المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 116128
تحميل: 8217

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116128 / تحميل: 8217
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تمهيد

كلّ ما بحثناه حتى الآن، أمور تتعلّق بتاريخ المنبر الحسيني وماضيه، إنْ صح التعبير. ولكي تكتمل الصورة، وحتى نطّلع على المساحة التي يشغلها المنبر الحسيني حالياً، والدور الذي يمكن لخطيبه أنْ يقوم به من جهة، ولكي ننطلق من واقع هذا المنبر إلى التفكير بترشيده وتوجيهه، حتّى يؤتي أفضل الأُكل في المستقبل، من جهة أخرى. كان لابدّ لنا أنْ نتوقّف، وندرس المنبر الحسيني المعاصر، وأهم ما يتعلّق بخطيب هذا المنبر.

وهذه المهمّة، سيتكفّل بها الفصل الرابع هذا، من هذا البحث.

وسيكون البحث فيه منصبّاً على مسألتين:

الأولى: فيما يتعلّق بالمنبر الحسيني المعاصر، من حيث محتواه ومواسمه، واللجان المشرفة على إقامته، والأمكنة التي تُتّخذ لهذا المنبر، وأمور أخرى، تُجلي صورة هذه الظاهرة الدينية الاجتماعية.

والمسألة الثانية: في

٢٠١

أمور تتعلّق بخطيب هذا المنبر، وأوصافه، وكيف يتم إعداده لهذا النوع من الخطابة الدينية. محاولين إبراز موقع هذا الخطيب، في الأوساط التي تعنى بالمنبر الحسيني.

وعلى هذا سيكون الفصل الرابع من مبحثين هما:

المبحث الأول: المنبر الحسيني، صفته ومساحته اليوم

إنّ المنبر الحسيني، في بداياته كان مقتصراً على جانب الحزن والبكاء، ثمّ دخل عنصر الوعظ والإرشاد، مع هذا الجانب، وقد كان ذلك في زمن متقدّم نسبيّاً. فقد ذكرنا في الفصل الثاني، وفي نهاية مظاهر المأتم الحسيني أيام البويهيّين، وما بعدهم في بغداد، أنّه توفّي سنة 598 هجرية في بغداد، قارئ أو منشد اسمه أبو منصور محمد بن مبارك الكرخي، ووصف بأنّه (يعظ في الأعزية)، (راجع ص114).

وأخذ المنبر الحسيني، بعد ذلك، يهتمّ بسرد بعض الأحداث التاريخيّة.

وقد سبق كل ذلك عنصر مهم جدّاً، وسّع من دائرة المنبر الحسيني، والمناسبات التي يهتم بها، حيث لم يقتصر على ما يتعلّق بالإمام الحسين، بل راح يمتد في اهتماماته ليشمل مناسبات وذكريات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسيدة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب، وبقية الأئمّة من أولادهعليهم‌السلام .

ولم تحدّد بالضبط، الفترة التي برزت فيها هذه التطوّرات. وأحسب أنّ الاهتمام بذكريات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت، والإشارة إلى

٢٠٢

بعض محنهم، كانت قد برزت في المرحلة الأولى، وتحديداً في قصيدة دعبل الخزاعي التائية، التي ألقاها على الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت. وهو علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (ت: 203 هجرية). حيث أشار إلى قبور ضمت بعض رموز أهل البيت من الذين قضوا بعد الحسينعليه‌السلام . وبعض معاناة هؤلاء الرموز.

ثمّ استمر المنبر الحسيني في تطوّره، حتى وصل مرحلته الأخيرة، حيث راح خطيب هذا المنبر، يطرح مختلف القضايا، والشؤون التي تهم الإنسان المسلم، ويناقش العديد من المسائل الاجتماعيّة، والعقيدية، والتربويّة، وغيرها.

وأحسب أنّ فكرةً، ولو بسيطة، قد تكوّنت عندنا حينما ترجمنا للخطباء الأربعة، في نهاية الفصل الثالث، عن سعة الاهتمامات، التي أخذ المنبر الحسيني بتناولها.

ولمزيد من التوضيح، وللوقوف على مدى التطوّر، الذي حصل للمنبر الحسيني في عصرنا الحديث، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل تطوّر، سنتوقّف عند بعض النقاط في هذا المبحث، وهي:

هيكليّة المنبر الحسيني

ونعني بها، الفقرات التي تشكّل الخطبة، التي يتناولها خطيب المنبر الحسيني، والتي يتميّز بها المنبر الحسيني، عن بقية أنواع الخطابة الدينيّة.

إنّ المنبر الحسيني اليوم، يختصر كلّ مراحل التطوّرات النوعيّة،

٢٠٣

والشكليّة، التي واكبت مسيرته، إلى عصرنا الحالي. إنّ هناك، ست فقرات أساسيّة، يتألّف منها خطاب المنبر الحسيني، والتي ينبغي على خطيبه مراعاتها، وإشباع كل فقرة منها. ويمكن توضيحها بالشكل التالي:

٢٠٤

1 - المقدّمة

ونعني بها، جُمَلاً يبدأ بها خطيب المنبر الحسيني محاضرته، وتقرأ بطورٍ خاصّ، وأُسلوبٍ قريب إلى بعض طُرق ترتيل القرآن الكريم. ولكلّ خطيب مقدّمة يختارها. وهي تقع ضمن فقرات؛ حمد الله تعالى، والصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله، ولابدّ أنْ يخصّ الإمام الحسينعليه‌السلام بصلاة خاصة، وربّما ذكر الشهداء معه كذلك، ثمّ لابدّ أنْ تنتهي كل مقدّمة بالجملة المعروفة والمشهورة عن خطباء المنبر الحسيني، عند عموم جمهور هذا المنبر، وهي جملة(يا ليتنا كنا معهم - أو معكم - فنفوز فوزاً عظيماً) (1) ، وهي فقرة وردت في الفصل الثاني، من هذا البحث، حينما تحدّثنا عن حثّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، على إقامة المآتم الحسينية، حيث ذكرنا حديث الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، مع أحد أصحابه، بقوله: (فقل كلّما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً). (راجع ص84).

فإذا ذكر الخطيب هذا المقطع، علم المستمعون أنّه انتهى من المقدّمة وسينتقل إلى الفقرة الثانية.

وفيما يلي نموذج عن هذه المقدّمة:

(الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.

صلّى الله عليك يا مولاي يا أبا عبد الله، صلّى الله عليك يا ابن

____________________

(1) وهذه الجملة، كما هو معلوم، مستلّة في الأساس من الآية القرآنية (73) من سورة النساء، وهي قوله تعالى:( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) .

٢٠٥

رسول الله

يا رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمّة

يا ليتنا كنّا معكم سادتي فنفوز فوزاً عظيماً)

وهذه الفقرة، من مبتكرات المرحلة الأخيرة، من مراحل تطوّر المنبر الحسين. إذ لم يرد لها ذكر في المراحل السابقة، فقد كان المنشد، أو الشاعر، يبدأ مباشرة بإنشاد القصيدة. كما أنّ كتب المجالس الحسينيّة، التي وصلت إلينا من المرحلة الثالثة من مراحل تطوّر المنبر الحسيني، حسب ما اخترناه، ومنها كتاب (المنتخب) للشيخ الطريحي: نجدها خالية من هذه المقدّمة.

2 - القصيدة

وهي الفقرة الثانية، التي يتناولها خطيب المنبر الحسين. حيث يختار الخطيب، إحدى القصائد الرثائيّة المناسبة لمقتضى الحال، وطبيعة الموسم الخطابي، ونوعية المناسبة التي يقام المنبر الحسيني من أجلها.

ويرث خطيب المنبر الحسيني، في هذه الفقرة، ما كان يؤدّيه الشاعر، أو المنشد، الذي كان يفد على أحد أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، كما مرّ بنا سابقاً. والشعر الرثائي في الحسينعليه‌السلام أكثر من أنْ يُحصى. (وقد كثُر هذا النوع في أدب الشيعة كثرةً هائلةً. حتى إنّه ليندر أنْ تسمع بشاعرٍ شيعي لم يرثِ الحسين)(1) .

____________________

(1) نعمة، عبد الله: الأدب في ظلّ التشيّع ص166.

٢٠٦

لقد أحدث استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، مجالاً خصباً وثرياً للشعر. حيث راح الشعراء، قديماً وحديثاً، يتبارون في رثائه، وتعداد مواقفه، وشجب قتلته، والإشادة بأنصاره. وقد أُلّفت موسوعات في ترجمة الشعراء الذي رثوا الإمام الحسين(1) . الذي (قيل فيه من الشعر ما لم يُقَل في أحد على الإطلاق، إنْ من حيث الكمّية أو الكيفية أو عدد الشعراء الذي تغنّوا بكربلاء)(2) .

وعلى خطيب المنبر الحسيني، أنْ يحفظ عيون الشعر الرثائي، الذي قيل في الإمام الحسين، ويتقنهُ، ثمّ يصوغه وينشده بأسلوبٍ فنّي رقيق، يتدّرج فيه الخطيب من الأسلوب الهادئ في بداية القصيدة، حتى يرفع من طريقة إنشاده، لتصل في النهاية إلى إنشاد حماسي حزين.

وهناك طُرق وأساليب وأطوار، معروفة بين خطباء المنبر الحسيني، ويألفها جمهور هذا المنبر. ويتفاعل جمهور المنبر الحسيني، مع بعض أطوار الإنشاد، بأنين يرفعونه في أصواتهم، فيكون هناك تناغم بين إنشاد الخطيب وأنين الحاضرين، وأكثر ما تبرز هذه الحالة، في مجالس منطقة الخليج العربية.

كما أنّ الخطباء المشهورين، عادةً، ما يتميّزون بأسلوبٍ خاص، في إنشاد الشعر الرثائي، حتى تعرف عنهم، طريقة خاصة. فإذا ما قرأ - مثلاً - خطيب شاب قصيدة ما، قال الحاضرون فيما بينهم، إنّ هذا الخطيب الشاب يقلّد الخطيب الفلاني، وطريقته شبيهة بطريقة ذاك

____________________

(1) حدّثني السيد محمد الموسوي الهندي، رئيس جماعة علماء الهند (مواليد النجف الأشرف 1953م) أنّ هناك درساً في كلّيات الآداب في الهند اسمه (مرثيّة). وتدرّس فيه القصائد الرثائية التي قيلت في الإمام الحسين. مقابلة شخصية معه في لندن. 7 محرّم 1421 هجرية / 12 نيسان 2000 م.

(2) نصر الله، حسن عباس وآينة، صادق: الأدب السياسي الملتزم في الإسلام، ص98.

٢٠٧

الخطيب المشهور.

وحتى نوضّح الصورة، فإنّ ذلك شبيه، بتميّز بعض قرّاء القرآن الكريم، بأساليب وطرق في التلاوة، ترتيلاً وتجويداً بحيث يعرف بها قارئ عن آخر(1) .

وعادةً، ما يختم خطيب المنبر الحسيني، قصيدته الرثائيّة، بأبيات من الشعر الرثائي الشعبي العراقي، وأحياناً البحراني. وهي الأبيات التي تؤجّج حالة التفاعل العاطفي، وتقرأ كذلك بأسلوب وطريقة خاصة، ويتميّز بها، كذلك، خطيب حسيني عن آخر. وهنا يبرز عنصر الصوت ورخامته، وحسنه، في تألّق بعض الخطباء وانشداد الجماهير إليهم.

وقد صنفت بعض الكتب، التي جمعت القصائد الرثائيّة، من النوعين، القريض الفصيح، والشعبي المتداول. وهي تشكّل رصيداً جاهزاً لمن أراد أنْ يعتلي أعواد هذا المنبر.

ولعلّ من أشهر مصنّفات الشعر الرثائي القريض، والتي ضمّت أشهر قصائد الرثاء، من المحدّثين والقدامى، كتاب؛ (الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد) لمصنّفه السيد محسن الأمن العاملي، وكتاب (رياض المدح والرثائي للسادة النجباء) للشيخ حسين علي البلادي البحراني.

وأمّا ما صنّف، من كتب الشعر الشعبي، لشعراء العراق، والمنطقة العربية في إيران، وشعراء البحرين، والمنطقة الشرقية في

____________________

(1) لا يمكن بما لا يقبل الشك أن يقاس كلام الله المجيد بأيّ كلام آخر. ولكن المشبّه به (أساليب، تلاوة القرآن الكريم لبعض مشاهير القرّاء) هو أجلى وضوحاً وانتشاراً عند كل المسلمين... وذكرته لأوضّح تميّز بعض خطباء المنبر الحسيني بأُسلوبٍ خاص في إنشاد الشعر وهو المشبّ هنا. وجهة الشبة هو التميّز هنا وهناك.

٢٠٨

السعودية. فهي كتب ومصنّفات، يصعب إحصاؤها؛ لكثرتها ووفرتها، واستمرارية ظهروها في الأسواق. وتحظى بعض دواوين الشعر الرثائي الشعبي، باهتمام خاص، وشهرة، ما عُرف بجزالة اللفظ، وروعة التصوير، واتقاد العاطفة. إنّ للشعر الشعبي الذي قيل في الإمام الحسين، مجالات واسعة للحديث، تخرج بنا عن خطّة هذا البحث حتى صارت، بعض مقاطع الشعر الحسيني الشعبي أمثلة، تردّدها الألسن في مناسباتها.

وعلى خطيب المنبر الحسيني، أنْ يختار القصيدة الملائمة للمناسبة التي يحييها. إذ لكلّ ليلة من الليالي العشر الأوائل، من المحرّم، قصائد خاصة بها، كما أنّ قصائد العشرة الثانية من المحرّم، إلى نهاية شهر صفر، تركز على حالة السبايا بعد العاشر من المحرّم.

في حين أنّ لوفيّات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل البيتعليهم‌السلام قصائد خاصة، في كلّ مناسبة)(1) .

ومن النتائج الإيجابية، لتعامل خطباء المنبر الحسيني مع الشعر، وتذوّقهم لغرره؛ نمو الحسّ الأدبي، وتفتح القريحة الشعرية، عند العديد منهم. فقلّما نجد خطيباً حسينياً مشهوراً، لا يكتب شعراً أو هو شاعر بالفعل، مسلّم بشعره وإجادته.

ولو رجعنا إلى الشكل التوضيحي السابق، لرأينا أنّ هذه الفقرة. أي القصيدة. خطّطت بخط متقطّع، وهدفي؛ أنْ أوضّح أنّ فقرة القصيدة، لا تعتبر أساسيّة في كل حال.

حيث يمكن الاستغناء عنها، في بعض المجالس، مثل مجالس

____________________

(1) يضاف إلى ذلك مجالس تأبين الموتى، حيث تقرأ قصائد الوعظ والإرشاد. وسيأتي لاحقاً تفصيل هذه المجالس ومناسباتها في فقرة (مواسم الخطابة الحسينيّة).

٢٠٩

شهر رمضان الفضيل. كما أنّ الاهتمام بالقصيدة، يختلف من بيئة إلى أخرى. فمجالس الطبقات المثقّفة، وبعض تجمّعات المغتربين، وبعض المجالس المهمّة في المدن الشيعية الكبرى، قد تستغني عن القصيدة. حيث يبدأ الخطيب بمحاضرته مباشرة بعد المقدّمة.

وكان ممّا ميّز أشر خطيب حسيني معاصر، وهو الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، أنّه لا يبدأ بقصيدة رثاء، وإذا أراد ذلك اكتفى ببعض أبيات، تقرأ بهدوء واسترسال. إذا ما تطلب الموقف ذلك، مثل مجلس ليلة عاشوراء.

في حين، تعتبر القصيدة أمراً أساسيّاً في مجالس العشرة الأولى من المحرّم، بل وفي كل مجلس، في مآتم منطقة الخليج، ومجالس لبنان وأغلب مجالس التأبين، ومجالس البيوت الخاصّة.

3 - المحاضرة

كان من نتائج التطوّرات، التي حدثت على المنبر الحسيني، أنّه لم يعد مقتصراً على الجانب المأساوي والعاطفي لأحداث كربلاء. فقد تحوّل المنبر إلى مؤسّسة ثقافيّة وتربوية بارزة، في الأوساط الشيعية. وأخذ المشرفون على إقامة المنابر الحسينيّة، ومعهم طبقات الواعين والمثقّفين، يولون شروطاً أخرى، في خطيب المنبر الحسيني، الذي يُرشّح لإحياء مناسبة ما، غير شروط أجادة إنشاد الشعر الرثائي، والتفنن في الجانب العاطفي الحزين.

وتمثلت تلك الشروط الجديدة، بثقافة خطيب المنبر الحسيني، وتمكّنه من معالجة القضايا التي تهمّ الإنسان، من قضايا تربوية أو سلوكيّة، أو اجتماعيّة، أو اقتصاديّة، وحتى سياسيّة أو جهاديّة، إذا سمحت الظروف بذلك، أو اقتض الحاجة والمصلحة العامّة.

٢١٠

إنّ ثقافة الخطيب، وسعة معلوماته، صارت شرطاً أساسيّاً في المجالس المهمّة، والرئيسيّة، في العالم الشيعي، حيث (قد غدت هذه الدراسات الإسلاميّة، والقرآنيّة في بلاد كثيرة، ولدى مساحات واسعة من الرأي العام، مقياساً تعتمد عليه الجماهير، في الإقبال على المأتم الحسيني، أو انكفائها عنه، كما أنّ المقياس يعتمد، في اختيار الخطيب الحسيني، المجوّد في هذا الشأن)(1) .

لقد غدت مسألة اختيار خطيب المنبر الحسيني، المثقّف، والمربّي، والقادر على معالجة حاجات العصر، غدت مسألة يهتم بها المشرفون على إقامة المجالس الحسينيّة، ولاسيما العلماء منهم.

وكمثال، فقد ورد في ترجمة الشيخ حسين معتوق العاملي (1330 - 1401 هجرية)، وبيان نوعي اهتماماته، حينما عاد إلى بيروت، قادماً من النجف الأشرف، بعد فترة قضاها في طلب العلم هناك (1347 - 1371 هـ) حيث عاد عالماً في منطقة الغبيري، ببيروت.

إنّ من تلك الاهتمامات؛ كانت مسألة المجالس الحسينيّة، فيذكر: (وفي هذا المجال، يظهر دوره التأسيسي واضحاً، إذ كانت المجالس قل قدومه، وفي الفترة الأولى لاستقراره في بيروت. بدائيّة سطحية، لا تتناسب مع مستوى هذه الذكرى، ومعطيات تلك الثورة العظيمة، فكان دائماً (ما) يفكّر في تطويرها، بحيث تلتقي مع المستوى الثقافي، الذي كان يرتقي شيئاً فشيئاً، في بيروت وخاصة على صعيد الشباب، وبالأخص طلاب الجامعات، فكان أنْ اهتدى أخيراً إلى فكرة استقدام قارئ من أفذاذ النجف الأشرف، التي يتخصّص فيها، بعض أصحاب الكفاءات، في قراءة المجالس الحسينية، ويتفرّغون لكيفيّة تطويرها، بحيث تتلاءم مع هذا الزمن)(2) .

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الإمام الحسين في الوجدان الشعبي، ص266.

(2) معتوق، أحمد: الحسين مهاجراً وثائراً، ص13.

٢١١

إنّ عظَم مهمّة خطيب المنبر الحسيني وأهمّيتها في المجالات، الثقافيّة، والتربويّة، والاجتماعية، وغيرها، أملت عليه أنْ يجهد نفسه، ويتعبها في المطالعة المستمرّة، والدراسات العلمية المتواصلة، ومتابعة الإصدارات الثقافيّة، والأدبية، والإسلاميّة العامّة. كما صار الخطيب الذي يريد لمنبره أنْ يكون نافعاً ومستقطباً للجماهير، أنْ يعيش في حالة طوارئ ثقافية وفكريّة - إنّ صحّ التعبير - فهو دائم الملاحظة يسجّل الشاردة والواردة، لا يمرّ به بيت شعر يُمكن توظيفه في محاضرته إلاّ وسجّله، أو فكرة هنا، أو خبر علمي هناك، أو فقرة ثقافيّة أو فكريّة يجدها في كتاب أو مقالة، إلاّ أودعه في دفتر ملاحظاته.

ولكلّ خطيب من خطباء المنبر الحسيني، مجموعة خاصّة به، يسجل فيها كل ما يُمكن، أنْ يُغني محاضراته. وسنأتي على مزيد من توضيح هذه النقطة، في فقرة أخرى، حينما نتحدّث عن الأوصاف المطلوبة في خطيب المنبر الحسيني.

فقد المحاضرة، تبدأ عادة إمّا بآية من القرآن الكريم، أو حديث شريف، أو مقطوعة من نهج البلاغة، أو ربّما بيت أو بيتين من الشعر، ثمّ يشرع الخطيب بعد ذلك بالشرح، وبيان ما يمكنه استفادته من النصّ في جوانب عدّة. وينقل مستمعيه، من فكرة إلى أخرى، ومن قضية إلى ثانية، مستعيناً في ذلك، بالشواهد الأدبية والتاريخية، وربّما العلمية، وبعض الإحصائيات، بما يوضّح الفكرة من جهة، وبما يرفع الملل والسأم عن المستمعين من جهة أخرى.

بل، وقد نجد بعض الخطباء، أحياناً، يذكرون بعض اللطائف الخفيفة، وربّما يضحك المستمعون لها(1) ، من أجل شدّ الأذهان،

____________________

(1) لم يعد خطيب المنبر الحسيني محصوّراً في حقل إنشاد الشعر الرثائي أو قراءة مقطع من أحداث واقعة كربلاء، بل توسّع الأمر ليتحوّل المنبر الحسيني إلى محاضرات تلقى فيها موضوعات مختلفة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ البعد الزمني للمنبر الحسيني =

٢١٢

ورفع حالة الملل، أو الرتابة، عن أجوا المحاضرة.

ويتميّز الخطباء في قوّة الطرح، ويتفاوتون فيما بينهم. فهذا الخطيب يُعرف عنه بأنّه صاحب منهج في تفسير القرآن الكريم، وخطيب آخر، يعرف عنه، أنّه خطيب يهتم بالجوانب العلمية الحديثة وربطها بالإسلام، وثالث يغلب على محاضراته والوعظ والإرشاد أو الأبحاث التاريخيّة وهكذا(1) .

وهناك مجالس تُعقد في تأبين الموتى، وفيها يركّز الخطيب، على مجالات الوعظ، وذكر الموت والآخرة.

4 - التخلّص

وهي الفقرة الرابعة، من فقرات المنبر الحسيني، في عصره الأخير. والتخلّص هنا بمعنى؛ انتقال خطيب المنبر الحسيني، من المحاضرة التي كان يلقيها، والموضوع الذي كان يتناوله، إلى أجواء الحزن والبكاء على الإمام الحسينعليه‌السلام والذي يختم بها محاضرته. ويتم هذا الانتقال، بطريقة فنّية، وأُسلوبٍ انسيابي، بحيث لا يشعر المستمع، إلاّ وقد نقله الخطيب، من أجواء تلك المحاضرة، وآفاقها المختلفة، إلى أجواء كربلاء وأحداثها المحزنة.

إنّ هذه الطريقة تسمّى (التخلّص)، أي يتخلّص من موضوعه،

____________________

= شهد توسّعاً كذلك، حيث لم يعد الزمن محصوراً بأيام عاشوراء ذات البعد العاطفي الواضح، بل راح المنبر الحسيني يغطّي محاضرات في كل شهور السنة. وهذا ما يفسّر حاجة المحاضرة أحياناً للطيفة تطرح بشكل عابر في أثناء المحاصرة. إنّ البكاء أصبح فقرة تأتي في آخر المحاضرة. وقد يمتدح بعض خطباء المنبر الحسيني، بأنّه يمتلك قدرة فاقئة في نقل الحاضرين من أجواء الضحك إلى أجواء البكاء (المصنّف).

(1) سيأتي بيان المدارس الخطابية الحاليّة في الفصل الخامس، من هذا البحث.

٢١٣

إلى موضوع آخر، وقد ورد في لسان العرب: خَلَصَ (الشيء)، يَخلَصُ خُلُوصاً وخَلاصاً، إذا كان قد نشب ثمّ نجا وسلِم، والتخليص: التّنجِيَة من كل منشَب(1) .

و(التخلّص، أمر معروف في الشعر العربي، منذ أقدم العصور. فكلّما شعر السامع، بأنّه يعيش بأجواء ذهنية، ونفسية، متجانسة، مع الانتقال، من موضوع إلى آخر، كان دليلاً على توفيق الشاعر، وإجادته وإحسانه، والشواهد على التخلّص، في الشعر العربي، أكثر من أنْ تحصى، ومنها قول زهير بن أبي سلمى(2) :

إنّ البخيل ملومٌ حيث كان ولـ

ـكنّ الجواد على علاّته هَرِمُ(3) .

إنّ الخطيب الحسيني المُبدع، هو ذلك الخطيب، الذي يحسن كيفيّة نقل مستمعيه، من أجواء محاضراته إلى أجواء كربلاء. بأنّ يجد مسألة متشابهة، بين محاضرته، وبين مفردةٍ أو موقف، جرى في كربلاء وأحداثها. فإذا كان الخطيب يتحدَث - فرضاً - عن الطفل في المنظور الإسلامي، وكيفية تربيته، كعنوان لمحاضرته، فإنّ عليه أنْ يربط، نهاية هذه المحاضرة، وبطريقة فنّية، مع طفل الإمام الحسينعليه‌السلام ، الذي رُمي يوم عاشوراء، وقتل وهو في أحضان أبيه(4) . كأن يقول - مثلاً - وهو يذكر اهتمام الإسلام بالطفل ورعايته..

____________________

(1) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، 7 / 26.

(2) زهير بن أبي سلمى بن ربيعة بن رباح المزني: شاعر جاهلي من أصحاب المعلّقات شعره يميل إلى الحكمة. وذكر في معلقته سعيه نحو الصلح. ولد نحو 530م توفّي نحو 609م. (الزركلي، خير الدين: الأعلام: 3 / 52).

(3) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الإمام الحسين في الوجدان الشعبي، ص300.

حيث تخلّص الشاعر (زهير) من موضوع ذمّ البخيل إلى مدح صاحبه الجواد، وهرم هذا، اسم رجل كان صاحباً لزهير واسمه: هرم بن سنان بن أبي حارثة المري (راجع ابن منظور - لسان العرب 12 / 608).

(4) جاء في تذكرة الخواص، في ذكر من قتل مع الحسينعليه‌السلام من أهله: (وقُتل عبد الله بن الحسين، وأمّة الرباب بنت امرئ القيس...) (سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي، =

٢١٤

هكذا هي مفاهيم الإسلام، وتعاليمه في حق الطفل والطفولة، ولكن لا أعلم - والحديث لا يزال للخطيب الحسيني - أين ذهبت هذه التعاليم، ولماذا لم تُرعَ مع أطفال الحسين يوم عاشوراء؟، نعم لقد نسيُت تعاليم السماء، مع ذرّية وأبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كربلاء..

ثمّ يزيد خطيب المنبر الحسيني، من تفصيلات ذلك، وكيف جاء الإمام الحسين حاملاً لطفله، يطلب له الماء. وبهذا نقل الجمهور من محاضرة عامّة حول الطفل وحقوقه، إلى مسألة خاصة، بأحداث عاشوراء، وهي مسألة قتل طفل من أطفال الحسينعليه‌السلام . (وسنورد، في نهاية هذا الفصل، نموذجاً لمحاضرة من محاضرات المنبر الحسيني).

وكلّما كان خطيب المنبر الحسيني، مطّلعاً على تفاصيل أحداث كربلاء، وسيرة الحسينعليه‌السلام ، وكل ما يتعلّق بحركته، كان أقدر على اختيار وجه الشبه المناسب، الذي يعتبره جسراً ينتقل عليه من محاضرته، إلى أجواء المصيبة.

يُضاف إلى ذلك، حسّ الخطيب الأدبي، وتجربته الطويلة، وبما استفاده من أساتذته وربّما من خطباء آخرين مثله.

____________________

= تذكرة الخواص ص229).

وفي البداية والنهاية: (ثمّ إنّ الحسين أعيا، فقعد على باب فسطاطه، وأُتي بصبي صغير من أولاده، اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثمّ جعل يقبّله ويشمّه ويودّعُه، ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له ابن موقد النار بسهم فذبح ذلك الغلام...) (ابن كثير، إسماعيل الدمشقي، البداية والنهاية، 8 / 203).

وأورد الطبري حديثاً للإمام محمد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام مع رجل من بني أسد قال فيه:(إنّ لنا فيكم يا بني أسد دماً) ، ولما سألهُ الأسدي عن ذلك قال:(أُتيَ الحسين بصبيّ له فهو فيّ حجره، إذا رماه أحدكم يا بني أسد، بسهم فذبحه فتلقّى الحسين دمه فلمّا ملأ كفّيه صبّه في الأرض...) (الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، 4 / 342). ويمكن كذلك مراجعة تاريخ اليعقوبي، 2 / 158. ومقتل الخوارزمي 2 / 37 وغيرها من المصادر.

٢١٥

إنّ فقرة التخلّص في المنبر الحسيني، هي من التطوّرات الشكلية والفنّية، التي طرأت عليه في المرحلة الأخيرة، من مراحل تطوّره.

ومرّ بنا، في ترجمة الخطيب الشيخ كاظم سبتي (ت: 1340 هـ)، في نهاية الفصل الثالث، إنّ المترجم له هو أوّل من ابتكر هذه الطريقة، والأسلوب الفنّي، في أداء المنبر الحسيني، وقد تطوّر التخلّص، مع تراكم الخبرات، وتجارب كبار خطباء المنبر الحسيني، حتى تميّز به بعض الخطباء، حيث يشيد به الناس، ويقولون: إنّ أُسلوب الخطيب الفلاني في التخلّص، فنّي ودقيق جدّاً، وعاطفي بشكلٍ واضح.

لقد أُلّفتْ بعض الكتب، التي يمكن أنْ تُعَدّ مصدراً لمجموعة كبيرة من حالات (التخلّص)، التي يحتاج إليها خطيب المنبر الحسيني ولاسيما المبتدئ منهم(1) .

إنّ توسّع آفاق المنبر الحسيني، وتناوله لأبعاد مختلفة للحياة، قد وسّعت من مجالات الاستفادة من أدق تفاصيل واقعة كربلاء. إنّ (باستطاعة المرء، أنْ يتحدّث عن أي شيء ثمّ يربطه بكربلاء.. كربلاء لها علاقة بكل شيء في الحياة)(2) .

وفي الأوساط الشعبية العراقيّة، والخليجيّة، يُعرف التخلّص بلفظ؛ (الگريز) بالكاف الأعجميّة، وهو يعني الانتقال. ويرى بعض شيوخ خطباء المنبر(3) ، هذا اللفظ جاء من (القريض)، ثمّ صحّف شعبيّاً فصار (الگُريز). إذ يذكر الخطيب بعد التخلّص، أبياتاً في الرثاء، من الشعر الفصيح، أي القريض.

____________________

(1) ومن تلك الكتب كتاب (الخصائص الحسينيّة) لمؤلّفه الشيخ جعفر التستري (ت 1303 هجرية).

(2) هويدي، فهمي: إيران من الداخل، ص225.

(3) هو الخطيب الحسيني المعروف السيد عبد الزهراء الحسيني، صاحب كتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده (ت 1414 - 1994).

٢١٦

5 - المصيبة

سبق وعرفنا أنّ المنبر الحسيني، إنّما نشأ أساساً في بداياته البسيطة، لأجل تذكّر الأحداث المؤلمة والمفجعة، التي مرّ بها الحسين وأهل بيته، ثمّ يُتلى الشعر الرثائي المذكر بذلك، فيتفاعل الحاضرون بالبكاء والحسرة وهو ما نعنيه بـ (المصيبة) هنا.

ومع كل التطوّر، الذي طرأ على المنبر الحسيني، وتوسّع الأمور التي يعالجها في أبحاثه، فإنّ عنصر المصيبة، وذكرها مع ما يناسبها من شعر رثائي حزين، وتصوير ذلك تصويراً عاطفيّاً، يبقى هو العنصر الثابت، في كل مراحل تطوّر المنبر الحسيني.

فإذا كان المنبر الحسيني في بدايته، لا يعني سوى الشعر الرثائي والحزن والبكاء، فإنّ هذه الفقرة لم تُلغَ، وإنّما تحرّكت لتصير في نهاية محاضرة المنبر الحسيني اليوم. إذ لابدّ لكل خطيب، من خطباء المنبر الحسيني، أنّ يذكر حادثة أو موقفاً ما من الحوادث والمواقف المحزنة، ويصوغها صياغة عاطفيّة متقنة، مع تهيئة ما يناسبها من شعر رثائي، بالأُسلوبين الفصيح والشعبي، وبأطوار وطرق خاصّة، فيتفاعل معها الحاضرون باللوعة والبكاء.

وإنّ ممّا يعين خطيب المنبر الحسيني، على اختيار الحدث المأساوي المناسب، مع محاضرته التي كان يتناولها، ويريد أنْ ينتقل منها إلى فترة المصيبة، ما يعينه على ذلك ما تركه الشعراء من شعر رقيق، قد تناول أدق التفاصيل، التي جرت للحسين وأهل بيته وأصحابه، وحال نسائه بعد شهادته. فهناك شعر رثائي، يتناسب مع كل حدث من أحداث حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ منذ خروجه إلى مكة من المدينة، وحتى أحداث كربلاء ثمّ العودة إلى المدينة.

وفي فقرة المصيبة هذه، تظهر كفاءة الخطيب، ومقدرته الفنية،

٢١٧

على تصوير الواقعة، وبأطوارٍ، وطرق إنشاد حزينة، بما يجعل جمهور المجلس يتجاوبون معه عاطفياً. ينقل أحد الأدباء المصريّين، تأثره وبكاءه، حينما حضر عند أحد خطباء المنبر الحسيني، بقوله: (وصديقنا الأستاذ محمد نجيب زهر الدين، هو خطيب منبر الحسين، وفارسهُ المظفّر، وقد جلسنا إليه وسمعنا منه، فلم نملك للدمع طرفاً فنمنعه أنْ يسيل، ولا للقلب جلداً فنحبسهُ أنْ يطير، ولا للنفس مسكةً، فنبقي عليها دون أنْ تتمزّق أو تتفرّق...)(1) وكلّما كان الخطيب أقدر على إذكاء العاطفة، واستدرار الدموع، كان هو المطلوب الأكثر، وصاحب الحظ الأوفر. حيث تنهال عليه الطلبات، في إحياء مواسم المنبر الحسنين هنا وهناك.

إنّ المجالس الشعبية، ومجالس القُرى، وبعض المجالس التي تُعقد في البيوت، تعتبر المصيبة، وعذوبه صوت الخطيب الحسيني، وإجادته في عرض أحزان كربلاء، هي أهم ما يطلب في الخطيب. أمّا في مجالس الطبقات المثقّفة، والتي يشرف عليها الواعون من علماء ورساليين، والتي عادة ما تكون في المدن الكبرى والمراكز الإسلاميّة المهمّة، وبعض تجمّعات المغتربين، فإنّ محاضرة الخطيب تعتبر هي الأهم في اختياره، مع عدم إغفال جانب المصيبة، التي تبرز أهميتها، وبشكل واضح في مجالس عاشوراء، حيث موسم الحزن والأسى الأبرز، في مواسم المنبر الحسيني.

إنّ اختيار المصيبة ونوعيتها يختلف من مناسبة لأخرى، ومن موسم خطابي لآخر..

فالخطيب، يكون حرّاً في اختيار المصيبة، التي يختم بها

____________________

(1) سيد الأهل، عبد العزيز: زينب عقيلة بني هاشم - ص10، والطَرفْ: العين، الجلَد: الصبر، مسكة: بقيّة.

٢١٨

محاضرته، في شهر رمضان، أو شهر صفر، أو تلك التي تعقد في العشرة الثانية، والثالثة من المحرّم، وبشكل أقل. بل وفي كل المجالس التي تعقد طوال السنة.

أمّا العشرة الأولى من المحرّم، فإنّ الخطيب ملزم، بأنْ ينهي محاضرته في كل ليلة، بنقطة خاصة، وحديث معيّن، يتعلّق بحركة الإمام الحسين، وأبرز شهداء كربلاء. فمع إنّ كل شهداء كربلاء قتلوا في يومٍ واحد وهو يوم عاشوراء سنة 61 هـ. إلاّ أنّه جرت العادة، على أنْ تنتهي محاضرات ومجالس العشرة الأولى من المحرّم، على الشكل التالي:

في الليلة الأولى: في أهمية إقامة المآتم الحسينية، وفوائدها، وحثّ أئمّة أهل البيت، شيعتهم عليها. (وكأمثلة على ذلك ما أوردناه في ص81 وما بعدها).

في الليلة الثانية: خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة، ووداعه قبر جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته.

في الليلة الثالثة: خروج الإمام الحسينعليه‌السلام ، من مكة، يوم 8 من ذي الحجّة، وبكاء المودعين له.

في الليلة الرابعة: وصول الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، ومحاصرة الجيش الأموي له.

في الليلة الخامسة: حركة مسلم بن عقيل(1) بن أبي طالبعليه‌السلام واستشهاده في الكوفة.

____________________

(1) مسلم بن عقيل بن أبي طالب أمّه أمّ ولد تسمّى عليّة، أرسله الإمام الحسين إلى الكوفة لمّا راسله أهلها، يطلبون مجيئه إليهم، وصل الكوفة وبايع له ثمانية عشر ألف رجل، ثمّ قتل بعد ذلك في 8 ذي الحجّة 60 للهجرة وقبره مشهور في الكوفة. (الزنجاني، إبراهيم: وسيلة الدارين في أنصار الحسين، ص234).

٢١٩

في الليلة السادسة: أنصار الحسين، ومواقفهم، واستبسالهم في شهادتهم.

في الليلة السابعة: في استشهاد العباس(1) بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

في الليلة الثامنة: في استشهاد القاسم(2) بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

في الليلة التاسعة: في استشهاد علي الأكبر(3) بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

في الليلة العاشرة: في استشهاد الطفل الرضيع(4) عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب. أو وداع الحسينعليه‌السلام عياله وأطفاله يوم عاشوراء(5) .

أمّا بالنسبة للمجالس، التي تعقد في وفيّات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل البيت من الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّ المصيبة، تنتهي بذكر وفاته والحزن الذي تركه، ثمّ يُعرّج إلى واقعة كربلاء. في حين أنّ مجالس تأبين الموتى، تُختم بمصيبة الحسينعليه‌السلام ، إذا كان المتوفّي رجلاً ومصيبة علي

____________________

(1) العباس بن علي بن أبي طالب أمّه فاطمة بنت حزام الكلابية، ولد سنة 26 للهجرة وهو أكبر مَن قُتل من أولاد علي والهاشميين، يوم عاشوراء، كان يحمل لواء الحسين. قُتل في كربلاء سنة 61 للهجرة، وقبره معروف وبارز. (المصدر نفسه، ص264).

(2) القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، أمّه ولد تسمّى رملة، ولد في المدينة سنة 47 للهجرة. قُتل مع عمّه الحسين وله ثلاث عشرة سنة. (المصدر نفسه 277).

(3) علي الأكبر بن الحسين، ولد سنة 42 للهجرة، أُمّه ليلى بنت مرّة الثقفية، قتل مع أبيه الحسين في عاشوراء 61 للهجرة. (المصدر نفسه، ص285).

(4) عبد الله بن الحسين: طفل رضيع، أمع تسمّى الرباب بنت امرئ القيس الكلابية. قُتل في حِجر أبيه الحسين، وله ستة أشهر. (المصدر نفسه، ص280).

(5) هذا الترتيب لموضوعات المنبر الحسيني في العشرة الأولى من المحرّم هو الأشهر، وقد يوجد بعض التغيير في تقديم موضوع ليلة على أخرى، في بعض الأقاليم الشيعية. (الوحدة الثقافية المركزيّة - زاد المنبر الحسيني).

٢٢٠