ووضعه ما دام إنّ من الممكن أن يكون قد نقله عن غيره ممّن يثق بنقله، أو إنّه وضعه في كتابه وهو يشك فيه؛ لأنّ هدفه الاستقصاء لكلّ شيء، ثمّ ترك الحكم بالصحة والفساد للعلماء والباحثين، أو لأيّ سبب آخر.
ولأجل ذلك فنحن لا نوافق على ما يُنسب إلى الشهيد مطهّري من تجريح في علماء عُرفوا بالاستقامة وبالدين، والتقوى والورع، من أمثال الدربندي والطريحي وغيرهما.