المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 116136
تحميل: 8217

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116136 / تحميل: 8217
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الملتزمين.

وقد تكون هذه المؤهلات الرساليّة مثل: الالتزام والأخلاقيّة والهادفيّة أكثر ضرورة في خطيب المنبر الحسيني، الذي يخاطب جماهير كثيرة واسعة، وينتقل إلى أماكن ودول متعدّدة، بما قد لا يتوافر لخطيب المسجد.

فالخطيب الرسالي، هو الذي يراعي مسائل هداية الشباب، والتزام المرأة المسلمة، والدفاع عن المظلومين.. وغيرها من الأبحاث التي تنبع من وعي الخطيب وتقديره لحاجة المجتمع إلى موضوعاته ومنبره.

فرق كبير بين الخطيب الناجح، أي الذي يوفّر كل المؤهلات العلميّة والثقافيّة والمؤهلات الفنّية، وبين الخطيب النافع، الذي لا يكتفي بتلك المؤهّلات، بل يزيد عليها، مؤهّلات رساليّة، تجعله يختار الحديث الذي يزيد في الوعي؛ لأنّه خطيب نافع، فالخطيب النافع هو الخطيب الهادف.

إنّ التزام الخطيب، وأخلاقيته، وهادفيّته، ووعيه، أمورٌ أساسيّة لإيجاد المنبر الهادف، الذي يُغني الساحة، وينمّي درجة الوعي ويزيد من التزامها، وتبنّيها لنهج الإسلام وأحكامه.

وكما قلنا، هي مؤهلات من الواجب توافرها في كل خطيب إسلامي، ولكنّها قد تكون أكثر بروزاً في خطيب المنبر الحسيني، لسعة المساحة التي يخاطبها في الأمّة، وتنوّع الساحات واتساع نطاق تحرّكه.

إنّ شدّة ارتباط الخطيب الملتزم بالله تعالى، والتزام تقواه، والعمل من أجل مرضاته، أمورٌ في صدارة ما ينبغي على الخطيب الملتزم والهادف أنّ يتحلّى بها، ويعيش آثارها، في نفسه وسلوكه وخطابته.

٢٨١

إنّ حالة تقوى الله، وصدق الإنسان في التعامل مع ربّه الكريم، وخلوص النيّة وصفائها، من الأُسس بالغة الأهمية في توفيق الخطيب، وانعكاس ذلك على شدّة تأثّر الناس به وبكلامه ومواعظه، ومن ثَمّ ما يذكر من مصيبة الإمام الحسينعليه‌السلام .

نعم (كم من خطيبٍ في مجالس ذكرى مصرع سيد الشهداءعليه‌السلام ، يدفع الناس إلى البكاء، والرّقة بمجرّد مشاهدة هيئته وسمتّه، قبل أنْ يتكلّم)(1) !

هذه هي الشروط والمؤهلات التي ينبغي حضورها في خطيب المنبر الحسيني، وبعضها يشترك فيها مع كل خطيب، والبعض يشترك فيها مع الخطيب الإسلامي، فيما يختص خطيب المنبر الحسيني ببعضها الآخر.

طرق إعداد خطيب المنبر الحسيني

هذه هي النقطة الثالثة، في هذا المبحث المتعلّق بخطيب المنبر الحسيني المعاصر، وبها ينتهي الفصل الرابع من هذه الرسالة إنْ شاء الله تعالى.

فبعد أنْ جلنا في عالم المنبر الحسيني، ووقفنا على كثرة مناسباته ومواسمه، وسعة امتداده وحضوره، وما ينبغي أنْ تتوافر، من أوصاف ومؤهلات في خطبائه، لابدّ أنْ يقفز إلى الأذهان سؤال يفرض نفسه، وهو: كيف يتم إعداد خطيب المنبر الحسيني؟ وما هي الطرق المتّبعة لإعداده؟ وهل هناك جهة أو جهات، متخصّصة بتهيئة خطباء المنبر الحسيني؟

____________________

(1) المظفر، محمد رضا: المنطق، 3/373.

٢٨٢

خاصة، إذا تأمّلنا العدد الكبير للخطباء، فهناك المئات منهم في العراق وربّما وصلوا إلى بضعة آلاف. وفي مناطق الخليج العربية لاسيما البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية، يشكّل خطباء المنبر الحسيني طبقة اجتماعيّة - دينيّة بارزة، وفي لبنان تتّسع يوماً بعد يوم دائرة الشباب وطلبة العلوم الدينيّة الذين يرتقون أعواد المنبر الحسيني بشكل واضح. أمّا في البلاد الشيعيّة غير العربيّة فحدّث ولا حرج، حيث ينقل، إنّ عدد خطباء المنبر الحسيني في بلاد الهند وحدها يصل إلى عشرين ألف خطيب حسيني!!(1) . (فإذا كانت الحواضر الإسلامية، قد شاركت النجف الأشرف في إقامة حوزات علمية كبيرة، فإنّ النجف الأشرف انفردت بتخريج آلاف الخطباء الحسينيين الذين غطّوا العراق - على كثرة مجالسه - ويملأون الخليج بأسره، ويذهب البعض منهم إلى أفريقيا، وبعض الدول الأوروبيّة)(2) .

وسبق لنا أنْ ذكرنا في موضوع (الحسينيّة) وجود (3500) حسينيّة في البحرين وحدها ممّا يستلزم كثرة خطباء المنبر الحسيني.

ونعود إلى سؤالنا، كيف يتم إعداد هذا العدد الكبير من خطباء المنبر الحسيني؟ للإجابة عن هذا السؤال، نذكر الطرق المتّبعة في عملية الإعداد والتي تختلف في سعتها قوةً وضعفاً، تبعاً لعدّة عوامل كما سيأتي بيانها:

1 - طريقة التلمذة (التصنّع)

إنّ أخذ التلميذ عن أستاذه ومعلمه أسلوبٌ قديم، نشأ عليه علماء المسلمين في مساجدهم ومعاهدهم العلميّة، حيث كان يتّجه

____________________

(1) مجلّة الموسم، 7/831.

(2) دخيل، علي محمد علي: نجفيّات، ص42.

٢٨٣

طلاب العلم من أقاصي الأرض، إلى حيث يوجد هذا العالم أو يحاضر ذاك.

والطريقة التقليديّة المتّبعة، في إعداد خطباء المنبر الحسيني، هي ملازمة التلميذ، الذي يريد أنْ يكون خطيباً حسينياً، لأحد كبار خطباء المنبر الحسيني، حيث يتعلّم منه، ويأخذ منه أصول هذه الصناعة ودقائق هذه الخطابة.

وتسمّى بطريقة (التلمذة) أو التتلمذ، وبالمصلح الشعبي العرابي بـ (التصنّع) ويسمّى التلميذ صانعاً. والتصنّع الذي هو أخذ الصنعة، مصطل فصيح معناه في اللغة مأخوذ من (اصطنع)، فإذا قيل: اصطنع فلان خاتماً، إذا سأل رجلاً أنْ يصنع له خاتماً والمصانعة: أنْ تصنع لشخص شيئاً، ليصنع بدوره لك شيئاً(1) .

وهذا المصطلح مضطرد، في كل حرفة في العراق، فالغلام الذي يبعثه أهلُه، لتعلّم الحدادة يقال له صانع حدّاد، وعند النجّار يسمّى صانع نجّار وانسحب هذا المصطلح، بدوره على من يقصد أستاذاً مِن أساتذة المنبر الحسيني، طالباً تعليمه فن الخطابة الحسينية، فيسمّى صانعاً لذا الخطيب أو ذاك.

فإذا ما أراد أحدهم التخصّص في الخطابة الحسينية، فإنّه يعتمد إلى اختيار أحد الخطباء المتمرّسين والمعروفين، فيقوم بملازمته في مجالسه، يأخذ بتوجيهاته، ويحفظ ما يطلبه أستاذه منه، وهو في كل ذلك يحضر دروساً عملية منه حينما يرتقي المنبر.

هذا وقد أجريت مقابلات، مع بعض خطباء المنبر الحسيني المبرزّين، وهم خطباء عراقيون مقيمون في دمشق، لمزيد من توضيح

____________________

(1) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، 8 / 209، 212.

٢٨٤

لهذه الطريقة، التي يعود إليها الفضل، في إعداد أبرز خطباء وأساتذة المنبر الحسيني اليوم.

وبدأت بسؤال الدكتور أحمد الوائلي، وهو يعدُّ أبرز خطيب حسيني في عصرنا هذا، وسألته عن طريقة التلمذة، أو التصنّع فأجاب( وهي أنْ يختار الفرد أو أهله، خطيباً للتتلّمذ عليه، من الذين يرونهم بارزين في هذا الميدان. وغالباً ما كان الخطيب، لا يردّ من يرد عليه من التلامذة؛ لأنّ الخطيب يكتسب بذلك مكانة، حيث إنّ كثرة تلامذته تعني ارتقاء منزلته، وكذلك التلميذ، فقد يكون له عدّة أساتذة) فبادرته بالسؤال، وكم أستاذ كان لكم؟ فأجاب: (كان التتلمذ على ثمانية أساتذة) منهم الخطباء: محمد علي قسّام(1) ، والسيد باقر الموسوي(2) ، (المعروف بسيلمون) والشيخ جواد القسّام(3) ) (4) .

ثمّ حوّلت رحلي إلى خطيب آخر، من أساتذة المنبر الحسيني، وهو الشيخ جعفر الهلالي وسألته عن طريقة التلمذة

____________________

(1) محمد علي القسام: بن الشيخ حمّودي بن خليل، ولد في النجف الأشرف سنة 1290 هجرية تعلّم وقرأ المقدمات، ثمّ برع في الشعر والأدب، اتجه إلى الخطابة، وهبه الله حافظة قويّة وصوتاً عذباً وطريقة حسنة، ثار مع العلماء المجاهدين، ضد المستعمر الانجليزي، سكن بغداد حتى وفاته عام 1373. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف 3 / 1000).

(2) السيد باقر الموسوي بن تقي بن سليمون: ولد في النجف الأشرف سنة 1317 هجرية. ونشأ فيها، وحضر مجالسها، واتصل بخطبائها، عرف بمجالس الوعظ والإرشاد ويُكثر من استشهاده بخطب نهج البلاغة، كان أستاذاً لعدّة خطباء توفّي في النجف 1371 هجرية. (المرجاني، حيدر: خطباء المنبر الحسيني، 1 / 134).

(3) الشيخ جواد القسّام: بن الشيخ جاسم بن خليل الخفاجي، ولد في النجف الأشرف عام 1326 هجرية، وأخذ العلم عن أساتذة النجف ومدرسّيها، كان منبره ساحراً ومؤثّراً في الناس. عالم وأديب وشاعر، توفي في أواخر الستينيات الميلادية. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 3 / 999).

(4) لقاء شخصي في دمشق. 8 رجب 1412 هـ، 7 / 1 / 1993.

(5) الشيخ جعفر بن الشيخ حميد بن إبراهيم الإحسائي الهلالي النجفي، ولد في البصرة عام =

٢٨٥

هذه، فقال: (يقوم والد التلميذ - عادة - باختيار الخطيب الأستاذ الجيّد، ذا الدين، وبتطوّر طالب العلم، وقيامه بالمهام التبليغيّة، يقترح عليه أن يتوجه إلى الخطابة فينفرد عن أستاذه). وسألته كيف أخذتم الخطاب فقال: (نشأت في التصنّع عند أستاذ، لعدم وجود الكتب والأشرطة ولقلّة الخطباء)(1) . وبعدها سألت أستاذاً ثالثاً من أساتذة المنبر الحسيني، وهو السيد طاهر ملحم الحسيني(2) فأجاب عن سؤالنا أعلاه:

(إنّ والد الخطيب الجديد (التلميذ) يسلّم ولده لأحد الخطباء الجيدين، فيعطيه الأخير قصائد مع تحريكها ليسلم نطقه، ويكون ذلك بدون مقابل (مجاناً)، وبعد فترة يعتمد فيها عليه، ينفصل عنه، فتكون بدايته بسيطة، ثمّ يتطوّر حسب قابليّته)(3) .. ومن دمشق إلى مدينة بيروت، حيث التقيت الخطيب الحسيني الذي كان الخطيب الأبرز وأستاذ المنبر، في لبنان لما يقارب الثلاثين عاماً، وهو المرحوم الشيخ عبد الوهاب الكاشي(4) ،

____________________

= 1351 هجرية. أخذ مقدمات العلوم وانتقل إلى النجف. برز كخطيب ناجح وشاعر متميّز ومتتبّع معروف، تخرّج من كلية الفقه بالنجف سنة 1964م. (ارتقى المنابر في العراق وبلدان الخليج) (المرجاني، حيدر: خطباء المنبر الحسيني، 1 / 164).

(1) الخالدي، فيصل: المنبر الحسيني في العراق، ص94. دمشق 24 رجب 1413.

(2) طاهر بن السيد حسن بن السيد ملحم الحسيني، ولد في النجف سنة 1353 هجرية. نشأ في النجف ودرس وترعرع فيها، أخذ الخطابة عن أبيه، خرّيج كلية الفقه في النجف، له عدّة مؤلّفات ولا يزال يمارس الخطابة في الخليج. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 2 / 505).

(3) الخالدي: فيصل: المنبر الحسيني في العراق، ص94. دمشق 19 جمادي الثاني 1412.

(4) الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ عبد الحسين الكاشي النجفي، ولد في البصرة سنة 1344 هجرية. ثمّ انتقل مع والده الذي كان من الخطباء المعروفين - إلى النجف ودخل مدارس منتدى النشر، وحضر عند مجموعة من العلماء والأساتذة، حتى برز خطيباً مفوّها، وهبه الله عذوبة صوت وحسن إلقاء، دعي إلى مدينة صور لأوّل مرة سنة 1959م، ثمّ تواصل حُضور إلى لبنان حتى استقر فيه من سنة 1971م حتى وفاته عام 1997 ببيروت، وكل خطباء المنبر الحسيني اللبنانيين اليوم، يأخذون بطريقته وأسلوبه الخطابي. (المصنف).

٢٨٦

فوضّح تجربته في طريقة التلمذة، التي نشأ عليها (إنّ التلمذة تعني ملازمة أستاذ من الخطباء المرموقين، وقد كان أستاذي هو عمي الخطيب الشيخ محمد الذي كان يقول لي: انظر لي كيف أقرأ.. إذا صعدت فاصعدْ، وإذا نزلت فانزلْ.. أي اقتبس منّي.. وبهذا يقوم التلميذ بتقليد الخطيب الأستاذ في إنشاد الشعر، ويقلّد خطيب آخر في كيفيّة طرح الموضوع، ومع اجتماعهما يتولّد خطيب جديد.. وكنت أحضر كل ليلة ثلاثة مجالس على الأقل، حيث أقرأ المقدّمات (أي القصيدة والنعي)(1) ، ويقوم التلميذ بقراءة القصيدة واقفاً، وأستاذه جالس على المنبر.. ويتدخّل الأستاذ فيقول: ارفع صوتك أو اخفضه، أو أعد البيت. ويقوم التلميذ باستنساخ القصائد من المجموعة(2) الخاصّة بالأستاذ، ثمّ يقوم بعرضها عليه ويأخذ ملاحظاته).

ثمّ نعود إلى الشيخ جعفر الهلالي، وهو يبيّن كيفيّة تحرّك التلميذ أو التلاميذ، مع أستاذهم (فإذا حلّ الموسم الخطابي، فإنّ الخطيب حينما يُدعى إلى منطقة ما، فإنّه يستصحب معه تلميذه أو تلامذته الذين يكونون عنده، وقد يكون عددهم من 3 - 5 تلاميذ، يستصحبهم ليقوموا بقراءة المقدّمات قبله، في المجالس اليوميّة التي يعهد إليه إحياؤها، فترى الخطيب الأستاذ، يوزّع تلامذته على مجالسه لهذه المهمّة)(3) .

واستصحاب الأستاذ لتلميذه إلى مجالس في مواسم المنبر الحسيني، إنّما يكون بعد أنْ يطلب الأستاذ منه أنْ يحفظ مجموعة من القصائد مع تشكيلها وتحريكها، ثمّ يتعلّم بعد ذلك كيفيّة الأداء

____________________

(1) لقاء مع الشيخ عبد الوهاب الكاشي، قبل وفاته بشهر من 14 شوال 1417 هـ. بيروت.

(2) المجموعة: دفتر خاص بكل خطيب، أشبه شيء بالكشكول، يجمع فيه الخطيب، أفضل ما يجده من قصائد ومعلومات، وشواهد أدبية وتاريخية، ممّا يعينه على خطابة المنبر الحسيني.

(3) مصدر سابق.

٢٨٧

وأسلوب الإنشاد، متأثراً إلى حدّ كبير بطريقة أستاذه في الإنشاد، ويتقن الأطوار المتّبعة في الشعر الرثائي الحسيني، فإذا ما أتق التلميذ ذلك، صاحب أستاذه إلى مجالسه التي يلتزمها، فيكون هو أوّل من يشرع بقراءة القصيدة، ثمّ يتبعها بأبيات نعي باللغة الشعبية العراقية (وأحياناً البحرانيّة) ثمّ ينتهي دور التلميذ، ليبدأ الأستاذ بعده بطرح موضوعه الذي يريد طرحه، وأمّا التلميذ، فإنه يجلس ليصغي إلى أستاذه، فيأخذ منه ويتابع حركته، وأسلوبه الخطابي، ويسجّل الملاحظات، حتى نهاية محاضرته بفقرتي التخلّص والمصيبة.

ويقول الخطيب الحسيني داخل السيد حسن(1) ، في مقابلة لي معه في دمشق: (قد يبرز أحد التلامذة بقراءة القصيدة، وإنشادها قبل الأستاذ، بحيث إنّ أصحاب المجالس يدعونه شخصياً لقراءة المقدّمات قبل الخطيب. فهناك دعوة موجّهة إلى التلميذ ودعوة أخرى وجهة إلى أحد الخطباء(2) ).

وكما يستفيد التلميذ من أستاذه، خطابته وطريقته، بل وتعرّفه على المجالس الحسينية وأصحابها فإنّ الأستاذ يستفيد يدروه؛ لأنّ كثرة التلامذة يعني علّو شأنه خطابيّا، ثمّ إنّه يستطيع التزام عددّ أكبر من المجالس، بدون أنْ يشكّل ذلك، إجهاداً على حنجرته وصوته، حيث تولّى تلامذته إنشاد القصائد بأطوارها. وإنشادها هو الذي يستوجب شدّاً واضحاً للأوتار الصوتيّة.

وقد يبقى التلميذ ملازماً لأستاذ، يجد فيه ضالّته، في حين نجد آخرين ينتقلون من أستاذ إلى آخر. وتبقى علاقة الاحترام والأستاذيّة، قائمة بين التلميذ وأستاذه، وربّما ترجمت إلى رعاية الأستاذ في كبره

____________________

(1) تقدمت ترجمته.

(2) لقاء شخصي في دمشق. 2 رجب 1413 هـ.

٢٨٨

وشيخوخته.

إنّ شيوخ خطباء المنبر الحسيني اليوم، وأساتذته هم خريجو طريقة التلمذة هذه.

ويمكن أنْ نذكر إيجابيات هذه الطريقة بما يلي:

1 - يتوافر التلميذ على أفضل قصائد الرثاء الحسيني، وأكثرها شهرة في أوساط المنابر الحسينية وجمهورها، والتي تعود - القصائد - إلى مشاهير الشعراء من قدامى ومحدّثين. يأخذ القصيدة مشكّلة مضبوطة الأداء، وتُتلى بأصل الإنشاد الرثائي وأطواره المعهودة، فينمو بذلك حسّه لأدبي وذوقه الفنّي واستماعه المميّز.

2 - يحظى التلميذ بتوجيه مباشر، من أستاذه، في إعداد المحاضرة، ويدلّه على مصادر المعلومات، ومراجع الشواهد الأدبية والتاريخية. وهو يتابع توجيهاته ويأخذ بملاحظاته.

3 - يدخل التلميذ حقل التجربة العمليّة، ويحصل على الجرأة الأدبية مبكّراً، وهو تحت رعاية أستاذه وحثّه، وبما تُشيعه أجواء المنافسة مع زملائه من التلاميذ الآخرين من فرص للنجاح. إنّ هناك أموراً منبرية، لا يمكن أنْ تكتسب من كتاب نظري، بل تؤخذ من التجربة والتطبيق العلمي، لأسلوب الخطابة الحسينية ودقائق فنونها وتقاليدها.

4 - كما أشرنا سابقاً، إنْ هذه الطريقة؛ تمهّد للتلميذ خطوات المستقبل العمليّة، في أنْ يكون خطيباً ذات يوم، بما يمكّنه تنقّله مع أستاذه من مدّ شبكة العلاقات مع المساجد، والحسينيّات، والوجهاء، والهيئات الأخرى، المشرفة على المنبر الحسيني، فيبدأ بإعداد رصيد اجتماعي مستقبلي.

٢٨٩

وفي نهاية هذه الطريقة، في إعداد المنبر الحسيني، أنقل ما يراه السيد محمد حسين فضل الله في لقاء لي معه في بيروت، من إيجابية هذه الطريقة وهو يستعيد ذاكرته مع الخطباء الكبار، الذين كان يحضر منابرهم أيام إقامته ودراسته في النجف فيقول:

(وأستطيع أنْ أعطي عن كل خطباء تلك المرحلة سواء الشيخ محمد علي قسّام، أم الشيخ محمد الكاشي، أم الشيخ جواد القسّام.. إنّهم كانوا يملكون فنّ الخطابة، باعتبار أنّ خطابتهم لم تكن مبادرة ذاتيّة، من خلال عناصر الشخصيّة والثقافيّة التي يتمتّعون بها، ولكنّهم كانوا يتتلمذون على أساتذة في أسلوبهم الخاص، بما جعلهم يمتلكون الجانب الفنّي من الخطابة، بحيث إنّك تستطيع عندما تجلس تحت منبر هؤلاء أنْ تطمئن إلى أنّهم لن يخرجوا عن الموضوع، وإلى أنّهم لنْ يعيشوا في متاهات يشعرون فيها بالضياع، على اعتبار أنّهم كانوا يكتبون موضوعاتهم، وعلى الأسس الفنّية التي تلّقوها من أساتذتهم، وبذا كانوا يمثّلون الامتداد الثقافي لفنّ قراءة التعزية، الذي تطوّر على مدى التاريخ، على حسب طبيعة المرحلة الثقافية.

بينما نلاحظ في الكثير من الخطباء المُحْدَثين، أنّهم لا يتقنون فن الخطابة، واحدهم قد يملك ثقافة، ولكنّك تتصوّره حينما يصعد المنبر، تماماً كأي إنسان خطيب يخطب خطبة حماسية أو ما إلى ذلك. وحتى الذين يستغرقون في مسألة المأساة الحسينية، فإنّك لا ترى عندهم الأسلوب الفنّي، الذي يجعلهم يختارون القصيدة التي يقرؤونها، وأبيات النعي التي يثيروها، وتوزيع عناصر المأساة على مفرداتهم الخطابية، ومن هنا فإنّك تشعر مع الخطباء، الذين لم يتتلمذوا على أساتذة، أنّهم قد يتيهون، وقد يضيّعون السامع، وقد يجلبون الملل)(1) .

____________________

(1) لقاء شخصي في بيروت.

٢٩٠

2) طريقة البناء الذاتي

أخذت الطريقة القديمة، في إعداد خطباء المنبر الحسيني (التلمذة)، بالضمور شيئاً فشيئاً، منذ ما يقارب من نصف قرن مضى. فبعد أنْ ازدادت دور النشر الحديثة، وما ترتّب عليها من وفرة المصادر التاريخية والأدبية، والتراجم من جهة، واهتمام بعض خطباء المنبر الحسيني، بإصدار مؤلّفات تتضمّن ترتيب مجالس حسينية كاملة، يمكن أنْ يعتمد عليها بعض مَن يريد، أنْ ينطلق في أجواء المنبر الحسيني، من جهة أخرى، إضافة إلى مصنّفات ضمّت أشر القصائد الرثائية من الشعراء القدامى والمعاصرين.

كما أنّ الأجهزة الصوتيّة، ولاسيما أجهزة التسجيل، من جهة ثالثة قد وفّرت تجارب حيّة لخطب المنابر الحسينية. وفيها تتّضح، نبرات صوت الخطيب وطريقة الخطابة، واختيار الكيفيّة المناسبة، والطور الملائم لإنشاد الشعر الرثائي، بنوعيه: القريض والشعبي. وبما يحفظ شريط التسجيل، من معلومات، وشواهد، وأفكار. كل ذلك وفّر مادةً فنّية جاهزة، أمام تلامذة المنبر والخطباء المبتدئين، تتظافر مع وفرة الإنتاج، في عالم المكتبات؛ ممّا أسهم في تهيئة مواد أساسيّة، ومهمّة تعين من يجد في نفسه قابليّة ورغبة في انتهاج سبيل خطابة المنبر الحسيني.

وقد مرّ بنا في اللقاء السابق، مع الخطيب الأستاذ الشيخ جعفر الهلالي، بأنّه اتجه إلى التلمذة، باعتبارها طريقة، كانت تعتمد، لعدم وجود الكتب والأشرطة (أشرطة التسجيل). ولقد رأيت شخصيّاً، بعض كبار خطباء المنبر الحسيني، لا يسمحون لأحد بتسجيل محاضراتهم ومجالسهم. ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ ما يجهدون أنفسهم في اقتناصه من الشواهد، أو ما يعصرون أذهانهم من أفكار، سوف لن

٢٩١

يعود مختصّاً بهم، بل قد يصل هذا العطاء إلى مَن ليس أهلاً له.

وطريقة البناء الذاتي، هي الطريقة المتوفّرة حاليّاً، حيث إنّ مواد خطابة المنبر الحسيني، موجودة بشكل كبير واسع، فهناك المئات من أشرطة التسجيل للمشاهير من خطباء المنبر الحسيني، بل إنّ بعض أصحاب محلات التسجيل، راحوا يعتنون في أعداد الأشرطة، حيث يجمعون مقتطفات من القصائد الرثائيّة، وأبيات النعي التي تنشد في أول فقرات المنبر الحسيني (القصيدة)، لكل خطيب من خطباء المنبر الحسيني المشهورين، والمجيدين لطرق الإنشاد النوح، حتى إذا لم تكن محاضراتهم بالمستوى المطلوب. حيث يستفاد من طرق الإنشاد والنعي. إنّ هذه الأشرطة المسجّلة تسهم كثيراً في توفير (المؤهلات الفنّية) المطلوبة.

إنّ طريقة البناء الذاتي تعني، أنْ يعتمد المرء على نفسه في إعداد المحاضرة وتهيئة أبيات الرثاء الحسيني، مستفيداً من التجارب الحيّة، المسجّلة، أمامه؛ إمّا في الكتب المطبوعة، وإمّا في الأشرطة المسجّلة. وفيها طرق وأطوار، وكيفيّة استخدام النبرات الصوتية في تصوير الفاجعة، وإذكاء حالة الحزن، وصولاً إلى إحداث الانفعال النفسي بالبكاء.

كما ينبغي على الخطيب المبتدئ أنْ يحضر بصورة مباشرة مجالس خطباء المنبر الحسيني، في المساجد والحسينيّات والأماكن الأخرى وكله آذان صاغية لهذا الخطيب أو ذاك وهو يتابع محاضرته، واستخدامه للشواهد وأسلوب خطابته، حتى وصوله فقرة التخلّص وانتهائه بفقرة المصيبة. ويمكن كذلك لأشرطة التسجيل المصوّرة إنْ توفّر بعض هذه الجوانب.

إنّ من الأسباب التي أدّت إلى ضمور طريقة التلمذة السابقة، وبروز طريقة البناء الذاتي، غياب ظاهرة استصحاب الخطباء الكبار

٢٩٢

لمجموعة من الطلاب المبتدئين في المواسم التبليغية، ولاسيما في شهر محرّم.

وممّا أسهم كذلك في ضمور طريقة التلمذة (الطريقة التقليدية)، الأوضاع السياسية الشديدة في العراق، والظروف القاسية التي عصفت بالحوزة العلمية في النجف الأشرف بالخصوص، والتي أدّت إلى غياب مشاهير خطباء المنبر الحسيني عن الساحة وتشتتهم في المهاجر، ممّا أدّى إلى فقدان الظروف الموضوعية والحالة الاجتماعية الدينيّة، التي كانت تشجّع على التلمذة ومتابعة الأستاذ الخطيب في مجالسه.

إذن نستطيع أنْ نُجمل الأسباب التي أدّت إلى بروز طريقة البناء الذاتي بما يلي:

1 - توفّر المصادر والمراجع التاريخية والأدبية، ومصنّفات الخطباء والمجاميع، والدواوين الشعريّة.

2 - انتشار أشرطة تسجيل المحاضرات الحسينية، وأساليب الإنشاد، والنعي، لأشهَر خطباء المنبر وأكثرهم إجادة.

3 - غياب ظاهرة تناوب أكثر من خطيب على منبر واحد. واستصحاب الخطباء تلامذتهم معهم.

4 - الأوضاع السياسيّة والأمنيّة القاهرة.

ويثبت الواقع، أنّ القليلين ممّن اعتمد طريقة البناء الذاتي، قد أعطى مسألة التتبّع والتدرّج والتدريب أهميتها، حتى يكون أهلاً لارتقاء المنبر. ولهذا يتألّم كبار الخطباء من ظاهرة البروز غير الناضج، لبعض من يدّعي أهلية الخطابة الحسينيّة وهو غير مؤهّل لها. يقول الدكتور أحمد الوائلي: إنّ مثل أولئك (كمن يخرج من البيضة، كاملاً

٢٩٣

مكمّلاً، ولا يمر بأي مرحلة من المراحل وما عليه سوى أنْ (يدرخ)(1) بعض (الكاسيتات) لبعض الخطباء الناجحين بالساحة ويشفعها بشيء من الادّعاءات والعبارات المعلّبة، التي هي الأخرى تُقتبس وتقرأ دون فهم معناها، وبعد ذلك قد يحتل مكاناً في الساحة، على حساب الأصالة والفن)(2) . ولا تبدو الصورة قاتمة دائماً في عموم الخطباء، الذين اعتمدوا طريقة البناء الذاتي، حيث تشهد ساحة الخطابة الحسينية حاليّاً، نخبة جيّدة من الخطباء الذين برزوا، ولم يكونوا قد اعتمدوا على ملازمة أستاذ منبري. وفي هذه النخبة من الخطباء، مجموعة من خرّيجي الجامعات والدراسات الحديثة، الذين اتجهوا بعد ذلك للمنبر الحسيني، فأبدعوا في ذلك وبرزوا كخطباء موازين للخطباء المعروفين، مستفيدين من ثقافتهم العصرية والأسلوب الأكاديمي في البحث وطرح الموضوعات.

فالأمر يبدو وإلى حدٍّ بعيد، يعتمد على نفس الراغب بالخطابة الحسينيّة، فليس كل من تتلمذ على خطباء كبار أبدع وتميّز، ولا كل من اعتمد طريقة البناء الذاتي تخلّف وتأخّر.

ومن شباب الخطباء الذين اتّبعوا طريقة البناء الذاتي، وبرزوا كخطباء معروفين في ساحة الخطابة الحسينية اليوم،الشيخ عامر الكوفي (3) ؛ الذي وجّهت إليه بعض الأسئلة، أثرتُ فيه الأسباب التي

____________________

(1) دَرخْ: لفظة عاميّة عراقيّة تعني الحفظ، عن ظهر قلب، بدون فهم المعنى، فإذا قيل هذا درّاخ فمعناه، حفّاظ، ووجدت أنّدَرْبَخَ معناها الإصغاء إلى الشيء (ابن منظور، لسان العرب، 2 / 15) ولعلّها مصحّفة عنها.

(2) الوائلي، أحمد: تجاربي مع المنبر، ص90.

(3) الشيخ عامر بن عبد الله، أبو حيدر، ولد بمدينة الكوفة 1953 أنهى دراسة الثانوية في النجف الأشرف ودراسته الجامعيّة ببغداد، هاجر إلى قم للدراسة الدينيّة علم 1980 ثمّ تخصّص بالخطابة الحسينية، حتى برز فيها، نال شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية بتقدير ممتاز بكلية الإمام الأوزاعي ببيروت، له منابر في بلدان إسلامية عديدة وبعض بلدان المهجر، مدرّس في حوزة المرتضى بدمشق. (من المترجم له).

٢٩٤

يراها قد هيّأت منه خطيباً حسينيّاً ناجحاً، فذكر أنّ هذه الأسباب - بعد أنْ أكّد أنّه لم يدرس عند أحد من الخطباء ولم يشترك في دورة خطابية - هي ما يلي:

1 - وجود الثقافة الإسلامية الموسوعية، المادة الأساسيّة في نجاح الخطيب الحسيني، فقد نشأت في بيئة، منابرها عامرة ومنابرها زاخرة.. وانفتحت على المكتبة الإسلامية، وأخذت أقرأ كتبها بنهم، فحين تخرّجت من الجامعة كنت قد قرأت دورة تفسير كاملة للقرآن الكريم، وموسوعة شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، ودورة كاملة في التاريخ الإسلامي، وسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموسوعة الغدير للعلامة الأميني..

2 - القدرة الخطابية والإحاطة بالأطوار الحسينية.. حيث درجت منذ الصغر، على حضور المجالس، واستمعت إلى الكثير من الخطباء المشهورين، واستمتع أكثر بمجالس الأستاذ الدكتور أحمد الوائلي، حيث تأثّرت بخطوط منهجه، وأُسلوب عرضه وفن أدائه.. وكنت قد حفظت كثيراً من الشعر الحسيني - العمودي والشعبي - وبالأطوار المناسبة، التي أخذتها عن ألسنةِ الخطباء المشهورين، ساعدني في ذلك طبيعة نبراتي الصوتيّة.

3 - خدمة الإسلام بالكلمة والموعظة الحسنة. لكي ينجح الخطيب في مسؤوليته الرسالية، لابدّ من توافر الدافع الذاتي، والحبّ الشديد للخطابة، حتى يتفاعل معها بقوة وإخلاص.. ولقد امتلكني شعور بالمسؤولية الدينيّة، وأيقنت أنّ الأمّة بحاجة إلى مبلّغين واعين، وإنّ المنبر الحسيني وسيلة إعلاميّة خالدة.. وهكذا اتّجهت نحو المنبر الحسيني مع تشجيع العلماء والرساليين، فتوفّقت بحمده تعالى لأنْ أكون من خطباء المنبر الحسيني)(1) .

____________________

(1) رسالة خاصة من الخطيب الشيخ عامر الكوفي مؤرخة 5 جمادي الثاني 1422 هـ / 24 / 8 / 2001م.

٢٩٥

3) طريقة الدورات الخطابيّة

بعد أن غابت الطريقة التقليديّة، في إعداد خطيب المنبر الحسيني، ولجوء الخطباء المبتدئين، إلى طريقة (الإعداد الذاتي)، برزت الفجوة الواضحة في الطريقة الثانية، من حيث التجربة العمليّة، والتمرين، والممارسة في إنشاد القصائد الرثائيّة، واستخدام الطور المناسب لمقاطع النعي، إضافة إلى امتلاك الجرأة الأدبيّة والاستفادة من التوجّهات والخبرات العمليّة، في هذا الحقل.

ولهذا برزت طريقة (الدورات الخطابيّة)، حينما يدعو لها أحد أساتذة المنبر الحسيني، أو يتمّ ذلك بطلب من بعض الخطباء المبتدئين. وبهذه الدورة يأخذ التلميذ، أساليب القراءة الحسينيّة، من أستاذ ويشترك الطالب مع زملاء في تلك الدورة، في محاولة للتعويض عن طريقة التلمذة التي كان يأخذ الخطاب من خلالها، عن أحد الخطباء البارزين.

ويزداد الطلب على الدورات الخطابيّة، عند اقتراب المواسم الكبيرة للمنبر الحسيني. فهناك دورات تعقد في شهر شعبان، أو شهر رجب، في التهيّؤ لموسم شهر رمضان المبارك، ومجالسه ومناسباته. كما وتعظم هذه الدورات الخطابيّة، بشكل واضح، في أشهر الحجّ (شوال، ذي القعدة، ذي الحجّة) استعداداً لموسمي شهري محرّم وصفر.

وتختلف الدورات الخطابيّة، في عدد المنتسبين إليها، فقد تكون محدودةً لبضعة أشخاص، وقد تتّسع للعشرات منهم. وتختلف كذلك في مدّتها، فقد تكن لعشرة أيام وربّما أسبوع، وقد تطول لشهر أو أكثر. إذاً قد تقتصر على مجرد تهيئة عشرة مجالس، بقصائدها وموضوعاتها، وأبيات النعي المناسبة لها، خاصة للعشرة الأولى من

٢٩٦

المحرّم. أو تكون لثلاثين مجلساً أو أكثر. كما وتختلف الدورات في موادّها فربّما اتبع بعض الأساتذة، أُسلوب بيان قواعد عامة للخطابة الحسينية، دون الخوض بمسألة إعداد مجلس خاص، من مجالس المنبر الحسيني، كما يصنع ذلك الآخرون.

وقد جمعت طريقة (الدورات الخطابيّة) بين طريقتي التلمذة والبناء الذاتي.

كما وفّرت هذه الطريقة، مجالاً عمليّاً للخطيب المبتدئ، إذ قد يُطلب من طلاّب الدورة أن يهيئ كلٌّ منهم، مجلساً مختصراً، يُقرأ أمام طلاب الدورة وأستاذها، وهو ما كان محروماً منه في طريقة البناء الذاتي.

ولدى تتبّعي لتاريخ الدورات الخطابية، تهادى إلى سمعي، أنّ أول دورة أقيمت كانت في النجف الأشرف، من قبل أحد أبر خطباء المنبر الحسيني، وهو الخطيب الشيخ عبد المجيد الصيمري البصري(1) ، والمقيم حالياً في كندا، فبعثت إليه بكتاب، أسأله فيه أن يتفضّل بتوضيح مهمة (دورة الخطابة الحسينية)، التي اشرف عليها، والظروف المحيطة بتلك التجربة الجديدة آنذاك، فأجاب مشكوراً، بكتاب كريم، بيّن فيه أنه في نهاية الستينات، من القرن العشرين الماضي، فاتح أستاذه السيد حسين بحر العلوم(2) بنيّته في افتتاح (دورة

____________________

(1) الشيخ عبد المجيد بن الشيخ عبد الكريم الصيمري البصري، ولد في محافظة ذي قار في جنوب العراق عام 1931م، نشأ طالب للعلم وخطيباً منذ نعومة أظفاره، هاجر إلى البصرة عام 1949م، ثمّ إلى النجف عام 1961، وأكمل دراسته في كلية الفقه. خطيب رسالي من أساتذة المنبر الحسيني ومن روّاد الحركة الإسلامية في العراق، اوذيَ في الله تعالى كثيراً، هاجر إلى كندا عام 1990م وما زال يمارس خطابته وإرشاده الديني هناك / من مؤلّفاته: الزواج الإسلامي، في ظلال السيرة بجزأين. (السيد حسن، داخل: معجم الخطباء، 2 / 237).

(2) السيد حسين بن محمد تقي بن حسن بن إبراهيم الحسني الطباطبائي، من أسرة آل بحر العلوم العريقة، ولد في النجف عام 1348 / 1928م، عالم بارز وأديب ملتزم وشاعر محقّق، =

٢٩٧

للخطابة الحسينية) بشرط أنْ يكون مّن يودّ الانتماء لهذه الدورة الخطابية، طالباً في الدراسات الدينيّة (الحوزة العلميّة)(1) . ليكون (الخطيب هو العالم، والعالم هو الخطيب) كما ذكر في كتابه. وتمّ الإعلان عن قرب افتتاح هذه الدورة، فاتّصل به ما يقارب الثلاثين، من الشبّان منهم من كان يمارس خطابة المنبر الحسيني في بداياتها، ومنهم، من لم يرتق أعواد المنبر الحسيني.

ثمّ إن الشيخ عبد المجيد الصيمري، حدّث المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر(2) ، بشأن تسهيل قبول طلاب هذه الدورة، من غير المنتمين للحوزة العلميّة إليها، حتى يكون كل طلاّب الدورة الخطابيّة، هم في الوقت نفسه، طلاّباً في الدراسات الدينيّة الحوزويّة. بحكم موقع السيد محمد باقر الصدر آنذاك، في جهاز

____________________

= نشأ في أجواء الدراسات الإسلامية الحوزوية وبرز فيها، أسس مكتبة العلمين في النجف، له عدّة آثار وديوان شعر، برز أخيراً في مقدمة علماء النجف ومراجعها توفّي عام 1422 هجرية 2001 م في النجف ودفن فيه (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 1 / 215).

(1) لا يُشترط أنْ يكون خطيب المنبر الحسيني طالباً في الدراسات الدينيّة الحوزويّة، حيث إنّ الكثيرين من الخطباء، كانوا يبدأون حياتهم كتلامذة لأحد الخطباء المعروفين، حتى يصل إلى الاستقلال، والخطباء، كانوا يكتفون بالدراسات اللغوية بما يعينه على تخصصه عُرف الخطباء بصغر عمائمهم وتخفيف لحاهم، وكان الأمر لا يخلوا من منافسة أو عدم انسجام بين الفريقين، وفي العقود الأخيرة. أخذت هذه الظاهرة بالضمور، إذ أنّ أغلب الخباء الجدد طلبة وعلماء في الدراسات الحوزويّة.

(2) السيد محمد باقر بن إسماعيل الصدر العاملي الكاظمي، مفكّر إسلامي فذّ ومجتهد مطلق، وصاحب نبوغ وعبقريّة كبيرين، ولد في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1350 هجرية. ثمّ هاجر إلى النجف وبلغ مرحلة الاجتهاد في العلوم الإسلامية قبل بلوغه العشرين، أغنى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلّفات التي سدّت فراغاً كبيراً، من أشهرها كتابا: اقتصادنا وفلسفتنا، ثنيت له وسادة التقليد والمرجعية، مجاهد لم يخشَ في الله لومة لائم حتى استشهد ببغداد 1400 / 1980م. (الأميني، محمد هادي راجع سابق، 2 / 809).

٢٩٨

المرجعيّة الدينية، ومنزلته المميّزة عند المرجع السيد محسن الحكيم(1) .

وينقل الشيخ الصيمري، مدى سعادة السيد محمد باقر الصدر، وسروره لفكرة دورة الخطابة الحسينيّة، (وحين علم سماحته بذلك، كاد أن يطير فرحاً، وأخذ بالدعاء بالتسديد والتوفيق. وكان يبشّر كافة الشباب بفتح دورة الخطباء، ويحثّهم على الانتماء إليها. كما كان يخبر كل وفد يصل إليه من محافظات العراق، بأنّ دورة للخطباء فُتحت في النجف الأشرف. ويشملها بإطرائه وثنائه، ويعدهم بأنّها، ستخرج الخطباء النافعين الواعين)(2) ، هذا وقد استمت هذه الدورة إلى عام 1971م، ولم تستمر أكثر من ذلك لأسباب عدّة أبرزها الظروف الأمنية الحرجة آنذاك.

هذه هي ظروف وأجواء تلك الدورة الخطابيّة الأولى، وقد أقيمت بعدها دورات كثيرة في مناطق متعدّدة. واليوم، هناك خطباء منبر حسيني، مرموقون، هم من خريجي تلك الدورة الخطابيّة الأولى في النجف الأشرف.

وعادة ما تنتشر هذه الدورات الخطابيّة، في المدن التي تضمّ مدارس دينيّة، وحوزات علميّة، فهناك دورات في مدينة قم الإيرانية، حيث تواجد أكبر حوزة علمية شيعية الآن، وتضم عدداً كبيراً من الأساتذة والطلبة العرب. كما وتوجد دورات أخرى في دمشق، حيث تنتشر اليوم عدّة مدارس دينيّة شيعيّة، في منطقة السيدة زينب، بضواحي دمشق ودورات ثالثة في لبنان، تشرف عليها حوزات وجهات شيعية مختلفة. وفي الملحق إعلان عن افتتاح دورة عزاء حسيي بمدينة بيروت.

____________________

(1) تقدّمت ترجمته.

(2) ضمن الرسالة الجوابية لي من الشيخ عبد المجيد الصيمري. والمؤرّخة في 15 رجب 1419.

٢٩٩

هذه هي ثلاث طرق في أعداد وتهيئة خطباء المنبر الحسيني، فالطريقة الأولى كانت هي الطريقة التقليديّة، وهي أُسلوب التلمذة، ومنها تخرّج كبار خطباء المنبر اليوم. ثمّ الطريقة الثانية، وهي طريقة البناء الذاتي، والتي برزت بعد غياب الطريقة الأولى.

أمّا الثالثة والأخيرة، فهي عبارة عن طريقة تجمع بين الطريقتين، وهي طريقة الدورات الخطابيّة. وبها يكون الخطيب المبتدئ، معتمداً على نفسه في تحصيل أوليّات وأسس الخطابة الحسينية، وهو في الوقت نفسه يعيش تجربة عمليّة مع أستاذ الدورة الخطابية وتلامذتها في الإنشاد الرثائي، واكتساب الجرأة الأدبية ومنافسة زملائه بما عنده من قدرات خطابية علميّة وفنّية.

وبهذا البيان، نكون قد وصلنا إلى نهاية الفصل الرابع، من هذا البحث، والذي جرى الحديث فيه، حول دراسة المنبر الحسيني في عصرنا الحاضر.

بالإضافة إلى أنّ هناك طريقة رابعة لإعداد خطباء المنبر الحسيني، آثرنا أنّ نتحدّث عنها في الفصل الأخير من هذا البحث، وهي طريقة المعاهد الخطابيّة - والتي هي أفكار وأمنيات، أكثر منها واقعية وحقيقة حيّة، ولهذا ستقع ضمن موضوع آفاق مستقبل المنبر الحسيني.

وفي نهاية هذا الفصل، نورد نموذجاً لخطبة منبر حسيني، استكمالاً للبحث، ومن أجل المزيد من التوضيح لعناصر، وفقرات هذه الخطبة، التي ذكرناها في أبحاث هذا الفصل.

نموذج لمحاضرة من محاضرات المنبر الحسيني

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين.

٣٠٠