المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل10%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119449 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

أنّ هذا الاحتفال، قد هيّأ الأجواء بشكلٍ كبير، للاحتفال بالمناسبة الثانية، وهي يوم عاشوراء وبصورة أوسع. ويوم عاشوراء يأتي بعد اثنين وعشرين يوماً، من يوم الغدير، الذي يوافق اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة.

ويلاحظ من النّص أعلاه، أنّ الاحتفال بيوم الغدير، قد شارك فيه جماعة من أهل مصر، مع المغاربة، أي الذين جاؤوا مع المعزّ الفاطمي وسكنوا القاهرة. وهذا مؤشّر على وجود شيعي في مصر، قبل الفاطميّين. وهو ما يؤيّد الذي ذُكر في هذا البحث سابقاً، من أنّ مراسم العزاء بمصر، في يوم عاشوراء كانت سابقة، على الوجود الفاطمي(١) ، من أيّام الأخشيديين وكافور.

فمن الطبيعي جدّاً أن تجد مؤسّسة العزاء الحسيني، أفضل أيامها مع الفاطميّين، ولهذا فقد ذكر في حوادث سنة ثلاث وستين وثلاثمِئة أنّه (في يوم عاشوراء، انصرف خلق من الشيعة، وأتباعهم من المشاهد، من قبر كلثم بنت بن جعفر الصادق ونفيسة، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالاتهم بالنياحة والبكاء على الحسين، وكسروا أواني السقّائين في الأسواق. وشقّوا الروايا(٢) وسبّوا من ينفق في هذا اليوم. وثارت إليهم جماعة، فخرج إليهم أبو محمد الحسن بن عمّار ومنع الفريقين، ولولا ذلك لعظمت الفتن؛ لأنّ الناس كانوا غلّقوا الدكاكين، وعطّلوا الأسواق وقويت أنفس الشيعة بكون المعزّ بمصر)(٣) .

والملاحظ هنا، أنّ الاحتفال بيوم عاشوراء، لم يمرّ دون توتّر،

____________________

(١) راجع فقرة النياحة في مصر من هذا الفصل ص٥٢.

(٢) الروايا جمع مفرده الراوية وهي الدابة يستقي عليها، أو المزادة من جلد يوضع فيها الماء، والمقصود هنا المعنى الثاني.

(٣) المقريزي، أحمد بن علي، اتعاظ الحنفا - ص١٤٥.

١٢١

كاد يصل إلى فتنة طائفيّة. أقول: وكانت الحوادث الطائفيّة في بغداد تشتد في عاشوراء، كما أشرنا إلى ذلك، في الفقرة السابقة من هذا البحث. كما وإنّ المقريزي هنا، قد علّق على أنّ قوّة الشيعة، اشتدّت مع وجود المعزّ بالقاهرة. وهو عين ما ذكره بعض المؤرّخين، في أيام عاشوراء، أيام معزّ الدولة البويهي، بأنّ نفوس الشيعة قويت لكثرتهم في بغداد، وكون السلطان منهم.

ولم تتحدّث المصادر، عن أيّ حالة تشنّج، أو توتّر طائفي، فضلاً عن الفتن، في أيّام الفاطميّين، سوى ما ذكر أعلاه. خلاف ما كان عليه الأمر في بغداد، ولسنين عدّة.

ولدى تتبّعي للمراجع التاريخيّة، التي اهتمّت بتسجيل الحوادث، التي مرّت على بلاد المسلمين؛ مثل تاريخ ابن الأثير أو المنتظم لابن الجوزي، والبداية والنهاية لابن كثير ومروج الذهب للمسعودي، لدى تتبّعي لهذه المصادر، لم أجد مواكبةً واهتماماً لما كان يحدث في مصر أيام عاشوراء في ظل حكم الفاطميّين، كما وجدت من اهتمام وتسجيل لما كان يحدث فيها ببغداد أيام البويهيين.

بل حتى المصادر. التي اهتمّت بمصر وتاريخها، أو تاريخ الفاطميّين بالذات، فإنّها لم تكن متابعةً لما يجري في مصر، سنة بعد سنة في يوم عاشوراء، مثل؛ النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة لـ (يوسف تغري بردي) أو اتعاظ الحنفا والخطط للمقريزي، كما تابعنا ذلك سابقاً في حوادث عاشوراء ببغداد.

نعم، ذكرت هذه المصادر الأخيرة إشارات متقطّعة لما كان يجري من الخلفاء الفاطميّين في بعض السنين. ومنها ما يجري في عاشوراء كنوع من المناسبات العامّة في الدولة الفاطميّة. ممّا يوحي، أنّ تلك المظاهر العزائية كانت مستمرّة طوال الحكم الفاطمي لمصر حيث لم يُشَرْ إلى منعها، بل تحوّلت، إلى عرف وتقليد يتبعه كل خليفة فاطمي.

١٢٢

وأفضل مصدر وجدته مهتمّاً بذكر تفاصيل ما كان يجري في بعض السنين، بما يتعلّق بموضوعنا هو كتاب (النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة).

وسنحاول الولوج إلى موضوع المأتم الحسيني في مصر أيام الفاطميّين، عبر ثلاثة محاور هي:

١ - عرضٌ لما أوردَتْهُ المصادر من اهتمام الفاطميّين، بما يتعلّق بموضوع بحثنا في فترات متفاوتة من تلك المرحلة.

٢ - ذكر ما أوردته المصادر من كيفية إحياء الفاطميّين لمراسم يوم عاشوراء.

٣ - ذكر الأماكن التي كانت تتّخذ لإقامة المآتم ومجالس العزاء.

المحور الأوّل

وهو المحور المتعلّق بما كانت قد سجّلته المراجع التاريخية، عن ما كان يجري في مصر أيام الفاطميّين، ممّا يتعلّق بمراسم العزاء يوم عاشوراء، ونورد فيه ما يلي:

١ - ذكرنا سابقاً أنّ اهتمام القاهرة بعاشوراء ومجالس العزاء فيها كان مألوفاً أيام الأخشيدية والكافورية - كما سبقت الإشارة إليها ص٥٢.

٢ - في سنة ٣٦٣ هجرية وبعد أشهر من دخول المعزّ الفاطمي إلى مصر، وفي يوم عاشوراء، كان البروز الأول لمظاهر الحزن والبكاء الشعبي، في الحكم الفاطمي من قبل شيعة مصر والمغاربة القادمين مع المعزّ الفاطمي - كما سبق ذكره آنفاً ص١٢١ -.

٣ - ثمّ أغفلت المراجع التاريخية أي ذكر لما كان يجري في مصر أيام عاشوراء منذ سنة ٣٦٣ هجرية وحتى سنة ست وتسعين وثلاثمِئة و(٣٩٦) هجرية أي بعد ثلاثة وثلاثين سنة مع أيام حكم الخليفة

١٢٣

الفاطمي الحاكم بأمر الله(١) أبي علي المنصور الذي حكم بين (٣٨٦ - ٤١١)، حيث ذكر (وفي يوم عاشوراء يعني من سنة ست وتسعين وثلاثمِئة، جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة؛ من تعطيل الأسواق، وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والبكاء والنشيد)(٢) .

حيث نلاحظ الإشارة، إلى استمرار مظاهر الحزن والحداد في القاهرة، بقوله (جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة). ثمّ يبرز النصّ كذلك دور المنشدين منطلقين إلى جامع القاهرة، ثمّ خروجهم منه وهم ينشدون ويقرأون المراثي بشكل جماعي. وهذا النصّ يبيّن بشكل أوضح وأدق ما كان يقوم به المنشدون، من دور، في احتفالات يوم عاشوراء.

وهو ما كنّا نفتقدهُ، في المصادر التي كانت تحكي لنا، ما كان يجري في بغداد، أيام البويهيّين.

كما ويؤكّد بقية النصّ أعلاه، أنّ المنشدين كانوا يأخذون الأجرة على إنشادهم المراثي، حينما يقفون على حوانيت الناس(٣) . حتى اضطر قاضي القضاة، إلى أنْ يطلب منهم، عدم إلزام الناس بالدفع لهم (ثمّ جمع هذا اليوم، قاضي القضاة، عبد العزيز بن نعمان سائر

____________________

(١) الحاكم بأمر الله: منصور ابن نزار بن المعزّ الفاطمي. أبو علي، الحاكم بأمر الله ولِد في القاهرة سنة ٣٧٥ هجرية. وقُتل فيها في ظروف غامضة. تولّى الخلافة سنة ٣٨٦ هـ وعمره ١١ سنة، اهتم بالفلسفة وعلم الفلَك وعمِل مرصداً قتل العديد من الوزراء. (متألّه، غريب الأطوار. مات سنة ٤١١ هـ) (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٧ / ٣٠٥).

(٢) المقريزي، أحمد بن عليك الخطط ٢ / ٢١٢.

(٣) أقول: وظاهرة وجود المنشدين والنائحين في الأسواق ووقوفهم على الحوانيت، ظاهرة لا تزال موجودة في بعض المناطق الشيعية في العراق وإيران وبلاد شيعيّة أخرى، كما وينشد هؤلاء في وسائل النقل العامّة كالحافلات والقطارات، إضافة إلى أماكنهم الأساسية في المراقد المقدّسة.

١٢٤

الذين يكسبون بالنوح والنشيد، وقال لهم: لا تلزموا الناس بأخذ شيءٍ منهم، إذا وقفتم على حوانيتهم، ولا تؤذوهم، ولا تكسبوا بالنوح والنشيد. ومَن أراد ذلك فعليه بالصحراء!! ثمّ اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق - وهو جامع عَمْر بن العاص - بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا إلى الشارع بجمعهم)(١) حيث يبدو أنّ المنشدين احتجّوا على ذلك المنع، وخرجوا بجمعهم، ولم يوضّح النصّ ماذا ترتب على احتجاج المنشدين والنائحين هذا.

٤ - وفي سنة أربع وأربعمِئة، نجد أنّ الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المذكور في النصّ السابق، قد أصدر أوامر بإغلاق الدواوين، وأماكن بيع الغلّة والفواكه لمدّة ثلاثة أيام. ابتداءً من اليوم السابع من محرّم. أمّا في اليوم العاشر، فإنّ كل الحوانيت تغلق في مصر باستثناء حوانيت الخبّازين(٢) .

وهذا يعتبر تطوّراً مهمّاً، في توسعة أيّام الحداد، التي كان محصورة بيوم عاشوراء فقط. حيث أضيفت الأيام: السابع والثامن والتاسع من المحرّم، لتكون النتيجة أربعة أيام. إذ تعطّل الدوائر الرسميّة (الدواوين)، وأماكن بيع اللحوم والأسماك (الغلّة). أقول: وأمّا في هذا الأيّام فإنّ أيام الحزن العامّة؛ عشرة أيام تبدأ من اليوم الأول للمحرّم، كما أنّ بعض أصحاب المحلاّت وذوي المِهن يعطّلون أعمالهم في بعض مناطق العراق (وربّما في بلدان أُخرى) ابتداءً من اليوم السابع من المحرّم. ويتفرّغون لحضور مجالس المنبر الحسيني، كثيرة الانتشار.

٥ - كما ورد ما يدلّ، على استمرار الخلفاء الفاطميّين على ما

____________________

(١) المقريزي، أحمد بن عليك الخطط ٢ / ٢١٢.

(٢) المقريزي، أحمد بن عليك اتّعاظ الحنفا ٢ / ١٠٠.

١٢٥

جرت به عادتهم من إحياء مآتم الإمام الحسين يوم عاشوراء.

ففي أيام حكم المستعلي بالله الفاطمي(١) (٤٨٧ - ٤٩٥)، جاء (أنّه كان كآبائه وأجداده، في إحياء يوم عاشوراء بالنوح والحزن)(٢) .

وورد في مصدر آخر (وفي عهد المستعلين الذي سار على نهج أبيه في التعصّب للشيعة، زاد النياح، والصياح، والبكاء والعويل، في اليوم العاشر من المحرّم، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين، وظهر ذلك بصورة لم تعهد من قبل)(٣) .

٦ - ثمّ حدث تطوّر كبير على شدّة المآتم الحسينية وقوّتها، بعد سنة ثمان وأربعين وخمسمِئة بعدما نقل رأس الحسينعليه‌السلام - على أحد الأقوال - من مدينة عسقَلان(٤) في فلسطين إلى القاهرة، حيث مدفنه

____________________

(١) المستعلي بالله الفاطمي: أحمد بن معد المستنصر بالله التاسع من الخلفاء الفاطميين. ولد بالقاهرة سنة ٤٨٧ هـ، وصل إلى الحكم بسعي الوزير بدر الدين الجمالي وابنه الأفضل الذي سيطر على شؤون الدولة استعاد أفاميه وصور من الصليبيين توفّي سنة ٤٩٥ هـ. (معلوف، لويس: المنجد ٢ / ٦٦٠).

(٢) تغري بردي، يوسف، النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة، ٥ / ١٥٣، ١٥٤.

(٣) حسن، حسن إبراهيم - تاريخ الدولة الفاطمية - ص٦٥٧.

(٤) اختلفت الأقوال في الموضع الذي دُفن فيه رأس الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقد ذكر سبط ابن الجوزي أنّها خمسة مواضع هي: (١) كربلاء (٢) المدينة (٣) دمشق (٤) الرقّة (٥) عسقلان ثمّ إلى القاهرة.

وجعل الاحتمال الأول هو الأشهر (سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغل: تذكرة الخواص، ص٢٣٨ - ٢٣٩) في حين يرى الإمام ابن تيمية أنّ المدينة هو الموضع الأكثر رجحاناً (ابن تيمية، أحمد: مكان رأس الحسين، ص١٧، ص٢٥). ويفصّل العسقلاني في صواعقه كيفية الدفن في دمشق، وأنّه كان أيام الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (العسقلاني، أحمد بن حجر: الصواعق المحرقة، ص١٩٩).

ويرى الخوارزمي أنّ الخليفة الأموي عُمَر بن عبد العزيز سأل عن مكان دفن رأس الحسين (.. فنبشه، وأخذه والله أعلم بما صنع به والظاهر من دينه أنّه بعثه إلى كربلاء...) (الخوارزمي، الموفق بن أحمد: مقتل الحسين ٢ / ٨٤).

في حين أنّ الشبراوي يذكر أنّ الرأس دُفن في المدينة، وقيل أُعيد إلى كربلاء بعد أربعين =

١٢٦

اليوم، والمسجد المنسوب إليه. ممّا زاد في البكاء والنوح بعد ذلك. (وكانوا ينحرون في يوم عاشوراء، الإبل والبقر والغنم، ويكثرون النوح البكاء ويسبّون من قتل الحسين. ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم)(١) .

٧ - ورد في ذكر بعض مراسم عاشوراء، السماط الذي يوضع لمجلس العطايا ودار الملك بمصر. ذلك في يوم عاشوراء منذ سنة خمس عشر وخمسمِئة ٥١٥ هجرية(٢) .

٨ - ثمّ وردت إشارة إلى عاشوراء سنة ٥١٦ هجرية، حيث ذكر (ولمّا كان عاشوراء من سنة ست عشر وخمسمِئة، جلس الخليفة

____________________

= يوماً من قتله (الشبراوي، عبد الله بن محمد بن عامر: الإتحاف بحب الأشراف، ص٤١) ولم يذكر الرقّة أحد غير صاحب التذكرة أعلاه. وهو نفسه يذكر أنّ الفاطميين هم الذين نقلوا الرأس من دمشق إلى عسقلان وبعد مدّة طويلة نقل إلى القاهرة. وهو ما ذكره الشبراوي أيضاً (ص٧٥) ومشهد رأس الحسين في عسقلان سجّلته بعض كتب الرحلات، راجع ابن بطوطة، محمد بن إبراهيم اللواتي، رحلة ابن بطوطة (ص٦٠) وكذلك (القزويني، زكريّا بن محمد: آثار البلاد وأخبار العباد، ص٢٢٢) وصار مشهد الرأس في القاهرة من المعالم البارزة فيها منذ ذلك الحين. (الكناني، محمد بن أحمد بن جبير: رحلة ابن جبير، ص١٩)، وتبقى مسألة نقل الرأس إلى عسقلان مسألة تحتاج إلى تأمّل، ولماذا لم ينقل الفاطميون الرأس مباشرة إلى القاهرة؟ ويورد الشيخ محمد جواد مغنية، احتمالاً غير مستبعد بأنّ المشهد المنسوب للحسين في القاهرة يعود إلى زيد بن علي بن الحسين (مغنية، محمد جواد: الشيعة والحاكمون، ص١١٨).

وأجد نفسي تميل إلى قبول هذا الاحتمال الأخير. وأمّا الراجح من مواضع دفن الرأس الشريف عند الشيعة، فهو كربلاء، وهو المشهور عند علمائهم (بحر العلوم، محمد تقي: مقتل الحسين، ص٤٧٢). وأظن أنّه أقوى الاحتمالات لارتباط المسألة باهتمام أكبر عند علماء الشيعة، ولأنّه أمر راجح أنْ يسلّم يزيد رأس الإمام الحسين إلى ولده الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، خاصة بعد الأجواء التي أحدثتها خطبته في المسجد، ممّا جعل يزيد يعجّل بإخراجهم من الشام، وهذا الاحتمال هو الذي جعله سبط ابن الجوزي الأشهر كما مرّ أعلاه.

(١) المقريزي، أحمد بن علي: الخط ٢ / ٢٠٤.

(٢) المقريزي، أحم بن علي: الخطط ٢ / ٢١٣.

والسماط هو ما يبسط من الأفرشة ليوضع عليه الطعام.

١٢٧

الآمر بأحكام الله(١) على باب الباذهج، يعني من القصر، بعد مقتل الأفضل(٢) وعود الأسمطة إلى القصر)(٣) .

ويبدو من النصّ التالي، أنّ الخليفة الفاطمي، كان له عطاء خاص للقرّاء، إذ قد (خرج الرسم المطلق للمتصدّرين، والقرّاء الخاصين، والوعّاظ والشعراء وغيرهم على ما جرت به عادتهم)(٤) .

٩ - أمّا في سنة ٥١٧ هجرية فإنّ مجالس العزاء والوعظ، لم تنحصر في يوم عاشوراء، بل راحت تبدأ من ليلته فقد ذُكر أنّه (في ليلة عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمِئة، اعتمد لأجل الوزير المأمون على السنّة الأفضلية، من المضي إلى التربية الجيوشيّة، وحضور جميع المتصدّرين والوعّاظ، وقرّاء القرآن إلى آخر الليل وعوده إلى داره. واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك.

وجلس الخليفة على الأرض، مثلما يُرى به الحزن وحضر من شرّف بالسلام عليه، والجلوس على السماط بما جرت به العادة)(٥) .

حيث يلاحظ، دخول عنصري قراءة القرآن والوعظ. في ضمن عناصر مراسم العزاء والمآتم التي تقام في ليلة عاشوراء ويومها.

____________________

(١) الأمر بأحكام الله: هو أبو علي منصور بن أحمد (المستعلي بالله) الفاطمي عاشر الخلفاء الفاطميين في مصر، ولد ١٠٩٦م - ٤٩٠ هـ وبويع له بالخلافة وهو ابن خمس سنين بعد وفاة أبيه المستعلي. توفّي سنة ١١٣٠م - ٥٢٤ هـ. قام وزير أبيه الأفضل بشؤون الدولة، وفي عهده استفحل أمر الصليبين. (الزركلي، خير الدين: الأعلام ٧٢ / ٢٩٧).

(٢) الأفضل بن أمير الجيوش، قائد كبير، كان قد توجّه إلى القدس سنة ٤٩١ وملكها بعد قتال، وكان للأفضل تأثير كبير على البلاد الفاطمي، حيث تدخّل وغيّر ولاية عهد المستنصر بالله الفاطمي المتوفّي سنة ٤٨٧ هـ، من ولده الأكبر الذي كان قد ولاّه أبوه عهده، وشرع بأخذ البيعة له في مرضه، فأخذ الأفضل يماطله حتى مات، فقام الأفضل، بالاجتماع بالأمراء وكبار رجال الدولة وأثار مخاوفهم من نزار، حتى بويع لأخيه الصغير أحمد، فبويع ولقبه المستعلي بالله (حسن، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام ٤ / ١٧١).

(٣) (٤) (٥) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط ٢ / ٢١٣.

١٢٨

هذا ما استطعت أنْ أسجّله، من إشارات وأدلّة على ما كان يهتم به الخلفاء الفاطميون، في مصر أيّام دولتهم فيها وهو المحور الأول من هذه الدراسة.

المحور الثاني

في بيان المراسم والكيفيّة، التي كان الخلفاء الفاطميّون، يحيون بها مجالس العزاء في عاشوراء.

لقد ذكرت بعض المصادر ذلك، بشيء من التفصيل، بما لم نعهده في أي مصدر تحدث عن البويهيين في بغداد، ومقدار اهتمامهم بمظاهر الحداد والحزن، في يوم عاشوراء، إذ لم توضّح تلك المصادر، كيف كان يحيي البويهيون، تلك المظاهر وهل كانت لهم مراسم خاصّة بها.

أمّا مراسم عاشوراء عند الفاطميّين، فقد ذكر في هذا الصدد: (فإذا كان يوم العاشر من المحرّم، احتجب الخليفة عن الناس. فإذا علا النهار، ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيّروا زيّهم ولبسوا لباس الحزن، ثمّ صاروا إلى المشهد الحسيني بالقاهرة، وكان قبل ذلك يعمل المأتم بالجامع الأزهر، فإذا جلسوا فيه، بمن معهم مع الأمراء والأعيان وقرّاء الحضرة، والمتصدّرين في الجوامع جاء الوزير فجلس صدراً... والقاضي وداعي الدعاة من جانبيه. والقرّاء يقرؤون نوبة فنوبة، ثمّ ينشد قوم من الشعراء - غير شعراء الخليفة - أشعاراً يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت. وتصيح الناس بالضجيج والبكاء والعويل.

فإذا كان الوزير رافضيّاً على مذهب القوم، تغالوا في ذلك وأمعنوا، وإنْ كان الوزير سنّياً اقتصروا. ولا يزالون كذلك حتى تمضي

١٢٩

ثلاث ساعات، فيُستَدعون إلى القصر عن الخليفة، بنقباء الرسائل. فيركب الوزير، وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما، إلى باب الذهب (أحد أبواب القصر) فيجدون الدهاليز، قد فُرِشت مساطبها بالحُصر والبُسط، وينصب في الأماكن الخالية الدكك لتلحق بالمساطب والفرش، ويجدن صاحب لباب جالساً هناك. فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القرّاء وينشد المنشدون، ثمّ يفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة (وليس على وجوهها وإنّما تُخالف مفارشها) ثمّ يفرش عليها سماط الحزن، مقدار ألف زبدية من العدَس والمسلوقات والمخلّلات والأجبان والألبان الساذجة، وأعسال النحل والفطير المغيّر لونه بالقصد، لأجل الحزن.

فإذا اقترب الظهر وقف صاحب الباب ببابه، ومن الناس مَن لا يدخل من شدّة الحزن، فلا يُلزِم أحد بالدخول. فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أمكانهم ركباناً، بذلك (الزيّ) الذي ظهروا فيه من قماش الحزن. وطاف النّواح في القاهرة في ذلك اليوم، وأغلق البيّاعون حوانيتهم إلى ما بعد العصر، والنوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقّتها، فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم، ويتصرّفون في بيعهم وشرائهم، فكان (ذلك) دأب الخلفاء الفاطميّين مِن أوّلهم المعزّ لدين الله إلى آخرهم العاضد عبد الله)(١) .

إن النصّ السابق، قد أوضح لنا أنّ هناك ثياباً خاصة للحزن،

____________________

(١) تغري بيدي، يوسف: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة، ٥ / ١٥٣، ١٥٤. والعاضد بالله هو عبد الله بن يوسف ابن الحافظ، العلوي الفاطمي ولد عام ٥٤٤ هـ آخر الخلفاء الفاطميين. استنصر بنور الدين لقتال الصليبيين دفاعاً عن مصر، فأرسل إليه صلاح الدين الأيّوبي، الذي تولّي الوزارة، وتصرّف في شؤون الملك حتى قضى على الفاطميين، توفّي في القاهرة سنة ٥٦٧ هـ.

١٣٠

تُلبَس يوم عاشوراء ويتّجه الكل إلى جامع الأزهر، ثمّ انتقلت المراسم إلى مشهد الحسين بعد ذلك، ولا يحضر الخليفة إلى المسجد، بل يتولّى الوزير رعاية تلك المراسم، وبعد قراءة القرآن وإنشاد الشعر الرثائي وارتفاع الصياح والبكاء، يرجع الناس إلى قصر الخليفة حيث يعدّ طعام خاص بأهل العزاء ليس فيه للأُبّهة والترف أثر.

وتُنشَد المراثي هناك مرّة أُخرى، قبل تناول الطعام، ثمّ ينصرف الناس بعد ذلك بثياب الحزن إلى أماكنهم، بينما يبقى النائحون والمنشدون، يطوفون في شوارع القاهرة وأزقّتها، ثمّ تعود الحياة مرّة أُخرى إلى الأسواق، بعد العصر حيث يفتح الناس حوانيتهم.

ويبدو أنّ تلك المراسم التي كانت تجري تحت إشراف الخليفة الفاطمي، قد تغيّرت، وانتقلت من قصر الخلافة، إلى قصر أحد الأمراء، كان مستولياً على مقاليد الأمور، حيث ذُكر أنّه (في يوم عاشوراء يعني من سنة خمس عشرة وخمسمِئة عُبّي السماط بمجلس العطايا، من دار الملك بمصر، التي كانت يسكنها الأفضل، بن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بيوم عاشوراء، وهو في غير المكان، الذي الجاري به العادة (هكذا) في الأعياد ولا يعمل مدوّرة خشب، بل سفرة كبيرة من أدم(١) والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس.

وجمع الزبادي؛ أجبان وسلائط ومخلّلات وجميع الخبز من شعير. وخرج الأفضل من باب فرد الكم. وجلس على بساط الصوف من غير مشورة، واستفتح المقرؤون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول؛ الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدَس أسود، ثمّ بعده عدس مصفّى إلى آخر السماط، ثمّ رُفِع وقُدّمت صحون كلّها عسل ونحل)(٢) .

____________________

(١) الأدم: الجلد.

(٢) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط ٢ / ٢١٣.

١٣١

ويبدو أنّ الأمر لم يستمر، إذ عادت الأمور إلى ما كانت عليه، في قصر الخليفة الفاطمي، في السنة التالية وهي سنة ٥١٦ هجرية.

إذ (لمّا كان يوم عاشوراء من سنة ست عشر وخمسمِئة، جلَس الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهبج - يعني القصر - بعد قتل الأفضل، وعود الأسمطة إلى القصر، على كرسيّ جريدٍ بغير مخدّه، مثلما هو وجميع حاشيته). وهنا بيان لكيفية جلوس الخليفة الفاطمي من شدّة حزنه على كرسي متّخذ من جريد النخل بدون وسائد، بما لم يوضّح في النصوص السابقة.

ونعود إلى النصّ، إذ يُذكر أنّه قد (سلّم عليه الوزير المأمون، وجميع الأمراء الكبار والصغار، بالقراميز، وأُذن للقاضي والداعي والأشراف والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثّمون حفاة)(١) .

والظاهر أنّ القائد الأفضل قد أحدث أساليب جديدةً في مراسم عاشوراء، استمرّت حتى بعد مقتله، كما نجد ذلك في مراسم عاشوراء، من سنة سبع عشرة وخمسمِئة، النصّ التالي (وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمِئة، اعتمد الوزير المأمون على السنّة الأفضلية، من المضي فيها إلى التربة الجيوشيّة، وحضور جميع المتصدّرين والوعاظ وقرّاء القرآن إلى آخر الليل وعوده إلى داره. واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة على الأرض، مثلما يُرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على السماط بما جرت به العادة)(٢) .

وهكذا استمرت هذه المراسم في يوم عاشوراء، طوال حكم الفاطميّين لمصر (فلمّا زالت الدولة اتخذت الملوك من بني أيّوب،

____________________

(١) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط ٢ / ٢١٣.

(٢) المصدر نفسه، ص٢ / ٢١٣.

١٣٢

يوم عاشوراء يوم سرور، يوسّعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات ويتّخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمّام، جرياً على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجّاج، في أيّام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك أناف شيعة عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجه، الذين يتّخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن عليّ؛ لأنّه قُتل فيه. وقد أدركنا بقايا ما عمله بنو أيّوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسّط)(١) . وبهذا انتهى المحور الثاني، الذي كان حول المراسم والكيفيّة، التي كان الفاطميون يُحيون بها موسم عاشوراء.

____________________

(١) لم يذكر المقريزي في نصّه هذا، المصدر الذي اعتمده في قوله، أنّ الحجّاج هو الذي سنّ لأهل الشام، اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وفرح.

وذكرت كتب المقاتل أنّ الصحابي سهل بن سعد الساعدي، كان قد دخل دمشق أيام دخول ركب السبايا إليها، حيث يصف أهلها بأنّهم (قد علّقوا الستور والحجُبُ والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء لعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن)! (الخوارزمي، الموفق بن أحمد: مقتل الحسين ٢٢/٦٧).

ومرّ بنا في ص٤٨ من هذا البحث بيت الشريف الرضي:

كانت مآتم بالعراق تعدّها

أمويّة في الشام مِن أعيادها

(ديوان الشريف الرضي، ١ / ٢٧٨) وقد أورد المقريزي في خططه قصيدة لأحد الشعراء يذكر فيها بعض مظاهر الفرح والسرور يوم عاشوراء (الخطط: ٢ / ٤٥٩). وذكر صاحب الغدير في ترجمة الشاعر ابن منير الطرابلسي، ٠ت: ٥٤٨ هـ) قصيدته التي بعثها للشريف المرتضى. بعدما حبَس غلاماً له اسمه تتر، حيث قال له على سبيل الدعابة: إنّه إذا لم يردّ إليه غلامه، فإنّه سيظهر السرور والفرح يوم عاشوراء، نكاية به:

وحلقت في عشر المحرّم

ما استطال من الشعر

ولبست فيه أجلّ ثوبٍ

للمواسم يدّخر

وغدوت مكتحلاً أُصا

فحُ مَن لقيت من البشر

(الأميني، عبد الحسين أحمد: الغدير، ٤ / ٣٢٦).

١٣٣

المحور الثالث

أمّا المحور الثالث، والأخير، من هذه الدراسة، المتعلّقة بالفاطميّين، فيهتمّ بالأماكن التي كان الفاطميون يقيمون فيها، مراسم عاشوراء ومظاهر الحزن والمأتم.

فمن خلال النصّوص التي مرّت، ونصوص أخرى، سنتوقّف عندها، يمكن إحصاء تلك الأماكن بما يلي - وذل حسب التسلسل التاريخي لإقامة المآتم في القاهرة -:

١) قبر السيدتين كلثوم ونفيسة

مرّ بنا أنّ تاريخ المآتم الحسينية في القاهرة كان سابقاً على وصول الفاطميّين (.. وقد كانت مصر تخلو منهم - الشيعة - في أيام الأخشيدية والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة)(١) .

وعندما دخل المعزّ الفاطمي إلى القاهرة سنة ٣٦٣ هجرية استمرت مظاهر العزاء عند قبري السيدتين المذكورتين.

وهذان القبران هما أقدم الأماكن التي كانت تُحيى عندها مراسم عاشوراء..

٢ - جامع القاهرة

حيث ورد أنّ المنشدين والنائحين كانوا يتّجهون إلى جامع القاهرة ثمّ ينحدرون منه وهم في حالة إنشاد ونياحة. (وفي يوم

____________________

(١) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط.

١٣٤

عاشوراء يعني من سنة ست تسعين وثلاثمِئة، جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق، وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد)(١) .

وجامع القاهرة هو جامع عمرو بن العاص(٢) ويعرف أيضاً بالمسجد العتيق. (تأسس سنة إحدى وعشرين من الهجرة).

٣) الجامع الأزهر

لقد أشاد الفاطميون مساجد عدّة في القاهرة. كان أبرزها وأشهرها، هو الجامع الأزهر. حيث شاده جوهر الصقلّي لما اختطّ القاهرة، واكتمل بناؤه سنة إحدى وستين وثلاثمِئة. ويبدو أنّ الخلفاء الفاطميين كانوا يميلون إلى نقل مراسم عاشوراء إلى الجامع الأزهر. دعماً لهذا المسجد الذي أشادوه. وبذلك انتقلت تلك المناحات من المسجد العتيق (القاهرة) إلى الجامع الأزهر(٣) .

٤) المشهد الحسيني

وهو ما يُعرف اليوم بمسجد سيّدنا الحسينعليه‌السلام بالقاهرة، حيث كان لنقل رأس الإمام الحسين من مدينة عسقلان بفلسطين ودفنه هناك في جمادي الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمِئة(٤) ، كان ذلك أثر

____________________

(١) المصدر نفسه، ٢ / ٢١٣.

(٢) عمرو بن العاص بن وائل السهمي القريشي، صحابي ولد بمكة، عام ٥٠ قبل الهجرة، عرف بالدهاء، فتح مصر أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وصل إلى الإسكندرية وبنى الفسطاط بمصر. مال إلى جهة معاوية في حرب صفّين، وكان أحد الحكمين فيها، مات سنة ٤٣ هـ. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٥ / ٧٩).

(٣) ابن تغري بردي، يوسف: النجوم الزاهرة ٥ / ١٥٣. وانظر كذلك المقريزي، أحمد بن علي: الخطط، ٤٣١.

(٤) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط ٢ / ٢٠٤.

١٣٥

كبير في اشتداد مظاهر الحزن يوم عاشوراء، وكان من الطبيعي جداً أنْ تنتقل مراسم عاشوراء ومناحاتها إلى الموضع الذي دفن فيه الرأس الشريف. (وقد ناقشنا موضوع ما قيل من انتقال رأس الحسين من عسقلان، ومها إلى القاهرة، ص١٢٦، الهامش ٤).

(فإذا كان يوم عاشوراء من المحرّم، احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار، ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيّروا زيّهم، ولبسوا قماش الحزن، ثمّ صاروا إلى المشهد الحسيني بالقاهرة. وكان قبل ذلك يعمل المأتم بالجامع الأزهر)(١) ، ثمّ برزت ظاهرة الذبائح عند هذا المشهد؛

(وكانا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر، الإبل والبقر والغنم، ويكثرون النوح والبكاء، ويسبّون من قتل الحسين ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولته)(٢) .

فالنصّ الأول أعلاه: يوضّح أنّ مراسم عاشوراء، انتقلت من الجامع الأزهر إلى المشهد الحسيني. بعد انتقالها من جامع الأزهر في أوائل الحكم الفاطمي.

٥) التربة الجيوشيّة:

حيث انتقلت بعض ممارسات الحزن والنياحة، في بعض السنين، إلى التربة الجيوشية، بأمر بعض القوّاد، (في ليلة عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمِئة اعتم الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية، من المضي إلى التربة الجيوشية وحضور جميع المتصدّرين

____________________

(١) ابن تغري بردي، يوسف: النجوم الزاهرة، ٥ / ١٥٣.

(٢) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط ٢ / ٢٠٤.

١٣٦

الوعاظ وقرّاء القرآن إلى آخر الليل)(١) .

والتربة هي المقبرة، ويبدو أنّها مقبرة للجيوش وكبار العسكر.

٦) قصور الخلفاء:

حيث مرّ بنا سابقاً في المحور الثاني، عن كيفية إحياء عاشوراء، أنّ المنشدين والنائحين بعدما يحضرون ثلاث ساعات، في الجامع ينحدرون إلى الخليفة. حيث يقرأ القرّاء وينشد المنشدون أيضاً(٢) ثمّ يهيّأ سماط عاشوراء، عند الظهر ويدخل الناس للطعام.

٧) الحسينية:

يمكن أنْ نقول، أنّ أهم تطوّر جرى على المأتم الحسيني، من حيث الأمكنة التي يقام فيها، هو إشادة أمكنة خاصة بإقامة المآتم. وهي ما تعرف اليوم (بالحسينية)، التي تنتشر في الأقاليم الشيعية في العالم. وسنأتي على تفصيل ذلك، في الفصل الرابع من هذا البحث، حين الحديث عن الأماكن، التي يقام فيها المنبر الحسيني في العصر الحالي.

إنّ أوّل بناء شيّد كي يكون مخصّصاً لإقامة المآتم ومجالس العزاء كان في أيام الفاطميّين بمصر.

إذ (كان من أهمّ ما تميّزت به القاهرة في عهد الفاطميّين (الحسينية) وهو بناء كان الفاطميون يقيمون في كل عام، ذكرى مقتل

____________________

(١) المصدر نفسه، ٢ / ٢١٣.

(٢) تغري بردي، يوسف: النجوم الزاهرة ٥ / ١٥٣، ١٥٤. المقريزي، أحمد بن علي: الخطط، ٢ / ٢١٢.

١٣٧

الشهيد الحسين، في موقعة كربلاء)(١) .

هذا وقد ذك المقريزي في خططه، حينما تعرّض إلى حارات القاهرة، أنّ هناك حارة باسم (الحسينيّة) وقد ذكرها فيها بناءً ضخماً(٢) . ولكن دون أنْ يربط ذلك بإقامة المآتم الحسينيّة.

وبنهاية هذا المحور، وهو الثالث، من هذا المبحث نكون قد شارفنا على نهاية المبحث الثاني من هذه الدراسة.

وإكمالاً للفائدة، ارتأيت أنْ أجري مقارنة بين مظاهر الحزن والمآتم، التي كانت تقام في بغداد أيام البويهيين، وبين ما كان منهما في القاهرة أيام الفاطميّين.

نقاط الاتفاق والاختلاف بين البويهيين والفاطميين فيما يتعلّق بالمآتم الحسينية

١ - تأخُّر البويهيّين، فيما يتعلّق بالإعلان عن مراسم عاشوراء ومآتمهما، فقد دخل أحمد بن بويه، (معزّ الدولة)، إلى بغداد، سنة ٣٣٤ هـ بينما أصدر أوامره بالحداد العام في بغداد في سنة ٣٥٢ هـ. أمّا المعزّ الدين الله الفاطمي، فقد دخل القاهرة في شهر رمضان ٣٦٢ هجرية، وعبد أربعة أشهر جاء شهر المحرّم ٣٦٣ هجرية. فاشتدت مظاهر الحزن، حينما انصرف خلق من الشيعة وأتباعهم إلى مشهدَي السيدتين كلثم ونفيسة.

٢ - سبق أنْ أثرنا تساؤلاً حول موقف البويهيّين من مراسم العزاء والحِداد، في هل أنّهم أمروا بإقامة هذه المآتم على الحسين في البلدان

____________________

(١) علي، سيد أمير: مختصر تاريخ العرب - ص٤٩٩.

(٢) المقريزي، أحمد بن علي: الخطط ٢ / ٤٠٩.

١٣٨

التي كانت تحت سيطرتهم في بلاد إيران وبل وصولهم إلى بغداد، أم لا؟ حيث لم تذكر المصادر التاريخيّة أيّ شيء عن هذا الأمر. وكذلك نتساءل هنا: هل أنّ الفاطميّين أقاموا تلك المآتم في المغرب، قبل وصولهم إلى القاهرة؟ والإجابة هي ذاتها، حيث لم تذكر لنا المصادر التاريخية شيئاً عن ذلك. ولقد مرّ بنا النصّ التالي: (في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة وهو يوم غدير خم، تجمّع خلق من أهل مصر والمغاربة للدعاء فأعجب المعزّ ذلك) وتعجّب المعزّ هنا قد يعني أنّه لم يشاهد إحياء هذه المناسبة من قبل، ولعلّ هذا هو الذي شجّعه، على تأييد ما كان يفعله الشيعة بمصر أيام عاشوراء. ولهذا يمكن لنا أنْ نقول: إنّ الفاطميّين قد وجدوا أرضيةً للمآتم الحسينية في القاهرة - كما وجدها نظراؤهم البويهيون في بغداد.

٣ - في بغداد(١) ، كانت مظاهر النياحة والعزاء، تقام في الشوارع والبيوت، ثمّ تطوّر الأمر إلى إحيائها عند مشهد الإمامين موسى بن جعفر الكاظم ومحمد بن علي الجوادعليه‌السلام في شمال بغداد. أمّا في القاهرة فإنّ مظاهر العزاء كانت تتّجه قبل الفاطميّين إلى مشهدي السيدتين كلثوم ونفيسة، ثمّ إلى مساجد القاهرة والأزهر ومشهد الإمام الحسينعليه‌السلام ، أيام الفاطميّين. وما تزال المراقد المقدّسة سواء في العراق أم إيران تستقطب أضخم مظاهر العزاء الحسيني وتكون عندها أكبر التجمّعات والمآتم.

٤ - مما يّميّز إقامة العزاء في القاهرة، مشاركة الخليفة الفاطمي، إضافة إلى أركان الدولة، حينما تبدو المآتم وكأنّها مراسم رسميّة للدولة حتى إنّها تقام في قصور الخلفاء الفاطميين. بينما لم تنقل

____________________

(١) البحث هنا عن مظاهر العزاء في بغداد أيام البويهيين، أمّا عموم العراق وخاصة كربلاء (١٠٠ كم جنوب غرب بغداد) فإنّها كانت تضمّ تجمّعات الزائرين ومجالس العزاء في وقت مبكر جداً، راجع ص٤٧.

١٣٩

المصادر التاريخيّة مثل ذلك أو حتى أقل منه في بغداد أيام البويهيين، بل كانت المظاهر في بغداد تبدو شعبية إلى حدٍ كبير. أو في بيوت بعض وجهاء بغداد (الرؤساء)، راجع ص٥٣.

٥ - بيّنتْ المصادر التاريخية تفصيلات للأعراف والأساليب والتقاليد، التي كانت تُحيى فيها مراسم عزاء يوم عاشوراء بالقاهرة، وكيف يجلس الخليفة والوزير وقاضي القضاة وغيرهم وبيان وصف سماط عاشوراء، وخروج المنشدين، وتفصيلات أخرى كمراسيم احتفالية خاصة. بينما كانت أساليب إحيائها في بغداد مجملة غير واضحة التفاصيل.

٦ - كانت الفتن الطائفية في بغداد تصاحب أيام الحداد في عاشوراء، في سنين عديدة. بحيث صارت تلك الفتن ملازمة لأيام عاشوراء، بشكل يكاد يكون سنويّاً، وقد يؤدّي إلى حوادث مؤسفة. بينما لم تنقل مصادر التاريخ أي فتنة طائفيّة في مصر أيام الفاطميّين، إلاّ بعض حالات التشنّج التي كانت ستؤدّي إلى فتنة، لولا تدخّل رجال الدولة، في سنة ٣٦٣ هـ، ثمّ لم يشار إلى أي إشكالٍ أو توتّر طائفي، حتى نهاية الدولة الفاطمية.

٧ - حدث تطوّر مهم في مؤسّسة المأتم الحسيني في القاهرة، عبر إنشاء بناء خاص بإقامة المآتم الحسينية، وأطلق عليها اسم (الحسينيّة). بينما لم يذكر التاريخ شيئاً من ذلك في بغداد. نعم تنتشر الآن مئات الحسينيّات في بغداد، ولا أحسب أنّ هناك بناءً يعرف بالحسينية في القاهرة حاليّاً.

٨ - كان البويهيون، قد أصدروا أوامرهم في إقامة العزاء، وخروج مواكب النياحة في بغداد، في أيام عاشوراء. ولم يثبت أنّهم وسّعوها إلى أكثر من ذلك، في حين نجد إنّ بعض الخلفاء الفاطميّين (وهو الحاكم بأمر الله) قد أصدر أوامره، بالإعلان عن تعطيل دوائر

١٤٠

الدولة، وبعض الحوانيت، اعتباراً من اليوم السابع من المحرّم، وكان هذا سنة 404 هجرية.

9 - بروز المنشدين والنائحين، وقرّاء الشعر الرثائي في الدولة الفاطمية، كان أوضح في مراسم عاشوراء، من تلك التي كانت تقام في بغداد، حيث جاء وصف كيفيّة خروج المنشدين، بشكل جماعي من المساجد إلى قصور الخلفاء الفاطميّين. وكما مرّ بنا، أنّ قاضي القضاة قد أمر المنشدين بعدم التكسّب بالنياحة، وأنْ لا يثقلوا على الناس، في هذا الأمر. وأكّدنا على هذه النقطة بالذات؛ لأنّ المنشدين والنائحين يعتبرون أسلاف ما يعرف الآن بخطباء المنبر الحسيني.

ولعلّ الكثير من نقاط الاختلاف أعلاه، عائد إلى أنّ الفاطميين كانوا خلفاء مطلقي السلطة، بينما كان البويهيون أمراء ضمن الخلافة العباسية وإنْ كانت شكلية.

وبهذه المقارنة، بين مراسم العزاء الحسيني ومواصفاته، في عهدي البويّهيين في بغداد، والفاطميّين في القاهرة، ينتهي تمام حديثنا عن الفصل الثاني، من هذا البحث.

١٤١

ملحق

نص خطبة الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين، في مسجد دمشق

كما نقلها الموقف بن أحمد الخوارزمي في مقتل الحسينعليه‌السلام

ورُوي: أنّ يزيد أمرَ بمنبرٍ وخطيب، ليذكر للناس مساوئ للحسين وأبيه عليّعليه‌السلام ، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين:

(ويلك، أيّها الخاطب! اشتريت رضا المخلوق بسخَط الخالق؟ فتبوّأ مقعدك من النار).

ثمّ قال: (يا يزيد! ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهن لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب)، فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين! ائذن له ليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئاً، فقال لهم: إنْ صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: وما قدر ما يُحسِن هذا؟ فقال: إنّه من أهل بيتٍ قد زُقّوا العِلم زقّاً، ولم يزالوا به حتى أذِن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون؛ وأوجلّ منها القلوب، فقال فيها:

(أيّها الناس! أُعطينا ستّاً، وفُضّلنا بسبع: أُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الأمّة، وسيّد شباب أهل الجنّة، فمن عرفَني فقد عرفّني، ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي: أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزمَ والصفا، أنا ابن مَن حمَل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خير مَن طاف

١٤٢

وسعى، أنا ابن خير مَن حجّ ولبّى، أنا ابن مَن حُمِل على البراق في الهوا، أنا ابن مَن أُسرِي به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان مَن أسرى، أنا ابن من بلغَ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن مَن دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن مَن صلّى بملائكة السما، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن مَن ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلاّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى إلى القبلتين، وقاتل ببدرٍ وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، ورسول ربّ العالمين، أنا ابن المؤيّد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر مَن مشى من قريش أجمعين، وأوّل مَن أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهمٌ مِن مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علم الله، سمِحٌ سخي، بهلولٌ زكي أبطحي رضي مرضي، مقدامٌ همام، صابر صوّام، مهذّب قوّام، شجاع قُمقام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جناناً، وأطبقهم عناناً، وأجرأهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسدٌ باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب - إذا ازدلفت الأسنّة، وقَرُبت الأعنّة - طحن الرحى، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز؛ وصاحب الإعجاز؛ وكبش العراق، الإمام بالنصّ والاستحقاق مكّيٌّ مدنيّ، أبطحيٌّ تهاميّ، خيفيّ عقبيّ، بدريٌّ أحديّ، شجريٌّ مهاجري، من

١٤٣

العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين، الحسن والحسين، مُظهِر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كلّ طالب، غالب كلّ غالب، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول).

قال: ولم يزل يقول:(أنا أنا) حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أنْ تكون فتنة، فأمرَ المؤذّن: أنْ يؤذن، فقطع عليه الكلام وسكت، فلمّا قال المؤذن: الله أكبر! قال علي بن الحسين:

(كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا يُدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله)، فلمّا قال: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله! قال علي:

(شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي، ومخّي وعظمي)، فلمّا قال: أشهدُ أنّ محمداً رسول الله! التفت عليٌّ من أعلى المنبر إلى يزيد، وقال: (يا يزيد! محمد هذا جدّي أم جدك؟ فإنْ زعمت أنّه جدّك فقد كذبت، وإنْ قلت: أنّه جدي فلِمَ قتلت عترته؟)

قال: وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة، فتقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.

(الخوارزمي، الموفّق بن أحمد: مقتل الحسين 2 / 76 - 78).

١٤٤

الفصل الثالث:

مراحل تطوّر المنبر الحسيني

١٤٥

١٤٦

تمهيد

لقد شهد المنبر الحسيني تطوّراً كبيراً، على صعيدي الشكل والمضمون. فمن يقف عند نصّ من النصوص، التي جاءت في الفصل الثاني، من هذا البحث، وهي تنقل كيف كان يفد شاعرٌ أو منشدٌ، إلى إمام من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وكيف كان يتفاعل معه الحاضرون القليلون آنذاك، باللّوعة والأسى، ثمّ يحضر - في هذه الأيام - مجلساً حسينياً، لأحد خطباء المنبر الحسيني المبرّزين، مبتدءاً محاضرته بنصٍ قرآني، أو حديث شريف، ثمّ ينتقل إلى فنونٍ عدّة، من علم الرجال والتفسير والأخلاق والعقائد، وهو يطعّم محاضراته، بشواهد من الأدب والتاريخ، وأرقام علمية، ثمّ يتخلّص من كل هذه المواضيع المتنوّعة، بأسلوبٍ فنّي دقيق، حيث لا يشعر المستمع، إلاّ وقد دخل في أجواء الحزن والبكاء، على الإمام الحسينعليه‌السلام ، في نهاية المحاضرة(1) ، ومع جمهورٍ كبيرٍ من الحاضرين.

إنّ مَن يقارن بين هاتين الصورتين، سوف يدرك، بلا ريب، مدى التطوّر الكبير الذي طرأ على المنبر الحسيني، وأداء خطبائه، وما ينتظره جمهور المنبر منه. (سيأتي تفصيل مواصفات المنبر الحسيني في عصرنا الحالي في الفصل الرابع، إنْ شاء الله تعالى).

____________________

(1) سيأتي بيان فقرات خطبة المنبر الحسيني، في موضوع (هيكليّة المنبر الحسيني) من الفصل القادم.

١٤٧

ولكي نواكب مسيرة التطوّر هذه - ولو عبر المفاصل الأساسية - لا بدّ أنْ نتابع وندرس، الأدوار أو المراحل التي مرّ بها المنبر الحسيني.

وخلال متابعتي لموضوع مراحل التطوّر هذه، وجدت أنّ هناك ثلاثة آراء هي:

1 - رأي طرحه الشيخ محمد مهدي شمس الدين(1) ، في كتابه (ثورة الحسن في الوجدان الشعبي) ويكاد يكون هذا الكتاب، أول من أثار هذا الموضوع، وبحثه. - حسب اطلاعي -.

2 - رأي ثانٍ، للخطيب داخل السيد حسن(2) ، في مدخل المجلّد الأوّل، من موسوعته (معجم الخطباء).

3 - رأي ثالث، لمركز دراسات الإمام الحسين في لندن، في مجلد (معجم خطباء المنبر الحسيني)، ضمن موسوعة (دائرة المعارف

____________________

(1) الشيخ محمد مهدي ابن عبد الكريم الحارثي الهمداني العاملي، عالم فقيه ومفكّر ومؤلّف إسلامي بارز، ولد في النجف الأشرف سنة 1931م. أنهى المقدمات الدراسية وحضور الدروس العليا، على أكابر العلماء والمجتهدين. هاجر إلى لبنان سنة 1969م، وعُيّن نائباً لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ثمّ رئيساً له عام 1993م. حاضر وشارك في العديد من المؤتمرات واللقاءات الدينية والفكريّة. (توفّي في بيروت سنة 2001) من آثاره: بين الجاهلية والإسلام، دراسات في نهج البلاغة، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، العلمانيّة... وآثار أخرى. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف 2 / 757).

(2) السيد داخل السيد حسن الخضري: ولد في مدينة الخضر التابعة لمحافظة المثنى (جنوب العراق) عام 1952، وهاجر إلى النجف الأشرف للدراسة الدينية عام 1967م. انخرط في صفوف طلبة العلوم الدينية، وكان يمارس الخطابة الحسينية، من خطباء المنبر الحسيني المعروفين المعاصرين، من مؤلّفاته: من لا يحضره الخطيب، أدب المنبر الحسيني، ومعجم الخطباء. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني، ص184).

١٤٨

الحسينية)، والتي صدر منها أكثر من عشرين مجلّداً حتى الآن.

وذلك حسب التسلسل التاريخي لصدور هذه الآراء فالأوّل سنة 1980م، والثاني سنة 1996م، والثالث في سنة 1999م.

فبالنسبة للرأي الأوّل، فقد ذكر الشيخ محمد شمس الدين، ثلاثة أدوار لهذا التطوّر وهي:

الدول الأول: من سنة 61 للهجرة إلى سقوط بغداد على يد هولاكو(1) سنة 654 هـ أو قبل ذلك بقليل.

الدور الثاني: من سقوط بغداد، وما تلته من قرون التخلّف، حتى عصر النهضة الحديث.

الدور الثالث: من بدايات العصر الحديث إلى الآن(2) .

أمّا بالنسبة للرأي الثاني، فقد أشار السيد داخل السيد حسن، إلى ثلاثة أدوار كالآتي:

الدور الأول: المآتم التي أقامها أهل البيت، أثناء رحلة السبا، في كربلاء والكوفة ودمشق والمدينة.

الدور الثاني: أدب الرثاء والفن والقصص، حيث كان يفد الشعراء، على أئمّة أهل البيت، وبروز القصّاصين.

الدور الثالث: تلخيص النشاطات الحسينية المختلفة في المجلس

____________________

(1) هولاكو: وهو حفيد جنكيز خان، ولد في سنة 1217م. فاتح مغولي، ومؤسّس دولة المغول الايلخانية في إيران. وصل بغداد وقتل آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله عام 1258م واحتلّ سورية ثمّ عاد إلى إيران. مات سنة 1265م. (1661 هـ) (معلوف، لويس: المنجد 2 / 734).

(2) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص249.

١٤٩

الحسيني الحالي(1) .

في حين أنّ مركز دراسات الإمام الحسينعليه‌السلام ، في لندن، وسّع هذه الأدوار في مجلّد (معجم خطباء المنبر الحسيني) ليجعل مراحل التطوّر، تمتدّ إلى سبع مراحل(2) ، سنذكرها عند مناقشة هذا الرأي. حيث تجمع المرحلة الأولى، الدورين الأوّل والثاني، اللذين ذكرهما الرأي الثاني أعلاه. فيما يذكر خمس مراحل، للفترة الانتقالية، منذ نهاية فترة أئمّة أهل البيت، حتى العصر الحديث، ومعه مرحلة المستقبل.

المبحث الأوّل: الراء في مراحل تطورّ المنبر الحسيني

سنحاول مناقشة الآراء الثلاثة الواردة أعلاه، واستخلاص ما نراه الأدق من هذه التقسيمات.

الرأي الأوّل ومناقشته

لقد اعتمد هذا الرأي، على مصدرين، في متابعة الأدوار التي مرّ بها المنبر الحسيني، وهما كتب المقتل، والشعر الرثائي. واعتبر المصدر الأوّل، مصدراً أساسياً، فيما اعتبر المصدر الثاني (الشعر) مصدراً ثانوياً. وما اعتمده الشيخ محمد مهدي شمس الدين، صاحب هذا الرأي، بيّنهُ بأنّ (الذي حملنا على اعتبار كتب المقتل، مصدراً أساسياً لهذا البحث، هو ما نعلمه من أنّ المؤلّفين الشيعة، قد كتبوا كثيراً في مقتل الحسينعليه‌السلام .

____________________

(1) السيد حسن، داخل: معجم الخطباء: 1 / 41 - 46 (اقتصرنا على نقل عناوين الأدوار).

(2) مركز دراسات الإمام الحسين، معجم خطباء المنبر الحسيني، ص37 - 77.

١٥٠

وإذا كان البعض منهم، قد كتب في هذا الموضوع، استجابة لحافز علمي محض، فإنّنا نقدّر أنّ هذا الفريق من المؤلّفين في هذا الموضوع نادرٌ وقليل، ولا شك أنّ أكثر المؤلّفين قد كتبوا، استجابة لحافزين متكاملين:

أحدهما: حافز التقوى الدينيّة، والولاء العاطفي لأهل البيت. ثانيهما: تلبيةً لحاجة الجماهير إلى مادّة مكتوبة، مبرمجة، لمقتل الحسين، لاستعمالها في التجمّعات، والمجالس، التي تُعقد في العصور التي دوّنت فيها. إذ أنّها بلا شك مرآة للنظرة العامّة إلى المأتم، ومحتواه الثقافي، والعناصر المكونة لهذا المحتوى)(1) .

أمّا بالنسبة لما اعتبره مصدراً مساعداً فإنّه يقول عنه:

(وأمّا المصدر المساعد، فهو شعر الرثاء الحسيني، في مختلف العصور الإسلامية. حيث إنّه يعكس - من بعض الجهات - حالة المآتم في عصره. وإنْ كان يفقد الدقّة النسبيّة في تصوير واقع المأتم الحسيني؛ لأنّ العامل الشخصي والذاتي فيه، يغلب على الجانب الموضوعي، الذي يفترض أنّه سمة الكتابة النثرية في كتب المقتل)(2) .

إنّ ما ذكره الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في اعتماده على كتب المقتل والشعر الرثائي، حيث يعتبران المصدران اللّذان يكاد ينحصر البحث فيهما، بالنسبة لهذا الموضوع. إذ لم يكتب أحد من القدامى، في مسألة تطوّر المنبر، أو يرصد حركته في بحث أو كتاب مستقل، بل لا بد للباحث اليوم، أنْ يتابع كتب الأدب، والتراجم، وغيرها، علّه يحصل على ما يعينه على هذا البحث.

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص250 - 251.

(2) المصدر نفسه، ص273.

١٥١

ثمّ يذكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أسماء المصادر التي اعتمدها من كتب المقتل وهي:

(1 - مقتل الحسين، لأبي مخنف لوط بن يحيى(1) ، وهو النصّ الموجود، في تاريخ محمد بن جرير الطبري(2) .

2 - مقاتل الطالبين: لأبي الفرج الأصفهاني (توفّي سنة 356).

3 - وآيات ابن أعثم(3) أبي محمد أحمد (توفّي سنة 314) المنقولة في مقتل الحسين للخوارزمي.

4 - كتاب الإرشاد، للشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي(4) (توفّي 413 للهجرة).

5 - مقتل الحسين للخوارزمي(5)(6) .

____________________

(1) لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف، يُعرَف بأبي مخنف، وجدّه مخنف بن سليم، صحابي شهد الجمل مع الإمام علي وكان يحمل راية الأزد وقتل فيها 36 هـ من أقدم مؤرّخي العرب ومحدّثيهم، له رسائل عن حوادث القرن الأول الهجري، احتفظ الطبري بالكثير منها في تاريخه، توفّي سنة 157 هـ. (القمّي، عباس: الكنى والألقاب 1 / 155).

(2) محمد بن جرير الطبري، أبو يعقوب، مؤرّخ موسوعي، مفسّر ومحدّث، ولد في آمل بطبرستان، تنقّل بين إيران والعراق والشام ومصر، أقام أخيراً في بغداد حيث توفّي سنة 310 هـ له مذهب في الفقه، وله عدّة آثار، أشهرها كتابُه: تاريخ الأمم والملوك، (معروف، لويس، المنجد، الأعلام، ص434).

(3) أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي، المؤرّخ، له كتاب الفتوح، معروف ذكر فيه إلى أيام الرشيد، وله كتاب التاريخ إلى أيام المقتدر. توفّي سنة 314 هـ (القمّي، عباس: الكنى والألقاب، 1 / 215).

(4) محمد بن النعمان البغدادي، أبو عبد الله، فقيه، توفّي في 28 رمضان 413 هـ / 1022 وكان قد ولد في 338 هـ / 949 م من آثاره: كتاب أوائل المقالات في المذاهب والمختارات. (كحالة، عمر رضا: معجم المؤلّفين 12 / 80).

(5) أبو بكر محمد بن أحمد الخوارزمي، من أهل خراسان، شاعر عالم من أئمّة الكتّاب، ثقة في اللغة ومعرفة الأنساب، اتصل الوزير العتبي، توفّي في نيسابور سنة 1997م - 387 هـ له كتاب (مفاتيح العلوم) ويُعَد من أقدم ما صنّفه العرب على الطريقة الموسوعية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 5 / 312).

(6) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص289.

١٥٢

والملاحظ، أنّ الشيخ محمد مهدي شمس الدين، لم يستفد من هذه المقاتل في الدور الأول، من أدوار المأتم الحسيني، كما لم يستفد منها كذلك في الدور الثالث. وهو يعلّق على عدم استفادته من المقاتل، التي كتبت في الدور الثالث، بقوله: (إنّ كتب المقتل التي كتبت في هذا الدور، لم تعد تصلح أنْ تصبح مصدراً لرصد التغيرات الشكليّة والنوعيّة، التي دخلت على المأتم الحسيني، في هذا الدور، إلاّ في حدود ضيّقة. فن المأتم ذات طبيعة، تختلف اختلافاً أساسياً، عن كتب المقتل فهذه الكتب مختصّة بحكاية قصّة الواقعة. وسنرى أنّ التغيّرات جعلت المأتم يتجاوز قصّة الواقعة إلى أغراض ومضامين أخرى)(1) .

أقول: وأودّ هنا أنْ أناقش ما أورده الشيخ شمس الدين، حينما اعتبر كتب المقتل، كمصدر أساسي في معرفة أدوار المنبر الحسيني، حيث إنّه لم يبيّن الفرق بين الكتب، التي أوردت قصّة واقعة كربلاء وأحداثها، وهي التي تعرف بكتب المقتل، وبين تلك الكتب التي أُلّفت على شكل موضوعات تُتلى، في المآتم الحسينية، تشتمل الموعظة، وأبيات العشر الرثائي، إضافة إلى ذكرها، بعضاً من تاريخ واقعة كربلاء.

فكتاب المقتل اليوم، هو كتاب المقتل نفسه قبل ألف سنة أو يزيد؛ لأنّ موضوعه واحد؛ وهو تسجيل واقعة كربلاء وأحداثها. وعلى هذا فإنّي أرى أنّ الاعتماد على كتب المقتل، بما هي كتب، جاءت لتسجيل أحداث كربلاء، لا تُعيننا على موضوعنا. نعم إنّما يفي بالغرض هنا، ما كُتب من مؤلّفات، على شكل مجالس، وموضوعات تتلى في المآتم، التي تقام أيام عاشوراء وغيرها. وهو ما وفّق إليه الشيخ شمس الدين، حينما اعتمد على كتاب المنتخب، للشيخ فخر

____________________

(1) المصدر نفسه، ص289.

١٥٣

الدين الطريحي النجفي(1) ، الذي أُلّف لغرض تلاوته كمجالس.

وأمّا كتاب مثير الأحزان، لابن نما الحلّي(2) فلم يكن كتاب مجالس حسينية ككتاب الطريحي، وإنّما كان كتاب مقتل، من ثلاثة أجزاء؛ في الأحداث قبل كربلاء، ثمّ أحداث يوم عاشوراء، وأخيراً الحوادث المتأخّرة عن القتل، وهي نفس الأجزاء في كتاب(اللهوف في قتلى الطفوف) وهو كتاب مقتل، ولكن المؤلّف وهو السيد ابن طاووس الحلّي(3) قد وضع له مقدّمة حزينة وختمه بأخرى، ولمّا أراد الشيخ شمس الدين، الاستشهاد بهذا الكتاب، فقد جاء موضعُه من خاتمة المؤلّف، ولم يورد شيئاً من نفس نصّ المقتل، للسبب الذي قلناه من أنّ كتب المقتل بحدّ ذاتها، هي تاريخ أحداث جرت ليس إلاّ.

ولهذا السبب أيضاً، لم يتمكّن الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، من الاستفادة مِن كتب المقتل بما هي كتب مقتل،

____________________

(1) هو الشيخ فخر الدين بن محمد علي الطريحي، ولد في النجف عام 979 للهجرة وتوفّي عام 1085 للهجرة، من آثاره: تفسير غريب القرآن، مجمع البحرين، جواهر المطالب، والمنتخب، وكتاب المنتخب مؤلّف من جزئين، في كل جزء عشرة مجالس، وقد خُصّص كل مجلس ليلةٍ من ليالي العشرة الأولى، من شهر محرّم الحرام. أقول ولا يزال هذا الكتاب معتمداً في مآتم منطقة الخليج إلى الآن. وعادة ما يُتلى شيء منه قبل أنْ يترقّي خطيب المنبر الحسيني المنبر. (القمّي، عباس: الكنى والألقاب، 2 / 448) (الكرباسي، محمد صادق: معجم الخطباء المنبر الحسيني ص60).

(2) الشيخ جعفر بن محمد بن جعفر بن هبة الله الحلّي، المتوفّي سنة 680 للهجرة من مشايخ العلامة الحلّي من آثاره: قرّة العين في أخذ ثأر الحسين، ومثير الأحزان، وهو مؤلّف من ثلاثة فصول. (القمّي، عباس: الكنى والألقاب 1 / 442).

(3) هو السيد رضي الدين علي ابن موسى بن جعفر ابن محمد بن طاووس الحسيني الحلي، ولد سنة 589 هجرية في مدينة الحلة في وسط العراق. درس في بغداد والنجف وتولّى نقابة الطالبين عام 661، توفّي سنة 664 هجرية. من آثاره: إغاثة الداعي، الإقبال لصالح الأعمال، الدروس الوفيّة. وغيرها ومنها: كتاب اللّهوف في قتلى الطفوف؛ من مقدمةٍ وثلاثة فصول وخاتمة. (القمّي، عباس؛ الكنى والألقاب، 1 / 3392).

١٥٤

والتي ذكرها آنفاً مثل: مقتل أبي مخنف، ومقتل الخوارزمي، ومقاتل الطالبيين، وما ذكره الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد من مقتل الحسين.

إنّ العرف الشيعيّ اليوم، يميّز بين كتب المقتل، وكتب المجالس الحسينية. حيث تهتم الأولى بتاريخ أحداث كربلاء، فيما تهتم الثانيّة، بإعداد مجالس ومحاضرات، تتناول شؤوناً مختلفة. إلاّ أنّها صيغت على شكل خاص، بحيث تنتهي بذكر بعض المصائب التي جرت يوم عاشوراء، أو بعده على الحسينعليه‌السلام أو أهل بيته.

وأمّا بالنسبة للمصدر الثاني، الذي اعتمده الشيخ شمس الدين، في كتابه (ثورة الحسين في الوجدان الشعبي) - الذي يعتبر فتحاً مهمّاً في المكتبة الحسينية في عصرنا الحالي - وهو الشعر الرثائي، الذي اعتمده كمؤشّر لمدى التطوّر، الذي طرأ على المأتم والمنبر الحسيني عبر مراحلهِ الثلاث، فلي عنده توقّف.

هذا التوقّف مفاده، إنّ الشعر الذي قيل في الإمام الحسينعليه‌السلام ، عبر القرون، ومنذ واقعة كربلاء، إنّما يعكس - فيما يعكس - مقدار وعي الأمّة عبر شعرائها، لأبعاد وأهداف ومرامي واقعة كربلاء، فقد كان الشعر بُعَيد الواقعة (ساذجاً في طبيعة الرثاء، ثمّ أخذ في التدرّج الطبيعي، تبعاً للخصائص والإمكانيات التي تظلّه، من الثقافة والزمان والبيئة والمواهب... وكان ذلك بعد مدّة طويلة من حادثة الطف..)(1) .

أمّا مسألة توظيف الشعر الرثائي في المنبر الحسيني، فمسألة تعود - وإلى حدّ كبير - إلى اختيار الراثي أو المنشد، شعراً دون آخر، أو أبياتاً بالخصوص دون غيرها، يجد فيها هذا الراثي، إذكاءً

____________________

(1) نعمة، عبد الله: الأدب في ظل التشيع، ص166.

١٥٥

للعواطف وشدّاً لجماهير المنبر(1) ، وهو ما نراه الآن في خطباء المنبر الحسيني المعاصرين. فمستوى وعي الخطيب، وتذوّقه الأدبي، وأدائه الثقافي، وظروف أخرى كلّها تسهمُ في اختيار القصيدة الشعرية، أو مقاطع منها.

ولهذا لو كانت دراسة الشعر الرثائي، باعتباره مؤشّراً على تطوّر المنبر الحسيني، عبر مراحله، قد اهتمت بالشعر الذي يذكر أثناء المجالس الحسينية، كما أورد ذلك - على سبيل المثال - الشيخ الطريحي في كتابه (المنتخب)، المارّ ذكره، نعم لو كانت الدراسة متابعة، لهذا اللون من الشعر، لكانت الدراسة - حسب اعتقادي - أكثر دقّة حيث ندرس الشعر المستخدم فعلاً في المنبر الحسيني، لا أي شعر رثاء قيل في الإمام الحسينعليه‌السلام .

إنّ واقع المنبر الحسيني المعاصر، يمكن أنْ يعيننا على تلمّس واقعة في الأدوار السابقة، حيث نجد اليوم بين أيدينا مساهمات نوعيّة في الأدب والشعر، ولكبار شعراء العصر، في كربلاء وموقف الإمام الحسين، ومع ذلك فإنّ هناك لوناً خاصاً وذوقاً معيّناً لخطباء المنبر الحسيني، في اختيارهم لقصائد الشعراء، التي لها إطلالة أخرى على واقعة كربلاء، إطلالة فيها إشباع للجانب العاطفي، والحماسي بشكل واضح.

نعم إنّ خطيب المنبر الحسيني - بلا شكّ - يراعي الذوق العام

____________________

(1) يعتبر الجانب العاطفي ركناً أساسياً في خطبة المنبر الحسيني على طول المراحل التي مرّبها هذا المنبرفي تطوره.بل ان بدايته كانت عبارة عن قصيدة رثاء تتلى بأسلوب عاطفي

حزين، كما مرّ بنا في وفود بعض الشعراء على بعض أئمّة أهل البيت. وفي عصرنا الحديث، فإنّ ما يميّز الخطبة الدينية العامّة عن خصوص خطبة المنبر الحسيني، هو التعريج آخر الخطبة الثانية على جانب عاطفي وإشباعه بالشعر والرثاء المناسب. (وسيأتي مزيدُ توضيحُ لهذه النقطة في الفصل الرابع في مسألة هيكلية المنبر الحسيني).

١٥٦

في اختيار الشعر الرثائي، ولعلّ هذه المراعاة تسهم في انعكاس الوعي العام - ومستويات مختلفة - على شعر الرثاء المستخدم في المأتم الحسيني.

ومِن هنا يمكن فهم اعتماد الشيخ شمس الدين، على الشعر الرثائي عبر العصور، في رأيه الذي تبقى له أهمّية وأسبقيّته.

الرأي الثاني

هذا كلّه فيما يتعلّق بالرأي الأوّل، الذي أورده الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في بحث أدوار تطوّر المنبر الحسيني. وهناك رأي ثان، أورده الخطيب داخل السيد حسن، حيث قسّم الأدوار إلى ثلاثة: أعتبر الأوّل منها المآتم التي كانت تُعقد أيام السبا، وهي المآتم التي لم نعتبرها في بحثنا هذا، تخضع لبحث المنبر الحسيني؛ لأنّ تلك مآتم، كانت تتجاوب عفويّاً، مع مأساة كربلاء وأحداثها المحزنة، بينما نحن نبحث في المأتم الذي كان يقام، عن قصد تخطيط، بعد انتهاء واقعة كربلاء.

كما أنّ هذا الرأي، لم يتعرض أبداً لفترة الركود التي مرّ بها عموم الوضع المسلم، في الفترات المظلمة، كما لم يتعرّض هذا الرأي، لتأثير الدول الشيعيّة في تطوير المنبر الحسيني وتوسيع دائرته. ولم يحدّد تاريخاً معيّناً لبداية كل دور أو نهايته.

إنّ هذا الرأي أورد بشكل سريع، لم يقصد فيه صاحبه - كما يبدو - التحقيق في المسألة، بل ذكر هذه الأدوار، من أجل توضيح صورة ولو إجماليّة للأدوار، التي مرّ بها المنبر الحسيني.

١٥٧

الرأي الثالث

إنّ الاختصار الواضح في الأدوار التي مرّ بها المنبر الحسيني تاريخياً في الرأي الثاني. نجد خلافه في الرأي الثالث هذا، حيث قد وسع من هذه المراحل، والأدوار لتكون سبعة جاءت كالتالي:

1 - المرحلة الأولى: منذ استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام 61 للهجرة، إلى نهاية الغيبة الصغرى، للإمام الثاني عشر؛ وهو الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام (1) ، عام 329 للهجرة. وهي فترة حياة أئمّة أهل البيت. وقُسّمت هذه المرحلة إلى فترتين؛ الأولى تأسيسيّة: حيث كان يتولّى أهل البيت الخطابة بعد واقعة كربلاء، وأثناء رحلة السبا، في الأمصار التي مرّوا بها. والثانية؛ الانتقالية: وهي الفترة التي كان يحثّ أئمّة أهل البيت فيها الشعراء، والمنشدين، وشيعتهم، على إقامة المآتم.

2 - المرحلة الثانية: منذ سنة 329 للهجرة إلى بداية القرن السابع الهجري. وهي الفترة التي شهدت ظهور دول شيعيّة؛ في بغداد، وحلب والقاهرة، حيث شهد المنبر الحسيني تطوّراً كبيراً.

3 - المرحلة الثالثة: منذ أوائل القرن السابع الهجري، إلى نهاية

____________________

(1) يعتقد الشيعة الاثنا عشرية، إنّ الأئمةعليهم‌السلام هم اثنا عشر إماماً، أولهم الإمام علي ابن أبي طالب، وآخرهم الإمام المهدي المنتظر وهو، محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. هم يذكرون إنّ الإمام المهدي ولد في سامراء في العراق سنة 255 هجرية، وتولّي الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 260 هجرية. وبقي لقرابة سبعين عاماً يتولّى الأمور عبر أربعة من الوكلاء واحداً تلو الآخر، وتسمّى الغيبة الصغرى ثمّ بدأت الغيبة الكبرى، حيث يتولّى الفقهاء، أمور الناس وتوجيههم، وينتهي دورهم بظهوره في مكّة بين الركن والمقام. (المظفر، محمد رضا: عقائد الإمامية، ص77) (السبحاني، جعفر: الأئمّة الاثنا عشر ص122).

أمّا الشيعة الإسماعيلية والشيعة الزيدية فلا يذهبون إلى ما ذهبت إليه الشيعة الاثنا عشرية في تحديد اسم الإمام المهدي المنتظر فضلاً عن القول بالغيبة الصغرى أو الكبرى.

١٥٨

القرن التاسع الهجري، وهي فترة سقطت فيها الدول الشيعية تلك، واشتدّت فيها الضغوط على الشيعة. ولهذا شهد المنبر الحسيني انحساراً من بعض مناطقه، وتضييقاً في مناطق أخرى.

4 - المرحلة الرابعة: تبدأ بأوائل القرن العاشر الهجري، أو قبله بقليل، وتنتهي تقريباً في القرن الثالث عشر الهجري. وهي مرحلة شهدت بروز خطباء حسينيين، كتبوا كتباً خاصة، تقرأ على المنبر، ممّا أشاع مجالس الوعظ والإرشاد، في المنبر الحسيني.

5 - المرحلة الخامسة: من منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وتنتهي بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري، حيث برز فيها خطباء عظام، أحدثوا نقلة نوعيّة في أساليب الطرح على المنبر الحسيني، فحالوا دون انهيار مؤسّسة المنبر الحسيني أمام تطوّر الوسائل الإعلامية الحديثة، مع بداية عصر الاستعمار، والأحداث الساخنة في العالم.

6 - المرحلة السادسة: بعد منتصف القرن الرابع عشر للهجرة، حيث بدأ الاستعمار الغربي، بالجلاء عن الوطن الإسلامي، وبروز تحدّيات كبيرة أمام الإسلام والمسلمين، ممّا حتّم ضرورة بروز خطباء حسينيين كفوئين، يواجهون تحدّيات المرحلة وحاجة الأمّة. وهكذا شهد المنبر الحسيني خطباء كباراً كان لهم الفضل الكبير، في تطوّر المنبر الحسيني ونموّه.

7 - المرحلة السابعة: وهي مرحلة المستقبل وكيفيّة العمل، ليواكب المنبر الحسيني آفاق الغد(1) .

____________________

(1) مركز دراسات الإمام الحسين، معجم خطباء المنبر الحسيني، من ص37 إلى صفحة 77 باختصار وبعض التصرّف.

١٥٩

لقد أكثر هذا الرأي، من الأدوار بشكل واضح، دون بيان الأُسس التي اعتمدها في عملية التطوّر، وجعل - في المرحلة الأولى - المآتم العفوية، والمآتم الهادفة على حدٍّ سواء في هذا الموضوع. وفي هذا الرأي إيجابية مهمة، حين أشار إلى تأثير الدول الشيعية على تطوّر المنبر الحسيني.

المقارنة بين الآراء الثلاثة

لأول وهلة، ونحن نقارن بين هذه التقسيمات، التي أوردتها الآراء الثلاثة المتقدمة، نجد أنّ الرأي الثالث أورد أدواراً ومراحل أكثر ممّا أورده الرأي الأول (مع العلم أنّ الشيخ محمد مهدي شمس الدين، لم يجعل للمستقبل مرحلة خاصة، ضمن مراحل تطوّر المنبر الحسيني، وإنّما خصّص له فصلاً خاصاً في كتابه). والشيء نفسه يقال عن الأدوار الثلاثة التي أوردها الرأي الثاني.

ولو أردنا المقارنة بين هذه الآراء، وما جاء في كل منها من أدوار ومراحل تطوّر المنبر الحسيني، فسنجد ما يلي:

1 - إنّ الرأي الأول، و هو للشيخ محمد مهدي شمس الدين، يبدو أكثر علمية، حينما ذكر الأدوات والمصادر التي يعتمدها، في ملاحقة مسألة تطوّر المنبر الحسيني، وهي كتب المقتل والشعر الرثائي، كما بيّن سابقاً. في حين أنّ الرأيين الثاني والثالث، أهملا ولم يوضّحا الأسس، التي اعتمدا عليها في بيان المراحل والأدوار.

2 - وظّف الرأي الأول، نصوصاً من كتب المقاتل، والكتب التي كانت متداولة، في فترات زمنية، ومقاطع شعرية، ضمن الأدوار التي يذكرها. فيما لم يذكر الرأي الثاني أو الثالث نصوصاً تُعيّن على بيان مراحلهما تلك.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397