المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 116106
تحميل: 8217

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116106 / تحميل: 8217
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحسيني في مدينة النجف الأشرف (عُرفت النجف بإقامة المآتم العزائية، ولها الميزة في ذلك على سائر المدن الشيعية. ولا ريب أنّ هذه المآتم تعود على مجتمع النجف؛ بتهذيب الأخلاق، وحسن السلوك، أضف إلى ذلك، ما يلقيه الخطيب من الأحاديث المكمّلة والقصص التاريخية، التي هي مرآة تتجلّى بها الأفعال الطيبة والعادات الجميلة)(1) .

كما لا ننسى، أنّه قد جرت العادة في الأوساط الشيعية، أنْ تختم مجالس تأبين الموتى، بمحاضرة لخطيب المنبر الحسيني، حيث يركز الخطيب في هذه المناسبات، على جوانب الموعظة وذكر الموت، وأهوال يوم القيامة، ممّا له أثر محمود على تربية الناس وهدايتهم من أهل المتوفّى أو أقربائه أو جيرانه... في مناسبات الأسبوع، والأربعين، ومرور سنة أو أكثر على الوفاة.

(فكم هُدى بالمنبر الحسيني من ضال، من أثر ما يسمعه من المواعظ والتذكير)(2) .

3 - الدور الاجتماعي

إن استقطاب المنبر الحسيني، لشرائح مختلفة من المجتمعات التي يعقد فيها، وذلك الحضور الجماهيري الكبير الذي يحظى به، إضافة إلى الدور البارز، لخطيب المنبر الحسيني وتأثيره العميق في

____________________

= العالية في الفقه والأصول. ثمّ انصرف إلى التأليف والبحث والتحقيق وبلغ فيه جهداً مثمراً. توفّي عم 1377 هـ بالنجف من آثاره: تعليقات على كتب: فرائد الأصول، والكفاية والمكاسب. ماضي النجف وحاضرها، المختار من لآئي الأخبار. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف 3 / 1154).

(1) محبوبة، جعفر باقر: ماضي النجف وحاضرها، 1 / 402.

(2) ملاحظات المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب التي بعثها إليّ 8 رجب 1413.

٣٢١

نفوس المستمعين، كل هذه الأمور تهيّئ للمنبر الحسيني دوراً اجتماعياً مهمّاً، فبالإضافة إلى ما يطرحه خطباء المنبر الحسيني من موضوعات اجتماعية وأخلاقية عامّة، تُسهمُ في إشاعة روح المحبّة والتعاون وحبّ الخير، فإنّ في حضور هذه المجالس (تأليفاً للقلوب بالتزاور والاجتماع، والتحادث والتعاون والتعارف)، إضافة إلى( ما فيها من البرّ والمواساة وإعانة الفقراء والضعفاء، بما ينفق فيها من المال والزاد في ثواب الحسينعليه‌السلام )(1) .

نعم فكم (أُسعف في المجالس الحسينية من فقير، وكم بنُيت بفضلها مساجد ومعاهد ومآتم)(2) .

فمن التقاليد الشائعة في أجواء المنابر الحسينية، أنّ يقصد ذوو المشاريع الخيريّة خطباء المنبر الحسيني، كي يحثّوا الناس على التبرّع، والمساهمة في تلك المشاريع، حيث يتصدّى الخطيب لذلك إمّا في بداية صعوده المنبر، أو أثناء المحاضرة، في استثمار الحضور الكبير للناس، وما يعيشونه من أجواء روحية تساعدهم على البذل والإنفاق.

وبتذكّر ما بُيّن في الفصل الرابع، من هذا البحث حينما بحثنا عن الهيئات المشرفة على إقامة المنابر الحسينية، حيث ذكرنا؛ إن هناك مجالس تتبناها أصناف من أهل المهن والاختصاصات، وأخرى لسكان الأحياء والمناطق، وثالثة لأبناء القبائل والعشائر، وكل ذلك يسهُم في تقوية العلاقات، وشدّ الأواصر بين أبناء الاختصاص الواحد أو أهل المنطقة والحي، أو أبناء القبائل والعشائر، ويتمّ كل ذلك في أجواء إيمانية، وروحية تشجّع على الخير والهدى والصلاح.

____________________

(1) الأمين، السيّد محسن: إقناع اللائم على إقامة المأتم - ص318.

(2) من ملاحظات المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب.

٣٢٢

4 - الدور الحركي

لمّا كانت حركة الإمام الحسينعليه‌السلام وشهادته، من أبرز الأمثلة على مواجهة الاستبداد والقهر، ولما تهيّؤه أجواء عاشوراء من زخم جماهيري كبير، وأجواء عاطفية عميقة في التفاعل مع شهادة الإمام الحسين ومواقفه ورفضه للظلم والجور. فقد استغلّت بعض الأحزاب السياسية اللاإسلامية تلك الأجواء الشعبية، من أجل نشر أفكارها الإلحادية وضمّ الشباب إلى صفوفها. بادعاء إنّها حركات ضدّ الظلم كما كانت حركة الإمام الحسين، وذلك أيام غياب الوعي الإسلامي وخلوّ الساحة من الحركيّين الإسلاميّين.

ومع بروز حركات سياسية إسلامية، نشطت في الوسط الشيعي، كان لابدّ أنْ تولي هذه الحركات السياسية الإسلامية، أيام عاشوراء والمنبر الحسيني اهتماماً خاصّاً. وأمامنا نموذج من هذه الحركات السياسية الإسلامية وهو حزب الدعوة الإسلامية(1) في العراق، حيث تذكر أدبيّات هذا الحزب، مدى اهتمامه بالمناسبات الإسلامية، ولاسيما ما يتّصل منها بواقعة كربلاء. ففي موضوع النشاطات الإسلامية جاء: (وموقفنا إزاء المناسبات الإسلامية، التي يحتفل بها المسلمون على مدار السنة، تطويرها فكرياً وتنظيماً، وتوسيع مدارها، بحيث تكون منابر دعوة للإسلام ومظاهر قوة للأمّة، ومجال اتّصال وتعارف بين مختلف المناطق المتقاربة. ويتوقّف هذا على عدة أمور منها: أنْ يكون تخطيط

____________________

(1) حزب إسلامي تأسّس في العراق عام 1957م بجهود مجموعة من العلماء والمثقّفين الإسلاميين وكان المؤسّس هو المفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر. قام بدورٍ كبيرٍ في بثّ الوعي الإسلامي في العراق ومناطق إسلامية أخرى وخاصّة بين المسلمين الشيعة. صدَر في عام 1980 قانون في العراق بإعدام أعضائه والمتعاونين وترويج أفكاره، وبأثر رجعي. (العجلي، شمران: الخارطة السياسية للمعارضة العراقية، ص176).

٣٢٣

الاحتفالات بيد الدعوة، ومظاهر العمل بيد البارزين من الأمّة. وخطباء المنبر الحسيني، منهم من يعي الإسلام، وعلى الدعاة ترويجهم لبثّ الوعي الإسلامي وتهيئة أجواء للدعوة، ومنهم من يسلك السلوك، التقليدي وهؤلاء نرفع مستواهم بقدر الإمكان وبمختلف الوسائل)(1) .

إذن، فقد كان هناك اهتمام، بل تبنٍّ لخطباء المنبر الواعين من أجل بثّ الوعي الإسلامي، وكذلك تهيئة أجواء لضمّ عناصر جديدة، إلى الاتجاهات الإسلامية.

وفي مكان آخر من هذه الأدبيات، يذكر تأثير حزب الدعوة على الحوزة والمجتمع، ومنها بروز خطباء المنبر الحسيني الواعين. وكذلك الإصدارات التي تحلّل ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام وربطها بالمفاهيم الإسلامية.

(ومن آثار الدعوة على الحوزة والمجتمع، ظهور مدرسة جديدة للمنبر الحسيني، ولأحياء ذكرى ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ، حيث تبدّل أسلوب عرض تاريخ الملحمة الحسينية الخالدة. فقد صدرت دراسات متعدّدة تربط ثورة الإمام الحسين - عليه سلام الله - بالمفاهيم الإسلامية، كمثال بارز يحتذيه المسلمون لتصحيح الأوضاع وتغييرها، وإبراز النصّوص الإسلامية الحسينية كمفاهيم للعمل)(2) .

وقمت بتوجيه بعض الأسئلة إلى الأستاذ جواد المالكي(3) ،

____________________

(1) حزب الدعوة الإسلامية - ثقافة الدعوة الإسلامية / القسم التنظيمي / - 1 / 282.

(2) المصدر السابق ص411.

(3) جواد المالكي ولد في محافظة كربلاء عام 1950م أكمل دراسته الجامعية في كلية أصول الدين ببغداد سنة 1973. ثمّ الماجستير في اللغة العربية سنة 1995م. عضو المكتب السياسي لحزب الدعوة الإسلامي منذ عام 1986م. مسؤول مكتب حزب الدعوة الإسلامية في دمشق (من المترجم له).

٣٢٤

عضو المكتب السياسي لحزب الدعوة الإسلامية، منها سؤال وجّهته له، حول اهتمام حزب الدعوة بأيام عاشوراء عموماً والمنبر الحسيني خاصة، بقوله:( إنّ حزب الدعوة ركّز اهتمامه على إيجاد الصِّيَغ البديل، عن التعبير الساذج، فكانت بداية الاهتمام بالمنبر الحسيني، الذي كان هو الوسيلة المثلى في الإعلام والتبليغ، والتصدّي لمظاهر الانحراف. والاهتمام؛ كان تارة في الحثّ على الحضور والإحياء، وآخر بخطباء المنبر وكيفية تأهيلهم وإعدادهم لتحمّل مسؤولياتهم...

فقد تصدّى - فعلاً - للمنبر الحسيني، خيرة الدعاة الذين أصبحوا لامعين في عالم المنبر الحسيني وتشهد الأوساط المهتمّة بالمنبر الحسيني لهم بالفضل، وتحويل المنبر إلى مدرسة عطاء حقيقية، على المستويات الفكرية والعقائدية، وحتى السياسية والتعبوية، وصحّحوا الكثير من الصور المنافية لواقع مدرسة الحسينعليه‌السلام )(1) .

وفي سؤال آخر عن اهتمام حزب الدعوة بإعداد خطباء المنبر الحسيني وتربيتهم فأجاب الأستاذ المالكي: (وأمّا عن اهتمام حزب الدعوة الإسلامية، بإعداد وتربية خطباء المنبر الحسيني فقد سعى في العراق، وفي وقتٍ مبكّر، لتأسيس جماعة المنبر الحسيني الواعي، التي ضمّت خيرة الخطباء، وأكثرهم وعياً وتحمّلاً للمسؤولية، ولكن هذه الجمعية قوبلت بالهجوم من مختلف المواقع الاجتماعية، وحتى الدينية، مثل بعض الحوزات. ومن الطبيعي إنّ الذين ألفوا هذه الممارسات، اعتبروا تطوير المنبر وتنويره وتسييسه، هو إنهاء له وحرف عن مسيرته)(2) .

وبهذا ينكشف وجه آخر، من أوجه تأثير المنبر الحسيني وأدواره، في مجتمعات المسلمين الشيعة، بحيث يكون ضمن أوليات اهتمام الحركات الإسلامية العاملة في تلك المجتمعات. وأنّ من يعيش أجواء عاشوراء، حيث التفاعل النفسي والعاطفي مع الإمام الحسينعليه‌السلام

____________________

(1) (2) رسالة شخصية من الأستاذ جواد المالكي دمشق في 16 / 9 / 2001م.

٣٢٥

وشهادته يدرك بلا ريب، إنّ هذه الأجواء توفّر أجواءً في غاية الخصوبة للدعاة إلى الإسلام، والعاملين من أجل أطروحته في الحياة.

(فأيام عاشوراء من أفضل الأيام من أجل الدعوة إلى الإسلام وأفكاره ومبادئه؛ لأنّ المنبر الحسيني يعتبر موقعاً متقدّماً من مواقع التثقيف الإسلامي، فهو المنبر الذي يجتذب الجماهير الإسلامية اجتذاباً تقليدياً، الأمر الذي منحنا الفرصة للنفاذ إلى عقولهم وقلوبهم، من خلال العنوان الإسلامي الكبير للذكرى فيدفعهم إلى الانفتاح على إسلام الفكرة والحركة والثورة. من خلال انفتاحهم على الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ الذي يمثّل التجسيد الحي لذلك كلّه، فتكون الذكرى مدرسة إسلامية شعبية متنوعة الأبعاد والأساليب، ووسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام)(1) .

5 - الدور السياسي والجهادي

لا غرابة أنْ يكون للمنبر الحسيني دور في التوعية السياسية والأعمال الجهادية، ببداهة أنّ ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت ذات بعد سياسي وجهادي واضح. فقد رفض الإمام الحسينعليه‌السلام البيعة وخرج من المدينة إلى مكّة، وكان يعقد مجالس لأهلها وللحجّاج والمعتمرين، يبيّن فيها ما صنعه الأمويون، ثمّ خرج إلى العراق، بعدما جاءته كتب الكوفيّين حتى أُحيط به فقاتل حتى استُشهِد هوعليه‌السلام ومن كان معه.

لقد بقيَ هناك عنصران ثابتان، في كل أدوار ومراحل المنبر الحسيني، العنصر الأوّل؛ هو الجانب العاطفي والمأساوي في أحداث كربلاء، والعنصر الثاني؛ نقد الوضع السياسي الأموي ومحاكمته. وقد تمتد عمليه النقد لتشمل - أحياناً - الوضع السياسي القائم فعلياً، وذلك

____________________

(1) فضل الله، محمد حسين: من وحي عاشوراء، ص22.

٣٢٦

حسب ظروف وعوامل عدّة.

وقد امتزج حبّ الإمام الحسينعليه‌السلام ، في نفسية الإنسان الشيعي، مع رفضه للظلم واستعداده للتضحية... ولهذا يحاول المتقاعسون، أنْ يُفرغوا ثورة الإمام الحسين من أبعادها السياسية والجهادية، لما يرون فيها من أكثر الأدلّة قوّة على أهمّية هذين البعدين. فـ (لقد كان دور الخطابة خطيراً، وما يزال في أوساط الشعب العراقي، الذي كان يتّخذ من المناسبات الدينية جسراً للعبور إلى قِلاع النظم المعادية للإسلام، والانقضاض عليها بشكل أو بآخر)(1) .

(فكان المنبر ولا يزال موضع رهبة الطغاة والظالمين والحكّام المستبدّين، ولم نرَ الحكومات في العراق، سواء في العهد العثماني أم العهد الملكي أم العهد الجمهوري، أشد خوفاً وحذراً منها - خصوصاً في المناسبات - كعاشوراء. فنراهم يأخذون التعهّدات من أهل المجالس، والكفالات على أهل المواكب (الحسينية)، ويكثرون من تجميع القوات في الأماكن التي يكثر فيها الإقبال على المجالس، والالتفاف حول المنبر)(2) .

والأمر لا يقتصر على العراق والمنابر الحسينية فيه، فهذا الإمام الخميني(3) ، يؤكّد في أحد نداءاته أيام عاشوراء على أنّ (المجالس

____________________

(1) الموسوي، عبد الصاحب: الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره - ص24.

(2) من ملاحظات المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب.

(3) الإمام روح الله الموسوي الخميني مرجع ديني وثائر كبير، وشخصية ملأت الدنيا وطبقت شهرته الأرض. ولد في مدينة خُمَين وسط إيران سنة 1903م وأعلن ثورته على نظام الشاه عام 1962م، ثمّ نُفي إلى تركيا ثمّ النجف الأشرف حتى أخرج سنة 1978 مهاجراً إلى باريس حتى نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م حيث تولّى قيادة الثورة والدولة حتى وفاته في عام 1989م ودفن في مقبرة جنّة الزهراء بطهران بعد تشييع شارك فيه الملايين. (يعقوب، أحمد حسين: الإمام الخميني والثورة الإسلامية في إيران، ص11).

٣٢٧

الحسينية التي تُعقد في ذكرى استشهاد سيد المظلومين والأحرارعليه‌السلام ، هي مجالس غلبة جنود العقل على الجهل، العدل على الظلم، والأمانة على الخيانة، والحكومة الإسلامية على حكومة الطاغوت، وينبغي أنْ تعقد هذه المجالس بروعة وازدهار، وتنشر بيارق عاشوراء الحمراء كرمز لحلول يوم انتقام المظلوم من الظالم)(1) .

وكان لخطباء المنبر الحسيني في إيران، دور كبير جدّاً في توعية الناس وتثويرهم، في مواجهة نظام الشاه حتى تم القضاء عليه. ولهذا كان الإمام الخميني دائماً ما يردّد مقالته التي اشتهرت عنه (إنّ كل ما عندنا هو من عاشوراء)(2) .

ويرى علماء الشيعة، أنّ أئمّة أهل البيت كانوا يريدون إبقاء الروح الثورية والجهادية، في نفوس الأمّة من خلال أحيائها لأيام عاشوراء( وقد بذل الأئمّةعليهم‌السلام جهوداً كبيرة في ربط الأمّة فكرياً وعاطفياً بالثورة الحسينية وبأهدافها ومنطلقاتها، ومن خلال هذا الترسيخ للثورة وأهدافها في وعي الأمّة، وفي وجدانها كان الأئمّةعليهم‌السلام يهدفون إلى تأصيل الحالة الثورية الجهادية والروح الاستشهادية في حركة الأمّة، كما يهدفون إلى ترشيد هذه الحالة، بشدّها وربطها بالأهداف والمنطلقات الواضحة لثورة الإمام الحسينعليه‌السلام )(3) .

وقام خطباء المنبر الحسيني في العراق، بدور بارز في جهاد المستعمر الانجليزي، حينما غزى العراق عام 1914م. فبعد أنْ أصدر مراجع الدين في النجف الأشرف فتاواهم التي تدعو إلى محاربة الانجليز وجهادهم، وتأييد الدولة العثمانية آنذاك، اندفع خطباء المنبر

____________________

(1) الخميني، روح الله: نهضة عاشوراء ص115.

(2) فضل الله، محمد حسين: من وحي عاشوراء ص72.

(3) الغريفي، عبد الله: التشيّع ص468.

٣٢٨

الحسيني، لينشروا هذه الفتاوى بين الناس، ويدعونهم إلى الجهاد متّخذين من مواقف الإمام الحسين وتضحياته منطلقاً لذلك، وقد مرّ بنا في تراجم بعض خطباء المنبر الحسيني، بيان مواقفهم السياسية والجهادية فقد (كان الأستاذ الشيخ محمد علي اليعقوبي، يقضي شهرَي محرّم وصفر في السماوة(1) مرشداً منبرياً، فزوّده الحبّوبي(2) (السيد محمد سعيد) بكتاب يأمره فيه بتحريض عشائر الرميثة ومَن والاها على الانضمام في صفوف المجاهيدين فتمّ له ما أراد)(3) .

وأيام المدّ الإلحادي، كان لخطباء المنبر الحسيني، تأثير كبير في توعية الناس فكرياً وسياسياً، خاصّة بعد فتوى المرجع السيد محسن الحكيم؛ بأنّ الشيوعية كفرٌ وإلحاد(4) . حتى تعرّض بعض خطباء المنبر الحسيني لمحاولات اغتيال. فقد تعرّض خطيب المنبر الحسيني البارز (السيد جواد شبّر إلى محاولة اغتيال أثر تصدّيه الفاعل للأفكار الإلحادية)(5) .

____________________

(1) السماوة هي الآن مركز محافظة المثنى في منطقة الفرات الأوسط بالعراق والرميثة قضاء تابع لها حالياً.

(2) السيد محمد سعيد من محمود بن قاسم الحسيني الحبّوبي عالم كبير وشاعر مشهود له قاد صفوف المجاهدي لمواجهة جيش الاحتلال البريطاني عام 1333 هـ - 1914م. ولد في النجف عام 1266 هـ وتوفّي في مدينة الناصرية بجنوب العراق عام 1333 كمداً بعد اندحار المجاهدين - نقل جثمانه إلى النجف ودفن فيها. له ديوان شر، وكتابات في الفقه والأصول. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 1 / 387) و(الصغير، محمد حسين: هكذا رأيتهم، ص 17).

(3) الصغير، محمد حسين: هكذا رأيتهم ص17.

(4) رؤوف، عادل: محمد باقر الصدر بين دكتاتوريّتين، الوثيقة رقم 23 صفحة 466.

ونص الفتوى (لا يجوز الانتماء إلى الحزب الشيوعي، فإنّ ذلك كفرٌ وإلحاد، أو ترويج للكفر والإلحاد، أعاذكم الله وجميع المسلمين عن ذلك، وزادكم إيماناً وتسليماً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

(5) شبر، جواد: مقتل الحسين - ص16. وستأتي ترجمته في تجربة منتدى النشر إن شاء الله.

٣٢٩

وما زال خطباء المنبر الحسيني في بعض الدول، يتعرّضون لكثير من المضايقات، وصنوف الأذى، (حتى إنّ الكثير قد تعرّض إلى مآسٍ من التشريد والملاحقة بأهله وماله، وبالتالي بنفسه واستشهد الكثير منهم - تغمّدهم الله برحمته - على أيدي الجلادّين والقلّة)(1) .

ويعكف الآن أحد خطباء المنبر الحسيني على إصدار معجم في تراجم مَن استشهد من خطباء المنبر الحسيني، ممّا يعكس الدور السياسي والجهادي لهم، وبهذا العدد الذي يضمّه كتاب.

وفي لبنان كانت لأيام عاشوراء ولخطباء المنبر الحسيني، أبلغ الأثر في حثّ الأمّة على مواجهة قوّات الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان. حيث استثمرت التجمّعات الجماهيرية الواسعة وحالات التعاطف العميقة مع ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ، من أجل حثّ الناس على الجهاد والمقاومة، وكان علماء وخطباء المقاومة الإسلامية، يؤكّدون حالة الربط بين موقف الإمام الحسين، وما ينبغي أنْ تكون عليه مواقف المؤمنين اليوم.

(ونحن لا نتذكر أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام وكربلاء عندما يسقط لنا شهيد في المقاومة. إنّما نتذكرهعليه‌السلام أيضاً عندما نقتحم القلاع ونزرع أعلامنا في أعالي القمم)(2) . واستثمرت مجالس عاشوراء عام 2003م، وبشكل واضح لدعم انتفاضة الأقصى في فلسطين، حتى تحوّلت مسيرة اليوم العاشر من المحرّم إلى مسيرة بيعة للنهج المقاوم من أجل تحرير القدس.

وأحسب أنّ النقاط السابقة قد بيّنت ما يقصد، من مهمّات المنبر.

وبهذا نكون قد بيّنا الأدوار والمهمّات التي يتولاّها المنبر

____________________

(1) الوائلي، أحمد: تجاربي مع المنبر ص52.

(2) نصر الله، حسن: حديث عاشوراء - ص257.

٣٣٠

الحسيني في واقعنا اليوم، حيث رأينا تنوّع تلك الأدوار واستيعابها لنشاطات عدّة.

(إنّ المنبر الحسيني - على صاحبه أفضل التحية والسلام - هو منبر دعوة وهو منبر توعية وهو منبر حركة، وهو منبر ثورة، وهو منبر الإسلام كلّه؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام كان مسلماً وكان إمام المسلمين وكان داعية للإسلام، ولأنّ الحسين كان ثائراً يريد أنْ يُصلح أمّة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)(1) .

إصلاح المنبر الحسيني وتأهيله

أمّا الشقّ الثاني من المبحث الأول، فإنّه يبحث عن مسألة غاية في الأهمية، وهي مسألة إصلاح المنبر، إذ أنّ ما ذكر من فوائد مترتّبة على المنبر الحسيني، إنّما تتصوّر مع وجود خطيب كفوء وهادف، يمتلك من المؤهّلات ما يكون معها جديراً بحمل هذه المسؤولية، والقيام بهذه الأعباء، وأداء هذه المهمّة.

ولكن الأمر لا يبدو هكذا دائماً، فلا نفاجأ إذا رأينا أُناساً يرتقون أعواد المنبر الحسيني، وهم غير كفوئين ولا مؤهّلين، لإعطاء المنبر تلك الأدوار والمهمّات.

يقول المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين: (والمأتم الحسيني الآن في أفضل حالاته، وحين يقوم به الأكفّاء من رجال المنبر المتخصّصين في شأنه، وليس الجهلة المتطفّلين - كما يحدث في حالات كثيرة -)(2) .

____________________

(1) فضل الله، محمد حسين: الندوة - 1 / 447.

(2) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي ص303.

٣٣١

وحالات تطفّ الجهلة وأشباههم، من الظواهر المرضية التي نجد مصاديق لها في نواح مختلفة من نشاطاتنا الإسلامية والاجتماعية وغيرهما...

وقول الشيخ شمس الدين بأنّها (حالات كثيرة) يضع أصبعنا، على ظاهرة سلبية؛ يعيشها المنبر الحسيني في مناطق عدّة وأمكنة كثيرة.

إنّ مَن ترجمنا لهم من خطباء المنبر الحسيني، يُعتبرون من أساتذة هذا الفن وأهل الإبداع فيه، ولم نذكر من يعتلي المنبر الحسيني وقد لا يملك من الكفاءات والمؤهّلات إلاّ حسن صوته ورقّة حنجرته، بل وقد لا يمتلكهما أيضاً!

لقد كان لارتباط المنبر الحسيني بوجدان الإنسان الشيعي عاطفياً، وميول عامّة الناس وانجذابهم للصوت الشجي الرقيق، والمُجيد في إذكاء الأحزان واستدرار الدموع من جهة أخرى، ولغياب دور المنبر الحسيني، وما ينتظره من مهام تربوية وثقافية وعلمية عن أذهان الكثيرين من جهة ثالثة، قد مكّنتْ السبيل ومهّدَتْهُ، لبعض من وُهب حنجرة قوية شجيّة من أنْ يرتقي المنبر. وليته اكتفى بإنشاد ما يحفظ من شعر رثائي وأبيات في النعي والإبكاء، ولكنّ المصيبة تشرع حينما يبدأ هذا الراثي بعرض الأفكار ومناقشتها، وتقييم العلماء والفتاوى، ثمّ يقحم أنفه في أمور وتخصّصات قد لا يعرف لها مبدءاً أو مستقراً، فيجعل من نفسه مفكّراً وفيهاً وفيلسوفاً!

وممّا يزيد في خطورة المسألة، أنّه لو أراد أحد الحاضرين الاعتراض أو تنبيه الآخرين على أخطاء هذا الراثي، فإنّك لا تعدم من ينبري ليدافع عنه بل قد يلام المعترض؛ إنّك كيف تجرؤ على الاعتراض على أحد خدّام سيد الشهداء؟ (وهو اصطلاح شعبي يطلق على من يعتلي المنبر الحسيني)، وذلك لما يأخذه خطباء المنبر الحسيني من احترام وتقديس عند عامّة الناس.

٣٣٢

وبذلك قد يتحول المنبر الحسيني من أداة للتعليم والتثقيف والتربية - كما هو المتوقّع منه وكما يحسنه الأكفاء من الخطباء - إلى أداة من أدوات التجهيل، من قبل بعض مَن يرتقن أعواد المنبر ولا يمتلكون مؤهلاته، أو قد يمالئون الجهل والتخلف طمعاً في متاع دنيوي زائل.

وهذا همّ كان ولا يزال يؤرّق المصلحين والواعين من العلماء والخطباء والمثقّفين الشيعة. وأنّ ما أورده الشيخ محمد مهدي شمس الدين من نعت (الجهلة والمتطفّلين)، قد سبقه إلى هذا التشخيص أو أكّد عليه عدد من العلماء والخطباء والمثقّفين.

فالسيد محسن الأمين العاملي، يذكر في مقدّمة كتابه الموسوم بـ (المجالس السنية) من أنّ العقل والشرع لا يعارضان احترام أعاظم الرجال أحياءً وأمواتاً. ثمّ يمرّ على ما جرى للإمام الحسينعليه‌السلام ، وحثّ أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على إحياء ذكراه ثمّ يعقّب بقوله رحمه الله:

(ولكن الكثيرين من الذاكرين (أي المنبريّين) قد اختلقوا أحاديث في المصائب. وغيرها لم يذكرها مؤرّخ ولا مؤلّف، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة، وزادوا ونقصوا فيها، لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحّة الأخبار، حتى حُفظت على الألسن وأودعت في المجاميع)(1) .

واللافت في النصّ أعلاه، إنّ السيد الأمين قال (إنّ الكثيرين من الذاكرين) وهو التشخيص نفسه الذي مرّ بنا عن الشيخ شمس الدين بقوله: (كما يحدث في حالات كثيرة)، ممّا يعكس وضوح هذه الظاهرة

____________________

(1) الأمين، محسن: المجالس السنية - 1 / 11.

٣٣٣

السلبية واتّساعها.

وينقل الكاتب والصحافي جعفر الخليلي (توفّي عام 1982م) أنّه ذهب إلى الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، واستفتاه في (صعود عدد من أشباه الأميّين المنابر الحسينية، والإتيان بأحاديث ملفّقة مكذوبة على الله ورسوله وأوليائه).

يقول الخليلي: (فرأيته يكاد ينفجر غيظاً، وقد صبّ جام غضبه عليهم... فاستكتبه، فكتب لي رأيه فيهم واعتبر الإصغاء إلى مثل هؤلاء الخطباء، وحضور مجالسهم والاستماع إلى خطبهم، من الأمور المحرّمة التي لا يجيزها الشرع بوجه من الوجوه..)(1) .

وكان الأستاذ جعفر الخليلي مهتّماً بضرورة العمل على ترشيد المنبر الحسيني، ورفع مستوى أدائه، فيقول: (أردت ذات يوم أنْ أقوم بدعوة منظمّة لتهذيب خطباء المنابر الحسينية في جريدة الهاتف)(2) . (وهي جريدة كان يشرف الخليلي عليها بنفسه، وكانت تصدر بالنجف في أربعينات القرن العشرين).

ويعرب الشيخ محمد جواد مغنية(3) ، عن حرقته وألمه لما يجده في بعض أوضاع المنبر الحسيني، فيقول في كلمته التي صدّر بها موسوعة أدب الطف لمؤلّفها السيد جواد شبّر بقوله: (... ومن هنا كان العبء ثقيلاً على خطباء هذا المنبر الخطير، إلاّ على الأكفّاء منهم... والحق، إنّ بعضهم أدّى المهمّة على وجهها، واهتدى بهم الكثير من الشباب إلى سواء السبيل. ولكن هؤلاء - وللأسف - قليلون جداً، والأكثرية الغالبة مرتزقة متطفّلون أو ممثّلون، لا يهتمّون بشيء

____________________

(1) الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم 1 / 244.

(2) المصدر نفسه 1 / 244.

(3) سبقت ترجمته ص65.

٣٣٤

إلاّ بعاطفة المستمع وميوله، تماماً كالمهرّج، يقف على خشبة المسرح ليؤنس المتفرّجين ويضحكهم ويجهلون، أو يتجاهلون أنّ مهمّة المرشد الواعظ، كمهمّة الطبيب الجرّاح، يستأصل بمبضعهِ الداء من جذوره ولا يكترث باحتجاج المريض وصراخه. والحديث عن قرّاء التعزية وخطباء المنبر الحسيني، متشعب الأطراف، بخاصة عن الذين لا يشعرون بالمسؤولية، ولا يقدّرون لهذا المنبر هيبته وقداسته)(1) .

وأحسب أنّ المرحوم الشيخ مُغنية، قد أورد كلمات أقسى ممّا أورده الآخرون، حينما نعت غير المؤهّلين بأنّهم (مرتزقة متطفّلون أو ممثّلون كالمهرّج). وقساوة هذه النعوت إنّما تدلّ على مدى تألّمه وانزعاجه من الصور الباهتة المشوّهة، التي تبدو للمنبر الحسيني من قِبَل أمثال هؤلاء. وقد سبق ذلك إشادته بالخطباء، الذين يعطون المنبر الحسيني ما يستحقّ من اهتمام وأهليّة وإخلاص.

والملاحظة الثانية: إنّ التشخيص كان مطابقاً لتشخيصي السيد الأمين والشيخ محمد مهدي شمس الدين، من أنّ القلّة ممّن يعتلي المنبر هم أهل لذلك، وأنّ الأكثرية على الخلاف، بل وقال: (الأكثرية الغالبة) في مقابل (قليلون جداً).

لقد كان العلماء الواعون وما زالوا يناشدون خطباء المنبر الحسيني، أنْ يرتقوا بأدائهم ليكونوا بمستوى مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام وأهداف ثورته، وأنْ يكون المقياس في اختيار الخطيب، هو علمه وثقافته، لا مجرّد حسن إبكائه وشجاء نعيّه.

يقول السيد محمد حسين فضل الله: (إنّ في إمكاننا أنْ ننطلق في هذه المجالس، نحييها ونؤيّدها ونجعلها تستمر. ولكن بشرط أنْ تتغير

____________________

(1) مغنية، محمد جواد: أدب الطف، 1 / 15. (مقدمة الموسوعة التي ألّفها السيد جواد شبر).

٣٣٥

العقلية، التي تعتبر نجاح القارئ (أي الخطيب) بمقدار ما يستطيع أنْ ينوح أكثر، وبمقدار ما يستطيع أنْ يُبكي أكثر. علينا أنْ نطلق من مجالسنا ليشعر هؤلاء القرّاء، بأنْ نتعاطف معهم عندما يستطيعون أنْ يجسّدوا عاشوراء بالكلمة، ويجسدون المآسي من خلال الرسالة)(1) .

وإذا كانت نداءات العلماء في ذمّ المتطفّلين وغير المؤهّلين، ممّن يعتلي المنبر الحسيني، نداءات مؤثّرة ومؤلمة في آن واحد، فإنّ نداءات أساتذة المنبر الحسيني، والواعين منهم تكون أشدّ تأثيراً وإيلاماً، لأنّهم يعيشون المنبر الحسيني، ويولونه كل حياتهم وعلمهم وتخصّصاتهم...

فعميد المنبر الحسيني اليوم؛ الدكتور الشيخ أحمد الوائلي يبدي ألمه بقوله: (إنّ ممّا يبعث على الألم أنْ لا تكون هناك رقابة على ما يقال على منبر يقوم بحملِ رسالتنا للجماهير، وينبغي أنْ يشعر بمسؤولية الكلمة وخطر الفكرة وصلة ذلك بوضعنا ككل)(2) .

ثمّ يذكر الشيخ الوائلي بعد ذلك، إنّ مجموعة من المثقّفين وأهل الاختصاص جاؤوا إليه، ومعهم بعض أشرطة التسجيل لبعض من يعتلي المنبر بلا كفاءة، وقالوا له وهم يشكون الحال: إنّ (في هذه الأشرطة إحصاءات وادعاءات لا تلتقي والواقع، كما لا تلتقي والعلم. وقد سبّب لنا ذلك إحراجاً، بل وأضعف ثقة الناس في مؤسّساتنا الدينية)(3) .

ومن أروع وأدقّ ما سجّله خطيب آخر، من أستاذة المنبر الحسيني؛ وهو المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في

____________________

(1) فضل الله، محمد حسين، آفاق إسلامية، ص131.

(2) الوائلي، أحمد: تجاربي مع المنبر ص21.

(3) المصدر نفسه ص65.

٣٣٦

تصديره لكتاب (من لا يحضره الخطيب) لمؤلّفه السيد داخل حسن بقوله رحمه الله: (هذا وقد تطفّل على المنبر أُناس لا يعرفون للمنبر قيمة، ولا يقيمون له وزناً، وإنّما اتخذه بعضم وسيلة للعيش، وسبباً لتحصيل المال. حتى قال رجل من أهل المعرفة، وقد سمع بعض هؤلاء يخبط على المنبر خبط عشواء(1) : إنّ ظلامات الحسين كثيرة، ومنها صعود أمثال هذا على المنبر!! وأرى أنّ هذا مصدره التسيّب في كثير من الأمور.... فلا رقيب ولا حسيب على كل ما يقال ويُفعل، ويكتب وينشر. وعسى أنْ يقيّض الله سبحانه لهذه الأمّة، من يتحمّل مسؤولية الإصلاح، فيصلح الفاسد، ويقوّم المعوّج، ويأخذ على أيدي السفاء، ويكمّ أفواه الجهلاء.

وشيء آخر أريد أنْ اذكره وأُنبّه عليه، وهو أنّ بعض الخطباء - أصلحهم الله تعالى - يدخلون في ما ليس يعنيهم، ويخوضون في ما ليس من اختصاصهم، كالطب والصيدلة والكيمياء والفيزياء، والميكانيك والهندسة، وعلم النبات والمعادن وطبقات الأرض، وكل ما هو بين السموات والأرض وما فوقهنّ وما تحتهنّ!! مع أنّه لم يعرف أوّلياتها ولم يدرس مقدّماتها، وربّما ذكر نظريات علمية، أكل الدهر عليها وشرِب وظهر بطلانها. بل أخذها عن كتاب قديم، ثمّ لا يدري ماذا حدث بعد ذلك. فيدع أهل الاختصاص يتغامزون عليه ويسخرون منه!!)(2) .

وأهل الاختصاص هؤلاء، هم من أخذ بعض تلك الأشرطة المسجّلة وذهبوا يشكون الأمر إلى الشيخ الوائلي كما مر بنا قبل قليل.

ولقد ذكرتني عبارة السيد الخطيب التي نقلها عن بعض أهل

____________________

(1) العشواء: الناقة الضعيفة البصر، أو التي لا تبصر في الليل تطأ كل شيء. مثل يضرب للمتدخّل في الشيء والذي يركب رأسه ولا يهتم لعاقبة.

(2) الحسيني، عبد الزهراء: من لا يحضره الخطيب 2 / 19 (للخطيب السيّد داخل حسن).

٣٣٧

المعرفة من أنّ من ظلامات الحسينعليه‌السلام صعود غير الكفوئين للمنبر، ذكّرتني عبارته بما نقله الشيخ مرتضى المطهّري(1) - أحد المفكرين والعلماء الإيرانيين - عن أحد كبار المحقّقين بقوله: (إنّنا يجب أنْ نبكي على الحسينعليه‌السلام ، ولكن ليس بسبب السيوف والرماح، التي استهدفت جسده الطاهر الشريف في ذلك اليوم من التاريخ، بل بسبب الأكاذيب التي أُلصقت بالواقعة)(2) .

وبمناسبة ذكر الشيخ مرتضى المطهّري، وسُئِلَ السيد محمد حسين فضل الله في دمشق بهذا السؤال: هناك مقولة للشهيد المطهري حول المنبر يقول فيها: (لقد استشهد الحسين مرّتين، مرّة في كربلاء على أيدي الجناة، والثانية على أيدي بعض خطباء المنبر الحسيني، من خلال ما يُطرح من أكاذيب وتحريفات للواقع) فما رأيكم بهذه المقولة؟ فأجاب السيد فضل الله: (أنا معه مِئة في المِئة؛ لأنّ كثيراً من مظاهر المنبر الحسيني أصبحت تثير التخلّف بكل ما للتخلّف من معنى. وأصبحت تثير الكثير من الأكاذيب التي تصل إلى حدّ الخرافة، من أجل أنْ تصبح القضية، هي كيف يمكن أنْ نستنزف دموع الناس، لا كيف يمكن أنْ نفتح عقولهم على الرسالة، وعلى الحق)(3) .

أقول: ونعود مرّة أخرى إلى تشخيص من سبق من العلماء، حول نسبة التخلّف في المنبر وأعني به نسبة (الكثرة)، التي أطلقها السيد فضل

____________________

(1) الشيخ مرتضى المطهّري عالم ومفكر إسلامي إيراني بارز تتميّز كتبه بعمق الأصالة الإسلامية ممّا حدا بالإمام الخميني أنْ يدعو إلى قراءة كتبه. أغنى المكتبة الإسلامية بالعديد من البحوث والمؤلّفات منها، الإنسان الكامل، النبي الأمّي، مسألة الحجاب، الملحمة الحسينية وغيرها كثير. اغتيل في طهران بعيد نجاح الثورة الإسلامية عام 1979م. (المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية: قبس من حياة الشهيد المطهّري، ص21).

(2) مطهري، مرتضى: الملحمة الحسينية - 1 / 13.

(3) فضل الله، محمد حسين: الندوة - 6 / 500.

٣٣٨

الله هنا وأطلقها قبله السيد الأمين، والشيخ مغنية، والشيخ شمس الدين. ولا أظنّ أنّ كل ذلك ينطلق من مصادفة، بل هي الدقّة في تشخيص واقع المنبر الحسيني؛ لأنّه صدر عن علماء واعين وخطباء مجيدين مخلصين، أثرَوا الساحة بعلمهم وكتبهم وثقافتهم ومحاضراتهم.

بعد كل ما ذكر آنفاً، اتّضحت لنا صورة التشخيص، الذي أبرزه الواعون والمصلحون من علماء الشيعة وخطبائهم لما هو عليه المنبر الحسيني في حالات كثيرة، ما زالت تؤرِّق المخلصين وتدعوهم إلى التفكير الجدّي والعملي لتغييرها.

ولنا أنْ نسأل، عن الخطوات العملية، ومحاولات الإصلاح وتجاربه، التي قام بها العلماء والخطباء المهتمّون بمسألة ترشيد المنبر الحسيني ورفع مستوى أدائه؛ لأنّ تشخيص الداء خطوة في طريق العلاج، ولا يمكن له أنْ يغني عن الإجراءات العملية في هذا الصدد.

وسنركّز هنا، على أبرز تجارب ومحاولات إصلاح المنبر الحسيني تاريخياً، مع تركيز واضح على تجربة أظنّها تحتاج إلى دراسة خاصة، كانت قد جرت في النجف الأشرف، وستأتي ضمن التجربة الثانية من:

تجارب إصلاح المنبر الحسيني وترشيده

1) تجربة السيد محسن الأمين في دمشق

تولّى السيد محسن الأمين، مهمّة الرعاية الدينية والاجتماعية لشيعة مدينة دمشق، بتكليف من المرجعية الدينية، في النجف الأشرف، حيث ينقل رحمه الله: (وردنا دمشق في أواخر شعبان من سنة 1319 هـ في أواخر الخريف، فوجدنا أمامنا أموراً هي علّة العلل

٣٣٩

ولا بدّ في إصلاح المجتمع من النظر في إصلاحها:

1 - الأميّة والجهل المطبق.

2 - وجدنا إخواننا في دمشق متشاكسين منقسمين.

3 - مجالس العزاء وما يتلي فيها من أحاديث غير صحيحة..

فوجّهنا اهتماماً إلى إصلاح هذه الأمور الثلاثة)(1) .

ومن خلال تشخيص السيد محسن الأمين، لكوامن التخلّف، وكيفية العمل على الإصلاح، تبرز أهمّية إصلاح المنبر الحسيني، باعتباره جهازاً إعلامياً تثقيفياً مهمّاً في الوسط الشيعي.

وشمّر السيد الأمين عن ساعد العمل، حيث راحت أنامله تسطّر ما صحّ من السيرة المتعلّقة بكربلاء وأخبارها، وصدرت عنه عدّة مصنّفات لتهيئة المادّة الصحيحة، من أخبار السيرة إضافة إلى قصائد منتقاة ومختارة، في رثاء الإمام الحسينعليه‌السلام ، ممّا يعين خطيب المنبر الحسيني المبتدئ على انتهاج طريقٍ صحيحٍ في خطابته.

نعم فالسيد الأمين، قد( انبرى إلى تلك النصّوص يخلّصها من تلك الزيادات، فجمع ما سلم من كلماتها، بعد أنْ نسقّها ورتّبها فكانت كتاباً دعاه:(لواعجُ الأشجان في مقتل الحسين) ، ثمّ أردفه بكتاب آخر هو(أصدق الأخبار في قصّة الأخذ بالثأر) . ثمّ خرج من بين يديه كتاب(الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد) . من مطبعة الإتقان بدمشق عام 1365 هـ 1946 م. وأخيراً رأى الأمين أنّ ذلك كلّه لن يستقيم طويلاً، إلاّ بوضع كتاب مفصّل مبوّب، فكان كتاب(المجالس السنية)) (2) .

____________________

(1) الأمين، محسن: أعيان الشيعة، 1 / 361 (في ترجمة المنصف بخطّ يده).

(2) الأمين، علي مرتضى: السيد محسن الأمين سيرته ونتاجه - ص59.

٣٤٠