المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 116096
تحميل: 8217

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116096 / تحميل: 8217
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

محاضر هو خطيب منبر حسيني.

أي أنّ خطيب المنبر الحسيني، عنده ما عند المحاضر أو الواعظ الإسلامي، ولكنّه يزيد عليه بالتعريج على كربلاء وأحداثها بأسلوب عاطفي وإنشاد حزين خاص.

الأسماء والألقاب التي يُعرف بها خطيب المنبر الحسيني

ولخطيب المنبر الحسيني عدّة أسماء يعرف بها، بعضها خاص ببعض المناطق الشيعية، وبعضها يتّسع لأكثر من منطقة.. وهذه الأسماء - حسب استقصائي - هي ما يلي:

1 - خطيب المنبر الحسيني

وهو الاسم الرسمي أو العلمي أو (الأكاديمي)، وقد مرّ بنا هذا الاسم كثيراً خلال الكتاب. وقلتُ (اسمٌ رسمي) لأنّ الأوساط الشيعية، شعبية أو علمائية، لا تذكر هذا الاسم بكامله (خطيب المنبر الحسيني) بل قد تكتفي بالاسم الثاني أدناه. بينما يذكر هذا الاسم في الأبحاث العلميّة، أو الكتب المهتمّة بشأن المنبر الحسيني.

2 - الخطيب

وهو الاسم الأكثر شهرة، وفي خارج الأوساط الشيعية، لا يتبادر الذهن، إلى خطيب المنبر الحسيني، إذا ورد اسم أو لفظ (خطيب)، بينما يكون هو المتبادر طبيعيّاً، في الأوساط الشيعية فإذا قيل هذا خطيب، أو جاء الخطيب، فإنّ ذلك يعني نحواً خاصاً من الخطباء، وهو خطيب المنبر الحسيني بالخصوص.

٢٦١

وهذا الاسم، هو الشائع في المجالس الحسينية المهمّة والكبيرة، والتي تعقد في المدن والأوساط المثقفّة في العراق، وبلدان الخليج العربية، وكذلك في التجمّعات المهاجرة من هذه البلدان.

3 - القارئ (القاري)

وهو اسم تطلقهُ الأوساط الشعبية، على خطيب المنبر الحسيني، وعادة ما تخفّف اللفظة حيث تحذف الهمزة ليُقال (قاري). ويشتهر هذا الاسم في المجالس الشعبية العامّة في العراق، والخليج والمناطق العربية في جنوب إيران، ولذا فالاسم الشعبي لمجلس المنبر الحسيني هو (القراية) أي القراءة.

4 - المنبريّ

وهو مصطلح يطلق على خطيب المنبر الحسيني، إذ يُنسب مباشرةً إلى المنبر، بياء النسب. وهذا الاسم إنّما يذكر لشدّة وضوح وارتباط المنبر بالخطيب الحسيني، فإذا قيل: هذا منبريّ، فهو يعني نسبة خاصة، فلا يطلق على كل من يعتلي المنبر، وإنّما هو اسم خاص بخطيب المنبر الحسيني.

وهذا الاسم، أكثر ما يعرف في الأوساط العلمائية، ومجالس الحوزات العلمية الدينية. أكثر من أي وسط آخر من أوساط المجالس الحسينية. واعتقد أنّ شيوع هذا المصطلح في أوساط العلماء، والحوزات العلمية الشيعية يعود إلى العرف، الذي لا يرى أنّ ارتقاء المنبر يناسب العلماء والفقهاء. فلكي يُفرّق بين العالم والخطيب، يقال للثاني: منبري.

٢٦٢

5 - قارئ أو (مقرئ) السيرة الحسينيّة

6 - قارئ عزاء

7 - قارئ مجلس عزاء

8 - المُعزّي

والمصطلحات أو الأسماء الأربعة أعلاه، تُطلق على خطيب المنبر الحسيني، في الأوساط الشيعية في لبنان، وبعض المناطق الشيعية، في سوريا، مثل أطراف مدينتي حمص وحلَب.

ولنا عودة إلى هذه المصطلحات ودلالاتها، في الفصل الأخير من هذا الكتاب، إنْ شاء الله.

وهذه المصطلحات الأخيرة غير متداولة في العراق، أو بلدان الخليج العربية.

9 - قارئ تعزية

وهو مصطلح على نطاق ضيّق يُطلق على خطيب المنبر الحسيني في أماكن مختلفة.

10 - رَوْزَة خون (رَوْزَخون)

إلى الآن، كانت الأسماء والمصطلحات، التي تُطلق على خطيب المنبر الحسيني، ألفاظاً عربية واضحة. لكنّنا هنا أمام مصطلح

٢٦٣

ذي أصلٍ فارسي أعجمي، وهو مؤلّف من لفظين: (روزة) و(خون) ومعناه بالعربية قارئ الروضة. أمّا ما هي الروضة وما علاقتها بالمنبر الحسيني فيمكن توضيحها بما يلي:

لمّا انتشر التشيّع في إيران إبّان الحكم الصفوي لها، شجّع الصفويون الإيرانيين على زيارة العتبات المقدّسة، في العراق من جهة، وإقامة مجالس العزاء على الإمام الحسيعليه‌السلام ، من جهة أخرى. وبرزت في تلك الفترة، بعض الكتابات التي ألّفت كمجالس تُقرأ على المنابر الحسينية. أشهر تلك المؤلّفات، كان كتاب (روضة الشهداء) للشيخ حسين الكاشفي(1) ، والذي نال شهرة كبيرةً جدّاً. حتى اصطلح على مجالس المنبر الحسيني بـ (روضة)، أي يُتلى فيه كتاب الروضة هذا.

وهو (أوّل كتاب يتعرّض لواقعة الحسين، التاريخية باللغة الفارسية. لذلك فإنّ قرّاء التعزية، والذين هم غالباً، ممّن يجهلون اللغة العربية، فإنّهم كانوا يتناولون هذا الكتاب، ويقرؤن منه مباشرة، في المجالس الحسينية)(2) .

وعُرف من يتولّى القراءة فيه، وإنشاد مقاطعه الرثائيّة، باسم (قارئ الروضة) أي (روضة خون)(3) وانتقل ذلك عبر جموع الزائرين الإيرانيين، والمهاجرين إلى العراق، من علماء وطلبة علوم دينية وغيرهم.

____________________

(1) الشيخ الملا حسين الكاشفي: توفّي في حدود 910 هجرية من آثاره، الأنوار السهيليّة، ولد وعاش وتوفّي في إيران. (معجم خطباء المنبر الحسيني ص60).

(2) المطهري، مرتضى: الملحمة الحسينية، 1 / 43.

(3) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص293.

٢٦٤

وهذا المصطلح (روزة خون) هو ما يطلق على خطيب المنبر الحسيني، في الأوساط الشعبية والقرويّة، ومجالس الأرياف في العراق، وبعض مناطق الخليج العربي.

وقد يستعمله البعض مصحّفاً، فيقال (رَيْزخون) في الأوساط الأكثر قرويّة.

كما غدا هذا المصطلح، لقباً ينبز به بعض من يعتلي المنبر الحسيني، بلا أهلية ثقافية أو علمية، تؤهّله لمهمّة المنبر الحسيني، ورسالته. فيقال: أنّ فلاناً مجرّد (روز خون) وليس بخطيب، أي أنّه لا يعدو إلاّ مجرّد ناعٍ ومنشد للشعر الرثائي الحسيني. وليس خطيباً ذا عِلم وثقافة واطّلاع يغني بها حديثه ومحاضرته.

ولا يُعرف هذا المصطلح في لبنان ومجالسه الحسينية، وإذا وجد فهو بنطاق ضيّق جدّاً، عند بعض العلماء، أو طلبة العلوم الدينيّة الذين كانوا يدرسون في النجف الأشرف، أو أوساط الطلبة والأساتذة العراقيين، المتواجدين في الحوزة العلمية الدينيّة في قم الإيرانيّة.

(واليوم تُطلق كلمة (روزة خون)، على من يكتفي في خطابته، على فضائل وتاريخ ومصائب النبي وأهل البيتعليهم‌السلام . أمّا من تطرّق في خطابته إلى أنواع العلوم، ويتحدّث عن جوانب ثقافيّة، واجتماعية علمية فيطلق عليه اسم الخطيب)(1) .

وهذه عشرة أسماء ومصطلحات، تُطلق على خطيب المنبر الحسيني اليوم، وهي تختلف في انتشارها، واستعمالاتها من منطقة شيعية إلى منطقة ومن أوساط إلى أخرى. إنّ كثرة المصطلحات، التي

____________________

(1) المقدسي، باقر: فن الخطاب من المقدّمة، ص9.

٢٦٥

تشير إلى خطيب المنبر الحسيني، يعكس سعة المنبر، في جميع الأقاليم الشيعية، وما يستتبعه من كثرة خطباء المنبر الحسيني، بحيث راحوا يمثّلون طبقة اجتماعية دينية خاصة.

وقد انعكس الوجود البارز، لخطباء المنبر الحسيني، على فتاوى العلماء ورسائلهم الفقهيّة(1) فقد ورد في باب صلاة المسافر. وحُكْمِ صلاته بين الإتمام والقصر(2) ذِكْر نماذج من المسافرين؛ مثل الطالب والموظّف والعسكري والتاجر، ثمّ يذكر خطيب المنبر كنموذج آخر، فقد ورد، كمثال على ما ذكرنا في:

(خطيب من خطباء المنبر الحسيني، يتعاطى الخطابة في بلدته، ولكنّه يتّفق أحياناً أنْ يُستدعى للخطابة في بلدٍ آخر، فيسافر ويطوي المسافة إليه، ويبقى هناك يوماً أو يومين أو أياماً، وهذا يقصِّر إذا طوى المسافة المحدّدة، وفقاً لحالة المسافر الاعتيادي؛ لأنّ عمله ليس مبنيّاً على السفر. ولكن إذا كان ما يمارسه من العمل والخطابة، من خلال السفر، أساسياً ومهماً في مهنته على نحو لو اقتصر عليه، لكفى ذلك عرفاً في صدق هذه المهنة عليه - كالخطابة التي يسافر إليها في محرّم وصفر - إذا كان الأمر كذلك، فعليه أنْ يصلّي صلاته تامّة في سفره؛ لأن هذا السفر عمله)(3) .

وقد أخذ المنبر الحسيني ومادته، وأمور وأساليب العزاء الأخرى حصة من الأسئلة الفقهية والشرعية، التي ترد إلى مراجع الدين، والتي

____________________

(1) الرسائل الفقية، وتُعرف أيضاً بالرسالة العمليّة؛ وهي كتاب الفتاوى الذي يضمّ آراء المجتهد والمرجع الديني كي يرجع الناس في أحكامهم إليها.

(2) صلاة الإتمام هي: الصلاة اليومية التي يصلّيها المسلم في وطنه. والقصر: هي أنْ تصلّى الصلاة الرباعية بركعتين فقط عند السفر.

(3) الصدر، محمد باقر: الفتاوى الواضحة، ص334.

فضل الله، محمد حسين: الفتاوى الواضحة، ص273.

٢٦٦

تُنبئ عن مدى حاجة الناس، إلى إجابات عن تلك الأسئلة كما نجد ذلك - على سبيل المثال - في كتاب أجوبة المسائل الشرعية حيث ورد سبعة عشر سؤالاً فيما يخص المنبر الحسيني وأمور أخرى تتعلّق بعاشوراء(1) .

أوصاف خطيب المنبر الحسيني

ويعتبر خطيب المنبر الحسيني، هو قطب الرحى، في تلك التجمّعات الضخمة والمحافل الكبيرة، فهو العامل الأوّل، الذي يؤدّي إلى نجاح المآتم الحسينية. فبقدر إجادة خطب المنبر الحسيني لمهمّته، وتمكّنه من إشباع بحثه، ومحاضرته، علمياً وعاطفياً يتقرّر مقدار حضور الناس إليه أو انكفاؤهم عنه.

ولهذا، فإنّه لا بدّ من توافر شروط، ومؤهّلات، في مَن يريد اعتلاء أعواد المنبر الحسيني، وهي قد تكون من الكثرة والتنوّع ممّا يجعل مصاديقها في الخطباء قليلة.

وقديماً قال المناطقة: إنّ الشيء كلّما كثرت شروطه عزّ وجوده.

إنّ هذه الأوصاف والمؤهّلات قد تتغيّر من بيئة لأخرى، ومن مستوى ثقافي وعلمي لثانٍ، حسب نوعية الحاضرين، وما ينتظره روّاد المجالس من أبحاث ومحاضرات، أو بما يستطيعه خطيب المنبر الحسيني، من إشباع الجانب العاطفي، وإثارة كوامن الحزن لواقعة كربلاء، ويمكن لنا أنْ نصنّف المواصفات والمؤهّلات هذه إلى ثلاثة أصناف؛ يشترك فيها الخطيب الحسيني مع العلماء والمثقّفين والمحاضرين في بعضها، ويختصّ في بعضها الآخر، والمؤهّلات هي:

____________________

(1) الخوئي، أبو القاسم: أجوبة المسائل الشرعية، ص26.

٢٦٧

1 - المؤهلات العلمية والثقافية

على كل خطيب، في أي شأن من الشؤون، أنْ يكون ذا اطلاع ودراية بالموضوع، أو البحث الذي يريد طرحه. وبقدر ما كان هذا الخطيب أو المحاضر، ملمّاً بأطراف الموضوع وامتداداته وشواهده، تكون محاضرته أدقّ وأنجح، وبالتالي أكثر فائدة. وهذا الأمر يشترك فيه خطيب المنبر الحسيني، مع كل خطيب أو متحدّث. إلاّ أنّ الاختلاف هو في طبيعة المحاضرات موضوع البحث لكل خطيب. ولهذا فإنّ خطيب المنبر الحسيني، يشترك عموماً مع كل خطيب أو محاضر، من علماء المسلمين وخطبائهم ومحاضريهم، وبشكل واضح، إلاّ في بعض الموارد التي تمليها طبيعة المنبر الحسيني. وأهم هذه المؤهّلات هي:

أ - دراسة تخصّصية في العلوم الإسلامية: بما يصطلح عليه الشيعة (الدراسات الحوزوية). من مقدّمات، كعلوم العربية المتنوعة والمنطق، والتفسير، والحديث، ثمّ الفقه وعلم الأصول. وكلّما تقدّم خطيب المنبر الحسيني، في الدراسات الإسلامية، كلّما كان أقدرَ على الطرح الإسلامي الأصيل، وأكثر إحاطة بالمسائل ذات الأبعاد الفقهية، أو التفسيرية التي يتعرّض لها في محاضراته.

وهذه النقطة، في غاية الأهميّة، لا من حيث التعمّق، في فهم المسألة الفقهية، وأسلوب طرحها منبريّاً فقط، بل إنّها تُسهمُ في عملية اندماج خطيب المنبر الحسيني، في أجواء طلاّب الحوزة العلميّة، فقد كان مألوفاً - سابقاً - أنْ يعتلي المنبر بعض مَن لاحظّ له في الدراسات الدينية، خاصّة في المآتم التي تهتم بحسن صوت الخطيب، ممّا أنتج وجوداً غير مرتبط بالحوزة العلمية، وطبيعتها، وانعكس بالتالي على نظرتها إلى خطيب المنبر الحسيني.

٢٦٨

نعم، قد لا يصل خطيب المنبر الحسيني، في متابعته للدروس الحوزوية، إلى مستوى التخصّص الذي يصل إليه طلاّب العلوم الدينية المتفرّغون لهذه الدروس، ولكن لابدّ من دراسة حوزوية على قدر مهم من التتبّع. إنّ هذه النقطة تميّز خطيب المنبر الحسيني، عن المحاضر المسلم والمثقّف المسلم، اللذين قد يكتفيان بمعلومات فقهيّة وأصولية عامّة، بينما ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أنْ ينال حظّاً كبيراً من الدراسات الإسلامية التخصصية.

ب - ثقافة تاريخية مركّزة: لمّا كان خطيب المنبر الحسيني، يولي المسائل التاريخية، فيما يتعلّق بتاريخ الإسلام والمسلمين، بل ودراسة التاريخ قبل الإسلام، وفي الحضارات الأخرى، كل هذا من جهة، وبما يخصّ سيرة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسير أهل بيتهعليهم‌السلام ، والصحابة، والتابعين من جهة أخرى. إضافة إلى مزيد عناية بأدق التفاصيل، لكل ما تعلّق بسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام منذ ولادته وحتى استشهاده، وبما جرى على أهل بيته بعد ذلك من جهة ثالثة. كل ذلك يحتّم على خطيب المنبر الحسيني، أنْ يولي المسائل والأبحاث والدراسات التاريخية، اهتماماً بالغاً ودقيقاً.

ونظرة ولو سريعة، على مكتبات خطباء المنبر الحسيني الخاصّة، تكشف ضخامة الجانب التاريخي في ثقافتهم، وخاصة فيما يتعلّق بواقعة كربلاء.

وقد انعكس اهتمام خطباء المنبر الحسيني بالتاريخ، وأحداثه على ثقافة الإنسان الشيعي، بحيث غدا مطّلعاً على أدق التفاصيل التاريخية، التي قد لا تتأتّى إلاّ لأهل الاختصاص والتتبّع. ممّا كان يُدهش الكثيرين. يقول أحد الكتّاب الإسلاميين (ولم أستطع أنْ أخفي دهشتي من أولئك الذين يحملون التاريخ على أكتافهم أبداً)(1) .

____________________

(1) هويدي، فهمي: إيران من الداخل، ص222.

٢٦٩

جـ - ثقافة إسلامية عامّة: بعد أنْ اتسعت المساحة التي راح المنبر الحسيني يعالجها، ولم يعد مقتصراً على إنشاد الشعر الرثائي، أو الوقوف عند بعض الأحداث التاريخية المحدّدة، وأخذ الجمهور يتطلّع إلى خطيب المنبر الحسيني، كمحاضر ذي ثقافة واسعة وعميقة، هذا الأمر الذي حتّم على خطباء المنبر الحسيني، أنْ يولوا اهتماماً كبيراً، بكل ما يتعلّق بجوانب الثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي.

ولذا أخذ خطيب المنبر الحسيني الناجح، بتناول كل نتاجات المثقّفين، والكتّاب والمفكّرين الإسلاميين كمؤلّفات: سيد قطب، وأخيه محمد قطب، وأبي الأعلى المودودي، ومحمد الغزالي، ومحمد البهيّ، ونديم الجسر، وعبد الرزاق نوفل وغيرهم من الكتّاب والمفكّرين الإسلاميين السنّة، إضافة إلى نتاجات المفكّرين والعلماء الشيعة، كمؤلّفات: السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ مرتضى المطهّري، والشيخ محمد جواد مغنيّة، وغيرهم...

مع متابعة الدوريّات والإصدارات الإسلامية العامّة... فتجد خطباء المنبر الحسيني، ذوي علاقات أكيدة مع المكتبات ودور النشر ونتاجات المؤلّفين.

وهناك اهتمام خاص، بكل المؤلّفات التي تناولت ثورة الإمام الحسين وأبعادها وآثارها بالدراسة والتحليل والمتابعة.

د - إلمام جيّد بالثقافة التربوية، والاجتماعية، والنفسية والسياسية، وعموم الثقافة الموسوعية: إنّ تنوع الأبحاث، والمحاضرات التي يوليها المنبر الحسيني اهتمامه، حتّمت على خطيبه، أنْ يكون ذا إلمام، في جملة تخصّصات، وثقافات تعينه على أداء مهمّته، وقوّة محاضرته، وكبير انشداد الجمهور إليه.

٢٧٠

فالخطيب الحسيني، لا يكتفي بالثقافة الإسلاميّة والدراسات الدينيّة فقط، بل يحاول أنْ يكون له حظّاً من كل ألوان الثقافة، خاصّة بما يتعلّق بمنبره، كالثقافة التربويّة والنفسيّة وأنْ يكون ذا وعي وثقافة سياسيّة، تعينه على الطرح المناسب وطبيعة الظروف.

إنّ الثقافة الموسوعيّة أمر مطلوب في ثقافة خطيب المنبر الحسيني، وكلّما كانت ثقافته متعدّدة وواسعة، كلّما كان أكثر نجاحاً وأعلى شأناً في ميدان الخطابة.

وهناك اهتمام خاص، بالتقاط الشواهد الأدبية، والعقائديّة، والعلميّة وغيرها، ممّا يطعّم بها الخطيب محاضرته، كي يُغنيها من جهة، ويرفع حالة السأم والملل من جهة ثانية.

ولهذا يحتفظ، كل خطيب منبر حسيني، بدفتر أو دفاتر خاصّة به يجمع فيها كل شاردة وواردة، من كل ما تقع عليه عينه أو تسمعه أذنه من المعلومات، التي يتوقّع أنْ يستفيد منها ذات يوم، ويوظّفها في محاضراته ومجالسه.

إنّ جمهور المنبر الحسيني ينظر إلى الخطيب ذي الثقافة الموسوعيّة المتنوّعة، بأنّه خطيب يولي محاضرته وجمهوره اهتمامه، وأنّ حديثه ليس مجرّد كلمات يلوكها اللسان، بل هي أرقام ومعلومات جاءت بعد تتبّع، وبحث وتدقيق، ومزيد عناية.

وأودّ أن أذكر مثالاً على القسم الأول، من مؤهّلات خطيب المنبر الحسيني - وهي فيما يتعلّق بالمؤهّلات العلميّة والثقافيّة، وخاصة فيما يبرز أهمية الثقافة الموسوعيّة، وهذا المثال عن الخطيب البارز السيد صالح الحلّي - الذي سبقت ترجمته، في نهاية الفصل الثالث - والذي (بلغ من قدرته أنْ التزم قراءة المأتم الحسيني، لجمعيّة (المكارين)، الذين يؤجرون حميرهم وبغالهم للمسافرين بين النجف

٢٧١

والمدن المتصلة بها، فقرأ لهم عشرة أيام، بل الأصح أنّه حاضر لهم عشرة أيام؛ لأنّ خطب السيد صالح، كلّها أشبه بالمحاضرات منها، بأيّ شيء آخر، فلم يخرج خلال هذه الأيام العشرة عن حديث الحمير، والبغال، والقوافل، وأخبارها القديمة، والحديثة، وقصصها!!

فكان الناس بمختلف طبقاتهم يعافون أشغالهم، ويحضرون تلك المحاضرات التي ظلّت مدّة طويلة موضوع أحاديث الناس، وتفكههم ومثار إعجابهم، وغبطتهم له على هذه الموهبة!!)(1) .

وتعتبر المكتبات الخاصة، بخطباء المنبر الحسيني، من أغنى المكتبات، في تنوّعها وتوسعها وإحاطتها بفنون المعرفة، لذلك فإنّ (من أهمّ مكتبات النجف الخاصة، مكتبات خطباء المنابر الحسينية، الذين تلزمهم مهمّتهم كخطباء، الإحاطة بالتاريخ، والشعر، والأدب، واللغة، إحاطة لا يمكن أنْ تتيسّر بدون مكتبة زاخرة بالمصادر المهمّة من أمّهات الكتب)(2) .

2 - المؤهّلات الفنيّة

إن ما ذكرناه في الصنف الأول من المؤهّلات، كانت تتعلّق بما يمكن أنْ نطلق عليه مصطلح (المعلومة). ومجرّد حصول الخطيب - أيّ خطيب - على المعلومة، لا يصيّر منهُ خطيباً.. إذ أنّ الخطابة تحتاج إلى مؤهّلات فنيّة تمكّن الخطيب من صيغة، وطرح المعلومات التي عنده بما يفعّل تأثيرها، من خلالها على الجماهير.

وبهذه المؤهّلات الفنية، يتميّز الخطيب عن المحاضر؛ الذي

____________________

(1) الخليلي، جعفر: هكذا عرفتهم ن1 / 108.

(2) الخليلي، جعفر: موسوعة العتبات المقدّسة، قسم النجف 7/309.

٢٧٢

يكتفي بطرح المعلومات، التي عنده بأسلوب هادئ وينمط واحد تقريباً. بينما ينبغي على الخطيب، أنْ يكون طرحه وأسلوبه، مراعياً فيه الجماهير بمستوياتها المختلفة، وشدّها إليه، وإيصال معلوماته إليه. في حين أنّ المحاضر عادة يخاطب مستوىً معيناً وشريحة خاصة من الناس.

وبعض هذه المؤهلات الفنية ضروريّة لكل خطيب.

مثل: إبراز المقاطع المهمة في الخطبة، عدم جعل الصوت على وتيرة واحدة، تغيير سرعة الحديث، التوقّف قبيل وبعيد كل فكرة مهمّة، استعمال إشارات اليدين والرأس أثناء إلقاء الخطبة وإلى غير ذلك من المواصفات الفنية(1) .

ومع ذلك فلابدّ من أنْ نؤكّد على بعض المؤهّلات الفنية، التي تكون وثيقة الصلة، بخطيب المنبر الحسيني، وأهمّها:

ـ أ - امتلاك مستوى جيد من القدرة على الحفظ

ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أنْ يحفظ العديد من النصوص، التي تشكل عنصراً مهمّاً وأساسيّاً في نجاحه خطابياً.

فبالإضافة إلى استظهار آيات قرآنية كريمة، وبعضاً من الأحاديث الشريفة وما ينقل عن توجيهات الأئمة والصالحين، فإنّ هناك عناية خاصة تبذل لحفظ خطب أو مقاطع من نهج البلاغة، وكذلك تحفظ خطبة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ذات المضامين اللغويّة العالية، وكذلك النصّوص المتعلّقة بواقعة كربلاء، مثل الكتب التي راسل بها الإمام الحسينعليه‌السلام الآخرين، وخطبه، وكذلك خطب بعض أصحابه

____________________

(1) كارنيغي، دايل: التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة، مقاطع مختلفة من الكتاب

٢٧٣

يوم عاشوراء. وهناك اهتمام خاص بخطبتي الإمام زين العابدين علي بن الحسين، والسيدة زينب بنت علي بن أبي طالبعليهم‌السلام في الشام حينما وصلتها السبايا.

لقد كان خطيب المنبر الحسيني سابقاً يتلو خطبته، من كتاب أو دفتر يقرأ على الناس. ولكن ومنذ عهد الشيخ كاظم سبتي (المارّة ترجمته) أخذ خطباء المنبر الحسينيّون، يتبارون بكثرة محفوظاتهم. فهم بالإضافة إلى حفظ المحاضرة بأكملها بما تحتوي من أفكار، وآراء ومطارحات ونقاط وشواهد، تحفظ بعض النصّوص الخاصة، وكذلك لابدّ من حفظ القصائد الشعريّة، التي تُتلى في مقدّمة المحاضرة، لاسيما في مجالس، العشرة الأولى من المحرّم، ووفيات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقية أهل البيتعليهم‌السلام .

إنّ مَلَكة الحفظ تبلغ ببعض الخطباء، أنْ يستظهروا كل حوادث يوم عاشوراء بأسماء أشخاصها، وأشعارهم، وحواراتهم مرتّبة تاريخيّاً، مع ما يناسب كل مقطع من شعر رثائي، باللغة الفصحى، أو العاميّة العراقيّة الدارجة. ويستمر الخطيب يوم عاشوراء في قراءة المقتل، لما يزيد على ساعتين متّصلتين، بصوتٍ مرتفع، وإنشاد للشعر، وأُسلوبٍ عاطفي حزين. إنّ زيادة رصيد الخطيب الحسيني، من المحفوظات الشعريّة والتاريخيّة والنصوصيّة يعني زيادة فرص نجاحه، وتميّز منبره وشدّة إقبال الناس على محاضراته.

ـ ب - التمتّع بقدر جيّد من رقّة الصوت

لمّا كانت خطابة المنبر الحسيني، قد ارتبطت بشكل أساسي، بالتعريج على واقعة كربلاء، والتوقّف عند مقطع منها، وإشباعه بالشعر والإنشاد الحزين، بل إنّ بداية المنبر الحسيني، كانت عبارة عن إنشاد الشعر الرثائي، الذي قيل في الإمام الحسينعليه‌السلام . حيث كان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، يعقدون تلك المجالس في بيوتهم، كما مرّ علينا في

٢٧٤

الفصل الثاني من هذا البحث، ولقد وجدنا، أنّ اهتمام الأئمّة بعنصر الصوت ورقّته كان مبكّراً، فيما نقلنا من رواية دخول أبي هارون المكفوف على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وإنشاده قصيدة للشاعر السيد الحِمْيَري، فعلّق الإمام على ذلك الإنشاد، وطلب من هذا المنشد قراءة المراثي بصوتٍ رقيق.

ولا يزال الصوت ورقّته، من المؤهّلات الفنّية المهمّة في خطيب المنبر الحسيني، بل يُعتبر هو العنصر الأهم إطلاقاً، في المجالس التي تُعقد في القرى والأرياف، وبعض مجالس البيوت في العراق، وبلدان الخليج. أمّا في لبنان، فإنّ الصوت ورقّته، هو العنصر الأهم في خطيب المنبر الحسيني، في كل المجالس تقريباً كبيرها وصغيرها، المهّم منها ومتواضع الأهميّة.

ولهذا، إذا اكتشف طلاب العلوم الدينيّة المبتدئون، أحد زملائهم، ممّن يمتلك حسن الصوت، انهالوا عليه، ناصحين ومشجّعين، أنْ ينخرط في صفوف خطباء المنبر الحسيني!.

كما تنهال نصائح مغايرة أخرى، على مَن يعتلي أعواد المنبر الحسيني، وصوته ليس بتلك الرّقة والعذوبة المتوقّعة، بأنْ يترك الخطابة الحسينية؛ لأنّ صوته لا يساعد عليها.

وقد كان عنصر رقّة الصوت من الأمور التي حالت دون توجّه الكثيرين، نحو حقل خطابة المنبر الحسيني. وفيهم من لا يُستهان بعلمه ومعلوماته وتقواه.

والواقع أنّ (حسن الصوت وحسن الإلقاء، والتمكّن من التصرّف بنبرات الصوت، وتغييره حسب الحاجة، من أهمّ ما يميّز الخطيب الناجح. وذلك في أصله موهبة ربّانيّة، يختص بها البشر من غير كسب، غير أنّها تقوى وتنمو بالتمرين، والتعلّم، كجميع المواهب

٢٧٥

الشخصيّة)(1) .

إنّ الصوت الجميل الرقيق، له أبلغ الأثر، في إثارة الشحنة العاطفيّة، التي تنتهي بالبكاء، في نهاية فقرات المنبر الحسيني، والبكاء كان ولا يزال أمراً أساسيّاً، يتميّز به خطاب المنبر الحسيني، عن بقية المنابر، إسلاميّة وغيرها.

ويعلّق الخطيب السيد صالح الحلّي (المارّة ترجمته في نهاية الفصل الثالث) على هذه النقطة بقوله: (إنّ خطيب المنبر الحسيني، يحتاج إلى حاءات ثلاثة هي: الحظ والحفظ والحسّ)(2) أي الصوت(3) ، ومنه قوله تعالى:( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) (4) .

وإذا كان عنصر الصوت، من العناصر المهمّة، في خطابة كل خطيب؛ فإنّه في الخطابة الحسينيّة في غاية الأهمية؛ لأنّ خطيب المنبر الحسيني لا يكتفي بالخطبة العادية ككل خطيب، بل لابد له من إنشاد الشعر الرثائي، باللغتين الفصحى والعاميّة، واستخدام أطوار وطرق متنوعة، وبما يستلزم ذلك من ترجيع للصوت وتغيير نبراته.

ـ جـ - التوافر على خبرة بفن الخطابة الحسينيّة

إنّ خطيب المنبر الحسيني، لا يكتفي بإبراز الجوانب العلميّة والثقافيّة والمعلوماتيّة العامّة التي يرعاها كل خطيب. أو بمشاركة كلّ الخطباء في ضرورة توافره على المؤهّلات والأوصاف الفنّية، المرتبطة

____________________

(1) المظفر، محمد رضا: المنطق، 3/373.

(2) السيد حسن، داخل: معجم الخطباء، 1/95.

(3) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، 1/49.

(4) الأنبياء (102).

٢٧٦

بالخطابة بشكل عام. ويزيد عليهم في نمط خاص، من الأساليب الفنية التي يتميّز بها، فمثلاً في بعض بلدان الخليج، لا يكتفي خطيب المنبر الحسيني، بإلقاء محاضرته وإنشاد الشعر الرثائي، بعد ذلك على المنبر، بل ينزل من على منبره، ولاقطة الصوت بيده، يختلط بالجمهور المحتشد، بين يديه ليزيد من بكائهم وانفعالهم، وإذا كان أحد العلماء الكبار، أو أحد السادة الأشراف المبرزين، حاضراً في المجلس، فإنّ الخطيب ينزل ليوجّه له أبيات العزاء، ممّا يزيد في بكاء الناس وتأثرهم.

وقد نجد بعض خطباء المنبر الحسيني يرمي بعمامته إلى الأرض، في بعض مقاطع ذكر المصيبة، مثل لحظة ضرب رأس أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في محراب جامع الكوفة، ليلة 19 شهر رمضان، أو لحظة قطع رأس الحسينعليه‌السلام ، ظهيرة يوم عاشوراء... وما أنْ يرى الناس ذلك، حتى ترتفع أصواتهم بالنحيب والبكاء.. (وبقدر ما يمتلك من يتلو السيرة الحسينيّة، من براعة في الأداء، وفي تغيير نبرات الصوت وجعلها متّسقة مع الكلمات والمعاني، وبقدر ما يبدو متأثّراً مع تلاوته للسيرة، ومع إنشاده لأبيات الشعر بأسلوب النوح، بقدر ما يؤثّر في السامعين ويحدث فيهم توتّراً نفسياً وعاطفياًَ يقودهم إلى البكاء)(1) .

ويحتفظ خطباء المنبر الحسيني، وجمهورُه بلقطات فنيّة، برزت من بعض مشاهير الخطباء، ويتداولونها بينهم، ويتناقلون تأثيرها في المستمعين.

إنّ الحضور الجماهيري، الحاشد أيام عاشوراء يتطلّب قدرة خطابية فائقة، للسيطرة على جمهوره وشدّه إليه. وعلى الخطيب الحسيني، أنْ يكون متهيّئاً لكل طارئ في أثناء خطبته، ماذا يصنع إذا

____________________

(1) البعيني، حسن أمين: العادات والتقاليد في لبنان، ص193.

٢٧٧

انقطع التيار الكهربائي؟ وكيف يخاطب جمهوره ليبقي على حالة الانشداد إليه؟ كيف يتصرّف الخطيب إذا دخل المجلس، عالم كبير أو شخصية مرموقة جدّاً؟ كيف يتعامل الخطيب، مع خطيب آخر إذا حضر في مجلسه؟

وغير ذلك من احتمالات، وموارد تحتّم على خطيب المنبر الحسيني، أنْ يتمتّع بقدرة كبيرة، وخبرة واسعة، في فن الخطابة الحسينية وأصولها وتقاليدها وأعرافها.

ومن هنا تبرز أهمية، تتلمذ الخطيب الناشئ، على يد خطيب أستاذ متمرّس، يضع بين يديه خبرته، ويبيّن له وصاياه ونصائحه ويحكي له جوانب من تجاربه.

ـ د - مراعاة الحكمة

إنّ الحكمة كما عرّفها البعض، من أنّها (وضع الشيء في محلّه)، وإذا كان كل خطيب، يحتاج إلى مراعاة الحكمة، في خطابته، فإنّ ذلك يبرز بصورة أوضح، وأشد، في خطابة المنبر الحسيني.

إنّ المنبر الحسيني يخاطب شرائح متنوعة من المجتمع، ويحضر المنبر مستويات متباينة من الناس، كما يعقد في ظروف مكانية وزمانيّة واجتماعيّة مختلفة. ولمناسبات وأغراض كثيرة.

وعلى خطيب المنبر الحسيني، أنْ يكون حكيماً في خطابته، مراعياً الظروف المكانيّة والزمانيّة من جهة، وتنوّع المستمعين من جهة أخرى، وتباين مستوى تلقّيهم، من جهة ثالثة، وانسجام حديثه مع نوعيّة المناسبة من جهة رابعة..

وكأمثلة على ما ذُكر أعلاه، نورد ما يلي:

٢٧٨

1) دُعي الخطيب المعروف الشيخ كاظم سبتي (المارّة ترجمته، في نهاية الفصل الثالث) للقراءة في منزل أحد السادة الأشراف، في النجف الأشرف، بمناسبة انتقاله إلى دار جديدة. وإذا بهذا الخطيب، رغم كل خبرته، ومعرفته، يبدأ خطبته، بمقطوعة من خطب الإمام أمير المؤمنين، وهي في ذمّ الدنيا وتبدأ بقوله" (دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، أحوال مختلفة وثارات متصرّفة، العيش فيها مذموم والأمن فيها معدوم..)(1) ممّا جعل صاحب الدار مذهولاًَ يضرب على فخذه، ويردّد: ما هذا الافتتاح يا شيخ كاظم(2) ؟؟ فهنا لم تكن الخطبة مناسبة، لمقتضى الحال، بل هي على عكسها تماماً..

2) ومثال آخر جرى مع الشيخ حسن بن الشيخ كاظم سبتي المذكور أعلاه، حينما كان يقرأ في مجلس مختصر، ليس فيه إلاّ بضعة مستمعين، من طلبة إحدى المدارس الدينيّة في النجف. ولمّا مرّ الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، جلس مع أولئك الطلبة، ليشاركهم في المجلس الحسيني طلباً للثواب. ولكن الخطيب لم يراعِ ظروف مجلسه، وقلّة الموجودين، فراح يطنب في ذكر وصيّة الإمام علي لولده الحسن وشرحها، والتي تبدأ في كل مقطع بـ (بني حسن..) حتى طال وقت المحاضرة، أكثر من المعتاد. ممّا جعل الإمام الشيخ كاشف الغطاء، يبادر إلى ذلك الخطيب ويخاطبه: (بُني حسن، أما أوصاك أبوك، أنّه إذا كان في المجلس ثلاثة مستمعين، فلا تطيل الحديث عليهم؟؟)(3) . وجاء تعليق سماحة الإمام كاشف الغطاء باللفظة نفسها التي كان يستخدمها الخطيب..

____________________

(1) علي الجندي: سجع الحمام في حكم الإمام، ص84.

(2) شبر، السيد جواد: أدب الطف 9/74.

(3) حسن، داخل السيد: معجم الخطباء، 1/34.

٢٧٩

3) ذكر لي أحد أساتذة الخطباء وهو السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب؛ (أنّ خطيباً دعي لقراءة مجلس حسيني في منزل أحد العلماء، وكان جلّ الحضور من العلماء وطلبة العلوم الدينيّة، وإذا بذلك الخطيب يتناول موضوع الخمر، ومضارّها وعقوبة شاربيها.. فانبرى له أحد الحاضرين مؤنّباً.. وهل وجدت في مجلسنا هذا من يشرب الخمر؟؟، ألم تجد غير هذا الموضوع لتتحدّث عنه؟؟ ممّا أربك الخطيب وأفشل المحاضرة)(1) .

هذه هي أهمّ المؤهلات الفنيّة، التي ينبغي توافرها في خطيب المنبر الحسيني، وقد ركّزنا على تلك المؤهّلات، التي يتميّز بها خطيب المنبر الحسيني، عن بقيّة الخطباء، وإنّ كان يشترك معهم، في المؤهلات الفنيّة العامّة، التي لابدّ من اتصاف الخطيب، أي خطيب بها.

ثمّ نأتي الآن إلى الصنف الثالث من المؤهّلات، وهي:

3 - المؤهّلات الرساليّة

إنّ الصنفين الأول، والثاني، من المؤهلات العلميّة والفنيّة، إنّما يوفران شروط الخطابة الناجحة. ويمكن اعتبار ذلك طاقة، لابدّ من توجيهها التوجيه الصحيح، حتى تؤتي الخطابة ثمارها ومنافعها. فتأتي المؤهلات الرساليّة، لتقوم بهذه المهمّة، وهي مؤهلات ضروريّة لكل خطيب رسالي، سواء كان خطيب منبر حسيني، أو خطيب منبر الجمعة، أو أي خطيب ملتزم بأحكام دينه وأهداف رسالته.

فهي إذن من المؤهلات المشتركة بين كل الخطباء الرساليّين

____________________

(1) لقاء شخصي مع الخطيب السيد عبد الزهراء الحسيني، دمشق. 26 رجب 1413هـ 1/1/1993م.

٢٨٠