المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل10%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119409 / تحميل: 8958
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

تمهيد

كلّ ما بحثناه حتى الآن، أمور تتعلّق بتاريخ المنبر الحسيني وماضيه، إنْ صح التعبير. ولكي تكتمل الصورة، وحتى نطّلع على المساحة التي يشغلها المنبر الحسيني حالياً، والدور الذي يمكن لخطيبه أنْ يقوم به من جهة، ولكي ننطلق من واقع هذا المنبر إلى التفكير بترشيده وتوجيهه، حتّى يؤتي أفضل الأُكل في المستقبل، من جهة أخرى. كان لابدّ لنا أنْ نتوقّف، وندرس المنبر الحسيني المعاصر، وأهم ما يتعلّق بخطيب هذا المنبر.

وهذه المهمّة، سيتكفّل بها الفصل الرابع هذا، من هذا البحث.

وسيكون البحث فيه منصبّاً على مسألتين:

الأولى: فيما يتعلّق بالمنبر الحسيني المعاصر، من حيث محتواه ومواسمه، واللجان المشرفة على إقامته، والأمكنة التي تُتّخذ لهذا المنبر، وأمور أخرى، تُجلي صورة هذه الظاهرة الدينية الاجتماعية.

والمسألة الثانية: في

٢٠١

أمور تتعلّق بخطيب هذا المنبر، وأوصافه، وكيف يتم إعداده لهذا النوع من الخطابة الدينية. محاولين إبراز موقع هذا الخطيب، في الأوساط التي تعنى بالمنبر الحسيني.

وعلى هذا سيكون الفصل الرابع من مبحثين هما:

المبحث الأول: المنبر الحسيني، صفته ومساحته اليوم

إنّ المنبر الحسيني، في بداياته كان مقتصراً على جانب الحزن والبكاء، ثمّ دخل عنصر الوعظ والإرشاد، مع هذا الجانب، وقد كان ذلك في زمن متقدّم نسبيّاً. فقد ذكرنا في الفصل الثاني، وفي نهاية مظاهر المأتم الحسيني أيام البويهيّين، وما بعدهم في بغداد، أنّه توفّي سنة ٥٩٨ هجرية في بغداد، قارئ أو منشد اسمه أبو منصور محمد بن مبارك الكرخي، ووصف بأنّه (يعظ في الأعزية)، (راجع ص١١٤).

وأخذ المنبر الحسيني، بعد ذلك، يهتمّ بسرد بعض الأحداث التاريخيّة.

وقد سبق كل ذلك عنصر مهم جدّاً، وسّع من دائرة المنبر الحسيني، والمناسبات التي يهتم بها، حيث لم يقتصر على ما يتعلّق بالإمام الحسين، بل راح يمتد في اهتماماته ليشمل مناسبات وذكريات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسيدة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب، وبقية الأئمّة من أولادهعليهم‌السلام .

ولم تحدّد بالضبط، الفترة التي برزت فيها هذه التطوّرات. وأحسب أنّ الاهتمام بذكريات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت، والإشارة إلى

٢٠٢

بعض محنهم، كانت قد برزت في المرحلة الأولى، وتحديداً في قصيدة دعبل الخزاعي التائية، التي ألقاها على الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت. وهو علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (ت: ٢٠٣ هجرية). حيث أشار إلى قبور ضمت بعض رموز أهل البيت من الذين قضوا بعد الحسينعليه‌السلام . وبعض معاناة هؤلاء الرموز.

ثمّ استمر المنبر الحسيني في تطوّره، حتى وصل مرحلته الأخيرة، حيث راح خطيب هذا المنبر، يطرح مختلف القضايا، والشؤون التي تهم الإنسان المسلم، ويناقش العديد من المسائل الاجتماعيّة، والعقيدية، والتربويّة، وغيرها.

وأحسب أنّ فكرةً، ولو بسيطة، قد تكوّنت عندنا حينما ترجمنا للخطباء الأربعة، في نهاية الفصل الثالث، عن سعة الاهتمامات، التي أخذ المنبر الحسيني بتناولها.

ولمزيد من التوضيح، وللوقوف على مدى التطوّر، الذي حصل للمنبر الحسيني في عصرنا الحديث، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل تطوّر، سنتوقّف عند بعض النقاط في هذا المبحث، وهي:

هيكليّة المنبر الحسيني

ونعني بها، الفقرات التي تشكّل الخطبة، التي يتناولها خطيب المنبر الحسيني، والتي يتميّز بها المنبر الحسيني، عن بقية أنواع الخطابة الدينيّة.

إنّ المنبر الحسيني اليوم، يختصر كلّ مراحل التطوّرات النوعيّة،

٢٠٣

والشكليّة، التي واكبت مسيرته، إلى عصرنا الحالي. إنّ هناك، ست فقرات أساسيّة، يتألّف منها خطاب المنبر الحسيني، والتي ينبغي على خطيبه مراعاتها، وإشباع كل فقرة منها. ويمكن توضيحها بالشكل التالي:

٢٠٤

١ - المقدّمة

ونعني بها، جُمَلاً يبدأ بها خطيب المنبر الحسيني محاضرته، وتقرأ بطورٍ خاصّ، وأُسلوبٍ قريب إلى بعض طُرق ترتيل القرآن الكريم. ولكلّ خطيب مقدّمة يختارها. وهي تقع ضمن فقرات؛ حمد الله تعالى، والصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله، ولابدّ أنْ يخصّ الإمام الحسينعليه‌السلام بصلاة خاصة، وربّما ذكر الشهداء معه كذلك، ثمّ لابدّ أنْ تنتهي كل مقدّمة بالجملة المعروفة والمشهورة عن خطباء المنبر الحسيني، عند عموم جمهور هذا المنبر، وهي جملة(يا ليتنا كنا معهم - أو معكم - فنفوز فوزاً عظيماً) (١) ، وهي فقرة وردت في الفصل الثاني، من هذا البحث، حينما تحدّثنا عن حثّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، على إقامة المآتم الحسينية، حيث ذكرنا حديث الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، مع أحد أصحابه، بقوله: (فقل كلّما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً). (راجع ص٨٤).

فإذا ذكر الخطيب هذا المقطع، علم المستمعون أنّه انتهى من المقدّمة وسينتقل إلى الفقرة الثانية.

وفيما يلي نموذج عن هذه المقدّمة:

(الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.

صلّى الله عليك يا مولاي يا أبا عبد الله، صلّى الله عليك يا ابن

____________________

(١) وهذه الجملة، كما هو معلوم، مستلّة في الأساس من الآية القرآنية (٧٣) من سورة النساء، وهي قوله تعالى:( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) .

٢٠٥

رسول الله

يا رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمّة

يا ليتنا كنّا معكم سادتي فنفوز فوزاً عظيماً)

وهذه الفقرة، من مبتكرات المرحلة الأخيرة، من مراحل تطوّر المنبر الحسين. إذ لم يرد لها ذكر في المراحل السابقة، فقد كان المنشد، أو الشاعر، يبدأ مباشرة بإنشاد القصيدة. كما أنّ كتب المجالس الحسينيّة، التي وصلت إلينا من المرحلة الثالثة من مراحل تطوّر المنبر الحسيني، حسب ما اخترناه، ومنها كتاب (المنتخب) للشيخ الطريحي: نجدها خالية من هذه المقدّمة.

٢ - القصيدة

وهي الفقرة الثانية، التي يتناولها خطيب المنبر الحسين. حيث يختار الخطيب، إحدى القصائد الرثائيّة المناسبة لمقتضى الحال، وطبيعة الموسم الخطابي، ونوعية المناسبة التي يقام المنبر الحسيني من أجلها.

ويرث خطيب المنبر الحسيني، في هذه الفقرة، ما كان يؤدّيه الشاعر، أو المنشد، الذي كان يفد على أحد أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، كما مرّ بنا سابقاً. والشعر الرثائي في الحسينعليه‌السلام أكثر من أنْ يُحصى. (وقد كثُر هذا النوع في أدب الشيعة كثرةً هائلةً. حتى إنّه ليندر أنْ تسمع بشاعرٍ شيعي لم يرثِ الحسين)(١) .

____________________

(١) نعمة، عبد الله: الأدب في ظلّ التشيّع ص١٦٦.

٢٠٦

لقد أحدث استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، مجالاً خصباً وثرياً للشعر. حيث راح الشعراء، قديماً وحديثاً، يتبارون في رثائه، وتعداد مواقفه، وشجب قتلته، والإشادة بأنصاره. وقد أُلّفت موسوعات في ترجمة الشعراء الذي رثوا الإمام الحسين(١) . الذي (قيل فيه من الشعر ما لم يُقَل في أحد على الإطلاق، إنْ من حيث الكمّية أو الكيفية أو عدد الشعراء الذي تغنّوا بكربلاء)(٢) .

وعلى خطيب المنبر الحسيني، أنْ يحفظ عيون الشعر الرثائي، الذي قيل في الإمام الحسين، ويتقنهُ، ثمّ يصوغه وينشده بأسلوبٍ فنّي رقيق، يتدّرج فيه الخطيب من الأسلوب الهادئ في بداية القصيدة، حتى يرفع من طريقة إنشاده، لتصل في النهاية إلى إنشاد حماسي حزين.

وهناك طُرق وأساليب وأطوار، معروفة بين خطباء المنبر الحسيني، ويألفها جمهور هذا المنبر. ويتفاعل جمهور المنبر الحسيني، مع بعض أطوار الإنشاد، بأنين يرفعونه في أصواتهم، فيكون هناك تناغم بين إنشاد الخطيب وأنين الحاضرين، وأكثر ما تبرز هذه الحالة، في مجالس منطقة الخليج العربية.

كما أنّ الخطباء المشهورين، عادةً، ما يتميّزون بأسلوبٍ خاص، في إنشاد الشعر الرثائي، حتى تعرف عنهم، طريقة خاصة. فإذا ما قرأ - مثلاً - خطيب شاب قصيدة ما، قال الحاضرون فيما بينهم، إنّ هذا الخطيب الشاب يقلّد الخطيب الفلاني، وطريقته شبيهة بطريقة ذاك

____________________

(١) حدّثني السيد محمد الموسوي الهندي، رئيس جماعة علماء الهند (مواليد النجف الأشرف ١٩٥٣م) أنّ هناك درساً في كلّيات الآداب في الهند اسمه (مرثيّة). وتدرّس فيه القصائد الرثائية التي قيلت في الإمام الحسين. مقابلة شخصية معه في لندن. ٧ محرّم ١٤٢١ هجرية / ١٢ نيسان ٢٠٠٠ م.

(٢) نصر الله، حسن عباس وآينة، صادق: الأدب السياسي الملتزم في الإسلام، ص٩٨.

٢٠٧

الخطيب المشهور.

وحتى نوضّح الصورة، فإنّ ذلك شبيه، بتميّز بعض قرّاء القرآن الكريم، بأساليب وطرق في التلاوة، ترتيلاً وتجويداً بحيث يعرف بها قارئ عن آخر(١) .

وعادةً، ما يختم خطيب المنبر الحسيني، قصيدته الرثائيّة، بأبيات من الشعر الرثائي الشعبي العراقي، وأحياناً البحراني. وهي الأبيات التي تؤجّج حالة التفاعل العاطفي، وتقرأ كذلك بأسلوب وطريقة خاصة، ويتميّز بها، كذلك، خطيب حسيني عن آخر. وهنا يبرز عنصر الصوت ورخامته، وحسنه، في تألّق بعض الخطباء وانشداد الجماهير إليهم.

وقد صنفت بعض الكتب، التي جمعت القصائد الرثائيّة، من النوعين، القريض الفصيح، والشعبي المتداول. وهي تشكّل رصيداً جاهزاً لمن أراد أنْ يعتلي أعواد هذا المنبر.

ولعلّ من أشهر مصنّفات الشعر الرثائي القريض، والتي ضمّت أشهر قصائد الرثاء، من المحدّثين والقدامى، كتاب؛ (الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد) لمصنّفه السيد محسن الأمن العاملي، وكتاب (رياض المدح والرثائي للسادة النجباء) للشيخ حسين علي البلادي البحراني.

وأمّا ما صنّف، من كتب الشعر الشعبي، لشعراء العراق، والمنطقة العربية في إيران، وشعراء البحرين، والمنطقة الشرقية في

____________________

(١) لا يمكن بما لا يقبل الشك أن يقاس كلام الله المجيد بأيّ كلام آخر. ولكن المشبّه به (أساليب، تلاوة القرآن الكريم لبعض مشاهير القرّاء) هو أجلى وضوحاً وانتشاراً عند كل المسلمين... وذكرته لأوضّح تميّز بعض خطباء المنبر الحسيني بأُسلوبٍ خاص في إنشاد الشعر وهو المشبّ هنا. وجهة الشبة هو التميّز هنا وهناك.

٢٠٨

السعودية. فهي كتب ومصنّفات، يصعب إحصاؤها؛ لكثرتها ووفرتها، واستمرارية ظهروها في الأسواق. وتحظى بعض دواوين الشعر الرثائي الشعبي، باهتمام خاص، وشهرة، ما عُرف بجزالة اللفظ، وروعة التصوير، واتقاد العاطفة. إنّ للشعر الشعبي الذي قيل في الإمام الحسين، مجالات واسعة للحديث، تخرج بنا عن خطّة هذا البحث حتى صارت، بعض مقاطع الشعر الحسيني الشعبي أمثلة، تردّدها الألسن في مناسباتها.

وعلى خطيب المنبر الحسيني، أنْ يختار القصيدة الملائمة للمناسبة التي يحييها. إذ لكلّ ليلة من الليالي العشر الأوائل، من المحرّم، قصائد خاصة بها، كما أنّ قصائد العشرة الثانية من المحرّم، إلى نهاية شهر صفر، تركز على حالة السبايا بعد العاشر من المحرّم.

في حين أنّ لوفيّات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل البيتعليهم‌السلام قصائد خاصة، في كلّ مناسبة)(١) .

ومن النتائج الإيجابية، لتعامل خطباء المنبر الحسيني مع الشعر، وتذوّقهم لغرره؛ نمو الحسّ الأدبي، وتفتح القريحة الشعرية، عند العديد منهم. فقلّما نجد خطيباً حسينياً مشهوراً، لا يكتب شعراً أو هو شاعر بالفعل، مسلّم بشعره وإجادته.

ولو رجعنا إلى الشكل التوضيحي السابق، لرأينا أنّ هذه الفقرة. أي القصيدة. خطّطت بخط متقطّع، وهدفي؛ أنْ أوضّح أنّ فقرة القصيدة، لا تعتبر أساسيّة في كل حال.

حيث يمكن الاستغناء عنها، في بعض المجالس، مثل مجالس

____________________

(١) يضاف إلى ذلك مجالس تأبين الموتى، حيث تقرأ قصائد الوعظ والإرشاد. وسيأتي لاحقاً تفصيل هذه المجالس ومناسباتها في فقرة (مواسم الخطابة الحسينيّة).

٢٠٩

شهر رمضان الفضيل. كما أنّ الاهتمام بالقصيدة، يختلف من بيئة إلى أخرى. فمجالس الطبقات المثقّفة، وبعض تجمّعات المغتربين، وبعض المجالس المهمّة في المدن الشيعية الكبرى، قد تستغني عن القصيدة. حيث يبدأ الخطيب بمحاضرته مباشرة بعد المقدّمة.

وكان ممّا ميّز أشر خطيب حسيني معاصر، وهو الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، أنّه لا يبدأ بقصيدة رثاء، وإذا أراد ذلك اكتفى ببعض أبيات، تقرأ بهدوء واسترسال. إذا ما تطلب الموقف ذلك، مثل مجلس ليلة عاشوراء.

في حين، تعتبر القصيدة أمراً أساسيّاً في مجالس العشرة الأولى من المحرّم، بل وفي كل مجلس، في مآتم منطقة الخليج، ومجالس لبنان وأغلب مجالس التأبين، ومجالس البيوت الخاصّة.

٣ - المحاضرة

كان من نتائج التطوّرات، التي حدثت على المنبر الحسيني، أنّه لم يعد مقتصراً على الجانب المأساوي والعاطفي لأحداث كربلاء. فقد تحوّل المنبر إلى مؤسّسة ثقافيّة وتربوية بارزة، في الأوساط الشيعية. وأخذ المشرفون على إقامة المنابر الحسينيّة، ومعهم طبقات الواعين والمثقّفين، يولون شروطاً أخرى، في خطيب المنبر الحسيني، الذي يُرشّح لإحياء مناسبة ما، غير شروط أجادة إنشاد الشعر الرثائي، والتفنن في الجانب العاطفي الحزين.

وتمثلت تلك الشروط الجديدة، بثقافة خطيب المنبر الحسيني، وتمكّنه من معالجة القضايا التي تهمّ الإنسان، من قضايا تربوية أو سلوكيّة، أو اجتماعيّة، أو اقتصاديّة، وحتى سياسيّة أو جهاديّة، إذا سمحت الظروف بذلك، أو اقتض الحاجة والمصلحة العامّة.

٢١٠

إنّ ثقافة الخطيب، وسعة معلوماته، صارت شرطاً أساسيّاً في المجالس المهمّة، والرئيسيّة، في العالم الشيعي، حيث (قد غدت هذه الدراسات الإسلاميّة، والقرآنيّة في بلاد كثيرة، ولدى مساحات واسعة من الرأي العام، مقياساً تعتمد عليه الجماهير، في الإقبال على المأتم الحسيني، أو انكفائها عنه، كما أنّ المقياس يعتمد، في اختيار الخطيب الحسيني، المجوّد في هذا الشأن)(١) .

لقد غدت مسألة اختيار خطيب المنبر الحسيني، المثقّف، والمربّي، والقادر على معالجة حاجات العصر، غدت مسألة يهتم بها المشرفون على إقامة المجالس الحسينيّة، ولاسيما العلماء منهم.

وكمثال، فقد ورد في ترجمة الشيخ حسين معتوق العاملي (١٣٣٠ - ١٤٠١ هجرية)، وبيان نوعي اهتماماته، حينما عاد إلى بيروت، قادماً من النجف الأشرف، بعد فترة قضاها في طلب العلم هناك (١٣٤٧ - ١٣٧١ هـ) حيث عاد عالماً في منطقة الغبيري، ببيروت.

إنّ من تلك الاهتمامات؛ كانت مسألة المجالس الحسينيّة، فيذكر: (وفي هذا المجال، يظهر دوره التأسيسي واضحاً، إذ كانت المجالس قل قدومه، وفي الفترة الأولى لاستقراره في بيروت. بدائيّة سطحية، لا تتناسب مع مستوى هذه الذكرى، ومعطيات تلك الثورة العظيمة، فكان دائماً (ما) يفكّر في تطويرها، بحيث تلتقي مع المستوى الثقافي، الذي كان يرتقي شيئاً فشيئاً، في بيروت وخاصة على صعيد الشباب، وبالأخص طلاب الجامعات، فكان أنْ اهتدى أخيراً إلى فكرة استقدام قارئ من أفذاذ النجف الأشرف، التي يتخصّص فيها، بعض أصحاب الكفاءات، في قراءة المجالس الحسينية، ويتفرّغون لكيفيّة تطويرها، بحيث تتلاءم مع هذا الزمن)(٢) .

____________________

(١) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الإمام الحسين في الوجدان الشعبي، ص٢٦٦.

(٢) معتوق، أحمد: الحسين مهاجراً وثائراً، ص١٣.

٢١١

إنّ عظَم مهمّة خطيب المنبر الحسيني وأهمّيتها في المجالات، الثقافيّة، والتربويّة، والاجتماعية، وغيرها، أملت عليه أنْ يجهد نفسه، ويتعبها في المطالعة المستمرّة، والدراسات العلمية المتواصلة، ومتابعة الإصدارات الثقافيّة، والأدبية، والإسلاميّة العامّة. كما صار الخطيب الذي يريد لمنبره أنْ يكون نافعاً ومستقطباً للجماهير، أنْ يعيش في حالة طوارئ ثقافية وفكريّة - إنّ صحّ التعبير - فهو دائم الملاحظة يسجّل الشاردة والواردة، لا يمرّ به بيت شعر يُمكن توظيفه في محاضرته إلاّ وسجّله، أو فكرة هنا، أو خبر علمي هناك، أو فقرة ثقافيّة أو فكريّة يجدها في كتاب أو مقالة، إلاّ أودعه في دفتر ملاحظاته.

ولكلّ خطيب من خطباء المنبر الحسيني، مجموعة خاصّة به، يسجل فيها كل ما يُمكن، أنْ يُغني محاضراته. وسنأتي على مزيد من توضيح هذه النقطة، في فقرة أخرى، حينما نتحدّث عن الأوصاف المطلوبة في خطيب المنبر الحسيني.

فقد المحاضرة، تبدأ عادة إمّا بآية من القرآن الكريم، أو حديث شريف، أو مقطوعة من نهج البلاغة، أو ربّما بيت أو بيتين من الشعر، ثمّ يشرع الخطيب بعد ذلك بالشرح، وبيان ما يمكنه استفادته من النصّ في جوانب عدّة. وينقل مستمعيه، من فكرة إلى أخرى، ومن قضية إلى ثانية، مستعيناً في ذلك، بالشواهد الأدبية والتاريخية، وربّما العلمية، وبعض الإحصائيات، بما يوضّح الفكرة من جهة، وبما يرفع الملل والسأم عن المستمعين من جهة أخرى.

بل، وقد نجد بعض الخطباء، أحياناً، يذكرون بعض اللطائف الخفيفة، وربّما يضحك المستمعون لها(١) ، من أجل شدّ الأذهان،

____________________

(١) لم يعد خطيب المنبر الحسيني محصوّراً في حقل إنشاد الشعر الرثائي أو قراءة مقطع من أحداث واقعة كربلاء، بل توسّع الأمر ليتحوّل المنبر الحسيني إلى محاضرات تلقى فيها موضوعات مختلفة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ البعد الزمني للمنبر الحسيني =

٢١٢

ورفع حالة الملل، أو الرتابة، عن أجوا المحاضرة.

ويتميّز الخطباء في قوّة الطرح، ويتفاوتون فيما بينهم. فهذا الخطيب يُعرف عنه بأنّه صاحب منهج في تفسير القرآن الكريم، وخطيب آخر، يعرف عنه، أنّه خطيب يهتم بالجوانب العلمية الحديثة وربطها بالإسلام، وثالث يغلب على محاضراته والوعظ والإرشاد أو الأبحاث التاريخيّة وهكذا(١) .

وهناك مجالس تُعقد في تأبين الموتى، وفيها يركّز الخطيب، على مجالات الوعظ، وذكر الموت والآخرة.

٤ - التخلّص

وهي الفقرة الرابعة، من فقرات المنبر الحسيني، في عصره الأخير. والتخلّص هنا بمعنى؛ انتقال خطيب المنبر الحسيني، من المحاضرة التي كان يلقيها، والموضوع الذي كان يتناوله، إلى أجواء الحزن والبكاء على الإمام الحسينعليه‌السلام والذي يختم بها محاضرته. ويتم هذا الانتقال، بطريقة فنّية، وأُسلوبٍ انسيابي، بحيث لا يشعر المستمع، إلاّ وقد نقله الخطيب، من أجواء تلك المحاضرة، وآفاقها المختلفة، إلى أجواء كربلاء وأحداثها المحزنة.

إنّ هذه الطريقة تسمّى (التخلّص)، أي يتخلّص من موضوعه،

____________________

= شهد توسّعاً كذلك، حيث لم يعد الزمن محصوراً بأيام عاشوراء ذات البعد العاطفي الواضح، بل راح المنبر الحسيني يغطّي محاضرات في كل شهور السنة. وهذا ما يفسّر حاجة المحاضرة أحياناً للطيفة تطرح بشكل عابر في أثناء المحاصرة. إنّ البكاء أصبح فقرة تأتي في آخر المحاضرة. وقد يمتدح بعض خطباء المنبر الحسيني، بأنّه يمتلك قدرة فاقئة في نقل الحاضرين من أجواء الضحك إلى أجواء البكاء (المصنّف).

(١) سيأتي بيان المدارس الخطابية الحاليّة في الفصل الخامس، من هذا البحث.

٢١٣

إلى موضوع آخر، وقد ورد في لسان العرب: خَلَصَ (الشيء)، يَخلَصُ خُلُوصاً وخَلاصاً، إذا كان قد نشب ثمّ نجا وسلِم، والتخليص: التّنجِيَة من كل منشَب(١) .

و(التخلّص، أمر معروف في الشعر العربي، منذ أقدم العصور. فكلّما شعر السامع، بأنّه يعيش بأجواء ذهنية، ونفسية، متجانسة، مع الانتقال، من موضوع إلى آخر، كان دليلاً على توفيق الشاعر، وإجادته وإحسانه، والشواهد على التخلّص، في الشعر العربي، أكثر من أنْ تحصى، ومنها قول زهير بن أبي سلمى(٢) :

إنّ البخيل ملومٌ حيث كان ولـ

ـكنّ الجواد على علاّته هَرِمُ(٣) .

إنّ الخطيب الحسيني المُبدع، هو ذلك الخطيب، الذي يحسن كيفيّة نقل مستمعيه، من أجواء محاضراته إلى أجواء كربلاء. بأنّ يجد مسألة متشابهة، بين محاضرته، وبين مفردةٍ أو موقف، جرى في كربلاء وأحداثها. فإذا كان الخطيب يتحدَث - فرضاً - عن الطفل في المنظور الإسلامي، وكيفية تربيته، كعنوان لمحاضرته، فإنّ عليه أنْ يربط، نهاية هذه المحاضرة، وبطريقة فنّية، مع طفل الإمام الحسينعليه‌السلام ، الذي رُمي يوم عاشوراء، وقتل وهو في أحضان أبيه(٤) . كأن يقول - مثلاً - وهو يذكر اهتمام الإسلام بالطفل ورعايته..

____________________

(١) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، ٧ / ٢٦.

(٢) زهير بن أبي سلمى بن ربيعة بن رباح المزني: شاعر جاهلي من أصحاب المعلّقات شعره يميل إلى الحكمة. وذكر في معلقته سعيه نحو الصلح. ولد نحو ٥٣٠م توفّي نحو ٦٠٩م. (الزركلي، خير الدين: الأعلام: ٣ / ٥٢).

(٣) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الإمام الحسين في الوجدان الشعبي، ص٣٠٠.

حيث تخلّص الشاعر (زهير) من موضوع ذمّ البخيل إلى مدح صاحبه الجواد، وهرم هذا، اسم رجل كان صاحباً لزهير واسمه: هرم بن سنان بن أبي حارثة المري (راجع ابن منظور - لسان العرب ١٢ / ٦٠٨).

(٤) جاء في تذكرة الخواص، في ذكر من قتل مع الحسينعليه‌السلام من أهله: (وقُتل عبد الله بن الحسين، وأمّة الرباب بنت امرئ القيس...) (سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي، =

٢١٤

هكذا هي مفاهيم الإسلام، وتعاليمه في حق الطفل والطفولة، ولكن لا أعلم - والحديث لا يزال للخطيب الحسيني - أين ذهبت هذه التعاليم، ولماذا لم تُرعَ مع أطفال الحسين يوم عاشوراء؟، نعم لقد نسيُت تعاليم السماء، مع ذرّية وأبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كربلاء..

ثمّ يزيد خطيب المنبر الحسيني، من تفصيلات ذلك، وكيف جاء الإمام الحسين حاملاً لطفله، يطلب له الماء. وبهذا نقل الجمهور من محاضرة عامّة حول الطفل وحقوقه، إلى مسألة خاصة، بأحداث عاشوراء، وهي مسألة قتل طفل من أطفال الحسينعليه‌السلام . (وسنورد، في نهاية هذا الفصل، نموذجاً لمحاضرة من محاضرات المنبر الحسيني).

وكلّما كان خطيب المنبر الحسيني، مطّلعاً على تفاصيل أحداث كربلاء، وسيرة الحسينعليه‌السلام ، وكل ما يتعلّق بحركته، كان أقدر على اختيار وجه الشبه المناسب، الذي يعتبره جسراً ينتقل عليه من محاضرته، إلى أجواء المصيبة.

يُضاف إلى ذلك، حسّ الخطيب الأدبي، وتجربته الطويلة، وبما استفاده من أساتذته وربّما من خطباء آخرين مثله.

____________________

= تذكرة الخواص ص٢٢٩).

وفي البداية والنهاية: (ثمّ إنّ الحسين أعيا، فقعد على باب فسطاطه، وأُتي بصبي صغير من أولاده، اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثمّ جعل يقبّله ويشمّه ويودّعُه، ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له ابن موقد النار بسهم فذبح ذلك الغلام...) (ابن كثير، إسماعيل الدمشقي، البداية والنهاية، ٨ / ٢٠٣).

وأورد الطبري حديثاً للإمام محمد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام مع رجل من بني أسد قال فيه:(إنّ لنا فيكم يا بني أسد دماً) ، ولما سألهُ الأسدي عن ذلك قال:(أُتيَ الحسين بصبيّ له فهو فيّ حجره، إذا رماه أحدكم يا بني أسد، بسهم فذبحه فتلقّى الحسين دمه فلمّا ملأ كفّيه صبّه في الأرض...) (الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، ٤ / ٣٤٢). ويمكن كذلك مراجعة تاريخ اليعقوبي، ٢ / ١٥٨. ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٧ وغيرها من المصادر.

٢١٥

إنّ فقرة التخلّص في المنبر الحسيني، هي من التطوّرات الشكلية والفنّية، التي طرأت عليه في المرحلة الأخيرة، من مراحل تطوّره.

ومرّ بنا، في ترجمة الخطيب الشيخ كاظم سبتي (ت: ١٣٤٠ هـ)، في نهاية الفصل الثالث، إنّ المترجم له هو أوّل من ابتكر هذه الطريقة، والأسلوب الفنّي، في أداء المنبر الحسيني، وقد تطوّر التخلّص، مع تراكم الخبرات، وتجارب كبار خطباء المنبر الحسيني، حتى تميّز به بعض الخطباء، حيث يشيد به الناس، ويقولون: إنّ أُسلوب الخطيب الفلاني في التخلّص، فنّي ودقيق جدّاً، وعاطفي بشكلٍ واضح.

لقد أُلّفتْ بعض الكتب، التي يمكن أنْ تُعَدّ مصدراً لمجموعة كبيرة من حالات (التخلّص)، التي يحتاج إليها خطيب المنبر الحسيني ولاسيما المبتدئ منهم(١) .

إنّ توسّع آفاق المنبر الحسيني، وتناوله لأبعاد مختلفة للحياة، قد وسّعت من مجالات الاستفادة من أدق تفاصيل واقعة كربلاء. إنّ (باستطاعة المرء، أنْ يتحدّث عن أي شيء ثمّ يربطه بكربلاء.. كربلاء لها علاقة بكل شيء في الحياة)(٢) .

وفي الأوساط الشعبية العراقيّة، والخليجيّة، يُعرف التخلّص بلفظ؛ (الگريز) بالكاف الأعجميّة، وهو يعني الانتقال. ويرى بعض شيوخ خطباء المنبر(٣) ، هذا اللفظ جاء من (القريض)، ثمّ صحّف شعبيّاً فصار (الگُريز). إذ يذكر الخطيب بعد التخلّص، أبياتاً في الرثاء، من الشعر الفصيح، أي القريض.

____________________

(١) ومن تلك الكتب كتاب (الخصائص الحسينيّة) لمؤلّفه الشيخ جعفر التستري (ت ١٣٠٣ هجرية).

(٢) هويدي، فهمي: إيران من الداخل، ص٢٢٥.

(٣) هو الخطيب الحسيني المعروف السيد عبد الزهراء الحسيني، صاحب كتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده (ت ١٤١٤ - ١٩٩٤).

٢١٦

٥ - المصيبة

سبق وعرفنا أنّ المنبر الحسيني، إنّما نشأ أساساً في بداياته البسيطة، لأجل تذكّر الأحداث المؤلمة والمفجعة، التي مرّ بها الحسين وأهل بيته، ثمّ يُتلى الشعر الرثائي المذكر بذلك، فيتفاعل الحاضرون بالبكاء والحسرة وهو ما نعنيه بـ (المصيبة) هنا.

ومع كل التطوّر، الذي طرأ على المنبر الحسيني، وتوسّع الأمور التي يعالجها في أبحاثه، فإنّ عنصر المصيبة، وذكرها مع ما يناسبها من شعر رثائي حزين، وتصوير ذلك تصويراً عاطفيّاً، يبقى هو العنصر الثابت، في كل مراحل تطوّر المنبر الحسيني.

فإذا كان المنبر الحسيني في بدايته، لا يعني سوى الشعر الرثائي والحزن والبكاء، فإنّ هذه الفقرة لم تُلغَ، وإنّما تحرّكت لتصير في نهاية محاضرة المنبر الحسيني اليوم. إذ لابدّ لكل خطيب، من خطباء المنبر الحسيني، أنّ يذكر حادثة أو موقفاً ما من الحوادث والمواقف المحزنة، ويصوغها صياغة عاطفيّة متقنة، مع تهيئة ما يناسبها من شعر رثائي، بالأُسلوبين الفصيح والشعبي، وبأطوار وطرق خاصّة، فيتفاعل معها الحاضرون باللوعة والبكاء.

وإنّ ممّا يعين خطيب المنبر الحسيني، على اختيار الحدث المأساوي المناسب، مع محاضرته التي كان يتناولها، ويريد أنْ ينتقل منها إلى فترة المصيبة، ما يعينه على ذلك ما تركه الشعراء من شعر رقيق، قد تناول أدق التفاصيل، التي جرت للحسين وأهل بيته وأصحابه، وحال نسائه بعد شهادته. فهناك شعر رثائي، يتناسب مع كل حدث من أحداث حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ منذ خروجه إلى مكة من المدينة، وحتى أحداث كربلاء ثمّ العودة إلى المدينة.

وفي فقرة المصيبة هذه، تظهر كفاءة الخطيب، ومقدرته الفنية،

٢١٧

على تصوير الواقعة، وبأطوارٍ، وطرق إنشاد حزينة، بما يجعل جمهور المجلس يتجاوبون معه عاطفياً. ينقل أحد الأدباء المصريّين، تأثره وبكاءه، حينما حضر عند أحد خطباء المنبر الحسيني، بقوله: (وصديقنا الأستاذ محمد نجيب زهر الدين، هو خطيب منبر الحسين، وفارسهُ المظفّر، وقد جلسنا إليه وسمعنا منه، فلم نملك للدمع طرفاً فنمنعه أنْ يسيل، ولا للقلب جلداً فنحبسهُ أنْ يطير، ولا للنفس مسكةً، فنبقي عليها دون أنْ تتمزّق أو تتفرّق...)(١) وكلّما كان الخطيب أقدر على إذكاء العاطفة، واستدرار الدموع، كان هو المطلوب الأكثر، وصاحب الحظ الأوفر. حيث تنهال عليه الطلبات، في إحياء مواسم المنبر الحسنين هنا وهناك.

إنّ المجالس الشعبية، ومجالس القُرى، وبعض المجالس التي تُعقد في البيوت، تعتبر المصيبة، وعذوبه صوت الخطيب الحسيني، وإجادته في عرض أحزان كربلاء، هي أهم ما يطلب في الخطيب. أمّا في مجالس الطبقات المثقّفة، والتي يشرف عليها الواعون من علماء ورساليين، والتي عادة ما تكون في المدن الكبرى والمراكز الإسلاميّة المهمّة، وبعض تجمّعات المغتربين، فإنّ محاضرة الخطيب تعتبر هي الأهم في اختياره، مع عدم إغفال جانب المصيبة، التي تبرز أهميتها، وبشكل واضح في مجالس عاشوراء، حيث موسم الحزن والأسى الأبرز، في مواسم المنبر الحسيني.

إنّ اختيار المصيبة ونوعيتها يختلف من مناسبة لأخرى، ومن موسم خطابي لآخر..

فالخطيب، يكون حرّاً في اختيار المصيبة، التي يختم بها

____________________

(١) سيد الأهل، عبد العزيز: زينب عقيلة بني هاشم - ص١٠، والطَرفْ: العين، الجلَد: الصبر، مسكة: بقيّة.

٢١٨

محاضرته، في شهر رمضان، أو شهر صفر، أو تلك التي تعقد في العشرة الثانية، والثالثة من المحرّم، وبشكل أقل. بل وفي كل المجالس التي تعقد طوال السنة.

أمّا العشرة الأولى من المحرّم، فإنّ الخطيب ملزم، بأنْ ينهي محاضرته في كل ليلة، بنقطة خاصة، وحديث معيّن، يتعلّق بحركة الإمام الحسين، وأبرز شهداء كربلاء. فمع إنّ كل شهداء كربلاء قتلوا في يومٍ واحد وهو يوم عاشوراء سنة ٦١ هـ. إلاّ أنّه جرت العادة، على أنْ تنتهي محاضرات ومجالس العشرة الأولى من المحرّم، على الشكل التالي:

في الليلة الأولى: في أهمية إقامة المآتم الحسينية، وفوائدها، وحثّ أئمّة أهل البيت، شيعتهم عليها. (وكأمثلة على ذلك ما أوردناه في ص٨١ وما بعدها).

في الليلة الثانية: خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة، ووداعه قبر جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته.

في الليلة الثالثة: خروج الإمام الحسينعليه‌السلام ، من مكة، يوم ٨ من ذي الحجّة، وبكاء المودعين له.

في الليلة الرابعة: وصول الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، ومحاصرة الجيش الأموي له.

في الليلة الخامسة: حركة مسلم بن عقيل(١) بن أبي طالبعليه‌السلام واستشهاده في الكوفة.

____________________

(١) مسلم بن عقيل بن أبي طالب أمّه أمّ ولد تسمّى عليّة، أرسله الإمام الحسين إلى الكوفة لمّا راسله أهلها، يطلبون مجيئه إليهم، وصل الكوفة وبايع له ثمانية عشر ألف رجل، ثمّ قتل بعد ذلك في ٨ ذي الحجّة ٦٠ للهجرة وقبره مشهور في الكوفة. (الزنجاني، إبراهيم: وسيلة الدارين في أنصار الحسين، ص٢٣٤).

٢١٩

في الليلة السادسة: أنصار الحسين، ومواقفهم، واستبسالهم في شهادتهم.

في الليلة السابعة: في استشهاد العباس(١) بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

في الليلة الثامنة: في استشهاد القاسم(٢) بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

في الليلة التاسعة: في استشهاد علي الأكبر(٣) بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

في الليلة العاشرة: في استشهاد الطفل الرضيع(٤) عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب. أو وداع الحسينعليه‌السلام عياله وأطفاله يوم عاشوراء(٥) .

أمّا بالنسبة للمجالس، التي تعقد في وفيّات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل البيت من الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّ المصيبة، تنتهي بذكر وفاته والحزن الذي تركه، ثمّ يُعرّج إلى واقعة كربلاء. في حين أنّ مجالس تأبين الموتى، تُختم بمصيبة الحسينعليه‌السلام ، إذا كان المتوفّي رجلاً ومصيبة علي

____________________

(١) العباس بن علي بن أبي طالب أمّه فاطمة بنت حزام الكلابية، ولد سنة ٢٦ للهجرة وهو أكبر مَن قُتل من أولاد علي والهاشميين، يوم عاشوراء، كان يحمل لواء الحسين. قُتل في كربلاء سنة ٦١ للهجرة، وقبره معروف وبارز. (المصدر نفسه، ص٢٦٤).

(٢) القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، أمّه ولد تسمّى رملة، ولد في المدينة سنة ٤٧ للهجرة. قُتل مع عمّه الحسين وله ثلاث عشرة سنة. (المصدر نفسه ٢٧٧).

(٣) علي الأكبر بن الحسين، ولد سنة ٤٢ للهجرة، أُمّه ليلى بنت مرّة الثقفية، قتل مع أبيه الحسين في عاشوراء ٦١ للهجرة. (المصدر نفسه، ص٢٨٥).

(٤) عبد الله بن الحسين: طفل رضيع، أمع تسمّى الرباب بنت امرئ القيس الكلابية. قُتل في حِجر أبيه الحسين، وله ستة أشهر. (المصدر نفسه، ص٢٨٠).

(٥) هذا الترتيب لموضوعات المنبر الحسيني في العشرة الأولى من المحرّم هو الأشهر، وقد يوجد بعض التغيير في تقديم موضوع ليلة على أخرى، في بعض الأقاليم الشيعية. (الوحدة الثقافية المركزيّة - زاد المنبر الحسيني).

٢٢٠

الأكبر، إذا كان المتوفّى شابّاً، وبالعبّاسعليه‌السلام إذا كان أخاً، وبالسيدة الزهراءعليها‌السلام إذا كانت امرأة.

إنّ نجاح خطيب المنبر الحسيني، في إبراز فجائع كربلاء، بصورة عاطفيّة حزينة مؤثّرة، لا يعتمد على خصائص، وأوصاف الخطيب ذاته فقط، بل أنّ الأمر المهم، والأكثر تأثيراً، في إذكاء العاطفة، هي نفس أحداث واقعة كربلاء. فهي مقدار ما ضمّت من مواقف جهادية ورسالية، فقد حوت أحداثاً مؤلمة مُفجعة، ونستشهد هنا بأسطر من تفسير (في ظلال القرآن)، حيث نجد أنّ (الحسين - رضوان الله عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، والمفجعة من جانب، أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة.

فأمّا في الحقيقة الخالصة، وبالقياس الكبير، فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض، تهتزّ له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب، وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيّعين، من المسلمين وكثير من غير المسلمين)(1) .

ويؤكّد هذين الجانبين، في موقف الإمام الحسينعليه‌السلام ، أديب آخر، حينما يقول: (إلى روح أبي، التي علّمتني، منذ طفولتي، أنْ أحبّ الحسين ذلك الحب الحزين، الذي يخالطه الإعجاب، والإكبار، والشجن، ويثير في النفس أسىً غامضاً، وحنيناً خارقاً إلى العدل والحرّية والإخاء، وأحلام الخلاص)(2) .

ثمّ يضاف إلى إجادة الخطيب، وطبيعة أحداث كربلاء، نقطة ثالثة، تتمثل في نفسية الإنسان الشيعي، المهيّأة أساساً، للتفاعل مع

____________________

(1) قطب، سيد: في ظلال القرآن 5 / 3086.

(2) الشرقاوي، عبد الرحمان: الحسين ثائراً الحسين شهيداً، ص7.

٢٢١

الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأهل بيته، بما تراكم فيها من تاريخ موروث، وتربية طويلة، وأجواء عاطفيّة حزينة يألفها. كل ذلك، ممّا يسهّل عمل الخطيب الحسيني ومهمّته. إنّ للإمام الحسين، وكربلاء، وعاشوراء، مواقع خاصّة، في وجدان ونفسيّة الإنسان الشيعي، إذ (في يوم عاشوراء، وفي صحراء كربلاء، بدأ عصر التوحّد النفسي عند الشيعة الاثني عشرية. هذا الذي تنتزعه من الذاكرة بصعوبة، يحفظه أطفال الشيعة، بكل تفاصيله وشخوصه، يستحضرونه في كل مناسبة، ويتمثّلونه في كل موقف)(1) .

نعم إنّ مِن الصعب جداً (ومِن المحال، أنْ لا يذرف الشيعي الدموع؛ لأنّه جعل من قلبه، قبراً حياً، ومثوىً حقيقياً للإمام الشهيد)(2) .

وهذا هو حال الإنسان المسلم الشيعي، أينما وجد وحيثما حلّ. وتسجّل إحدى الأديبات، بعض ملاحظاتها، عن أجواء الحزن في العراق:

(أجل، إنّ السنين لتمضي والقرون، وأهل العراق، مقيمون على الحزن، يستمرئون طعمه، ويتعذّبون مذاقه، ويرهقون أنفسهم، بالإصرار على إحياء ذكرى خطيئة الذين ذهبوا، بإثم الإمام الشهيد.

وما أحسب أنّ التاريخ قد عرف حزناً كهذا، طال مداه حتى استغرق بضعة عشر قرناً، دون أنْ يفتر. فمراثي شهداء كربلاء، هي الأناشيد التي يترنم بها العراقيون، في عيد حزنهم، يوم عاشوراء من كل عام، وشاعرهم المفضّل، هو الذي يهيج لواعج شجنهم، ويغذي النار المتّقدة بوقودٍ جديد....

____________________

(1) الشيبي، د. كامل: الصلة بين التصّوف والتشيّع، ص97.

(2) هويدي، فهمي: إيران من الداخل، ص224.

٢٢٢

شاعرهم المختار، هو الذي يُعيد على أسماعهم - في إثارة عنيفة - قصة تلك الفئة المؤمنة، التي آثرت الموت على التخلي عما تراه حقاً)(1) .

إنّ مَن لم يألَف حالة البكاء والتفاعل العاطفي للإنسان الشيعي، ولاسيما في عاشوراء، وبالأخصّ حين تلاوة نص مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وبيان كيفيّة استشهاده، مع أهله وصحبه يوم العاشر من المحرّم، إنّ مَن لم يألَف ذلك، يبقى مندهشاً لهذه الظاهرة، وقد لا يتمالك نفسه، دون أنْ يشارك الآخرين لوعتهم وأحزانهم، يقول أحد الأدباء: (ولقد استمعتُ لشخص يدعى - عبد الزهراء الكعبي(2) - وهو تسجيل لمقتل الحسين، بأداء مؤثّر أيّماً تأثير، يروي مقاطع، ويغنّي مقاطع، ويكون الغناء بألحان متنوعة، وحزينة، آناً باللغة الفصحى، وأخرى بالعاميّة العراقية.

واستمعت إلى أصداء المشاركة الجماهيريّة الواسعة، والتأثير العميق لهذا الأداء في الناس، ولا أنكر، أنّني تأثّرت أشدّ التأثير وأبلغه، ممّا سمعت، وتدرّج تأثيره، بشكل (درامي) متصاعد، في نفسي، حتى وجدت الدمع ينساب مِن عيني أحياناً، والغصّة تملأ حلقي، بالرغم من أنّني كنت قد قرأت، في التاريخ، والقصص التاريخية، ما جرى على الحسين وركبه)(3) .

____________________

(1) عبد الرحمان، عائشة (بنت الشاطيء): السيّدة زينب ص167 - 168.

(2) الشيخ عبد الزهراء بن فلاح الكعبي، ولد في كربلاء سنة 1327 هجرية / 1907 م، درس فيها، ثمّ تخصّص بالخطابة الحسينية حتى برع فيها، أحيا مواسم خطابية داخل العراق وخارجه، اشتهر بقراءة نصّ قصّة مقتل الحسين يوم عاشورا الذي نقلته إذاعات بغداد والكويت والبحرين وبيروت في فترات زمنية مختلفة، توفّي في كربلاء ودفن فيها سنة 1394 هجرية / 1974م. (طعمة، سلمان هادي: معجم رجال الفكر والأدب في كربلاء، ص123) (نخبة من أدباء كربلاء: الشيخ الكعبي صوت حزين وعبرة ساكبة ص14 - 15).

(3) عرسان، علي عقلة: الظواهر المسرحيّة عند العرب، ص661.

٢٢٣

إنّ إجادة خطيب المنبر، لفقرة المصيبة، يدل على مدى تمكّنه، من الجوانب الفنّية للخطابة الحسينية. (وقد تفنّن خطباء الشيعة في ذلك تفنّناً عجيباً، بحيث استطاعوا أنْ يحدثوا في كل مجلس، يخطبون فيه عويلاً شديداً، وهؤلاء الخطباء يتحدّثون إلى الناس، على قدر عقولهم، وباللغة التي يفهمونها، وكثيراً ما يُنشدون الأشعار العاميّة، بصوتٍ حزين، ومنغّم، فيُحدثون تأثيراً بالغاً في النفوس)(1) . وفي حقيقة الأمر، إنّ خطيب المنبر الحسيني يعتبر المحور في مراسم العزاء والمجالس التي تعقد في أيّام المحرّم، هذا أمرٌ واضح، ولكنّ هناك عوامل عدّة تعين الخطيب هنا على مهمّته.

فإنّ الإنسان الشيعي يعيش حالة انشداد وتفاعل كبيرين مع أحداث كربلاء في شهر المحرّم، ولاسيما العشرة الأولى منه، وبالأخص اليوم العاشر.

فإنّ أجواء كربلاء تحيط به أينما التفت، وحينما اتجّه!

فإذا أراد أنْ يكتب شيئاً في مفكرته الشخصية، وجد أمامه هذه المفكّرة تذكّره بأيام الحسين. وإذا تناول كتاب أدعية، لتلاوة دعاء مأثور، وجد أنّ كتب الأدعية هذه تفرز حيّزاً مهمّاً لشهر المحرّم وأجواء الحزن فيه وأعمال يوم عاشوراء التي ينبغي على المسلم الشيعي المبادرة إليها. فإذا خرج إلى الشوارع، وجد اللافتات السوداء التي كتبت عليها مقاطع مِن أقوال الإمام الحسين أو بقية الأئمّة فيه وفي أيام عاشوراء، وجدها مرفوعة أمامه، في الشوارع والساحات العامّة. وإذا تناول مجلّة شيعية، وجدها تولي هذه المناسبة اهتماماً واسعاً.

____________________

(1) الوردي، علي: دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص237.

٢٢٤

كما ويجد أنّ أغلب الناس يلبسون الملابس السوداء لهذه الأيام.

فإذا ما دخل مسجداً للصلاة، وجد المساجد - هي الأخرى - قد كسيت بالقماش الأسود ولافتات الحداد. والتي تبقى طوال شهري محرم وصفر.

وكل هذه الأمور وغيرها، ممّا يسهّل عمل خطيب المنبر الحسيني، ويهيّئ النفوس لمحاضرته بشكلٍ كبير. وفي الملاحق وثائق عمّا يلي:

1 - صورة عن مفكرة شخصية شيعية، وكيف تنظر إلى أيام عاشوراء.

2 - صورة عن أكثر كتب الأدعية انتشاراً في الأوساط الشيعية حول شهر المحرّم وعاشوراء.

3 - صورة عن مجلّة إسلامية شيعية تصدر في بيروت. لشهر المحرّم.

4 - منشورات وزّعتها جمعية المعارف الإسلامية الثقافية التابعة لحزب الله تحثّ فيها على إظهار أدواء الحزن والعزاء.

5 - صورة لمحراب مسجد الحسنين في حارة حريك ببيروت في شري محرم وصفر.

٢٢٥

6 - الدعاء

وهي الفقرة الأخيرة، من فقرات المنبر الحسيني، وبها ينهي الخطيب حديثه. وعادةً ما يبتهل الخطيب إلى الله تعالى، بطلب المغفرة، والعافية، وحسن العاقبة. ويدعو لعلماء المسلمين، ومجاهديهم، وللحاضرين.

ويخصّ المؤسّسين، أو الباذلين أموالهم، بدعاءٍ خاص.

ثمّ يهدي ثواب الفاتحة، إلى أموات هؤلاء، وعموم المؤمنين والمسلمين.

ولكل خطيب، من خطباء المنبر الحسيني، أُسلوب دعاء اعتاده، يختم به محاضرته ومنبره.

وأودّ أنْ أختم موضوع هيكلية المنبر الحسيني، بقطعة من أرجوزة شعرية، لأحد خطباء المنبر الحسيني، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، حيث يقول:

في بلدتي من الخصال الجيّدة

مـجالسُ الوعظ بها مشيّدة

مـجالسٌ عـلى مدى الأيام

يـحضرها جمعٌ من الأنام

فـخطبةٌ تُـتلى بـها وشعرُ

وآيـةٌ أنـبأَ عـنها الـذِكّرُ

مختومة بذكرِ آل المصطفى

أعلا بها الله بلادي شَرفاً(1)

ويصف أحد طلبة العلوم الدينيّة اللبنانيين، حينما كان يدرس في النجف الأشرف، مجلساً يُقام فيه المنبر الحسيني ملخصاً ما ذكرنا من

____________________

(1) الطريحي، محمد سعيد: مجلّة الموسم، العدد (9 - 10) ص327.

٢٢٦

الفقرات بقوله:

(يردّد القرّاء بعض العبارات، باعتبارها، مدخلاً لجميع قرّاء التعزية فيقول: صلّى الله عليك يا رسول الله، وعلى آل بيتك الطيبين الطاهرين.. ما خاب من تمسّك بكم، وأمِن مَن لَجأ إليكم، يا ليتنا كنّا معكم، فنفوز فوزاً عظيماً.

ويختلف القرّاء في بدء القراءة، فمنهم مَن يقرأ آيات من القرآن الكريم، ويفسّرها، ويعرّج بها على قضية الإمام الحسينعليه‌السلام . ومنهم مَن يبدأ بخطبة من خطب نهج البلاغة، أو قصيدة بحق آل البيتعليهم‌السلام ، ويتدرّج بالحديث حتى ينتهي إلى جانب من ثورة الحسينعليه‌السلام .

ويتخلّل كل ذلك أبيات، أو قطع شعرية، لبعض الشعراء تخص الموضوع، ويعرّج في النهاية على الأحداث التي تجسّدت في اليوم العاشر من المحرّم. ويختم المجلس بقراءة بعض أبيات الرثاء الشعبية، وعندها يضجّ الحاضرون بالبكاء، وبعد ذلك بيتاً، أو صدر بيت من الشعر القريض، يختم به القراءة، ثمّ يدعو للمسلمين، وأعلام الدين، والمؤسّس للمجلس ومَن يلوذ به، ويطلب قراءة سورة الفاتحة، وإهداء ثوابها إلى أرواح المؤمنين والمؤمنات)(1) .

مواسم المنبر الحسيني

يحتلّ المنبر الحسيني في عصرنا الحاضر مساحة واسعة، في الأوساط الشيعيّة في العالم. وتمتد مناسباته في أغلب أيام السنة، ليشمل نشاطات دينيّة واجتماعيّة مختلفة. وكان لإنشاء أمكنة خاصة، لإقامة المنابر الحسينية(2) أثر واضح على نمو هذه المنابر، واتساعها، واستمراريّة إقامتها.

____________________

(1) العاملي، عبد الحسين نور الدين: مأساة إحدى وستين ص130.

(2) وهي ما تعرف اليوم بـ (الحسينيات)، أو النوادي الحسينية. والتي سنتوقّف عندها، في نقطة أخرى إنْ شاء الله.

٢٢٧

ويصل الأمر، أنّ حسينيات، في مناطق مختلفة من العالم الشيعي، يعقد فيها المنبر الحسيني، كل يوم وعلى طوال السنة! نجد ذلك في بعض حسينيات، الكويت، والبحرين، والمنطقة الشرقية في السعودية وعُمان... إضافة إلى مناطق أخرى خارج الأقاليم العربية.

وممّا أسهم في اتساع المنبر الحسيني، وامتداده بهذه الصورة، التطوّر النوعي الكبير، الذي راح معه خطيب المنبر الحسيني يعالج مختلف القضايا، التي تقع ضمن دائرة اهتمام الإنسان المسلم، في تربية نفسه أو شؤون أسرته، أو التعامل الاجتماعي.

وكان لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، أثر بالغ على اتساع المنبر الحسيني، وعظم مساحته في بعض الأقاليم الشيعية، أو في المهاجر.

والمثال الأبرز في هذا الشأن، ما نجده في لبنان، حيث امتد المنبر الحسيني، في المناطق الشيعيّة في لبنان، بشكل كبير وواضح جداً بعد عام 1979م. ولا ننسَ العامل المهمّ، والأساسي الذي يشدّ الإنسان الشيعي، لحضور المنبر الحسيني، وهو عامل التقوى والتقرّب إلى الله تعالى، حيث يعتبر حضور المنابر الحسينية عملاً عبادياً، يرجو به مزيداً من الثواب، وموالاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله.

وإنّ العديد من المبلغين والدعاة إلى الإسلام، لا يجدون مناخاً في الأوساط الشيعية، يوفّر لهم حضوراً جماهيرياً، ومبرّراً حاضراً طوال العام، مثل دعوة الناس، إلى حضور مأتم حسيني.

ولهذا فضّل العديد من العلماء، والمبلّغين، والدعاة إلى الإسلام - أنْ يسلكوا سبيل المنبر الحسيني؛ لأنّه المنبر الأقدر على شدّ الناس، والأفضل في التأثير عليهم، في الأوساط الإسلامية الشيعية.

وللوقوف على المناسبات، التي تبرز ظاهرة المنبر الحسيني، نذكر ذلك، ضمن قسمين رئيسيين هما:

٢٢٨

1 - مجالس المناسبات العامّة

فالمجالس والمناسبات العامّة، نعني بها المنابر الحسينية التي تُعقد في المواسم الدينية العامّة، ولا تخص الجهة، أو الشخص الذي يقيمها، ويدعو إليها.

وهي كالتالي:

1 - مجالس شهر محرّم الحرام.. وهي أبرز موسم للمنبر الحسيني، وأشدها اتساعاً وجذباً للجمهور. وخاصّة العشرة الأولى من الشهر، والتي طلق عليها (أيام عاشوراء)، حيث تشتدّ المجالس، وتتّسع المنابر فيها، بحيث لا يتخلّف عنها، حتى قليلو الالتزام الديني من الشيعة.

2 - مجالس شهر صفر.. حيث تستمر المجالس، والمآتم الحسينيّة لتحتضن المنبر طوال هذا الشهر؛ لأنّه الشهر الذي شهد حركة ركب السبايا - بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام - من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام رجوعاً إلى المدينة المنورة في آخر شهر صفر، أو بعده.

وتعتم طريقة (العشرات) في قراءة المنابر الحسينية، في مآتم وحسينيات؛ العراق والكويت والبحرين، والمنطقة الشرقية في السعودية. وهي: أنْ يقرأ خطيب المنبر الحسيني، عشر ليالٍ. في مكان، أو حسينية ما، ثمّ ينتقل إلى حسينية أخرى في عشرة ثانية وهكذا.

وذلك طوال شهري محرّم وصفر. وهكذا يتجدّد خطباء المنبر الحسيني. ويتم الاستفادة من أكبر عدد ممكن منهم. كما يمكن للجمهور الحسيني، أنْ يقارن بين خطيب وآخر، من حيث المستوى، والأداء وأسلوب الطرح.

٢٢٩

أما في الإمارات، وعُمان، فإن الخطيب الحسيني، عادةً ما يتفق معه على شهر كامل، مثل شهر محرم الحرام، أو شهر صفر(1) . فيمكن أنّّّْ تكون القراءة في مكان ما في شهر المحرّم، فيما ينتقل إلى محل آخر في شهر صفر.

3 - مجالس شهر رمضان المبارك.. وهي مجالس تأتي، بعد مجالس المحرّم، من حيث الحضور؛ لأنّ الشدّ العاطفي المميّز لأيام عاشوراء، والذي يعيشه الإنسان الشيعي، لا يكون موجوداً في هذا الشهر الكريم. ولهذا؛ فإنّ حضور مجالس شهر رمضان التي يركز فيا على المفاهيم القرآنية والتربوية والتاريخية - هو غير حضور مجلس المحرّم، لاسيما العشرة الأولى منه، حيث موضوعات السيرة الحسينية ذات البعد العاطفي المتّقد.

كما أنّ أغلب روّاد مجالس شر رمضان، من الملتزمين دينيّا، بينما تشمل مجالس عاشوراء كل شيعي، بغض النظر عن مدى التزامه.

إضافة إلى أن مجالس المحرّم تشمل كل المناطق الشيعيّة، بينما تختص مجالس رمضان، ببعض تلك المناطق. وتعقد أغلب المجالس الرمضانية في المساجد.

4 - مجالس وفيّات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسيدة الزهراء، وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ..

____________________

(1) جرت العادة على أنْ يتعلّق خطيب المنبر الحسيني أُجرة على محاضراته المنبريّة. وتزداد هذه الأجرة مع اتساع شهرة الخطيب وعلوّ مكانته، كما ويتفاوت مقدارها من منطقة لأخرى، ومن مجلس لآخر، ومن موسم خطابي لثانٍ. وقد يتمّ الاتفاق على مقدار الأجر مقدّماً، وقد يوكل إلى التراضي بعد انتهاء الموسم التبليغي. وفي الملاحق مجموعة من الاستفتاءات أرسلتها إلى اثنين من المراجع الشيعة في مسائل تتعلّق بأجرة الخطيب الحسيني. أوردتها توضيحاً لهذه المسألة.

٢٣٠

لقد تقدّم أنّ المنبر الحسيني، تطوّر في اهتمامه والمساحة التي يشغلها، ليشمل مناسبات أخرى، غير عاشوراء وما جرى للإمام الحسينعليه‌السلام . وبدأ ذلك - كما ذكرنا - في المرحلة الأولى مراحل تطوّر المنبر الحسيني. وساعد على ذلك، ما يشعر به الإنسان الشيعي، من أنّ ما لاقاه الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام من أذىً، وظلم، هو نوع آخر ممّا جرى عل الإمام الحسين من آلام ومعاناة.

إنّ هناك مجالس خاصة، يتحدّث فيها خطيب المنبر الحسيني، عن سِيَر ومواقف، وتوصيات صاحب الذكرى التي تُحيى. ولابدّ أنّ يبدأ الخطيب، في هذا النوع من المجالس بقصيدة خاصة بتلك المناسبة، ثمّ يذكر وفاة أو معاناة صاحب الذكرى. ولابدّ في النهاية من التعريج على الحسين وكربلاء. كي يُشبع الجانب العاطفي من الخطبة(1) .

ويقيم علماء، ووجوه اجتماعيّة، وحسينيات، هذه المجالس المختصّة بأهل البيت، ووفيّاتهم، وهذه المناسبات كالتالي:

1 - وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في 28 صفر.

2 - وفاة السيدة الزهراءعليها‌السلام في 13 جمادي الأوّل أو 3 جمادي الثاني (حسب اختلاف الروايات).

3 - وفاة الإمام عليعليه‌السلام في 19 - 21 شهر رمضان.

4 - وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام في 7 صفر.

5 - وفاة الإمام علي بن الحسين (زين العابدين)عليه‌السلام في 25 محرّم.

6 - وفاة الإمام محمد بن علي (الباقر)عليه‌السلام في 7 ذي الحجّة.

____________________

(1) وهو ما عرفناه سابقاً بفقرة (المصيبة) في فقرات هيكلية المنبر الحسيني. وهي الفقرة الأخيرة التي تأتي بعد المحاضرة التي يتم فيا الحديث عن جوانب مختلفة في شؤون المعرفة والثقافة الدينية والعامّة، كما وضّح ذلك سابقاً.

٢٣١

7 - وفاة الإمام جعفر بن محمد (الصادق)عليه‌السلام في 25 شوال.

8 - وفاة الإمام موسى بن جعفر (الكاظم)عليه‌السلام في 25 رجب.

9 - وفاة الإمام علي بن موسى (الرضا)عليه‌السلام في 17 صفر.

10 - وفاة الإمام محمد بن علي (الجواد)عليه‌السلام في 30 ذي القعدة.

11 - وفاة الإمام علي بن محمد (الهادي)عليه‌السلام في 3 رجب.

12 - وفاة الإمام الحسن بن علي (العسكري)عليه‌السلام في 8 ربيع الأوّل.

كما ونلاحظ، أنّ بعض هذه المناسبات يقع ضمن المواسم المنبرية الرئيسيّة؛ محرّم وصفر وشهر رمضان، بينما تتوزّع المناسبات الأخرى، على طوال العام. ويلاحظ أنّ المجالس، التي تخص وفاة السيدة الزهراءعليها‌السلام والإمام موسىعليه‌السلام بن جعفر، تتميّز بحضور جماهيري واضح.

2 - مجالس المناسبات الخاصة

وهي القسم الثاني من المناسبات، التي ينشط بها المنبر الحسيني، فهي مناسبات خاصة، بالشخص، أو الجهة التي تقيمها، وهذه المناسبات هي:

1 - مجالس العادات الأسبوعية: وهي مجالس العلماء، وبعض الوجوه الاجتماعية. ويختار لذلك وقت المساء بعد صلاة العشاء عادة، وهناك مجالس تقام عصراً أو صباحاً في أحيان أخرى. ولكلّ مجلس من هذه المجالس، يوم محدّد في الأسبوع، فهنا، مجلس كل ليلة جمعة، وهناك مجلس آخر عصر يوم الجمعة، وثالث في مساء كل يوم ثلاثاء.. الخ.

وهي مجالس، تتميّز بحضورها المحدود والخاص. وتتحوّل إلى مجالس اجتماعيّة، ولقاءات عامّة، أو مجال للبحوث العلميّة

٢٣٢

الفقهية بالنسبة لمجالس العلماء.

وعادة ما يكون لكل مرجع من مراجع الدين، في النجف الأشرف، أو قم، أو أي مدينة أخرى، مجلس أسبوعي معرو ف.

2 - مجالس تأبين الموتى: جرت عادة الشيعة على أنْ يُختم مجلس الفاتحة، والتأبين الذي يقام في مناسبات الوفاة وتُتلى فيها آيات من الكتاب العزيز، أنْ يختم المجلس بمنبر حسيني. حيث يرتقي الخطيب، ليذكّر الناس بالآخرة والموت، ثمّ يختم حديثه بالتعريج على مصائب الحسينعليه‌السلام . أو أحد أهل بيته بما يناسب حال الميت.

(فإذا كان الميت طفلاً، يقرأ عن الطفل الرضيع عبد الله، وإذا كان شاباً يقرأ عن القاسم أو علي الأكبر، وإذا كان أخاً، يقرأ عن العباس، وإذا كان رجلاً، يقرأ عن الحسين، وإذا كانت سيدة، يقرأ عن السيدة الزهراء أو عن السيدة زينب)(1) . (وفي الملحق، نموذج من ملصقات الإعلان عن مجلس تأبين لميت شيعي).

3 - مجالس المناسبات: لم تقتصر المنابر الحسينية على ما ذكر أعلاه بل راحت تشمل مناسبات أخرى، قد يستغرب البعيد عن عالم المنبر الحسيني، أنْ يقام في أمثالها، مثل: الانتقال إلى منزل جديد، الرجوع من الحجّ، الوفاء بنذر، على تحقّق أمر محبوب أو دفع آخر مكروه. وفي السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة استقدام حملات الحج، بعضاً من خطباء المنبر الحسيني ليكون مرافقاً للحجّاج، في مكّة والمدينة(2) ، وبقية المشاعر المقدّسة.

____________________

(1) البعيني، حسن أمين: العادات والتقاليد في لبنان، ص122.

(2) تضم المدينة المنوّرة، إضافة إلى قبرَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم ّ) والسيدة الزهراء، قبور أربعة من أئمّة أهل البيت هم، الإمام الحسن، الإمام عليّ بن الحسين، الإمام محمد بن علي الباقر، الإمام جعفر بن محمد الصادقعليهم‌السلام ، وكلّهم في مقبرة البقيع، وتتركّز المجالس الحسينية المقامة في المدينة المنورة، من قِبَل الحجاج الشيعة، على سيرة هؤلاء المقدسين ثمّ لا بد بعد ذلك من التعريج على كربلاء.

٢٣٣

حيث يزدهر المنبر الحسيني، في موسم الحج، بشكل واضح في الحملات الشيعيّة، سَواء الخليجيّة أم اللبنانية، أو تلك التي تنظمها الجاليات الشيعيّة المغتربة في العالم. وهذا التوسّع في مجالس المناسبات، كان متلائماً مع التطوّر النوعي في مادّة المنبر الحسيني ومحاضرته، التي راحت تتّسع لحاجات ثقافية، واجتماعية متنوّعة، وعادة ما تكون مجالس المناسبات هذه عند الفئة الملتزمة دينياً منم الشيعة. ومن باب أولى انتشارها في بيوت العلماء وطلبة العلوم الدينية.

ويتولّى الشخص صاحب المناسبة مهمّة الدعوة إلى مجلسه، وتهيئة مستلزماته، ولمزيد من التوضيح نراجع الشكل التوضيحي رقم(2) التالي:

الشكل التوضيحي رقم(2)

حيث تتّضح كثافة المنابر الحسينية في المناطق الشيعية، طوال أشهر السنة. وضمن عدّة مستويات هي:

1 - المستوى (أ) يعتبر قمّة ما يصل غليه المنبر الحسيني من اتساع وقوّة حضور وذلك في العشرة الأولى من المحرّم.

2 - المستوى (ب) مستوى المنبر وحضوره في بقية شهر محرم وطوال شهر صفر.

3 - المستوى (ج) مستوى المنبر وكثافة الحضور في شهر رمضان الفضيل.

4 - المستوى (د) المستوى الطبيعي لكثافة المنابر طوال السنة عدا ما ذكرناه أعلاه.

5 - النتوءات البارزة، تشير إلى الكثافة المفاجأة للمنبر الحسيني، في مناسبات وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسيدة الزهراء وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام . كما بُيّن تاريخ كل مناسبة في الشكل المجاور.

٢٣٤

٢٣٥

د - من يتولّى إقامة المنبر الحسيني؟

بعد أنْ عرفنا في النقطتين السابقتين، من هذا البحث، هيكليّة المنبر الحسيني والمواسم التي يعقد فيا المنبر الحسيني، وبما اتّضح لنا من سعة هذه المؤسّسة التبليغيّة الكبيرة في أوساط الشيعة. لابدّ أنّ سؤالاً يتبادر إلى الذهن، حول الجهات أو الهيئات، التي تتولّى مهّمة دعوة خطيب المنبر الحسيني، وتهيّئ لإقامة المنبر الحسيني ومتطلباته.

إنّ الجهات التي تتولّى مهمّة إقامة المنابر الحسينية، وتدعو إليها، جهات مختلفة. ففي مجالس المناسبات الخاصّة - التي سبق بيانها - يتولّى الشخص صاحب المناسبة مهمّة الدعوة إلى مجلسه وتهيئة مستلزماته؛ إذا كان عنده حفل تأبين لميّت له، أو إذا كانت عنده مناسبة خاصة به. أو لمجلسه الأسبوعي الخاص به، والذي يعقد في بيته. في حين تتولّى جهات وأشخاص متنوّعون، مهمّة الدعوة إلى إقامة المنابر الحسينيّة، في المناسبات والمجالس العامّة. وهذه الجهات هي:

1 - أئمّة المساجد أو الهيئات واللجان المشرفة عليها

إنّ أوسع المنابر الحسينية، وأهمّها، هي تلك التي تعقد في المساجد الكبيرة، أو الحسينيات الضخمة، والتي عادةً ما يشرف عليها العلماء وأئمّة المساجد، أو اللجنة المكلّفة بشؤون هذا المسجد أو تلك الحسينية.

ويتولّى إمام المسجد، أو المسؤول على الحسينية، مهمّة اختيار

٢٣٦

خطيب المنبر الحسيني المناسب، وتهيئة كل مستلزمات إقامة تلك المنابر، من إضاءة، وأفرشة، وما يُقدّم من أشربة وأطعمة، حسب العادات المتّبعة في ذلك البلد. بينما تتشكّل لجان خاصة - في بعض المناطق ولاسيما منطقة الخليج - من أجل اختيار الخطيب المطلوب.

وعادة ما ُتقدّم الهبات، والنذور، والتبرّعات، لإرفاد هذه المجالس، وتغطية مصروفها. وأغلب هذه المآتم تقام عادةً في الليالي.

2 - الأسر العلمائية

يقيم العديد من الأسر العلمائية مجالس خاصة باسمها، تؤمّها طبقات مختلفة من المجتمع، وخاصة العلماء، وطلاّب الدراسات الدينيّة، والوجهاء من المجتمع. وعادة ما تكون هذه المجالس - التي تُشرف عليها الأسر العلمائيّة - في المدن المقدّسة. حيث الحوزات العلميّة والمدارس الدينيّة مثل النجف الأشرف، وكربلاء والكاظميّة ومناطق أخرى...

وقد تعقد هذه المجالس صباحاً وربّما عصراً. وتحضى مجالس مراجع الدين بأهمّية خاصة. إذ (تمتاز النجف، بمجالسها العامرة بالجماهير، ومنها مجلس الإمام السيد محسن الحكيم(1) ، وكان مخصّصاً لقراءة المآتم الحسيني لمدّة خمسة عشر يوماً. وكان يؤمّه كبار العلماء، والشخصيات الاجتماعية، والعلميّة والسياسيّة والطبقات كافّة، وكان هذا المجلس يعقد أيام حياته)(2) .

____________________

(1) السيد محسن بن السيد مهدي بن صالح الطباطبائي الحسني الحكيم، فقيه عصره وسيد الطائفة وكبير المراجع. له مشاريع ومآثر خالدة، قاوم المستعمر الانكليزي منذ دخوله العراق عام 1914م. تصدّى للشيوعيين بفتواه الشهيرة (الشيوعيّة كفر والحاد) ازدهرت الحوزة العلميّة والحركة الإسلامية في عهده مات سنة 1390 هجرية ودفن في النجف. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 1 / 423).

(2) السّراج، عدنان إبراهيم: الإمام السيد محسن الحكيم، ص161.

٢٣٧

وهناك مجالس علمائية تاريخيّة، مثل مجلس آل بحر العلوم والتي بدأها (سيد الطائفة، وزعيمها السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفّي في 1212 هجرية. الذي كان يقيم مجالس عاشوراء في داره، وهي الآن تقام من قِبل أحفاده، بل إنّ ذلك المحفل يُعد من أعظم محافل النجف الأشرف، في العشرة الأولى وأكثرها تجمّعاً. وهو خاتمة المجالس الصباحيّة حيث يختم قريباً من الظهر)(1) .

3 - الأعيان والوجهاء

يتولّى بعض أعيان المناطق الشيعية ووجهائها، مهمّة إقامة مجالس للمنبر الحسيني، ولاسيما في العشرة الأولى من المحرّم، وهذه المجالس هي غير المجالس التي تقام لمناسبة خاصة؛ بل هي مجالس عامّة، أي تقام لأجل مناسبة عامة مثل عاشوراء، غاية ما هنالك، إنّ الذي يتولّى الإنفاق عليها، وتهيأتها شخص، وليس لجنة أو أسرة، وكذلك مهمّة اختيار الخطيب، (إنّ كل وجيه أو غني من الشيعة، يميل إلى إقامة مجلس يقرأ فيه مقتل الإمام الحسين، لمدّة عشرة أيام، خصوصاً في شهر محرّم، وشهر صفر من كل عام)(2) .

4 - الأحياء والمناطق الشعبية

تنتشر في المناطق الشعبية في العراق، وفي مناطق متفرّقة من الأقاليم الشيعية الأخرى، مجالس للمنابر الحسينيّة، تشرف عليها الأحياء الشعبيّة، حيث يتولّى أهل ذلك الحيّ، مهمّة الدعوة إلى المنبر الحسيني، واختيار الخطيب المطلوب، وتهيئة مستلزمات إقامة هذه المجالس.

____________________

(1) الخالدي، فيصل: المنبر الحسيني في العراق.

(2) الوردي، علي: دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص237.

٢٣٨

وعادة ما تُتّخذ الساحات العامّة، أو مفارق الطرق المهمّة في الأحياء، محلاًّ لإقامة تلك المنابر الحسينيّة حيث تُفرش الأرض، وربّما أخرج بعض الناس أفرشتهم أو ما عندهم من الأرائك. كما وتوضع مكبّرات الصوت على سطوح المنازل، ويوضع المنبر في موضع بارز يشرف من خلاله خطيب المنبر الحسيني على المستمعين.

5 - أصحاب الاختصاص الواحد أو الحرفيون

لقد امتدّ تأثير المنبر الحسيني في العراق - وربّما في مناطق شيعية أخرى - ليشمل النقابات، وأهل الأصناف المختلفة. حيث لم تقتصر مهمّة إقامة مجالس المنابر الحسينية، على العلماء أو متولّي شؤون المساجد أو الحسينيات أو اللجان الشعبية في المحلاّت والأحياء الشعبية. بل اتسعت المهمّة لتشمل أهل الحِرَف والأعمال، والمشتركين في مهمّة أو صناعة خاصة. فـ (مع تنامي الأحوال، تنعقد مجالس على مستوى المهن والفئات. مثلاً: مجلس باعة الأقمشة، ومجلس تجّار الحبوب، ومجلس الخيّاطين، ومجلس النسّاجين... وهكذا)(1) .

ولهذا نجد أنّ الأسواق، تعتبر مكاناً بارزاً لإقامة المنبر الحسيني. ففي هذا السوق - مثلاً - مجلس يقيمه بائعوا الأقمشة، حيث يغلقون دكاكينهم ومتاجرهم، ويفرشون أرض السوق بأنواع الأفرشة. في حين يقام مجلس حسيني آخر، في سوق آخر لبائعي الخضروات والفواكه وهكذا.

ويختار كل صنف، لجنة معينة من الملتزمين دينيّاً، والمؤهّلين

____________________

(1) الوائلي، أحمد: تجاربي مع المنبر، ص48.

٢٣٩

لإدارة مثل هذه المهمّة، وتقوم تلك اللجنة بجمع التبرعات، والاشتراكات من أهل ذلك الصف طوال السنة، استعداداً لأيام عاشوراء. وربما توزّع صناديق خاصة بالتبرعات في الدكاكين والمتاجر.

ويمكن لمن يشترك في مجلس حسيني، لصنف من الأصناف أعلاه، أنْ يشارك في مجلس منبر حسيني آخر، في حسينيّة ما، أو في حيّه الذي يعيش فيه.

6 - القبائل والعشائر

تولي العشائر العربية الشيعية في العراق، مسألة المنبر الحسيني، اهتماماً بارزاً. إذ صار من المعتاد أنْ يقام منبر حسيني عند كل قبيلة أو عشيرة، في مضاربها وأماكن تواجد أفرادها. وعادة ما تقام هذه المنابر، في بيوت واسعة من الشعر (خيام كبيرة). حيث تخلو مضارب القبائل والعشائر في العراق من الحسينيات، ويقوم رئيس العشيرة بالإشراف على تلك المجالس، ويتولّى - قُبيل المحرّم - مراسلة مَن يعرف من العلماء أو المختصين، ليتم اختيار الخطيب الحسيني. وعادة ما ينزل الخطيب في ضيافة رئيس القبيلة.

ويسهُم أفراد القبيلة، برفد هذه المجالس، وإعداد ما تحتاجه من مصروفات. ويمكن مشاهدة هذه القبائل والعشائر بشكل واضح، وهي تؤم مدينة كربلاء، في يوم العشرين من صفر (مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين).

7 - أبناء المدن المقيمون في مدن أخرى

إنّ ظاهرة انتقال الإنسان من بلده إلى بلدٍ آخر طلباً للرزق، أو

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397