المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل10%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120111 / تحميل: 9094
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

محاضر هو خطيب منبر حسيني.

أي أنّ خطيب المنبر الحسيني، عنده ما عند المحاضر أو الواعظ الإسلامي، ولكنّه يزيد عليه بالتعريج على كربلاء وأحداثها بأسلوب عاطفي وإنشاد حزين خاص.

الأسماء والألقاب التي يُعرف بها خطيب المنبر الحسيني

ولخطيب المنبر الحسيني عدّة أسماء يعرف بها، بعضها خاص ببعض المناطق الشيعية، وبعضها يتّسع لأكثر من منطقة.. وهذه الأسماء - حسب استقصائي - هي ما يلي:

١ - خطيب المنبر الحسيني

وهو الاسم الرسمي أو العلمي أو (الأكاديمي)، وقد مرّ بنا هذا الاسم كثيراً خلال الكتاب. وقلتُ (اسمٌ رسمي) لأنّ الأوساط الشيعية، شعبية أو علمائية، لا تذكر هذا الاسم بكامله (خطيب المنبر الحسيني) بل قد تكتفي بالاسم الثاني أدناه. بينما يذكر هذا الاسم في الأبحاث العلميّة، أو الكتب المهتمّة بشأن المنبر الحسيني.

٢ - الخطيب

وهو الاسم الأكثر شهرة، وفي خارج الأوساط الشيعية، لا يتبادر الذهن، إلى خطيب المنبر الحسيني، إذا ورد اسم أو لفظ (خطيب)، بينما يكون هو المتبادر طبيعيّاً، في الأوساط الشيعية فإذا قيل هذا خطيب، أو جاء الخطيب، فإنّ ذلك يعني نحواً خاصاً من الخطباء، وهو خطيب المنبر الحسيني بالخصوص.

٢٦١

وهذا الاسم، هو الشائع في المجالس الحسينية المهمّة والكبيرة، والتي تعقد في المدن والأوساط المثقفّة في العراق، وبلدان الخليج العربية، وكذلك في التجمّعات المهاجرة من هذه البلدان.

٣ - القارئ (القاري)

وهو اسم تطلقهُ الأوساط الشعبية، على خطيب المنبر الحسيني، وعادة ما تخفّف اللفظة حيث تحذف الهمزة ليُقال (قاري). ويشتهر هذا الاسم في المجالس الشعبية العامّة في العراق، والخليج والمناطق العربية في جنوب إيران، ولذا فالاسم الشعبي لمجلس المنبر الحسيني هو (القراية) أي القراءة.

٤ - المنبريّ

وهو مصطلح يطلق على خطيب المنبر الحسيني، إذ يُنسب مباشرةً إلى المنبر، بياء النسب. وهذا الاسم إنّما يذكر لشدّة وضوح وارتباط المنبر بالخطيب الحسيني، فإذا قيل: هذا منبريّ، فهو يعني نسبة خاصة، فلا يطلق على كل من يعتلي المنبر، وإنّما هو اسم خاص بخطيب المنبر الحسيني.

وهذا الاسم، أكثر ما يعرف في الأوساط العلمائية، ومجالس الحوزات العلمية الدينية. أكثر من أي وسط آخر من أوساط المجالس الحسينية. واعتقد أنّ شيوع هذا المصطلح في أوساط العلماء، والحوزات العلمية الشيعية يعود إلى العرف، الذي لا يرى أنّ ارتقاء المنبر يناسب العلماء والفقهاء. فلكي يُفرّق بين العالم والخطيب، يقال للثاني: منبري.

٢٦٢

٥ - قارئ أو (مقرئ) السيرة الحسينيّة

٦ - قارئ عزاء

٧ - قارئ مجلس عزاء

٨ - المُعزّي

والمصطلحات أو الأسماء الأربعة أعلاه، تُطلق على خطيب المنبر الحسيني، في الأوساط الشيعية في لبنان، وبعض المناطق الشيعية، في سوريا، مثل أطراف مدينتي حمص وحلَب.

ولنا عودة إلى هذه المصطلحات ودلالاتها، في الفصل الأخير من هذا الكتاب، إنْ شاء الله.

وهذه المصطلحات الأخيرة غير متداولة في العراق، أو بلدان الخليج العربية.

٩ - قارئ تعزية

وهو مصطلح على نطاق ضيّق يُطلق على خطيب المنبر الحسيني في أماكن مختلفة.

١٠ - رَوْزَة خون (رَوْزَخون)

إلى الآن، كانت الأسماء والمصطلحات، التي تُطلق على خطيب المنبر الحسيني، ألفاظاً عربية واضحة. لكنّنا هنا أمام مصطلح

٢٦٣

ذي أصلٍ فارسي أعجمي، وهو مؤلّف من لفظين: (روزة) و(خون) ومعناه بالعربية قارئ الروضة. أمّا ما هي الروضة وما علاقتها بالمنبر الحسيني فيمكن توضيحها بما يلي:

لمّا انتشر التشيّع في إيران إبّان الحكم الصفوي لها، شجّع الصفويون الإيرانيين على زيارة العتبات المقدّسة، في العراق من جهة، وإقامة مجالس العزاء على الإمام الحسيعليه‌السلام ، من جهة أخرى. وبرزت في تلك الفترة، بعض الكتابات التي ألّفت كمجالس تُقرأ على المنابر الحسينية. أشهر تلك المؤلّفات، كان كتاب (روضة الشهداء) للشيخ حسين الكاشفي(١) ، والذي نال شهرة كبيرةً جدّاً. حتى اصطلح على مجالس المنبر الحسيني بـ (روضة)، أي يُتلى فيه كتاب الروضة هذا.

وهو (أوّل كتاب يتعرّض لواقعة الحسين، التاريخية باللغة الفارسية. لذلك فإنّ قرّاء التعزية، والذين هم غالباً، ممّن يجهلون اللغة العربية، فإنّهم كانوا يتناولون هذا الكتاب، ويقرؤن منه مباشرة، في المجالس الحسينية)(٢) .

وعُرف من يتولّى القراءة فيه، وإنشاد مقاطعه الرثائيّة، باسم (قارئ الروضة) أي (روضة خون)(٣) وانتقل ذلك عبر جموع الزائرين الإيرانيين، والمهاجرين إلى العراق، من علماء وطلبة علوم دينية وغيرهم.

____________________

(١) الشيخ الملا حسين الكاشفي: توفّي في حدود ٩١٠ هجرية من آثاره، الأنوار السهيليّة، ولد وعاش وتوفّي في إيران. (معجم خطباء المنبر الحسيني ص٦٠).

(٢) المطهري، مرتضى: الملحمة الحسينية، ١ / ٤٣.

(٣) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص٢٩٣.

٢٦٤

وهذا المصطلح (روزة خون) هو ما يطلق على خطيب المنبر الحسيني، في الأوساط الشعبية والقرويّة، ومجالس الأرياف في العراق، وبعض مناطق الخليج العربي.

وقد يستعمله البعض مصحّفاً، فيقال (رَيْزخون) في الأوساط الأكثر قرويّة.

كما غدا هذا المصطلح، لقباً ينبز به بعض من يعتلي المنبر الحسيني، بلا أهلية ثقافية أو علمية، تؤهّله لمهمّة المنبر الحسيني، ورسالته. فيقال: أنّ فلاناً مجرّد (روز خون) وليس بخطيب، أي أنّه لا يعدو إلاّ مجرّد ناعٍ ومنشد للشعر الرثائي الحسيني. وليس خطيباً ذا عِلم وثقافة واطّلاع يغني بها حديثه ومحاضرته.

ولا يُعرف هذا المصطلح في لبنان ومجالسه الحسينية، وإذا وجد فهو بنطاق ضيّق جدّاً، عند بعض العلماء، أو طلبة العلوم الدينيّة الذين كانوا يدرسون في النجف الأشرف، أو أوساط الطلبة والأساتذة العراقيين، المتواجدين في الحوزة العلمية الدينيّة في قم الإيرانيّة.

(واليوم تُطلق كلمة (روزة خون)، على من يكتفي في خطابته، على فضائل وتاريخ ومصائب النبي وأهل البيتعليهم‌السلام . أمّا من تطرّق في خطابته إلى أنواع العلوم، ويتحدّث عن جوانب ثقافيّة، واجتماعية علمية فيطلق عليه اسم الخطيب)(١) .

وهذه عشرة أسماء ومصطلحات، تُطلق على خطيب المنبر الحسيني اليوم، وهي تختلف في انتشارها، واستعمالاتها من منطقة شيعية إلى منطقة ومن أوساط إلى أخرى. إنّ كثرة المصطلحات، التي

____________________

(١) المقدسي، باقر: فن الخطاب من المقدّمة، ص٩.

٢٦٥

تشير إلى خطيب المنبر الحسيني، يعكس سعة المنبر، في جميع الأقاليم الشيعية، وما يستتبعه من كثرة خطباء المنبر الحسيني، بحيث راحوا يمثّلون طبقة اجتماعية دينية خاصة.

وقد انعكس الوجود البارز، لخطباء المنبر الحسيني، على فتاوى العلماء ورسائلهم الفقهيّة(١) فقد ورد في باب صلاة المسافر. وحُكْمِ صلاته بين الإتمام والقصر(٢) ذِكْر نماذج من المسافرين؛ مثل الطالب والموظّف والعسكري والتاجر، ثمّ يذكر خطيب المنبر كنموذج آخر، فقد ورد، كمثال على ما ذكرنا في:

(خطيب من خطباء المنبر الحسيني، يتعاطى الخطابة في بلدته، ولكنّه يتّفق أحياناً أنْ يُستدعى للخطابة في بلدٍ آخر، فيسافر ويطوي المسافة إليه، ويبقى هناك يوماً أو يومين أو أياماً، وهذا يقصِّر إذا طوى المسافة المحدّدة، وفقاً لحالة المسافر الاعتيادي؛ لأنّ عمله ليس مبنيّاً على السفر. ولكن إذا كان ما يمارسه من العمل والخطابة، من خلال السفر، أساسياً ومهماً في مهنته على نحو لو اقتصر عليه، لكفى ذلك عرفاً في صدق هذه المهنة عليه - كالخطابة التي يسافر إليها في محرّم وصفر - إذا كان الأمر كذلك، فعليه أنْ يصلّي صلاته تامّة في سفره؛ لأن هذا السفر عمله)(٣) .

وقد أخذ المنبر الحسيني ومادته، وأمور وأساليب العزاء الأخرى حصة من الأسئلة الفقهية والشرعية، التي ترد إلى مراجع الدين، والتي

____________________

(١) الرسائل الفقية، وتُعرف أيضاً بالرسالة العمليّة؛ وهي كتاب الفتاوى الذي يضمّ آراء المجتهد والمرجع الديني كي يرجع الناس في أحكامهم إليها.

(٢) صلاة الإتمام هي: الصلاة اليومية التي يصلّيها المسلم في وطنه. والقصر: هي أنْ تصلّى الصلاة الرباعية بركعتين فقط عند السفر.

(٣) الصدر، محمد باقر: الفتاوى الواضحة، ص٣٣٤.

فضل الله، محمد حسين: الفتاوى الواضحة، ص٢٧٣.

٢٦٦

تُنبئ عن مدى حاجة الناس، إلى إجابات عن تلك الأسئلة كما نجد ذلك - على سبيل المثال - في كتاب أجوبة المسائل الشرعية حيث ورد سبعة عشر سؤالاً فيما يخص المنبر الحسيني وأمور أخرى تتعلّق بعاشوراء(١) .

أوصاف خطيب المنبر الحسيني

ويعتبر خطيب المنبر الحسيني، هو قطب الرحى، في تلك التجمّعات الضخمة والمحافل الكبيرة، فهو العامل الأوّل، الذي يؤدّي إلى نجاح المآتم الحسينية. فبقدر إجادة خطب المنبر الحسيني لمهمّته، وتمكّنه من إشباع بحثه، ومحاضرته، علمياً وعاطفياً يتقرّر مقدار حضور الناس إليه أو انكفاؤهم عنه.

ولهذا، فإنّه لا بدّ من توافر شروط، ومؤهّلات، في مَن يريد اعتلاء أعواد المنبر الحسيني، وهي قد تكون من الكثرة والتنوّع ممّا يجعل مصاديقها في الخطباء قليلة.

وقديماً قال المناطقة: إنّ الشيء كلّما كثرت شروطه عزّ وجوده.

إنّ هذه الأوصاف والمؤهّلات قد تتغيّر من بيئة لأخرى، ومن مستوى ثقافي وعلمي لثانٍ، حسب نوعية الحاضرين، وما ينتظره روّاد المجالس من أبحاث ومحاضرات، أو بما يستطيعه خطيب المنبر الحسيني، من إشباع الجانب العاطفي، وإثارة كوامن الحزن لواقعة كربلاء، ويمكن لنا أنْ نصنّف المواصفات والمؤهّلات هذه إلى ثلاثة أصناف؛ يشترك فيها الخطيب الحسيني مع العلماء والمثقّفين والمحاضرين في بعضها، ويختصّ في بعضها الآخر، والمؤهّلات هي:

____________________

(١) الخوئي، أبو القاسم: أجوبة المسائل الشرعية، ص٢٦.

٢٦٧

١ - المؤهلات العلمية والثقافية

على كل خطيب، في أي شأن من الشؤون، أنْ يكون ذا اطلاع ودراية بالموضوع، أو البحث الذي يريد طرحه. وبقدر ما كان هذا الخطيب أو المحاضر، ملمّاً بأطراف الموضوع وامتداداته وشواهده، تكون محاضرته أدقّ وأنجح، وبالتالي أكثر فائدة. وهذا الأمر يشترك فيه خطيب المنبر الحسيني، مع كل خطيب أو متحدّث. إلاّ أنّ الاختلاف هو في طبيعة المحاضرات موضوع البحث لكل خطيب. ولهذا فإنّ خطيب المنبر الحسيني، يشترك عموماً مع كل خطيب أو محاضر، من علماء المسلمين وخطبائهم ومحاضريهم، وبشكل واضح، إلاّ في بعض الموارد التي تمليها طبيعة المنبر الحسيني. وأهم هذه المؤهّلات هي:

أ - دراسة تخصّصية في العلوم الإسلامية: بما يصطلح عليه الشيعة (الدراسات الحوزوية). من مقدّمات، كعلوم العربية المتنوعة والمنطق، والتفسير، والحديث، ثمّ الفقه وعلم الأصول. وكلّما تقدّم خطيب المنبر الحسيني، في الدراسات الإسلامية، كلّما كان أقدرَ على الطرح الإسلامي الأصيل، وأكثر إحاطة بالمسائل ذات الأبعاد الفقهية، أو التفسيرية التي يتعرّض لها في محاضراته.

وهذه النقطة، في غاية الأهميّة، لا من حيث التعمّق، في فهم المسألة الفقهية، وأسلوب طرحها منبريّاً فقط، بل إنّها تُسهمُ في عملية اندماج خطيب المنبر الحسيني، في أجواء طلاّب الحوزة العلميّة، فقد كان مألوفاً - سابقاً - أنْ يعتلي المنبر بعض مَن لاحظّ له في الدراسات الدينية، خاصّة في المآتم التي تهتم بحسن صوت الخطيب، ممّا أنتج وجوداً غير مرتبط بالحوزة العلمية، وطبيعتها، وانعكس بالتالي على نظرتها إلى خطيب المنبر الحسيني.

٢٦٨

نعم، قد لا يصل خطيب المنبر الحسيني، في متابعته للدروس الحوزوية، إلى مستوى التخصّص الذي يصل إليه طلاّب العلوم الدينية المتفرّغون لهذه الدروس، ولكن لابدّ من دراسة حوزوية على قدر مهم من التتبّع. إنّ هذه النقطة تميّز خطيب المنبر الحسيني، عن المحاضر المسلم والمثقّف المسلم، اللذين قد يكتفيان بمعلومات فقهيّة وأصولية عامّة، بينما ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أنْ ينال حظّاً كبيراً من الدراسات الإسلامية التخصصية.

ب - ثقافة تاريخية مركّزة: لمّا كان خطيب المنبر الحسيني، يولي المسائل التاريخية، فيما يتعلّق بتاريخ الإسلام والمسلمين، بل ودراسة التاريخ قبل الإسلام، وفي الحضارات الأخرى، كل هذا من جهة، وبما يخصّ سيرة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسير أهل بيتهعليهم‌السلام ، والصحابة، والتابعين من جهة أخرى. إضافة إلى مزيد عناية بأدق التفاصيل، لكل ما تعلّق بسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام منذ ولادته وحتى استشهاده، وبما جرى على أهل بيته بعد ذلك من جهة ثالثة. كل ذلك يحتّم على خطيب المنبر الحسيني، أنْ يولي المسائل والأبحاث والدراسات التاريخية، اهتماماً بالغاً ودقيقاً.

ونظرة ولو سريعة، على مكتبات خطباء المنبر الحسيني الخاصّة، تكشف ضخامة الجانب التاريخي في ثقافتهم، وخاصة فيما يتعلّق بواقعة كربلاء.

وقد انعكس اهتمام خطباء المنبر الحسيني بالتاريخ، وأحداثه على ثقافة الإنسان الشيعي، بحيث غدا مطّلعاً على أدق التفاصيل التاريخية، التي قد لا تتأتّى إلاّ لأهل الاختصاص والتتبّع. ممّا كان يُدهش الكثيرين. يقول أحد الكتّاب الإسلاميين (ولم أستطع أنْ أخفي دهشتي من أولئك الذين يحملون التاريخ على أكتافهم أبداً)(١) .

____________________

(١) هويدي، فهمي: إيران من الداخل، ص٢٢٢.

٢٦٩

جـ - ثقافة إسلامية عامّة: بعد أنْ اتسعت المساحة التي راح المنبر الحسيني يعالجها، ولم يعد مقتصراً على إنشاد الشعر الرثائي، أو الوقوف عند بعض الأحداث التاريخية المحدّدة، وأخذ الجمهور يتطلّع إلى خطيب المنبر الحسيني، كمحاضر ذي ثقافة واسعة وعميقة، هذا الأمر الذي حتّم على خطباء المنبر الحسيني، أنْ يولوا اهتماماً كبيراً، بكل ما يتعلّق بجوانب الثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي.

ولذا أخذ خطيب المنبر الحسيني الناجح، بتناول كل نتاجات المثقّفين، والكتّاب والمفكّرين الإسلاميين كمؤلّفات: سيد قطب، وأخيه محمد قطب، وأبي الأعلى المودودي، ومحمد الغزالي، ومحمد البهيّ، ونديم الجسر، وعبد الرزاق نوفل وغيرهم من الكتّاب والمفكّرين الإسلاميين السنّة، إضافة إلى نتاجات المفكّرين والعلماء الشيعة، كمؤلّفات: السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ مرتضى المطهّري، والشيخ محمد جواد مغنيّة، وغيرهم...

مع متابعة الدوريّات والإصدارات الإسلامية العامّة... فتجد خطباء المنبر الحسيني، ذوي علاقات أكيدة مع المكتبات ودور النشر ونتاجات المؤلّفين.

وهناك اهتمام خاص، بكل المؤلّفات التي تناولت ثورة الإمام الحسين وأبعادها وآثارها بالدراسة والتحليل والمتابعة.

د - إلمام جيّد بالثقافة التربوية، والاجتماعية، والنفسية والسياسية، وعموم الثقافة الموسوعية: إنّ تنوع الأبحاث، والمحاضرات التي يوليها المنبر الحسيني اهتمامه، حتّمت على خطيبه، أنْ يكون ذا إلمام، في جملة تخصّصات، وثقافات تعينه على أداء مهمّته، وقوّة محاضرته، وكبير انشداد الجمهور إليه.

٢٧٠

فالخطيب الحسيني، لا يكتفي بالثقافة الإسلاميّة والدراسات الدينيّة فقط، بل يحاول أنْ يكون له حظّاً من كل ألوان الثقافة، خاصّة بما يتعلّق بمنبره، كالثقافة التربويّة والنفسيّة وأنْ يكون ذا وعي وثقافة سياسيّة، تعينه على الطرح المناسب وطبيعة الظروف.

إنّ الثقافة الموسوعيّة أمر مطلوب في ثقافة خطيب المنبر الحسيني، وكلّما كانت ثقافته متعدّدة وواسعة، كلّما كان أكثر نجاحاً وأعلى شأناً في ميدان الخطابة.

وهناك اهتمام خاص، بالتقاط الشواهد الأدبية، والعقائديّة، والعلميّة وغيرها، ممّا يطعّم بها الخطيب محاضرته، كي يُغنيها من جهة، ويرفع حالة السأم والملل من جهة ثانية.

ولهذا يحتفظ، كل خطيب منبر حسيني، بدفتر أو دفاتر خاصّة به يجمع فيها كل شاردة وواردة، من كل ما تقع عليه عينه أو تسمعه أذنه من المعلومات، التي يتوقّع أنْ يستفيد منها ذات يوم، ويوظّفها في محاضراته ومجالسه.

إنّ جمهور المنبر الحسيني ينظر إلى الخطيب ذي الثقافة الموسوعيّة المتنوّعة، بأنّه خطيب يولي محاضرته وجمهوره اهتمامه، وأنّ حديثه ليس مجرّد كلمات يلوكها اللسان، بل هي أرقام ومعلومات جاءت بعد تتبّع، وبحث وتدقيق، ومزيد عناية.

وأودّ أن أذكر مثالاً على القسم الأول، من مؤهّلات خطيب المنبر الحسيني - وهي فيما يتعلّق بالمؤهّلات العلميّة والثقافيّة، وخاصة فيما يبرز أهمية الثقافة الموسوعيّة، وهذا المثال عن الخطيب البارز السيد صالح الحلّي - الذي سبقت ترجمته، في نهاية الفصل الثالث - والذي (بلغ من قدرته أنْ التزم قراءة المأتم الحسيني، لجمعيّة (المكارين)، الذين يؤجرون حميرهم وبغالهم للمسافرين بين النجف

٢٧١

والمدن المتصلة بها، فقرأ لهم عشرة أيام، بل الأصح أنّه حاضر لهم عشرة أيام؛ لأنّ خطب السيد صالح، كلّها أشبه بالمحاضرات منها، بأيّ شيء آخر، فلم يخرج خلال هذه الأيام العشرة عن حديث الحمير، والبغال، والقوافل، وأخبارها القديمة، والحديثة، وقصصها!!

فكان الناس بمختلف طبقاتهم يعافون أشغالهم، ويحضرون تلك المحاضرات التي ظلّت مدّة طويلة موضوع أحاديث الناس، وتفكههم ومثار إعجابهم، وغبطتهم له على هذه الموهبة!!)(١) .

وتعتبر المكتبات الخاصة، بخطباء المنبر الحسيني، من أغنى المكتبات، في تنوّعها وتوسعها وإحاطتها بفنون المعرفة، لذلك فإنّ (من أهمّ مكتبات النجف الخاصة، مكتبات خطباء المنابر الحسينية، الذين تلزمهم مهمّتهم كخطباء، الإحاطة بالتاريخ، والشعر، والأدب، واللغة، إحاطة لا يمكن أنْ تتيسّر بدون مكتبة زاخرة بالمصادر المهمّة من أمّهات الكتب)(٢) .

٢ - المؤهّلات الفنيّة

إن ما ذكرناه في الصنف الأول من المؤهّلات، كانت تتعلّق بما يمكن أنْ نطلق عليه مصطلح (المعلومة). ومجرّد حصول الخطيب - أيّ خطيب - على المعلومة، لا يصيّر منهُ خطيباً.. إذ أنّ الخطابة تحتاج إلى مؤهّلات فنيّة تمكّن الخطيب من صيغة، وطرح المعلومات التي عنده بما يفعّل تأثيرها، من خلالها على الجماهير.

وبهذه المؤهّلات الفنية، يتميّز الخطيب عن المحاضر؛ الذي

____________________

(١) الخليلي، جعفر: هكذا عرفتهم ن١ / ١٠٨.

(٢) الخليلي، جعفر: موسوعة العتبات المقدّسة، قسم النجف ٧/٣٠٩.

٢٧٢

يكتفي بطرح المعلومات، التي عنده بأسلوب هادئ وينمط واحد تقريباً. بينما ينبغي على الخطيب، أنْ يكون طرحه وأسلوبه، مراعياً فيه الجماهير بمستوياتها المختلفة، وشدّها إليه، وإيصال معلوماته إليه. في حين أنّ المحاضر عادة يخاطب مستوىً معيناً وشريحة خاصة من الناس.

وبعض هذه المؤهلات الفنية ضروريّة لكل خطيب.

مثل: إبراز المقاطع المهمة في الخطبة، عدم جعل الصوت على وتيرة واحدة، تغيير سرعة الحديث، التوقّف قبيل وبعيد كل فكرة مهمّة، استعمال إشارات اليدين والرأس أثناء إلقاء الخطبة وإلى غير ذلك من المواصفات الفنية(١) .

ومع ذلك فلابدّ من أنْ نؤكّد على بعض المؤهّلات الفنية، التي تكون وثيقة الصلة، بخطيب المنبر الحسيني، وأهمّها:

ـ أ - امتلاك مستوى جيد من القدرة على الحفظ

ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أنْ يحفظ العديد من النصوص، التي تشكل عنصراً مهمّاً وأساسيّاً في نجاحه خطابياً.

فبالإضافة إلى استظهار آيات قرآنية كريمة، وبعضاً من الأحاديث الشريفة وما ينقل عن توجيهات الأئمة والصالحين، فإنّ هناك عناية خاصة تبذل لحفظ خطب أو مقاطع من نهج البلاغة، وكذلك تحفظ خطبة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ذات المضامين اللغويّة العالية، وكذلك النصّوص المتعلّقة بواقعة كربلاء، مثل الكتب التي راسل بها الإمام الحسينعليه‌السلام الآخرين، وخطبه، وكذلك خطب بعض أصحابه

____________________

(١) كارنيغي، دايل: التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة، مقاطع مختلفة من الكتاب

٢٧٣

يوم عاشوراء. وهناك اهتمام خاص بخطبتي الإمام زين العابدين علي بن الحسين، والسيدة زينب بنت علي بن أبي طالبعليهم‌السلام في الشام حينما وصلتها السبايا.

لقد كان خطيب المنبر الحسيني سابقاً يتلو خطبته، من كتاب أو دفتر يقرأ على الناس. ولكن ومنذ عهد الشيخ كاظم سبتي (المارّة ترجمته) أخذ خطباء المنبر الحسينيّون، يتبارون بكثرة محفوظاتهم. فهم بالإضافة إلى حفظ المحاضرة بأكملها بما تحتوي من أفكار، وآراء ومطارحات ونقاط وشواهد، تحفظ بعض النصّوص الخاصة، وكذلك لابدّ من حفظ القصائد الشعريّة، التي تُتلى في مقدّمة المحاضرة، لاسيما في مجالس، العشرة الأولى من المحرّم، ووفيات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقية أهل البيتعليهم‌السلام .

إنّ مَلَكة الحفظ تبلغ ببعض الخطباء، أنْ يستظهروا كل حوادث يوم عاشوراء بأسماء أشخاصها، وأشعارهم، وحواراتهم مرتّبة تاريخيّاً، مع ما يناسب كل مقطع من شعر رثائي، باللغة الفصحى، أو العاميّة العراقيّة الدارجة. ويستمر الخطيب يوم عاشوراء في قراءة المقتل، لما يزيد على ساعتين متّصلتين، بصوتٍ مرتفع، وإنشاد للشعر، وأُسلوبٍ عاطفي حزين. إنّ زيادة رصيد الخطيب الحسيني، من المحفوظات الشعريّة والتاريخيّة والنصوصيّة يعني زيادة فرص نجاحه، وتميّز منبره وشدّة إقبال الناس على محاضراته.

ـ ب - التمتّع بقدر جيّد من رقّة الصوت

لمّا كانت خطابة المنبر الحسيني، قد ارتبطت بشكل أساسي، بالتعريج على واقعة كربلاء، والتوقّف عند مقطع منها، وإشباعه بالشعر والإنشاد الحزين، بل إنّ بداية المنبر الحسيني، كانت عبارة عن إنشاد الشعر الرثائي، الذي قيل في الإمام الحسينعليه‌السلام . حيث كان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، يعقدون تلك المجالس في بيوتهم، كما مرّ علينا في

٢٧٤

الفصل الثاني من هذا البحث، ولقد وجدنا، أنّ اهتمام الأئمّة بعنصر الصوت ورقّته كان مبكّراً، فيما نقلنا من رواية دخول أبي هارون المكفوف على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وإنشاده قصيدة للشاعر السيد الحِمْيَري، فعلّق الإمام على ذلك الإنشاد، وطلب من هذا المنشد قراءة المراثي بصوتٍ رقيق.

ولا يزال الصوت ورقّته، من المؤهّلات الفنّية المهمّة في خطيب المنبر الحسيني، بل يُعتبر هو العنصر الأهم إطلاقاً، في المجالس التي تُعقد في القرى والأرياف، وبعض مجالس البيوت في العراق، وبلدان الخليج. أمّا في لبنان، فإنّ الصوت ورقّته، هو العنصر الأهم في خطيب المنبر الحسيني، في كل المجالس تقريباً كبيرها وصغيرها، المهّم منها ومتواضع الأهميّة.

ولهذا، إذا اكتشف طلاب العلوم الدينيّة المبتدئون، أحد زملائهم، ممّن يمتلك حسن الصوت، انهالوا عليه، ناصحين ومشجّعين، أنْ ينخرط في صفوف خطباء المنبر الحسيني!.

كما تنهال نصائح مغايرة أخرى، على مَن يعتلي أعواد المنبر الحسيني، وصوته ليس بتلك الرّقة والعذوبة المتوقّعة، بأنْ يترك الخطابة الحسينية؛ لأنّ صوته لا يساعد عليها.

وقد كان عنصر رقّة الصوت من الأمور التي حالت دون توجّه الكثيرين، نحو حقل خطابة المنبر الحسيني. وفيهم من لا يُستهان بعلمه ومعلوماته وتقواه.

والواقع أنّ (حسن الصوت وحسن الإلقاء، والتمكّن من التصرّف بنبرات الصوت، وتغييره حسب الحاجة، من أهمّ ما يميّز الخطيب الناجح. وذلك في أصله موهبة ربّانيّة، يختص بها البشر من غير كسب، غير أنّها تقوى وتنمو بالتمرين، والتعلّم، كجميع المواهب

٢٧٥

الشخصيّة)(١) .

إنّ الصوت الجميل الرقيق، له أبلغ الأثر، في إثارة الشحنة العاطفيّة، التي تنتهي بالبكاء، في نهاية فقرات المنبر الحسيني، والبكاء كان ولا يزال أمراً أساسيّاً، يتميّز به خطاب المنبر الحسيني، عن بقية المنابر، إسلاميّة وغيرها.

ويعلّق الخطيب السيد صالح الحلّي (المارّة ترجمته في نهاية الفصل الثالث) على هذه النقطة بقوله: (إنّ خطيب المنبر الحسيني، يحتاج إلى حاءات ثلاثة هي: الحظ والحفظ والحسّ)(٢) أي الصوت(٣) ، ومنه قوله تعالى:( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) (٤) .

وإذا كان عنصر الصوت، من العناصر المهمّة، في خطابة كل خطيب؛ فإنّه في الخطابة الحسينيّة في غاية الأهمية؛ لأنّ خطيب المنبر الحسيني لا يكتفي بالخطبة العادية ككل خطيب، بل لابد له من إنشاد الشعر الرثائي، باللغتين الفصحى والعاميّة، واستخدام أطوار وطرق متنوعة، وبما يستلزم ذلك من ترجيع للصوت وتغيير نبراته.

ـ جـ - التوافر على خبرة بفن الخطابة الحسينيّة

إنّ خطيب المنبر الحسيني، لا يكتفي بإبراز الجوانب العلميّة والثقافيّة والمعلوماتيّة العامّة التي يرعاها كل خطيب. أو بمشاركة كلّ الخطباء في ضرورة توافره على المؤهّلات والأوصاف الفنّية، المرتبطة

____________________

(١) المظفر، محمد رضا: المنطق، ٣/٣٧٣.

(٢) السيد حسن، داخل: معجم الخطباء، ١/٩٥.

(٣) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، ١/٤٩.

(٤) الأنبياء (١٠٢).

٢٧٦

بالخطابة بشكل عام. ويزيد عليهم في نمط خاص، من الأساليب الفنية التي يتميّز بها، فمثلاً في بعض بلدان الخليج، لا يكتفي خطيب المنبر الحسيني، بإلقاء محاضرته وإنشاد الشعر الرثائي، بعد ذلك على المنبر، بل ينزل من على منبره، ولاقطة الصوت بيده، يختلط بالجمهور المحتشد، بين يديه ليزيد من بكائهم وانفعالهم، وإذا كان أحد العلماء الكبار، أو أحد السادة الأشراف المبرزين، حاضراً في المجلس، فإنّ الخطيب ينزل ليوجّه له أبيات العزاء، ممّا يزيد في بكاء الناس وتأثرهم.

وقد نجد بعض خطباء المنبر الحسيني يرمي بعمامته إلى الأرض، في بعض مقاطع ذكر المصيبة، مثل لحظة ضرب رأس أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في محراب جامع الكوفة، ليلة ١٩ شهر رمضان، أو لحظة قطع رأس الحسينعليه‌السلام ، ظهيرة يوم عاشوراء... وما أنْ يرى الناس ذلك، حتى ترتفع أصواتهم بالنحيب والبكاء.. (وبقدر ما يمتلك من يتلو السيرة الحسينيّة، من براعة في الأداء، وفي تغيير نبرات الصوت وجعلها متّسقة مع الكلمات والمعاني، وبقدر ما يبدو متأثّراً مع تلاوته للسيرة، ومع إنشاده لأبيات الشعر بأسلوب النوح، بقدر ما يؤثّر في السامعين ويحدث فيهم توتّراً نفسياً وعاطفياًَ يقودهم إلى البكاء)(١) .

ويحتفظ خطباء المنبر الحسيني، وجمهورُه بلقطات فنيّة، برزت من بعض مشاهير الخطباء، ويتداولونها بينهم، ويتناقلون تأثيرها في المستمعين.

إنّ الحضور الجماهيري، الحاشد أيام عاشوراء يتطلّب قدرة خطابية فائقة، للسيطرة على جمهوره وشدّه إليه. وعلى الخطيب الحسيني، أنْ يكون متهيّئاً لكل طارئ في أثناء خطبته، ماذا يصنع إذا

____________________

(١) البعيني، حسن أمين: العادات والتقاليد في لبنان، ص١٩٣.

٢٧٧

انقطع التيار الكهربائي؟ وكيف يخاطب جمهوره ليبقي على حالة الانشداد إليه؟ كيف يتصرّف الخطيب إذا دخل المجلس، عالم كبير أو شخصية مرموقة جدّاً؟ كيف يتعامل الخطيب، مع خطيب آخر إذا حضر في مجلسه؟

وغير ذلك من احتمالات، وموارد تحتّم على خطيب المنبر الحسيني، أنْ يتمتّع بقدرة كبيرة، وخبرة واسعة، في فن الخطابة الحسينية وأصولها وتقاليدها وأعرافها.

ومن هنا تبرز أهمية، تتلمذ الخطيب الناشئ، على يد خطيب أستاذ متمرّس، يضع بين يديه خبرته، ويبيّن له وصاياه ونصائحه ويحكي له جوانب من تجاربه.

ـ د - مراعاة الحكمة

إنّ الحكمة كما عرّفها البعض، من أنّها (وضع الشيء في محلّه)، وإذا كان كل خطيب، يحتاج إلى مراعاة الحكمة، في خطابته، فإنّ ذلك يبرز بصورة أوضح، وأشد، في خطابة المنبر الحسيني.

إنّ المنبر الحسيني يخاطب شرائح متنوعة من المجتمع، ويحضر المنبر مستويات متباينة من الناس، كما يعقد في ظروف مكانية وزمانيّة واجتماعيّة مختلفة. ولمناسبات وأغراض كثيرة.

وعلى خطيب المنبر الحسيني، أنْ يكون حكيماً في خطابته، مراعياً الظروف المكانيّة والزمانيّة من جهة، وتنوّع المستمعين من جهة أخرى، وتباين مستوى تلقّيهم، من جهة ثالثة، وانسجام حديثه مع نوعيّة المناسبة من جهة رابعة..

وكأمثلة على ما ذُكر أعلاه، نورد ما يلي:

٢٧٨

١) دُعي الخطيب المعروف الشيخ كاظم سبتي (المارّة ترجمته، في نهاية الفصل الثالث) للقراءة في منزل أحد السادة الأشراف، في النجف الأشرف، بمناسبة انتقاله إلى دار جديدة. وإذا بهذا الخطيب، رغم كل خبرته، ومعرفته، يبدأ خطبته، بمقطوعة من خطب الإمام أمير المؤمنين، وهي في ذمّ الدنيا وتبدأ بقوله" (دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، أحوال مختلفة وثارات متصرّفة، العيش فيها مذموم والأمن فيها معدوم..)(١) ممّا جعل صاحب الدار مذهولاًَ يضرب على فخذه، ويردّد: ما هذا الافتتاح يا شيخ كاظم(٢) ؟؟ فهنا لم تكن الخطبة مناسبة، لمقتضى الحال، بل هي على عكسها تماماً..

٢) ومثال آخر جرى مع الشيخ حسن بن الشيخ كاظم سبتي المذكور أعلاه، حينما كان يقرأ في مجلس مختصر، ليس فيه إلاّ بضعة مستمعين، من طلبة إحدى المدارس الدينيّة في النجف. ولمّا مرّ الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، جلس مع أولئك الطلبة، ليشاركهم في المجلس الحسيني طلباً للثواب. ولكن الخطيب لم يراعِ ظروف مجلسه، وقلّة الموجودين، فراح يطنب في ذكر وصيّة الإمام علي لولده الحسن وشرحها، والتي تبدأ في كل مقطع بـ (بني حسن..) حتى طال وقت المحاضرة، أكثر من المعتاد. ممّا جعل الإمام الشيخ كاشف الغطاء، يبادر إلى ذلك الخطيب ويخاطبه: (بُني حسن، أما أوصاك أبوك، أنّه إذا كان في المجلس ثلاثة مستمعين، فلا تطيل الحديث عليهم؟؟)(٣) . وجاء تعليق سماحة الإمام كاشف الغطاء باللفظة نفسها التي كان يستخدمها الخطيب..

____________________

(١) علي الجندي: سجع الحمام في حكم الإمام، ص٨٤.

(٢) شبر، السيد جواد: أدب الطف ٩/٧٤.

(٣) حسن، داخل السيد: معجم الخطباء، ١/٣٤.

٢٧٩

٣) ذكر لي أحد أساتذة الخطباء وهو السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب؛ (أنّ خطيباً دعي لقراءة مجلس حسيني في منزل أحد العلماء، وكان جلّ الحضور من العلماء وطلبة العلوم الدينيّة، وإذا بذلك الخطيب يتناول موضوع الخمر، ومضارّها وعقوبة شاربيها.. فانبرى له أحد الحاضرين مؤنّباً.. وهل وجدت في مجلسنا هذا من يشرب الخمر؟؟، ألم تجد غير هذا الموضوع لتتحدّث عنه؟؟ ممّا أربك الخطيب وأفشل المحاضرة)(١) .

هذه هي أهمّ المؤهلات الفنيّة، التي ينبغي توافرها في خطيب المنبر الحسيني، وقد ركّزنا على تلك المؤهّلات، التي يتميّز بها خطيب المنبر الحسيني، عن بقيّة الخطباء، وإنّ كان يشترك معهم، في المؤهلات الفنيّة العامّة، التي لابدّ من اتصاف الخطيب، أي خطيب بها.

ثمّ نأتي الآن إلى الصنف الثالث من المؤهّلات، وهي:

٣ - المؤهّلات الرساليّة

إنّ الصنفين الأول، والثاني، من المؤهلات العلميّة والفنيّة، إنّما يوفران شروط الخطابة الناجحة. ويمكن اعتبار ذلك طاقة، لابدّ من توجيهها التوجيه الصحيح، حتى تؤتي الخطابة ثمارها ومنافعها. فتأتي المؤهلات الرساليّة، لتقوم بهذه المهمّة، وهي مؤهلات ضروريّة لكل خطيب رسالي، سواء كان خطيب منبر حسيني، أو خطيب منبر الجمعة، أو أي خطيب ملتزم بأحكام دينه وأهداف رسالته.

فهي إذن من المؤهلات المشتركة بين كل الخطباء الرساليّين

____________________

(١) لقاء شخصي مع الخطيب السيد عبد الزهراء الحسيني، دمشق. ٢٦ رجب ١٤١٣هـ ١/١/١٩٩٣م.

٢٨٠

الملتزمين.

وقد تكون هذه المؤهلات الرساليّة مثل: الالتزام والأخلاقيّة والهادفيّة أكثر ضرورة في خطيب المنبر الحسيني، الذي يخاطب جماهير كثيرة واسعة، وينتقل إلى أماكن ودول متعدّدة، بما قد لا يتوافر لخطيب المسجد.

فالخطيب الرسالي، هو الذي يراعي مسائل هداية الشباب، والتزام المرأة المسلمة، والدفاع عن المظلومين.. وغيرها من الأبحاث التي تنبع من وعي الخطيب وتقديره لحاجة المجتمع إلى موضوعاته ومنبره.

فرق كبير بين الخطيب الناجح، أي الذي يوفّر كل المؤهلات العلميّة والثقافيّة والمؤهلات الفنّية، وبين الخطيب النافع، الذي لا يكتفي بتلك المؤهّلات، بل يزيد عليها، مؤهّلات رساليّة، تجعله يختار الحديث الذي يزيد في الوعي؛ لأنّه خطيب نافع، فالخطيب النافع هو الخطيب الهادف.

إنّ التزام الخطيب، وأخلاقيته، وهادفيّته، ووعيه، أمورٌ أساسيّة لإيجاد المنبر الهادف، الذي يُغني الساحة، وينمّي درجة الوعي ويزيد من التزامها، وتبنّيها لنهج الإسلام وأحكامه.

وكما قلنا، هي مؤهلات من الواجب توافرها في كل خطيب إسلامي، ولكنّها قد تكون أكثر بروزاً في خطيب المنبر الحسيني، لسعة المساحة التي يخاطبها في الأمّة، وتنوّع الساحات واتساع نطاق تحرّكه.

إنّ شدّة ارتباط الخطيب الملتزم بالله تعالى، والتزام تقواه، والعمل من أجل مرضاته، أمورٌ في صدارة ما ينبغي على الخطيب الملتزم والهادف أنّ يتحلّى بها، ويعيش آثارها، في نفسه وسلوكه وخطابته.

٢٨١

إنّ حالة تقوى الله، وصدق الإنسان في التعامل مع ربّه الكريم، وخلوص النيّة وصفائها، من الأُسس بالغة الأهمية في توفيق الخطيب، وانعكاس ذلك على شدّة تأثّر الناس به وبكلامه ومواعظه، ومن ثَمّ ما يذكر من مصيبة الإمام الحسينعليه‌السلام .

نعم (كم من خطيبٍ في مجالس ذكرى مصرع سيد الشهداءعليه‌السلام ، يدفع الناس إلى البكاء، والرّقة بمجرّد مشاهدة هيئته وسمتّه، قبل أنْ يتكلّم)(1) !

هذه هي الشروط والمؤهلات التي ينبغي حضورها في خطيب المنبر الحسيني، وبعضها يشترك فيها مع كل خطيب، والبعض يشترك فيها مع الخطيب الإسلامي، فيما يختص خطيب المنبر الحسيني ببعضها الآخر.

طرق إعداد خطيب المنبر الحسيني

هذه هي النقطة الثالثة، في هذا المبحث المتعلّق بخطيب المنبر الحسيني المعاصر، وبها ينتهي الفصل الرابع من هذه الرسالة إنْ شاء الله تعالى.

فبعد أنْ جلنا في عالم المنبر الحسيني، ووقفنا على كثرة مناسباته ومواسمه، وسعة امتداده وحضوره، وما ينبغي أنْ تتوافر، من أوصاف ومؤهلات في خطبائه، لابدّ أنْ يقفز إلى الأذهان سؤال يفرض نفسه، وهو: كيف يتم إعداد خطيب المنبر الحسيني؟ وما هي الطرق المتّبعة لإعداده؟ وهل هناك جهة أو جهات، متخصّصة بتهيئة خطباء المنبر الحسيني؟

____________________

(1) المظفر، محمد رضا: المنطق، 3/373.

٢٨٢

خاصة، إذا تأمّلنا العدد الكبير للخطباء، فهناك المئات منهم في العراق وربّما وصلوا إلى بضعة آلاف. وفي مناطق الخليج العربية لاسيما البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية، يشكّل خطباء المنبر الحسيني طبقة اجتماعيّة - دينيّة بارزة، وفي لبنان تتّسع يوماً بعد يوم دائرة الشباب وطلبة العلوم الدينيّة الذين يرتقون أعواد المنبر الحسيني بشكل واضح. أمّا في البلاد الشيعيّة غير العربيّة فحدّث ولا حرج، حيث ينقل، إنّ عدد خطباء المنبر الحسيني في بلاد الهند وحدها يصل إلى عشرين ألف خطيب حسيني!!(1) . (فإذا كانت الحواضر الإسلامية، قد شاركت النجف الأشرف في إقامة حوزات علمية كبيرة، فإنّ النجف الأشرف انفردت بتخريج آلاف الخطباء الحسينيين الذين غطّوا العراق - على كثرة مجالسه - ويملأون الخليج بأسره، ويذهب البعض منهم إلى أفريقيا، وبعض الدول الأوروبيّة)(2) .

وسبق لنا أنْ ذكرنا في موضوع (الحسينيّة) وجود (3500) حسينيّة في البحرين وحدها ممّا يستلزم كثرة خطباء المنبر الحسيني.

ونعود إلى سؤالنا، كيف يتم إعداد هذا العدد الكبير من خطباء المنبر الحسيني؟ للإجابة عن هذا السؤال، نذكر الطرق المتّبعة في عملية الإعداد والتي تختلف في سعتها قوةً وضعفاً، تبعاً لعدّة عوامل كما سيأتي بيانها:

1 - طريقة التلمذة (التصنّع)

إنّ أخذ التلميذ عن أستاذه ومعلمه أسلوبٌ قديم، نشأ عليه علماء المسلمين في مساجدهم ومعاهدهم العلميّة، حيث كان يتّجه

____________________

(1) مجلّة الموسم، 7/831.

(2) دخيل، علي محمد علي: نجفيّات، ص42.

٢٨٣

طلاب العلم من أقاصي الأرض، إلى حيث يوجد هذا العالم أو يحاضر ذاك.

والطريقة التقليديّة المتّبعة، في إعداد خطباء المنبر الحسيني، هي ملازمة التلميذ، الذي يريد أنْ يكون خطيباً حسينياً، لأحد كبار خطباء المنبر الحسيني، حيث يتعلّم منه، ويأخذ منه أصول هذه الصناعة ودقائق هذه الخطابة.

وتسمّى بطريقة (التلمذة) أو التتلمذ، وبالمصلح الشعبي العرابي بـ (التصنّع) ويسمّى التلميذ صانعاً. والتصنّع الذي هو أخذ الصنعة، مصطل فصيح معناه في اللغة مأخوذ من (اصطنع)، فإذا قيل: اصطنع فلان خاتماً، إذا سأل رجلاً أنْ يصنع له خاتماً والمصانعة: أنْ تصنع لشخص شيئاً، ليصنع بدوره لك شيئاً(1) .

وهذا المصطلح مضطرد، في كل حرفة في العراق، فالغلام الذي يبعثه أهلُه، لتعلّم الحدادة يقال له صانع حدّاد، وعند النجّار يسمّى صانع نجّار وانسحب هذا المصطلح، بدوره على من يقصد أستاذاً مِن أساتذة المنبر الحسيني، طالباً تعليمه فن الخطابة الحسينية، فيسمّى صانعاً لذا الخطيب أو ذاك.

فإذا ما أراد أحدهم التخصّص في الخطابة الحسينية، فإنّه يعتمد إلى اختيار أحد الخطباء المتمرّسين والمعروفين، فيقوم بملازمته في مجالسه، يأخذ بتوجيهاته، ويحفظ ما يطلبه أستاذه منه، وهو في كل ذلك يحضر دروساً عملية منه حينما يرتقي المنبر.

هذا وقد أجريت مقابلات، مع بعض خطباء المنبر الحسيني المبرزّين، وهم خطباء عراقيون مقيمون في دمشق، لمزيد من توضيح

____________________

(1) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، 8 / 209، 212.

٢٨٤

لهذه الطريقة، التي يعود إليها الفضل، في إعداد أبرز خطباء وأساتذة المنبر الحسيني اليوم.

وبدأت بسؤال الدكتور أحمد الوائلي، وهو يعدُّ أبرز خطيب حسيني في عصرنا هذا، وسألته عن طريقة التلمذة، أو التصنّع فأجاب( وهي أنْ يختار الفرد أو أهله، خطيباً للتتلّمذ عليه، من الذين يرونهم بارزين في هذا الميدان. وغالباً ما كان الخطيب، لا يردّ من يرد عليه من التلامذة؛ لأنّ الخطيب يكتسب بذلك مكانة، حيث إنّ كثرة تلامذته تعني ارتقاء منزلته، وكذلك التلميذ، فقد يكون له عدّة أساتذة) فبادرته بالسؤال، وكم أستاذ كان لكم؟ فأجاب: (كان التتلمذ على ثمانية أساتذة) منهم الخطباء: محمد علي قسّام(1) ، والسيد باقر الموسوي(2) ، (المعروف بسيلمون) والشيخ جواد القسّام(3) ) (4) .

ثمّ حوّلت رحلي إلى خطيب آخر، من أساتذة المنبر الحسيني، وهو الشيخ جعفر الهلالي وسألته عن طريقة التلمذة

____________________

(1) محمد علي القسام: بن الشيخ حمّودي بن خليل، ولد في النجف الأشرف سنة 1290 هجرية تعلّم وقرأ المقدمات، ثمّ برع في الشعر والأدب، اتجه إلى الخطابة، وهبه الله حافظة قويّة وصوتاً عذباً وطريقة حسنة، ثار مع العلماء المجاهدين، ضد المستعمر الانجليزي، سكن بغداد حتى وفاته عام 1373. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف 3 / 1000).

(2) السيد باقر الموسوي بن تقي بن سليمون: ولد في النجف الأشرف سنة 1317 هجرية. ونشأ فيها، وحضر مجالسها، واتصل بخطبائها، عرف بمجالس الوعظ والإرشاد ويُكثر من استشهاده بخطب نهج البلاغة، كان أستاذاً لعدّة خطباء توفّي في النجف 1371 هجرية. (المرجاني، حيدر: خطباء المنبر الحسيني، 1 / 134).

(3) الشيخ جواد القسّام: بن الشيخ جاسم بن خليل الخفاجي، ولد في النجف الأشرف عام 1326 هجرية، وأخذ العلم عن أساتذة النجف ومدرسّيها، كان منبره ساحراً ومؤثّراً في الناس. عالم وأديب وشاعر، توفي في أواخر الستينيات الميلادية. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 3 / 999).

(4) لقاء شخصي في دمشق. 8 رجب 1412 هـ، 7 / 1 / 1993.

(5) الشيخ جعفر بن الشيخ حميد بن إبراهيم الإحسائي الهلالي النجفي، ولد في البصرة عام =

٢٨٥

هذه، فقال: (يقوم والد التلميذ - عادة - باختيار الخطيب الأستاذ الجيّد، ذا الدين، وبتطوّر طالب العلم، وقيامه بالمهام التبليغيّة، يقترح عليه أن يتوجه إلى الخطابة فينفرد عن أستاذه). وسألته كيف أخذتم الخطاب فقال: (نشأت في التصنّع عند أستاذ، لعدم وجود الكتب والأشرطة ولقلّة الخطباء)(1) . وبعدها سألت أستاذاً ثالثاً من أساتذة المنبر الحسيني، وهو السيد طاهر ملحم الحسيني(2) فأجاب عن سؤالنا أعلاه:

(إنّ والد الخطيب الجديد (التلميذ) يسلّم ولده لأحد الخطباء الجيدين، فيعطيه الأخير قصائد مع تحريكها ليسلم نطقه، ويكون ذلك بدون مقابل (مجاناً)، وبعد فترة يعتمد فيها عليه، ينفصل عنه، فتكون بدايته بسيطة، ثمّ يتطوّر حسب قابليّته)(3) .. ومن دمشق إلى مدينة بيروت، حيث التقيت الخطيب الحسيني الذي كان الخطيب الأبرز وأستاذ المنبر، في لبنان لما يقارب الثلاثين عاماً، وهو المرحوم الشيخ عبد الوهاب الكاشي(4) ،

____________________

= 1351 هجرية. أخذ مقدمات العلوم وانتقل إلى النجف. برز كخطيب ناجح وشاعر متميّز ومتتبّع معروف، تخرّج من كلية الفقه بالنجف سنة 1964م. (ارتقى المنابر في العراق وبلدان الخليج) (المرجاني، حيدر: خطباء المنبر الحسيني، 1 / 164).

(1) الخالدي، فيصل: المنبر الحسيني في العراق، ص94. دمشق 24 رجب 1413.

(2) طاهر بن السيد حسن بن السيد ملحم الحسيني، ولد في النجف سنة 1353 هجرية. نشأ في النجف ودرس وترعرع فيها، أخذ الخطابة عن أبيه، خرّيج كلية الفقه في النجف، له عدّة مؤلّفات ولا يزال يمارس الخطابة في الخليج. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 2 / 505).

(3) الخالدي: فيصل: المنبر الحسيني في العراق، ص94. دمشق 19 جمادي الثاني 1412.

(4) الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ عبد الحسين الكاشي النجفي، ولد في البصرة سنة 1344 هجرية. ثمّ انتقل مع والده الذي كان من الخطباء المعروفين - إلى النجف ودخل مدارس منتدى النشر، وحضر عند مجموعة من العلماء والأساتذة، حتى برز خطيباً مفوّها، وهبه الله عذوبة صوت وحسن إلقاء، دعي إلى مدينة صور لأوّل مرة سنة 1959م، ثمّ تواصل حُضور إلى لبنان حتى استقر فيه من سنة 1971م حتى وفاته عام 1997 ببيروت، وكل خطباء المنبر الحسيني اللبنانيين اليوم، يأخذون بطريقته وأسلوبه الخطابي. (المصنف).

٢٨٦

فوضّح تجربته في طريقة التلمذة، التي نشأ عليها (إنّ التلمذة تعني ملازمة أستاذ من الخطباء المرموقين، وقد كان أستاذي هو عمي الخطيب الشيخ محمد الذي كان يقول لي: انظر لي كيف أقرأ.. إذا صعدت فاصعدْ، وإذا نزلت فانزلْ.. أي اقتبس منّي.. وبهذا يقوم التلميذ بتقليد الخطيب الأستاذ في إنشاد الشعر، ويقلّد خطيب آخر في كيفيّة طرح الموضوع، ومع اجتماعهما يتولّد خطيب جديد.. وكنت أحضر كل ليلة ثلاثة مجالس على الأقل، حيث أقرأ المقدّمات (أي القصيدة والنعي)(1) ، ويقوم التلميذ بقراءة القصيدة واقفاً، وأستاذه جالس على المنبر.. ويتدخّل الأستاذ فيقول: ارفع صوتك أو اخفضه، أو أعد البيت. ويقوم التلميذ باستنساخ القصائد من المجموعة(2) الخاصّة بالأستاذ، ثمّ يقوم بعرضها عليه ويأخذ ملاحظاته).

ثمّ نعود إلى الشيخ جعفر الهلالي، وهو يبيّن كيفيّة تحرّك التلميذ أو التلاميذ، مع أستاذهم (فإذا حلّ الموسم الخطابي، فإنّ الخطيب حينما يُدعى إلى منطقة ما، فإنّه يستصحب معه تلميذه أو تلامذته الذين يكونون عنده، وقد يكون عددهم من 3 - 5 تلاميذ، يستصحبهم ليقوموا بقراءة المقدّمات قبله، في المجالس اليوميّة التي يعهد إليه إحياؤها، فترى الخطيب الأستاذ، يوزّع تلامذته على مجالسه لهذه المهمّة)(3) .

واستصحاب الأستاذ لتلميذه إلى مجالس في مواسم المنبر الحسيني، إنّما يكون بعد أنْ يطلب الأستاذ منه أنْ يحفظ مجموعة من القصائد مع تشكيلها وتحريكها، ثمّ يتعلّم بعد ذلك كيفيّة الأداء

____________________

(1) لقاء مع الشيخ عبد الوهاب الكاشي، قبل وفاته بشهر من 14 شوال 1417 هـ. بيروت.

(2) المجموعة: دفتر خاص بكل خطيب، أشبه شيء بالكشكول، يجمع فيه الخطيب، أفضل ما يجده من قصائد ومعلومات، وشواهد أدبية وتاريخية، ممّا يعينه على خطابة المنبر الحسيني.

(3) مصدر سابق.

٢٨٧

وأسلوب الإنشاد، متأثراً إلى حدّ كبير بطريقة أستاذه في الإنشاد، ويتقن الأطوار المتّبعة في الشعر الرثائي الحسيني، فإذا ما أتق التلميذ ذلك، صاحب أستاذه إلى مجالسه التي يلتزمها، فيكون هو أوّل من يشرع بقراءة القصيدة، ثمّ يتبعها بأبيات نعي باللغة الشعبية العراقية (وأحياناً البحرانيّة) ثمّ ينتهي دور التلميذ، ليبدأ الأستاذ بعده بطرح موضوعه الذي يريد طرحه، وأمّا التلميذ، فإنه يجلس ليصغي إلى أستاذه، فيأخذ منه ويتابع حركته، وأسلوبه الخطابي، ويسجّل الملاحظات، حتى نهاية محاضرته بفقرتي التخلّص والمصيبة.

ويقول الخطيب الحسيني داخل السيد حسن(1) ، في مقابلة لي معه في دمشق: (قد يبرز أحد التلامذة بقراءة القصيدة، وإنشادها قبل الأستاذ، بحيث إنّ أصحاب المجالس يدعونه شخصياً لقراءة المقدّمات قبل الخطيب. فهناك دعوة موجّهة إلى التلميذ ودعوة أخرى وجهة إلى أحد الخطباء(2) ).

وكما يستفيد التلميذ من أستاذه، خطابته وطريقته، بل وتعرّفه على المجالس الحسينية وأصحابها فإنّ الأستاذ يستفيد يدروه؛ لأنّ كثرة التلامذة يعني علّو شأنه خطابيّا، ثمّ إنّه يستطيع التزام عددّ أكبر من المجالس، بدون أنْ يشكّل ذلك، إجهاداً على حنجرته وصوته، حيث تولّى تلامذته إنشاد القصائد بأطوارها. وإنشادها هو الذي يستوجب شدّاً واضحاً للأوتار الصوتيّة.

وقد يبقى التلميذ ملازماً لأستاذ، يجد فيه ضالّته، في حين نجد آخرين ينتقلون من أستاذ إلى آخر. وتبقى علاقة الاحترام والأستاذيّة، قائمة بين التلميذ وأستاذه، وربّما ترجمت إلى رعاية الأستاذ في كبره

____________________

(1) تقدمت ترجمته.

(2) لقاء شخصي في دمشق. 2 رجب 1413 هـ.

٢٨٨

وشيخوخته.

إنّ شيوخ خطباء المنبر الحسيني اليوم، وأساتذته هم خريجو طريقة التلمذة هذه.

ويمكن أنْ نذكر إيجابيات هذه الطريقة بما يلي:

1 - يتوافر التلميذ على أفضل قصائد الرثاء الحسيني، وأكثرها شهرة في أوساط المنابر الحسينية وجمهورها، والتي تعود - القصائد - إلى مشاهير الشعراء من قدامى ومحدّثين. يأخذ القصيدة مشكّلة مضبوطة الأداء، وتُتلى بأصل الإنشاد الرثائي وأطواره المعهودة، فينمو بذلك حسّه لأدبي وذوقه الفنّي واستماعه المميّز.

2 - يحظى التلميذ بتوجيه مباشر، من أستاذه، في إعداد المحاضرة، ويدلّه على مصادر المعلومات، ومراجع الشواهد الأدبية والتاريخية. وهو يتابع توجيهاته ويأخذ بملاحظاته.

3 - يدخل التلميذ حقل التجربة العمليّة، ويحصل على الجرأة الأدبية مبكّراً، وهو تحت رعاية أستاذه وحثّه، وبما تُشيعه أجواء المنافسة مع زملائه من التلاميذ الآخرين من فرص للنجاح. إنّ هناك أموراً منبرية، لا يمكن أنْ تكتسب من كتاب نظري، بل تؤخذ من التجربة والتطبيق العلمي، لأسلوب الخطابة الحسينية ودقائق فنونها وتقاليدها.

4 - كما أشرنا سابقاً، إنْ هذه الطريقة؛ تمهّد للتلميذ خطوات المستقبل العمليّة، في أنْ يكون خطيباً ذات يوم، بما يمكّنه تنقّله مع أستاذه من مدّ شبكة العلاقات مع المساجد، والحسينيّات، والوجهاء، والهيئات الأخرى، المشرفة على المنبر الحسيني، فيبدأ بإعداد رصيد اجتماعي مستقبلي.

٢٨٩

وفي نهاية هذه الطريقة، في إعداد المنبر الحسيني، أنقل ما يراه السيد محمد حسين فضل الله في لقاء لي معه في بيروت، من إيجابية هذه الطريقة وهو يستعيد ذاكرته مع الخطباء الكبار، الذين كان يحضر منابرهم أيام إقامته ودراسته في النجف فيقول:

(وأستطيع أنْ أعطي عن كل خطباء تلك المرحلة سواء الشيخ محمد علي قسّام، أم الشيخ محمد الكاشي، أم الشيخ جواد القسّام.. إنّهم كانوا يملكون فنّ الخطابة، باعتبار أنّ خطابتهم لم تكن مبادرة ذاتيّة، من خلال عناصر الشخصيّة والثقافيّة التي يتمتّعون بها، ولكنّهم كانوا يتتلمذون على أساتذة في أسلوبهم الخاص، بما جعلهم يمتلكون الجانب الفنّي من الخطابة، بحيث إنّك تستطيع عندما تجلس تحت منبر هؤلاء أنْ تطمئن إلى أنّهم لن يخرجوا عن الموضوع، وإلى أنّهم لنْ يعيشوا في متاهات يشعرون فيها بالضياع، على اعتبار أنّهم كانوا يكتبون موضوعاتهم، وعلى الأسس الفنّية التي تلّقوها من أساتذتهم، وبذا كانوا يمثّلون الامتداد الثقافي لفنّ قراءة التعزية، الذي تطوّر على مدى التاريخ، على حسب طبيعة المرحلة الثقافية.

بينما نلاحظ في الكثير من الخطباء المُحْدَثين، أنّهم لا يتقنون فن الخطابة، واحدهم قد يملك ثقافة، ولكنّك تتصوّره حينما يصعد المنبر، تماماً كأي إنسان خطيب يخطب خطبة حماسية أو ما إلى ذلك. وحتى الذين يستغرقون في مسألة المأساة الحسينية، فإنّك لا ترى عندهم الأسلوب الفنّي، الذي يجعلهم يختارون القصيدة التي يقرؤونها، وأبيات النعي التي يثيروها، وتوزيع عناصر المأساة على مفرداتهم الخطابية، ومن هنا فإنّك تشعر مع الخطباء، الذين لم يتتلمذوا على أساتذة، أنّهم قد يتيهون، وقد يضيّعون السامع، وقد يجلبون الملل)(1) .

____________________

(1) لقاء شخصي في بيروت.

٢٩٠

2) طريقة البناء الذاتي

أخذت الطريقة القديمة، في إعداد خطباء المنبر الحسيني (التلمذة)، بالضمور شيئاً فشيئاً، منذ ما يقارب من نصف قرن مضى. فبعد أنْ ازدادت دور النشر الحديثة، وما ترتّب عليها من وفرة المصادر التاريخية والأدبية، والتراجم من جهة، واهتمام بعض خطباء المنبر الحسيني، بإصدار مؤلّفات تتضمّن ترتيب مجالس حسينية كاملة، يمكن أنْ يعتمد عليها بعض مَن يريد، أنْ ينطلق في أجواء المنبر الحسيني، من جهة أخرى، إضافة إلى مصنّفات ضمّت أشر القصائد الرثائية من الشعراء القدامى والمعاصرين.

كما أنّ الأجهزة الصوتيّة، ولاسيما أجهزة التسجيل، من جهة ثالثة قد وفّرت تجارب حيّة لخطب المنابر الحسينية. وفيها تتّضح، نبرات صوت الخطيب وطريقة الخطابة، واختيار الكيفيّة المناسبة، والطور الملائم لإنشاد الشعر الرثائي، بنوعيه: القريض والشعبي. وبما يحفظ شريط التسجيل، من معلومات، وشواهد، وأفكار. كل ذلك وفّر مادةً فنّية جاهزة، أمام تلامذة المنبر والخطباء المبتدئين، تتظافر مع وفرة الإنتاج، في عالم المكتبات؛ ممّا أسهم في تهيئة مواد أساسيّة، ومهمّة تعين من يجد في نفسه قابليّة ورغبة في انتهاج سبيل خطابة المنبر الحسيني.

وقد مرّ بنا في اللقاء السابق، مع الخطيب الأستاذ الشيخ جعفر الهلالي، بأنّه اتجه إلى التلمذة، باعتبارها طريقة، كانت تعتمد، لعدم وجود الكتب والأشرطة (أشرطة التسجيل). ولقد رأيت شخصيّاً، بعض كبار خطباء المنبر الحسيني، لا يسمحون لأحد بتسجيل محاضراتهم ومجالسهم. ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ ما يجهدون أنفسهم في اقتناصه من الشواهد، أو ما يعصرون أذهانهم من أفكار، سوف لن

٢٩١

يعود مختصّاً بهم، بل قد يصل هذا العطاء إلى مَن ليس أهلاً له.

وطريقة البناء الذاتي، هي الطريقة المتوفّرة حاليّاً، حيث إنّ مواد خطابة المنبر الحسيني، موجودة بشكل كبير واسع، فهناك المئات من أشرطة التسجيل للمشاهير من خطباء المنبر الحسيني، بل إنّ بعض أصحاب محلات التسجيل، راحوا يعتنون في أعداد الأشرطة، حيث يجمعون مقتطفات من القصائد الرثائيّة، وأبيات النعي التي تنشد في أول فقرات المنبر الحسيني (القصيدة)، لكل خطيب من خطباء المنبر الحسيني المشهورين، والمجيدين لطرق الإنشاد النوح، حتى إذا لم تكن محاضراتهم بالمستوى المطلوب. حيث يستفاد من طرق الإنشاد والنعي. إنّ هذه الأشرطة المسجّلة تسهم كثيراً في توفير (المؤهلات الفنّية) المطلوبة.

إنّ طريقة البناء الذاتي تعني، أنْ يعتمد المرء على نفسه في إعداد المحاضرة وتهيئة أبيات الرثاء الحسيني، مستفيداً من التجارب الحيّة، المسجّلة، أمامه؛ إمّا في الكتب المطبوعة، وإمّا في الأشرطة المسجّلة. وفيها طرق وأطوار، وكيفيّة استخدام النبرات الصوتية في تصوير الفاجعة، وإذكاء حالة الحزن، وصولاً إلى إحداث الانفعال النفسي بالبكاء.

كما ينبغي على الخطيب المبتدئ أنْ يحضر بصورة مباشرة مجالس خطباء المنبر الحسيني، في المساجد والحسينيّات والأماكن الأخرى وكله آذان صاغية لهذا الخطيب أو ذاك وهو يتابع محاضرته، واستخدامه للشواهد وأسلوب خطابته، حتى وصوله فقرة التخلّص وانتهائه بفقرة المصيبة. ويمكن كذلك لأشرطة التسجيل المصوّرة إنْ توفّر بعض هذه الجوانب.

إنّ من الأسباب التي أدّت إلى ضمور طريقة التلمذة السابقة، وبروز طريقة البناء الذاتي، غياب ظاهرة استصحاب الخطباء الكبار

٢٩٢

لمجموعة من الطلاب المبتدئين في المواسم التبليغية، ولاسيما في شهر محرّم.

وممّا أسهم كذلك في ضمور طريقة التلمذة (الطريقة التقليدية)، الأوضاع السياسية الشديدة في العراق، والظروف القاسية التي عصفت بالحوزة العلمية في النجف الأشرف بالخصوص، والتي أدّت إلى غياب مشاهير خطباء المنبر الحسيني عن الساحة وتشتتهم في المهاجر، ممّا أدّى إلى فقدان الظروف الموضوعية والحالة الاجتماعية الدينيّة، التي كانت تشجّع على التلمذة ومتابعة الأستاذ الخطيب في مجالسه.

إذن نستطيع أنْ نُجمل الأسباب التي أدّت إلى بروز طريقة البناء الذاتي بما يلي:

1 - توفّر المصادر والمراجع التاريخية والأدبية، ومصنّفات الخطباء والمجاميع، والدواوين الشعريّة.

2 - انتشار أشرطة تسجيل المحاضرات الحسينية، وأساليب الإنشاد، والنعي، لأشهَر خطباء المنبر وأكثرهم إجادة.

3 - غياب ظاهرة تناوب أكثر من خطيب على منبر واحد. واستصحاب الخطباء تلامذتهم معهم.

4 - الأوضاع السياسيّة والأمنيّة القاهرة.

ويثبت الواقع، أنّ القليلين ممّن اعتمد طريقة البناء الذاتي، قد أعطى مسألة التتبّع والتدرّج والتدريب أهميتها، حتى يكون أهلاً لارتقاء المنبر. ولهذا يتألّم كبار الخطباء من ظاهرة البروز غير الناضج، لبعض من يدّعي أهلية الخطابة الحسينيّة وهو غير مؤهّل لها. يقول الدكتور أحمد الوائلي: إنّ مثل أولئك (كمن يخرج من البيضة، كاملاً

٢٩٣

مكمّلاً، ولا يمر بأي مرحلة من المراحل وما عليه سوى أنْ (يدرخ)(1) بعض (الكاسيتات) لبعض الخطباء الناجحين بالساحة ويشفعها بشيء من الادّعاءات والعبارات المعلّبة، التي هي الأخرى تُقتبس وتقرأ دون فهم معناها، وبعد ذلك قد يحتل مكاناً في الساحة، على حساب الأصالة والفن)(2) . ولا تبدو الصورة قاتمة دائماً في عموم الخطباء، الذين اعتمدوا طريقة البناء الذاتي، حيث تشهد ساحة الخطابة الحسينية حاليّاً، نخبة جيّدة من الخطباء الذين برزوا، ولم يكونوا قد اعتمدوا على ملازمة أستاذ منبري. وفي هذه النخبة من الخطباء، مجموعة من خرّيجي الجامعات والدراسات الحديثة، الذين اتجهوا بعد ذلك للمنبر الحسيني، فأبدعوا في ذلك وبرزوا كخطباء موازين للخطباء المعروفين، مستفيدين من ثقافتهم العصرية والأسلوب الأكاديمي في البحث وطرح الموضوعات.

فالأمر يبدو وإلى حدٍّ بعيد، يعتمد على نفس الراغب بالخطابة الحسينيّة، فليس كل من تتلمذ على خطباء كبار أبدع وتميّز، ولا كل من اعتمد طريقة البناء الذاتي تخلّف وتأخّر.

ومن شباب الخطباء الذين اتّبعوا طريقة البناء الذاتي، وبرزوا كخطباء معروفين في ساحة الخطابة الحسينية اليوم،الشيخ عامر الكوفي (3) ؛ الذي وجّهت إليه بعض الأسئلة، أثرتُ فيه الأسباب التي

____________________

(1) دَرخْ: لفظة عاميّة عراقيّة تعني الحفظ، عن ظهر قلب، بدون فهم المعنى، فإذا قيل هذا درّاخ فمعناه، حفّاظ، ووجدت أنّدَرْبَخَ معناها الإصغاء إلى الشيء (ابن منظور، لسان العرب، 2 / 15) ولعلّها مصحّفة عنها.

(2) الوائلي، أحمد: تجاربي مع المنبر، ص90.

(3) الشيخ عامر بن عبد الله، أبو حيدر، ولد بمدينة الكوفة 1953 أنهى دراسة الثانوية في النجف الأشرف ودراسته الجامعيّة ببغداد، هاجر إلى قم للدراسة الدينيّة علم 1980 ثمّ تخصّص بالخطابة الحسينية، حتى برز فيها، نال شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية بتقدير ممتاز بكلية الإمام الأوزاعي ببيروت، له منابر في بلدان إسلامية عديدة وبعض بلدان المهجر، مدرّس في حوزة المرتضى بدمشق. (من المترجم له).

٢٩٤

يراها قد هيّأت منه خطيباً حسينيّاً ناجحاً، فذكر أنّ هذه الأسباب - بعد أنْ أكّد أنّه لم يدرس عند أحد من الخطباء ولم يشترك في دورة خطابية - هي ما يلي:

1 - وجود الثقافة الإسلامية الموسوعية، المادة الأساسيّة في نجاح الخطيب الحسيني، فقد نشأت في بيئة، منابرها عامرة ومنابرها زاخرة.. وانفتحت على المكتبة الإسلامية، وأخذت أقرأ كتبها بنهم، فحين تخرّجت من الجامعة كنت قد قرأت دورة تفسير كاملة للقرآن الكريم، وموسوعة شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، ودورة كاملة في التاريخ الإسلامي، وسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموسوعة الغدير للعلامة الأميني..

2 - القدرة الخطابية والإحاطة بالأطوار الحسينية.. حيث درجت منذ الصغر، على حضور المجالس، واستمعت إلى الكثير من الخطباء المشهورين، واستمتع أكثر بمجالس الأستاذ الدكتور أحمد الوائلي، حيث تأثّرت بخطوط منهجه، وأُسلوب عرضه وفن أدائه.. وكنت قد حفظت كثيراً من الشعر الحسيني - العمودي والشعبي - وبالأطوار المناسبة، التي أخذتها عن ألسنةِ الخطباء المشهورين، ساعدني في ذلك طبيعة نبراتي الصوتيّة.

3 - خدمة الإسلام بالكلمة والموعظة الحسنة. لكي ينجح الخطيب في مسؤوليته الرسالية، لابدّ من توافر الدافع الذاتي، والحبّ الشديد للخطابة، حتى يتفاعل معها بقوة وإخلاص.. ولقد امتلكني شعور بالمسؤولية الدينيّة، وأيقنت أنّ الأمّة بحاجة إلى مبلّغين واعين، وإنّ المنبر الحسيني وسيلة إعلاميّة خالدة.. وهكذا اتّجهت نحو المنبر الحسيني مع تشجيع العلماء والرساليين، فتوفّقت بحمده تعالى لأنْ أكون من خطباء المنبر الحسيني)(1) .

____________________

(1) رسالة خاصة من الخطيب الشيخ عامر الكوفي مؤرخة 5 جمادي الثاني 1422 هـ / 24 / 8 / 2001م.

٢٩٥

3) طريقة الدورات الخطابيّة

بعد أن غابت الطريقة التقليديّة، في إعداد خطيب المنبر الحسيني، ولجوء الخطباء المبتدئين، إلى طريقة (الإعداد الذاتي)، برزت الفجوة الواضحة في الطريقة الثانية، من حيث التجربة العمليّة، والتمرين، والممارسة في إنشاد القصائد الرثائيّة، واستخدام الطور المناسب لمقاطع النعي، إضافة إلى امتلاك الجرأة الأدبيّة والاستفادة من التوجّهات والخبرات العمليّة، في هذا الحقل.

ولهذا برزت طريقة (الدورات الخطابيّة)، حينما يدعو لها أحد أساتذة المنبر الحسيني، أو يتمّ ذلك بطلب من بعض الخطباء المبتدئين. وبهذه الدورة يأخذ التلميذ، أساليب القراءة الحسينيّة، من أستاذ ويشترك الطالب مع زملاء في تلك الدورة، في محاولة للتعويض عن طريقة التلمذة التي كان يأخذ الخطاب من خلالها، عن أحد الخطباء البارزين.

ويزداد الطلب على الدورات الخطابيّة، عند اقتراب المواسم الكبيرة للمنبر الحسيني. فهناك دورات تعقد في شهر شعبان، أو شهر رجب، في التهيّؤ لموسم شهر رمضان المبارك، ومجالسه ومناسباته. كما وتعظم هذه الدورات الخطابيّة، بشكل واضح، في أشهر الحجّ (شوال، ذي القعدة، ذي الحجّة) استعداداً لموسمي شهري محرّم وصفر.

وتختلف الدورات الخطابيّة، في عدد المنتسبين إليها، فقد تكون محدودةً لبضعة أشخاص، وقد تتّسع للعشرات منهم. وتختلف كذلك في مدّتها، فقد تكن لعشرة أيام وربّما أسبوع، وقد تطول لشهر أو أكثر. إذاً قد تقتصر على مجرد تهيئة عشرة مجالس، بقصائدها وموضوعاتها، وأبيات النعي المناسبة لها، خاصة للعشرة الأولى من

٢٩٦

المحرّم. أو تكون لثلاثين مجلساً أو أكثر. كما وتختلف الدورات في موادّها فربّما اتبع بعض الأساتذة، أُسلوب بيان قواعد عامة للخطابة الحسينية، دون الخوض بمسألة إعداد مجلس خاص، من مجالس المنبر الحسيني، كما يصنع ذلك الآخرون.

وقد جمعت طريقة (الدورات الخطابيّة) بين طريقتي التلمذة والبناء الذاتي.

كما وفّرت هذه الطريقة، مجالاً عمليّاً للخطيب المبتدئ، إذ قد يُطلب من طلاّب الدورة أن يهيئ كلٌّ منهم، مجلساً مختصراً، يُقرأ أمام طلاب الدورة وأستاذها، وهو ما كان محروماً منه في طريقة البناء الذاتي.

ولدى تتبّعي لتاريخ الدورات الخطابية، تهادى إلى سمعي، أنّ أول دورة أقيمت كانت في النجف الأشرف، من قبل أحد أبر خطباء المنبر الحسيني، وهو الخطيب الشيخ عبد المجيد الصيمري البصري(1) ، والمقيم حالياً في كندا، فبعثت إليه بكتاب، أسأله فيه أن يتفضّل بتوضيح مهمة (دورة الخطابة الحسينية)، التي اشرف عليها، والظروف المحيطة بتلك التجربة الجديدة آنذاك، فأجاب مشكوراً، بكتاب كريم، بيّن فيه أنه في نهاية الستينات، من القرن العشرين الماضي، فاتح أستاذه السيد حسين بحر العلوم(2) بنيّته في افتتاح (دورة

____________________

(1) الشيخ عبد المجيد بن الشيخ عبد الكريم الصيمري البصري، ولد في محافظة ذي قار في جنوب العراق عام 1931م، نشأ طالب للعلم وخطيباً منذ نعومة أظفاره، هاجر إلى البصرة عام 1949م، ثمّ إلى النجف عام 1961، وأكمل دراسته في كلية الفقه. خطيب رسالي من أساتذة المنبر الحسيني ومن روّاد الحركة الإسلامية في العراق، اوذيَ في الله تعالى كثيراً، هاجر إلى كندا عام 1990م وما زال يمارس خطابته وإرشاده الديني هناك / من مؤلّفاته: الزواج الإسلامي، في ظلال السيرة بجزأين. (السيد حسن، داخل: معجم الخطباء، 2 / 237).

(2) السيد حسين بن محمد تقي بن حسن بن إبراهيم الحسني الطباطبائي، من أسرة آل بحر العلوم العريقة، ولد في النجف عام 1348 / 1928م، عالم بارز وأديب ملتزم وشاعر محقّق، =

٢٩٧

للخطابة الحسينية) بشرط أنْ يكون مّن يودّ الانتماء لهذه الدورة الخطابية، طالباً في الدراسات الدينيّة (الحوزة العلميّة)(1) . ليكون (الخطيب هو العالم، والعالم هو الخطيب) كما ذكر في كتابه. وتمّ الإعلان عن قرب افتتاح هذه الدورة، فاتّصل به ما يقارب الثلاثين، من الشبّان منهم من كان يمارس خطابة المنبر الحسيني في بداياتها، ومنهم، من لم يرتق أعواد المنبر الحسيني.

ثمّ إن الشيخ عبد المجيد الصيمري، حدّث المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر(2) ، بشأن تسهيل قبول طلاب هذه الدورة، من غير المنتمين للحوزة العلميّة إليها، حتى يكون كل طلاّب الدورة الخطابيّة، هم في الوقت نفسه، طلاّباً في الدراسات الدينيّة الحوزويّة. بحكم موقع السيد محمد باقر الصدر آنذاك، في جهاز

____________________

= نشأ في أجواء الدراسات الإسلامية الحوزوية وبرز فيها، أسس مكتبة العلمين في النجف، له عدّة آثار وديوان شعر، برز أخيراً في مقدمة علماء النجف ومراجعها توفّي عام 1422 هجرية 2001 م في النجف ودفن فيه (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 1 / 215).

(1) لا يُشترط أنْ يكون خطيب المنبر الحسيني طالباً في الدراسات الدينيّة الحوزويّة، حيث إنّ الكثيرين من الخطباء، كانوا يبدأون حياتهم كتلامذة لأحد الخطباء المعروفين، حتى يصل إلى الاستقلال، والخطباء، كانوا يكتفون بالدراسات اللغوية بما يعينه على تخصصه عُرف الخطباء بصغر عمائمهم وتخفيف لحاهم، وكان الأمر لا يخلوا من منافسة أو عدم انسجام بين الفريقين، وفي العقود الأخيرة. أخذت هذه الظاهرة بالضمور، إذ أنّ أغلب الخباء الجدد طلبة وعلماء في الدراسات الحوزويّة.

(2) السيد محمد باقر بن إسماعيل الصدر العاملي الكاظمي، مفكّر إسلامي فذّ ومجتهد مطلق، وصاحب نبوغ وعبقريّة كبيرين، ولد في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1350 هجرية. ثمّ هاجر إلى النجف وبلغ مرحلة الاجتهاد في العلوم الإسلامية قبل بلوغه العشرين، أغنى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلّفات التي سدّت فراغاً كبيراً، من أشهرها كتابا: اقتصادنا وفلسفتنا، ثنيت له وسادة التقليد والمرجعية، مجاهد لم يخشَ في الله لومة لائم حتى استشهد ببغداد 1400 / 1980م. (الأميني، محمد هادي راجع سابق، 2 / 809).

٢٩٨

المرجعيّة الدينية، ومنزلته المميّزة عند المرجع السيد محسن الحكيم(1) .

وينقل الشيخ الصيمري، مدى سعادة السيد محمد باقر الصدر، وسروره لفكرة دورة الخطابة الحسينيّة، (وحين علم سماحته بذلك، كاد أن يطير فرحاً، وأخذ بالدعاء بالتسديد والتوفيق. وكان يبشّر كافة الشباب بفتح دورة الخطباء، ويحثّهم على الانتماء إليها. كما كان يخبر كل وفد يصل إليه من محافظات العراق، بأنّ دورة للخطباء فُتحت في النجف الأشرف. ويشملها بإطرائه وثنائه، ويعدهم بأنّها، ستخرج الخطباء النافعين الواعين)(2) ، هذا وقد استمت هذه الدورة إلى عام 1971م، ولم تستمر أكثر من ذلك لأسباب عدّة أبرزها الظروف الأمنية الحرجة آنذاك.

هذه هي ظروف وأجواء تلك الدورة الخطابيّة الأولى، وقد أقيمت بعدها دورات كثيرة في مناطق متعدّدة. واليوم، هناك خطباء منبر حسيني، مرموقون، هم من خريجي تلك الدورة الخطابيّة الأولى في النجف الأشرف.

وعادة ما تنتشر هذه الدورات الخطابيّة، في المدن التي تضمّ مدارس دينيّة، وحوزات علميّة، فهناك دورات في مدينة قم الإيرانية، حيث تواجد أكبر حوزة علمية شيعية الآن، وتضم عدداً كبيراً من الأساتذة والطلبة العرب. كما وتوجد دورات أخرى في دمشق، حيث تنتشر اليوم عدّة مدارس دينيّة شيعيّة، في منطقة السيدة زينب، بضواحي دمشق ودورات ثالثة في لبنان، تشرف عليها حوزات وجهات شيعية مختلفة. وفي الملحق إعلان عن افتتاح دورة عزاء حسيي بمدينة بيروت.

____________________

(1) تقدّمت ترجمته.

(2) ضمن الرسالة الجوابية لي من الشيخ عبد المجيد الصيمري. والمؤرّخة في 15 رجب 1419.

٢٩٩

هذه هي ثلاث طرق في أعداد وتهيئة خطباء المنبر الحسيني، فالطريقة الأولى كانت هي الطريقة التقليديّة، وهي أُسلوب التلمذة، ومنها تخرّج كبار خطباء المنبر اليوم. ثمّ الطريقة الثانية، وهي طريقة البناء الذاتي، والتي برزت بعد غياب الطريقة الأولى.

أمّا الثالثة والأخيرة، فهي عبارة عن طريقة تجمع بين الطريقتين، وهي طريقة الدورات الخطابيّة. وبها يكون الخطيب المبتدئ، معتمداً على نفسه في تحصيل أوليّات وأسس الخطابة الحسينية، وهو في الوقت نفسه يعيش تجربة عمليّة مع أستاذ الدورة الخطابية وتلامذتها في الإنشاد الرثائي، واكتساب الجرأة الأدبية ومنافسة زملائه بما عنده من قدرات خطابية علميّة وفنّية.

وبهذا البيان، نكون قد وصلنا إلى نهاية الفصل الرابع، من هذا البحث، والذي جرى الحديث فيه، حول دراسة المنبر الحسيني في عصرنا الحاضر.

بالإضافة إلى أنّ هناك طريقة رابعة لإعداد خطباء المنبر الحسيني، آثرنا أنّ نتحدّث عنها في الفصل الأخير من هذا البحث، وهي طريقة المعاهد الخطابيّة - والتي هي أفكار وأمنيات، أكثر منها واقعية وحقيقة حيّة، ولهذا ستقع ضمن موضوع آفاق مستقبل المنبر الحسيني.

وفي نهاية هذا الفصل، نورد نموذجاً لخطبة منبر حسيني، استكمالاً للبحث، ومن أجل المزيد من التوضيح لعناصر، وفقرات هذه الخطبة، التي ذكرناها في أبحاث هذا الفصل.

نموذج لمحاضرة من محاضرات المنبر الحسيني

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397