كربلاء فوق الشبهات

كربلاء فوق الشبهات0%

كربلاء فوق الشبهات مؤلف:
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام

كربلاء فوق الشبهات

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
تصنيف: المشاهدات: 11987
تحميل: 5419

توضيحات:

كربلاء فوق الشبهات
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 16 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11987 / تحميل: 5419
الحجم الحجم الحجم
كربلاء فوق الشبهات

كربلاء فوق الشبهات

مؤلف:
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل السادس:

لأزرعنّ طريق الطفِّ ريحانا

الشعر المختلق:

ويقول الشهيد العلامة المطهريرحمه‌الله ، حسبما نُسب إليه وهو يتحدّث عمّا سمعه في مجلس آخر في طهران: إن القارئ أضاف إلى مقولة: إنّ ليلى توجّهت إلى الخيمة ونثرت شعرها، بناء على طلب الحسينعليه‌السلام ، أنها نذرت أيضاً زرع الطريق من كربلاء إلى المدينة بالريحان إذا ما استجاب الله تعالى دعاءها، وأرجع لها ابنها سالماً من المعركة! أي أنها ستزرع طريقاً طوله ثلاثمئة فرسخ بالريحان!

قال القارئ ذلك ثم راح ينشد ويقول:

نذرٌ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنّ طريقَ التفت ريحانا

لقد ذهلت لمّا سمعت، وزاد تعجبي من هذا البيت من الشعر العربي، وصرت أسأل نفسي: من أين جاء وسط هذه التعزية؟! ثم ذهبت أبحث في بطون الكتب، وإذا بي أجد بأن (التفت) هي منطقة غير منطقة كربلاء أولاً. ثمّ إنّ بيت الشعر كله لا علاقة له بحادثة عاشوراء، لا من قريب ولا من بعيد، بل أنه نُظم على لسان مجنون ليلى العامري وهو ينتظر ليلاه التي كانت تقيم في هذه الناحية.

وإذا بقرّاء التعزية صاروا يقرؤونه على لسان ليلى اُمّ علي الأكبر، وحُرّفت (التفت) إلى طفِّ كربلاء وواقعة عاشوراء.

تصوروا لو أنّ مسيحيّاً أو يهوديّاً أو ملحداً كان حاضراً في مثل هذا المجلس، ألا تنتظرون منه أن يقول: ما هذه الترّهات التي تشوب تاريخ هؤلاء القوم؟!

إنه لن يقول بأنّ قرّاء التعزية قد اختلقوا مثل هذه القصص من عنديّاتهم، بل إنه سيقول - والعياذ بالله -: ما أحمق نساءهم اللواتي ينذرن زرع الريحان من كربلاء إلى المدينة! فما هو معنى هذا الكلام؟!

ويقول أيضاً وهو يتحدث عن ليلى في كربلاء: والشعر المختلق على لسانها:

نذرٌ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنَّ طريقَ الطفِّ ريحانا

ونقول: إنّ لنا مع ما نُسب إليهرحمه‌الله هنا وقفات نوردها ضمن النقاط التالية:

أوّلاً: الشعر والمبالغة

إن من الواضح أنّ من أهم مظاهر الشعر وميزاته هو استخدام اُسلوب المبالغة فيه، وإطلاق عنان الخيال للتجوال في الآفاق الرحبة، وليقتنص من هنا وهناك صوراً جمالية فاتنة رائعة.

ولنأخذ مثالاً توضيحياً على ما نقول: موضوع التشبيه، وهو أبسط ما ينحو إليه الشاعر والناثر على حد سواء، فإذا وجدنا الشاعر يشبّه رجلاً بالأسد في قوته وشجاعته وإقدامه، أو يشبّهه بالجبل الأشم في ثباته وشموخه وعظمته، فإنه يفعل ذلك دون أن يخطر له على بال ما للأسد من أنياب، ولبد، وهيئات، وحالات، أو ما في الجبل، من شجر، وحجر، وتراب، ومسارب، وشعاب.

وهذا يوضّح أنّ القصد من ذكر زراعة طريق الطفِّ بالريحان ليس هو إنشاء نذر شرعي بالقيام بزراعة حقيقية لهذا الطريق، وإنما المراد تصوير مدى الحرص على رجوع ذلك الولد الحبيب والغالي إلى أحضان والدته، ومدى تلهّفها لرؤيته، وحقيقة الأسى الذي تعاني منه جراء فراقه. وهو أمر تستحق لأجله الاحترام والإكبار بلا شك.

وإنّ من مظاهر كمال المرأة أن تملك هذه العاطفة النبيلة والجيّاشة، ولن يستطيع أحد أن يصفها بالحمق ولا بغيره من أوصاف السوء، مهما كان انتماؤه الديني، وأيّاً كانت نظرته الإيمانيّة والعقائدية.

ثانياً: (التفت) اسم مكان

ويا ليت الشهيد السعيد - لو صحّت النسبة إليه - ذكر لنا المصدر الذي اعتمد عليه حين قال: إنّ (التفت) هو اسم المكان الذي كان يقيم فيه بنو عامر بن صعصعة؛ فإن كلمة (التفت) لم نجدها فيما بأيدينا من كتب الجغرافيا، والبلدان، واللغة، والتاريخ، والأدب التي تحدّثت عن بني عامر ومساكنهم ومنازلهم.

ولا ندعي أننا قد استقرأناها جميعاً، بل إننا نقول: إنّ اطّلاعنا على المصدر يعطينا الفرصة لمحاكمة هذه المقولة وللبحث في مدى صحة الاعتماد عليها، وبدون ذلك فإنها تكون دعوى تبقى عهدتها على مدّعيها، وهي حجّة عليه، ولا تلزم الآخرين بشيء، خصوصاً مع احتمال أن يكونرحمه‌الله قد استفاد ذلك بطريقة اجتهاديّة ممّا يذكره المؤرّخون حول مساكن بني عامر بن صعصعة، وهم قوم قيس بن الملوّح.

فقد قال عمر رضا كحالة: كانوا كلهم بنجد، ثم نزلوا ناحية من الطائف، مجاورين لعدوان أصهارهم، فنزلوا حولهم... إلى أن قال: فكانت بنو عامر يتصيّفون الطائف؛ لطيبها وثمارها، ويتشتّون بلادهم من أرض نجد؛ لسعتها، وكثرة مراعيها، وإمراء كلئها، ويختارونها على الطائف...

وفي نصوص اُخرى: إنهم كانوا بذي سلم، وهو واد منحدر على الذنائب. والذنائب في أرض بني البكاء على طريق البصرة إلى مكة؛ وذلك لقول مجنون بني عامر:

أيا حرجات الحيِّ حيث تحمّلوا

بذي سُلمٍ لا جادكنّ ربيعُ

وخيماتُك اللاتي بمنعرج اللوى

بُلين بلىً لم تبلهنَّ رُبوعُ

وقيل: إنّ ليلى تزوّجت في ثقيف. وقيل: بل تزوّجها ورد العقيلي.

وذكروا أيضاً أنّ ليلى كانت تنزل بجبَلَي نعمان، وهما جبلان قرب مكة، وقد قال قيس بن الملوّح في ذلك:

أيا جَبَلَي نعمان بالله خليَّ

سبيلَ الصبا يخلص إليَّ نسيمُها

ونحتمل أن يكون الشهيد مطهري - لو صحت نسبة الكلام إليه - قد أخذ كلمة (التفت) من كلمة (التوباد)، على أن يكون قد قسّم هذه الكلمة إلى قسمين:

أحدهما كلمة (التو)، والفارسي يلفظ الواو كالفاء؛ فتصير (التف).

والاُخرى كلمة (باد) التي تعني بالفارسيّة (الهواء)، وكلمة (تو) بمعنى داخل.

لكن إضافة التاء الثانية تبعد هذا الاحتمال وتقرّب احتمالاً آخر؛ وهو أن يكون الأصل: (تفت باد)، فكلمة (تفت) تعني بالفارسيّة الحرارة، فلعلهرحمه‌الله قد اعتبر أن المراد من الكلمتين هو (الهواء الحار)، في إشارة إلى حرارة تلك المنطقة التي سمّيت بهذا الاسم، وأن تركيب الكلمتين (تفت باد) مع بعضهما البعض، وإعطائهما طابع اللغة العربية قد اقتضى إسقاط التاء الثانية، فصارت الكلمة هكذا (التوباد).

نقول ذلك على أساس أن بني عامر كانوا يسكنون قرب جبل التوباد في نجد، وقد قال مجنون بني عامر قيس بن الملوح: فقال: مضوا... إلخ.

ثالثاً: التمثّل بالشعر

ولنفترض أنّ هذا الشعر قد جاء للتعبير عن حالة مجنون بني عامر مع ليلاه، فما المانع من أن يكون قد استعاره من ليلى اُمِّ علي الأكبر على سبيل التمثّل به؛ لمطابقته لحاله، وانسجامه مع تطلعاته، وتعبيره عن آلامه وآماله؟

ولعله لأجل هذا الغرض بالذات تصرّف في كلمة من الشعر فأبدلها باُخرى لو صحّ ما ذكروه من إبدال كلمة (الطفّ) بكلمة (التفت). فكما يمكن أن يكون قرّاء العزاء هم الذين أبدلوا هذه الكلمة، كذلك يمكن أن يكون الذي أبدلها هو مجنون بني عامر نفسه، خصوصاً إذا علمنا أنّ قيس بن الملوح كان معاصراً لليلى اُمّ علي الأكبر؛ حيث كان يعيش في زمن يزيد (لعنه الله) وابن الزبير.

وعند ابن الجوزي أنّه توفي سنة سبعين للهجرة، وعند ابن تغري بردى أنه توفي في حدود سنة 65، وقيل: في سنة 68 هـ.

رابعاً: الاستعانة أو الإيداع

وقد يكون قيس بن الملوح أو غيره قد أورد هذا البيت في قصيدته على سبيل التضمين؛ سواء قصد به الإيداع أو الاستعانة. والإيداع: هو أن يودع الناظم شعره بيتاً من شعر غيره، أو نصف بيت، وبعد أن يوطّئ له توطئةً تناسبه بحيث يظن السامع أنه جزء من شعره. فلعل قيس بن الملوّح قد أدخله في شعره على سبيل الاستعانة أو الإيداع؛ فإن ذلك شائع في شعر العرب.

خامساً: لسان الحال طريقة تعبير مألوفة

بل ما الذي يمنع من أن يكون قرّاء العزاء الحسيني قد أوردوا هذا الشعر على طريقة (لسان حال ليلى)، لكن بعض من سمعه قد ظنّ أنه ينسبه إليها على سبيل الحقيقة، وأنها هي التي قالته أو نظمته؟

سادساً: الشكّ في المجنون وفي شعره

والملفت للنظر هنا أمران، كل واحد منهما يجعلنا نرجّح أنّ هذا الشعر قد نُسب إلى مجنون ليلى أو مجنون بني عامر على سبيل الادّعاء والتزوير، وهذان الأمران هما:

الأوّل: إنّ أصل وجود المجنون موضع شك.

الثاني: إنّ شعره المنسوب إليه كلّه مولّد عليه، أو أكثره. وللتدليل على ذلك نشير إلى روايات عديدة دلت على ذلك، ونقتصر على ما ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومن أراد المزيد من المصادر فعليه بمراجعة كتب الأدب والتراجم وغيرها.

والنصوص التي اخترناها هي التالية:

1 - أيوب بن عبابة يقول: سألت بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدت أحداً يعرفه.

2 - وعن ابن دأب أنه سأل أحد بني عامر عن وجود المجنون فأنكر وجوده، وقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في اليمانيّة الضعاف قلوبها... إلخ.

3 - وعن الأصمعي: رجلان ما عُرفا في الدنيا قط إلاّ بالاسم؛ مجنون بني عامر، وابن القرية، وإنما وضعهما الرواة.

4 - وهناك اختلاف كثير في اسم المجنون ونسبته، فراجع.

5 - وعن عوانة أنه قال: المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب. فسُئل: من قال هذه الأشعار؟ قال: فتى من بني اُميّة.

6 - عن ابن الأعرابي أنه ذكر عن جماعة من بني عامر أنهم سُئلوا عن المجنون فلم يعرفوه، وذكروا أنّ هذا الشعر كلّه مولّد عليه.

7 - عن ابن الكلبي قال: حدّثت أنّ حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني اُميّة كان يهوى ابنة عمٍّ له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون، وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه.

8 - وعن أيوب بن عباية أنّ فتى من بني مراون كان يهوى أمرأة منهم، فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون، وأنه عمل له أخباراً وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه.

9 - وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعراً مجهولَ القائل في ليلى إلاّ نسبوه إلى المجنون.

10 - عن عوانة قال: ثلاثة لم يكونوا قط، ولا عُرفوا: ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم، وابن القرية، ومجنون بني عامر.

11 - الأصمعي: الذي اُلقي على المجنون من الشعر واُضيف إليه أكثر من ما قاله هو.

ويقول أبو الفرج: إنّ أكثر الأشعار المذكورة في أخباره نسبها بعض الرواة إلى غيره، وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدّمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب.

وكل ذلك يرجّح أن تكون نسبة هذا الشعر إلى المجنون قد جاءت على سبيل التزوير والافتعال كما هو الحال في كثير مما نُسب إليه.

وإنّ الأرجح هو سرقة هذا البيت من صاحبه الأصلي، وهو اُمّ علي الأكبر (رحمها الله)، ثمّ التصرف فيه، ثمّ نسبته إلى آخر هو المجنون أو شخص آخر رأوه أولى به؛ لما يتضمّن من حكايته لحاله أو لحالهم إن كان المجنون شخصية وهمية صنعها رجل من بني اُميّة للتستر وراءها.

الفصل السابع:

شواهد تضاف إلى ما سبق

ليلى واقفة بباب الفسطاط:

وأخيراً فإننا نجد في النصوص الواردة في الكتب المعتبرة ما يفيد حضور ليلى في كربلاء، فيقول البعض: ورد في بعض الكتب المعتبرة: فقاتل علي بن الحسينعليه‌السلام حتّى قُتل، وكانت اُمّه واقفة بباب الفسطاط تنظر إليه.

ويقول ابن شهر اشوبرحمه‌الله : ثمّ تقدّم علي بن الحسين الأكبر، وهو ابن ثماني عشرة سنة، ويقال: ابن خمس وعشرين، وكان يشبّه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً ونطقاً، وهو يرتجز ويقول:

أنا عليُّ بنُ الحسين بن علي

من عصبةٍ جدُّ أبيهمُ النبي

نحن وبيت الله أولى بالوصي

واللهِ لا يحكم فينا ابن الدعي

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

فقتل سبعين مبارزاً، ثم رجع إلى أبيه، وقد أصابته جراحات، فقال: يا أبه، العطش!

فقال الحسينعليه‌السلام : «يسقيك جدك».

فكرّ عليهم أيضاً وهو يقول:

الحربُ قد بانت لها حقائقْ

وظهرت من بعدها مصادقْ

واللهِ ربِّ العرش لا نفارقْ

جمعكمُ أو تُغمد البوارقْ

فطعنه مرة بن منفذ العبدي على ظهره غدراً، فضربوه بالسيف.

فقال الحسينعليه‌السلام : «على الدنيا بعدك العفا». وضمّه إلى صدره، وأتى به إلى باب الفسطاط، فصارت اُمّه شهر بانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلم، فبقي الحسينعليه‌السلام وحيداً، وفي حجره علي الأصغر، فرمي إليه بسهم فأصاب حلقه... إلخ.

مناقشة وردّها:

لكن الملاحظ هو أنّ هذا النص يذكر أنّ اُمّ علي الأكبر الشهيد في كربلاء ليست هي ليلى بنت أبي مرة، وإنما هي اُم ولد اسمها شهربانويه.

وهذا يتوافق مع ما رواه أبو الفرج حيث قال: وقال يحيى بن الحسن العلوي: وأصحابنا الطالبيون يذكرون أنّ المقتول لاُمّ ولد، وأنّ الذي اُمّه ليلى هو جدهم. حدثني بذلك أحمد بن سعيد عنه.

والمراد بجد الطالبيين هو الإمام السجادعليه‌السلام كما هو واضح.

وفي نص آخر: اُمّه آمنة، أو ليلى بنت أبي مرة.

وفي نص آخر: اسمها برة بنت عروة بن مسعود.

وهذا الاختلاف لا يضر في المقصود من أنها (رحمها الله) كانت حاضرة في كربلاء؛ وفقاً لهذا النص الذي أوردناه، أو أنّ ذلك هو الظاهر منه على أقل تقدير.

فما يُنسب إلى الشهيد مطهري من نفي حضورها في كربلاء بشدة وبحدة يصبح في غير محلّه، ولا يساعد عليه الدليل، ولا يعضده البرهان.

وا ثمرة فؤاداه!

ويقولون: إنه لمّا قُتل علي الأكبر قال حميد بن مسلم: فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة، تنادي بالويل والثبور، وتقول: يا حبيباه! يا ثمرة فؤاداه! يا نور عيناه!

فسألت عنها، فقيل: هي زينب بنت علي. وجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسينعليه‌السلام فأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط.

فالتعبير بـ (وا ثمرة فؤاداه) يشير إلى أنها إنما تندب ولدها وليس ابن أخيها؛ لأنّ هذا التعبير إنما يستعمل للتعبير عن النسل. قال الزبيدي:... ومن المجاز (الولد) ثمرة القلب. وفي الحديث: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: «قبضتم ثمرة فؤاده؟». فيقولون: نعم.

قيل للولد: ثمرة؛ لأنّ الثمرة ما ينتجه الشجر، والولد نتيجة الأب.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى:( ... وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ... ) : أي الأولاد والأحفاد، كذا في البصائر.

وقد تكرر هذا التعبير في العديد من النصوص التي أوردها نَقَلة هذا الخبر، فراجع.

وا ولداه!

1 - وبعد ما تقدّم كله فإننا نجد نصّاً يكاد يكون صريحاً في حضور والدة علي الأكبر لواقعة الطفِّ، لولا وجود حالة اشتباه في الأشخاص، لعلها ناشئة عن عدم معرفة من حضر الوقعة بهم على نحو التحديد.

فقد أورد الطريحيرحمه‌الله نصاً يقول: قال من شهد الوقعة: كأني أنظر إلى امرأة خرجت من فسطاط الحسينعليه‌السلام ، وهي كالشمس الزاهرة، تنادي: وا ولداه! وا قرّة عيناه!

فقلت: من هذه؟

قالوا: زينب بنت علي.

2 - وذكر الشيخ مهدي المازندراني عن محمّد الأشرفي المازندراني أنه لمّا قُتل علي الأكبر خرجت ليلى حافرة (الصحيح: حافية أو حاسرة) حائرة، مكشوفة الرأس، تنادي: وا ولداه! وا ولداه!

3 - وروي أنّ زينب خرجت مسرعة تنادي بالويل والثبور، وتقول: يا حبيباه! يا ثمرة فؤاداه! يا نور عيناه! وا ولداه! وا قتيلاه! وا قلّة ناصراه! وا غربتاه! وا مهجة قلباه! ليتني كنت قبل اليوم عمياء! وليتني وُسّدت الثرى!

فجاءت وانكبّت عليه، فبكى الحسينعليه‌السلام ؛ رحمة لبكائها، وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون». وجاء وأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط.

4 - روى أبو مخنف عن عمارة بن راقد، قال: إنّي نظرت إلى إمرأة قد خرجت من فسطاط الحسينعليه‌السلام ، كأنها البدر الطالع، وهي تنادي: وا ولداه! وا مهجة قلباه! يا ليتني كنت هذا اليوم عمياء، وكنت وسّدت تحت أطباق الثرى.

5 - وفي رواية عن عبد الملك قال: كنت أسمعه، وإذا قد خرجت من خيمة الحسينعليه‌السلام امرأة كسفت الشمس من حياها، وتنادي من غير شعور: وا حبيباه! وابن أخاه! حتّى وصلت إليه، فانكبّت عليه، فجاءها الحسينعليه‌السلام فستر وجهها بعباءة حتّى أدخلها الخيمة، فقلت لكوفي: من هذه؟ أتعرفها؟

قال: نعم، هذه زينب أخت الحسينعليه‌السلام .

وقفات:

ولنا مع الروايات الآنفة الذكر وقفات:

الوقفة الأولى: كالبدر الطالع

قد صرّحت الروايات التي ذكرناها آنفاً، وجميع الروايات التي لم نذكرها، وهي التي تقول: إنها خرجت وهي تقول: وا ابن أخاه!

نعم، إنّها جميعاً - تقريباً - صريحة بأنّ التي خرجت من الخيمة قد كانت مكشوفة الوجه، وأنها كالشمس...

ومن الواضح: أنّ زينب العقيلة لم تكن لتكشف وجهها، وهي التي نعت على يزيد في خطبتها الشهيرة سوقَه بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بلد إلى بلد، قد أبديت وجوههن، فهي تقول: أمن العدل يابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا؛ قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، يستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف...؟!

كما أنّ ابن الجوزي قد تعجّب من أفاعيل يزيد التي منها ضربه ثنايا الحسينعليه‌السلام بالقضيب، وحمله آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا على أقتاب الجمال، موثّقين في الحبال، والنساء مكشّفات الوجوه والرؤوس. وذكر أشياء من قبيح ما اشتهر عنه.

الوقفة الثانية: احتمال اشتباه الراوي

إنّ الرواية تصرّح بأنّ حميد بن مسلم لم يكن يعرف زينب العقيلة، فسأل عن المرأة التي رآها، فأخبروه أنها زينب.

والظاهر أنّ المجيبين كانوا أيضاً لا يعرفون زينب العقيلة، فأطلقوا كلامهم، وقبله منهم حميد بن مسلم ذاهلاً هو الآخر عن حقيقة الأمر، أو غير مصدّق له، لكنه لم يشأ الاعتراض عليه.

والدليل على ما نقوله هو أنّ زينب الحوراء كانت مخدّرة ومحجوبة عن نظر الناس إليها، فكيف يمكن أن يعرفها أفراد ذلك الجيش المشؤوم من مجرّد رؤية وجهها إن كان قد انكشف؛ فإنّ وجوه المخدّرات لم تُكشف إلاّ بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، وسبي العيال و الأطفال، مع أنها لم تكن لتكشف وجهها باختيارها أمام ذلك الجيش في أي من الظروف والأحوال.

ولعل إطلاق اسم زينب في الجواب إنما هو بسبب أنّ اسمها كان هو المعروف المتداول لدى الجميع.

سؤال وجوابه:

غير أنّ سؤالاً آخر قد يلح بطلب الإجابة عليه هنا، هو: إنه إذا كان ذلك هو معنى كلمة: (وا ثمرة فؤاداه)، وكذلك الحال إذا كانت قد قالت: وا ولداه، فكيف توهّم ذلك المسؤول أنها زينب، وكيف قبل منه سائله هذا الجواب وهما يعلمان أنّ المقتول هو ابن الحسينعليه‌السلام ، وأن زينب هي أخت الحسينعليه‌السلام ، فلا يعقل أن يكون المقتول ولدها؟!

ويمكن أن يجاب عن ذلك:

أوّلاً: إنه ليس في كلامه ما يدل على قبوله ورضاه بذلك الجواب، وإن كان قد سكت عنه فلعلّه أهمل الاعتراض عليه؛ لعلمه من خلال هذه الإجابة بالذات بجهله بتلك المرأة، وأنه إنما يردّد اسماً سمعه كالببغاء، ولم يكن المقام مقام جدال وأخذ ورد؛ فإنّ الأمر أعجل من ذلك.

ثانياً: لعلّ المجيب لم يسمع ما قالته تلك المرأة في ندبها لقتيلها، فأرسل كلامه على عواهنه؛ لأنه - ربما - لم يكن يُعرف في حرم الحسين إلاّ من اسمها زينب اُختهعليه‌السلام .

وبالنسبة لكشف وجهها فلا يبعد أنه لم يكن يعرف أنّ شأن السيدة زينب يُجلّ عن أن تكشف وجهها أمام الملاء، وربما كان يقيس الاُمور على نفسه وعلى أمثاله من الفسقة والفجرة الذين لا يرجعون إلى دين ولا ينتهون إلى وجدان.

هذا كله إن لم نسوّغ لأنفسنا احتمال التحريف والسهو من قِبل نقلة هذه الأخبار، وقديماً قيل:ما آفة الأخبار إلاّ رواتها .

الوقفة الثالثة: الجمع بين الروايات

وقد يقال: إنّ نص هذه الرواية مضطرب بحسب نَقَلَته؛ فتارة تجد النص يقول: إنها قالت: وا ابن أخاه! وآخر يقول: إنها كانت تقول: وا ولداه! وا ثمرة فؤاداه! مع تصريح ابن شهر آشوب بأن اُمّ علي الأكبر كانت واقفة بباب الخيمة حين استشهاد ولدها.

والجواب:

إننا إذا أردنا الجمع بين نصوص هذه الرواية، فمن الممكن لنا أن نقول: إنّ زينبعليها‌السلام قد خرجت، وكانت تصيح: وا ابن اُخيّاه! وإن اُمّ علي الأكبر أيضاً قد خرجت وهي تصيح: وا ولداه! وا ثمرة فؤاداه!

فلعلّ هذا الراوي تحدّث عن هذه، وذاك تحدّث عن تلك، ولعله أيضاً قد خلط في حديثه بين المرأتين؛ فنسب كشف الوجه إلى الحوراء زينب، مع أنّ التي كشفت وجهها هي الأخرى قد خرجت مثلها، وإنما كشفت تلك وجهها بسبب فقد السيطرة على نفسها؛ لهول الكارثة.

الوقفة الرابعة: الزيادة والنقيصة لا تضر

وقد يقال: قد وجدنا نصاً يثبت هذه الرواية بصورة مفصّلة، وآخر يثبتها بصورة مختصرة، وذلك يعني وجود كذب في الرواية فلا يمكن الاعتماد عليها.

والجواب:

إنّ من الواضح أنّ اختلاف النص في زيادة بعض الكلمات لا يضر؛ فإنّ النصّين المثبتين لا يدخلان في دائرة التعارض، أو أنّ أحدهما قد تعلّق غرضه بالاختصار، أو النقل بالمعنى وما إلى ذلك، وتعلّق غرض الآخر بالتفصيل والتطويل.

كانت ليلى على قيد الحياة:

قد تقدّم أنّ المحقق التستري يقول: لم يذكر أحد من أهل السير المعتبرة حياة اُمّه يوم الطفِّ فضلاً عن شهودها.

ويُفهم من المجلسي أيضاً أنه ينفي أن تكون اُمّه يوم عاشوراء على قيد الحياة، ويقول: إنّ ذلك قد ظهر له من الروايات المعتبرة، فراجع كلامه.

ونقول:

ألف: إنّ جميع ما تقدّم يدلّ على أنها كانت لا تزال على قيد الحياة، بل لقد حكى بعض بأنه قال الراوي: كنت أطوف في سكك المدينة وأنا على ناقة لي، حتّى أتيت دور بني هاشم، فسمعت من دارٍ رنةً شجية وبكاء حنين، فعرفت أنها امرأة، وهي تبكي وتنوح، وتبكي كالمرأة الثكلى.

ثم يذكر أنه سأل جارية عن الدار وصاحبها، فأخبرته أنها دار الحسينعليه‌السلام ، وأن الباكية هي ليلى اُمّ علي الأكبر لم تزل تبكي ابنها ليلاً ونهاراً.

وفي المقابل لا توجد فيما بين أيدينا أية رواية تدل على أنها قد ماتت؛ ولذلك لم يستطع النافون لحضورها في كربلاء التشبت بشيء من ذلك، ولم يكن أمامهم سوى الاستدلال بعدم وجدانهم ما يدل على حضورها، وقد عرفت أنه دليل قاصر.

كما أن الصحيح هو وجود ما يدل على حضورها حسبما تقدم.

باء: إنه إذا كانت على قيد الحياة كما دلّت عليه الروايات التي ذكرناها وذكرها الآخرون، فلا بدّ لمن ينفي حضورها في كربلاء من الإجابة على السؤال عن سبب تركها المسير إلى كربلاء، فهل مُنعت؟ أم كرهت ورفضت؟ ولماذا؟

أمّا ما نُسب إلى المجلسي في كتابه جلاء العيون (الفارسي المطبوع) فلم نجده في ترجمته العربية التي هي بقلم العلاّمة الجليل السيد عبد الله شبر (رحمه الله تعالى)، مع أنه يصرح بقوله: ناقلاً لتحقيقاته الشافية، وتنبيهاته اللطيفة الوافية.

كما أننا لم نجد أثراً لتلك الروايات التي أشارت إليها العبارة الفارسيّة للكتاب المنسوب إليه. نعم لم نجد لها أثراً في أي من مؤلّفات العلاّمة المجلسي، لا في موسوعاته الحديثية كالبحار، ولا في غيره.

جيم: قال ابن قولويهرحمه‌الله في كامل الزيارات: حدّثني حكم بن داود، عن سلمة قال: حدّثني أيوب بن سليمان بن أيوب الفزاري، عن علي بن الحزوّر، قال: سمعت ليلى وهي تقول: سمعت نوح الجن على الحسين بن عليعليه‌السلام ، وهي تقول:

يا عينُ جودي بالدموع فإنما

يبكي الحزينُ بحرقةٍ وتفجّعِ

يا عينُ ألهاك الرقاد بطيبه

من ذكر آل محمّد و توجّعِ

باتت ثلاثاً بالصعيد جسومُهمْ

بين الوحوشِ وكلُّهم في مصرعِ

راجع: كامل الزيارات / 95.

وذلك يدل على بقائها قيد الحياة إلى ما بعد استشهاد الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).

كلمة أخيرة:

وبعد هذه الجولة المحدودة التي قمنا بها لا يسعنا إلاّ أن نشكر القارئ الكريم الذي أعطى وقتاً، وبذل جهداً في متابعته لما أوردناه في هذا البحث المقتضب الذي تحدّث فيما تحدث عنه: عن إمكانية الاعتماد على كتاب (الملحمة الحسينيّة) ونسبة مطالبه إلى الشهيد مطهريرحمه‌الله .

وكذلك تحدّث عن قيمة الرأي الذي ينسب طائفة من الأحداث إلى الكذب والخرافة، ثم تطرّقنا باقتضابٍ واختصار إلى مناقشة الأدلّة التي استند إليها النافون لحضور اُمّ علي الأكبر في كربلاء، ثمّ اتخذ البعض من هذا النفي عنواناً للاُسطورة والخيال العاشورائي بزعمه، واعتبره مدخلاً مناسباً للطعن في قرّاء العزاء ورميهم بمختلف أنواع الأفائك، ومواجهتهم بشتّى أنواع التهم، وتصغير شأنهم، وتحقير أمرهم؛ وذلك بهدف تشكيك الناس بكل ما يقولونه عن عاشوراء وكربلاء، وإفراغها من محتواها الثقافي والعاطفي والتربوي، وما إلى ذلك.

وإذ قد ظهر عدم صحة ما استندوا إليه، وبطلان ما اعتمدوا عليه، فما علينا إلاّ أن نترك الخيار في أن يراجعوا ضميرهم، ويعملوا على إصلاح ما أفسدوه، مع إسدائنا النصح لهم بأن لا تأخذهم العزة بالإثم فيلجؤوا إلى المكابرة، ثم ّإلى المنافرة، وأن يقلعوا عن الاستمرار برمي الآخرين بمختلف أنواع التهم، ويرتدعوا عن إشاعة الأباطيل ونشر الأضاليل.

كما أننا لا نحبّ لهم أن يتابعوا أساليبهم المعهودة التي تعتمد على كيل السباب والشتائم، وقواذع القول للتوصّل إلى التشكيك إن لم يكن النفي للحقائق الدامغة والثابتة.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله.

حُرّر بتاريخ 11 ذي الحجة 1420 هـ.

عيتا الجبل - جبل عامل - لبنان