المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل15%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119450 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الحسين لابن زياد(١) ، جعله في طست وجعل يضرب ثناياه(٢) بقضيب ويقول: ما رأيت مثل هذا حسناً، إنْ كان لحَسَن الثغر! وكان عنده أنَس فبكى. وقال: كان أشبههم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورواه الترمذي وغيره)(٣) .

٣ - زيد بن أرقم(٤) : جاء في الأخبار الطوال: (ولما أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام على ابن زياد فوضع بين يديه، جعل ابن زياد ينكت بالخيزرانه ثنايا الحسين، وعنده زيد بن أرقم، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له: مَه، ارفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلثمها، ثمّ خنقته العبرة فبكى، فقال ابن زياد: ممّ تبكي؟ أبكى الله عينيك، والله لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عنقك)(٥) .

____________________

(١) هو عبيد الله بن زياد بن أبيه والٍ وفاتح معروف ولد في البصرة ٢٨ للهجرة. ولاّه معاوية خراسان سنة ٥٣ للهجرة، ثمّ البصرة سنة ٥٥ للهجرة، أقرّه يزيد على البصرة وضمّ إليه الكوفة (٦٠ هـ) لمّا بلغه تحرّك الإمام الحسين إليها. أمر بقتل الحسن سنة ٦١ للجرة. ثار عليه أهل البصرة سنة ٦٥ للهجرة. هرب إلى الشام ثمّ عاد إلى العراق فقتل في واقعة الزاب سنة ٦٧ للهجرة. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٤ / ١٩٢).

(٢) ثنايا جمع ثنية، وهي أسنان مقدّم الفم، اثنتان من أعلى وأثنتان من أسفل.

(٣) العسقلاني، أحمد بن حجر: الصواعق المحرقة، صفحة ٣٠٠. البخاري، محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري. (لم يذكر البخاري بكاء أنس). ٥ / ٣٢. سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواصّ صفحة ٢٣١. الترمذي، محمد بن عيسى: صحيح الترمذي، ٥ / ٦٥٣.

(٤) زيد ابن أرقم بن قيس بن النعمان الخزرجي الأنصاري. مختلف في كنيته. استصغر سنّة يوم أحد، وأول مشاهده الخندق، غزا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع عشرة غزوة، له حديث كثير شهد صفّين مع علي، مات بالكوفة أيام المختار سنة ٦٦ للهجرة. (العسقلاني، أحمد بن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة ١ / ٥٦).

(٥) الدينوري، أحمد بن داود: الأخبار الطوال، ص٢٦٠. الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، ٤ / ٣٤٩. ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ، ص٢٩٦. العسقلاني، أحمد بن حجر: الصواعق المحرقة، ص٣٠٠. سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواص، ص٢٣١. القسطلاني، أحمد بن محمد: إرشاد الساري في شرح البخاري، ٦ / ١٢٩.

٤١

٤ - مأتم لعبد الله بن جعفر(١) : جاء في تاريخ الطبري: (لمّا بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، مقتل ابنيه مع الحسين، دخل عليه بعض مواليه والناس يعزّونه... ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله عزّ وجل على مصرع الحسين، إنْ لا يكن آستْ حسيناً يدي فقد آساه ولدي)(٢) .

٥ - الحسن البصري(٣) : ور د في تذكرة الخواص: (ولمّا بلغ الحسن البصري قتْل الحسين بكى حتى اختلج صدغاه(٤) ثمّ قال: وا ذلّ أمّة قتلت ابن بنت نبيّها. والله ليردّن رأس الحسين إلى جسده، ثمّ لينتقمن له جدّه وأبوه من ابن مرجانة(٥))(٦) .

هذه هي خمسة نماذج، لبعض أعلام المسلمين من الصحابة وتابعي واحد، سجّلت لنا بعض المصادر التاريخية، تأثّرهم بواقعة كربلاء وبكاءهم للحسين.

____________________

(١) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي أبو هاشم وأمّه أسماء بنت عميس، صحابي ولد في بأرض الحبشة سنة ١ للهجرة لمّا هاجر أبواه إليها. وهو أول من ولد بها من المسلمين. أتى البصرة والكوفة والشام. وكان كريماً يسمّى بحر الجود وقطب السخاء وللشعراء فيه مدائح. أحد أمراء جيش علي يوم صفّين. مات بالمدينة سنة ٨٠ للهجرة. (العسقلاني، أحمد بن حجر: الإصابة ٢ / ٢٨٩).

(٢) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ٤ / ٣٥٧. ابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٠١.

(٣) الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي ولد في المدينة سنة ٢١ هجرية. وكان إمام أهل البصرة وصفه الغزالي بأنه أقرب الناس هدياً من الصحابة، له مواقف مع الحجاج بن يوسف له كتاب في فضائل مكة. توفي بالبصرة سنة ١١٠ هجرية (وقبره لا يزال مشهوراً فيها)(الزركلي، خير الدين، الأعلام ٢ / ٢٢٦).

(٤) اختلج صدغاه، اختلج: أي اضطرب وتحرك، والصدغ: هو ما بين العين إلى الإذن واختلج صدغاه بيان لشدّة البكاء.

(٥) ابن مرجانة: لقب لعبيد الله بن زياد، يعيّر بأمٍّ كانت لأبيه زياد في الجاهلية.

(٦) سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواص، ٢٦٥. البلاذري، أحمد بن يحيى: أنساب الأشراف، ٣ / ٢٢٧. الطبراني، إسماعيل بن أحمد: المعجم الكبير، ٣ / ١٢٧.

٤٢

كما سجّل لنا التاريخ، بعض مظاهر الحزن والعزاء العامّة، والتي أطلقنا عليها مصطلح (المآتم العفوية) والتي رافقت أحداث ما بعد قتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

ولنقف عند هذه المآتم بشكل موجز:

١ - بكاء من حضر وداع السيدة زينب(١) عليها‌السلام ، لجسد أخيها الحسينعليه‌السلام ، يوم الحادي عشر من المحرّم، حينما أخذت النساء المسبيّات إلى الكوفة. فقد ورد في تاريخ الطبري: (قال: فما نسيت من الأشياء، لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة، حين مرّت بأخيها الحسين بالعراء مرمّلٌ بالدماء(٢) مقطّع الأعضاء، يا محمداه... وبناتك سبايا وذريّتك مقتّلة، تسفي(٣) عليها الصبا. قال: فأبكت والله كل عدوّ وصديق)(٤) .

٢ - بكاء أهل الكوفة حين وصول السبايا إليها: ضجّت الكوفة بأهلها، حين دخول ركب السبايا. فـ (عن خدّام الأسدي قال: دخلتُ الكوفة، سنة أحدى وستين وهي السنة التي قتل فيها الحسينعليه‌السلام - فرأيت نساء أهل الكوفة يومئذ، يلتدمن، مهتّكات الجيوب(٥) . ورأيت علي ابن

____________________

(١) هي السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب شقيقة الحسن والحسين، ولدت سنة ٧ للهجرة في المدينة المنورة. تزوّجت من ابن عمّها عبد الله بن جعفر. رافقت أخاها الحسين في خروجه من العراق ثمّ أخذت أسيرة من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام. وكانت ثابتة الجنان رفيعة القدر خطيبة فصيحة، لها أخبار وتوفّيت سنة ٦٢ للهجرة (الزركلي، خير الدين: الأعلام ٢ / ٦٦).

(٢) المرمّل: هو الملطّخ بالدماء.

(٣) أي تسرع رياح الصبا الرمال على تلك الأجساد.

(٤) الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، ٤ / ٦١. ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ ٣ / ٢٩٦. سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواص صفحة ٢٣١.

(٥) يلتدمن: يضربن صدورهن ووجوههن. الجيوب جمع جيب وهي الصدور.

إنّ هتك المرأة لجيبها، وإبراز صدرها، محرّم على غير المحارم باتفاق جمهور المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم الفقهية. وحينما نورد نصّاً تاريخياً في بحثنا هذا، فإنّنا نذكره كما =

٤٣

الحسينعليه‌السلام (١) وهو يقول بصوت قد نحل من المرض: (يا أهل الكوفة، إنّكم تبكون علينا فمن قلتنا غيركم؟!)(٢) .

وعلت أصوات الكوفيين بالبكاء. وكذلك كان الأمر بعد خطبة السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالبعليه‌السلام (٣) حيث وصَفت حالة الناس بعد خطبتها (فرأيت الناس حيارى، وقد ردّوا أيديهم إلى أفواههم ورأيت شيخاً كبيراً من بني جحفى، وقد اخضلّت لحيته من دموع عينيه وهو يقول:

كهولهم خيرُ الكهول ونسلهم

إذا عُدّ نسلُ لا يبور ولا يخزى)(٤)

٣ - نساء أمويات يبكين الحسين في الشام: يقول الطبري: (ثمّ أُدخل نساء الحسين على يزيد، فصاح آل يزيد وبنات معاوية وأهله،

____________________

= أوردته المصادر، وإنْ كان لنا على بعضها ملاحظات. وسيأتي تعليق أحد العلماء الشيعة على ما ذكرته بعض كتب التاريخ من خروج النساء - أيام البويهيين في بغداد - ناشرات الشعور. ص٥٤).

(١) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشيعليه‌السلام . ولد في المدينة المنورة عام ٣٨ هـ. أمّه شاه زنان بنت الملك يزدجر. وله عدّة ألقاب من أشهرها زين العابدين. خرج مع أبيه الحسين إلى كربلاء، ومرض بمرض حال دون قتاله، أرادوا قتله يوم عاشوراء فأنجاه الله. انحصرت فيه ذرّية الحسين. عرف بكثرة عبادته ودعائه توفّي بالمدينة عام ٩٥ هـ. (الحسني، هاشم معروف: سيرة الأئمّة الاثنا عشر، ٢ / ١٠٩).

(٢) ابن طيفور، أحمد بن أبي طاهر - بلاغات النساء - ص٣٤ / ٣٥ك الخوارزمي، الموفّق بن أحمد: مقتل الحسين - ٢ / ٤٠. ابن أبي يعقوب، أحمد: تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٨، وكذلك البراقي، حسين بن أحمد: تاريخ الكوفة، ص٤٦٠.

(٣) أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب الهاشمية القرشية وأمّها السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت رسول الله ولدت في المدينة سنة ٥ للهجرة خرجت مع أخيها الحسين إلى كربلاء وأُخذت مسبيّة إلى الكوفة فالشام ثمّ عادت إلى المدينة، ويقال أنّها توفّيت فيها بعد بضع سنين. تعرف أيضاً بزينب الصغرى، تذكر بعض المصادر تزويجها من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب. وتوقّف آخرون عن ذلك (الحكيمي، أحمد رضا، أعيان النساء عبر العصور المختلفة: ص٥١).

(٤) بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمان: السيدة زينب ص١٥٢، ١٥٥. يبور، من البوار: أي الهلاك. يخزى: يذل ويهون..

٤٤

وولوَلن...)(١) .

وقال ابن الأثير: (لم تبقَ امرأة من آل يزيد إلاّ أتتهن وأقمن المآتم)(٢) وأضاف سبط ابن الجوزي في التذكرة:(فأقاموا عليه المناحة ثلاثاً) (٣) .

٤ - بكاء أهل الشام في الجامع الأموي بدمشق: أقيمت الصلاة في دمشق، لمّا وصلها رأس الحسين، وطلب علي بن الحسينعليه‌السلام - في خبر طويل - من يزيد أنْ يأذن له في أن يكلّم الناس، وبعد إلحاح بعض الحاضرين، أذن للإمام علي بن الحسين أنْ يخطب... (ولم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أنْ تكون فتنة، فأمر المؤذّن أنْ يؤذّن، فقطع عليه الكلام وسكت)(٤) .

٥ - بكاء الهاشميات والأنصار في المدينة: لمّا وصل خبر قتل الحسين، إلى المدينة، (... فصاح نساء بني هاشم، وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب، ومعها نساؤها حاسرةً تلوي ثوبها وهي تقول:

ماذا تـقولون إنْ قـال الـنبي لـكم

ماذا فـعـلتم وأنـتـم آخـرالأُمـمِ

بـعـتـرتي وبـأهـلي بـعـد مفتقدي

مـنهم أُسـارى وقتلى ضرّجوا(٥) بدمِ

مـا كـان هـذا جزائي إذ نصحت لكم

أنْ تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي)(٦)

____________________

(١) ولولت المرأة: دعت بالويل وأعولت: أي رفعت صوتها بالبكاء والصياح. الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٣٥٥.

(٢) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل ٣ / ٢٩٩.

(٣) سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواصّ، ص٢٣١. وانظر كذلك ابن عبد ربّه أحمد بن محمد: العقد الفريد، ٤ / ١٨٣.

(٤) الخوارزمي، الموفق بن أحمد: مقتل الحسين، ٢ / ١٧. سيد الأهل، عبد العزيز: الإمام زين العابدين، ص٢٩.

(٥) ضرّجوا أي لُطّخوا.

(٦) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل، ٣ / ٣٠٠ الطبري - تاريخ الأمم والملوك - ٤ / ٣٥٧. المسعودي، علي بن الحسين: مروج الذهب ٣ / ٦٨. سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواص ص٩٠.ابن كثير، البداية والنهاية، الدمشقي، إسماعيل بن كثير: ٨ / ١٩٨.

٤٥

(ولمّا دخل حرم الحسينعليه‌السلام المدينة، عجّت نساء بني هاشم، وصارت المدينة، صيحة واحدة)(١) .

(.. تصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة، بالرجّة التي ما سمع بمثلها قط)(٢) .

و(وضجّت بنو هاشم والأنصار، ضجّة لم يسمع بمثلها من قبل)(٣) .

وفي مقاتل الطالبيين، حينما يذكر أخوة الحسين الأربعة، الذين قتلوا معه في كربلاء، وأمّهم أمّ البنين(٤) (وكانت أُم البنين، أُم هؤلاء الأربعة الأخوة القتلى، ترجع إلى البقيع، فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها. فيجتمع الناس إليها يسمعون منها. فكان مروان(٥) يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي...)(٦) .

____________________

(١) الخوارزمي، الموفق بن أحمد: مقتل الحسين ٢ / ٧٦.

(٢) ابن أبي يعقوب، أحمد: تاريخ اليعقوبي، ٢ / ١٥٩.

(٣) سيد الأهل، عبد العزيز: زينب عقيلة بني هاشم، ص٩٦.

(٤) أم البنين: هي فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابي، تزوجها علي بن أبي طالب بإشارة من أخيه عقيل بن أبي طالب الذي كان عالماً بأنساب العرب، فأولدها أربعة قتلوا مع أخيهم الحسن في كربلاء وهم العباس وعبد الله وعثمان وجعفر وذلك يوم عاشوراء سنة ٦١ للهجرة. (بحر العلوم، محمد تقي: مقتل الحسين، ص٢١٠).

(٥) مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي القرشي.. أبو عبد الملك، خليفة أموي، وهو أول من ملك من بني الكم بن أبي العاص. ولد سنة ٢ هـ ونشأ بالطائف وسكن المدينة. خرج مع طلحة والزبير إلى البصرة في حرب الجمل. ولاّه معاوية المدينة من ٤٢ - ٤٩ هـ. بويع له بالخلافة ٦٤ هـ مات بدمشق سنة ٦٥ هـ بالطاعون، وقيل غطّته زوجته أم خالد بوسادة وهو نائم فقتلته. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٧ / ٢٠٧).

(٦) الأصفهاني، علي بن الحسين (أبو الفرج): مقاتل الطالبين - ص٥٦.

٤٦

٦ - استقبال أهل مصر للسيدة زينبعليها‌السلام بالبكاء: لمّا قدمت زينب بنت علي من الشام، مع النساء والصبيان، ثارت فتنة بينها وبين عَمْر بن سعيد الأشدق والي الأمويين من قِبل يزيد فكتب إلى يزيد، يشير عليه بنفيّها من المدينة، ويقول له: (إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وأنّها فصيحة عالمة لبيبة، وقد عزمت هي ومَن معها، على القيام للأخذ بثأر الحسين). فرجع الأمر من يزيد بإخراجها من المدينة. ولكنّها رفضت ذلك قائلةً:(قد علم والله ما صار إلينا، قُتل خيُّرنا وسيق الباقون كما تساق الأغنام، وحُملنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإْن أريقت دماؤنا) .

ولكن نساء بني هاشم أشفقن عليها، فدخلت عليها زينب بنت عقيل بن أبي طالب قائلة:(يا ابنة عمّي، قد صدَقنا الله وعده، وأورثنا في الأرض نتبوأ (١) منها حيث نشاء، وسيجزي الله الظالمين. ارحلي إلى بلد آمن). فخرجت من المدينة إلى مصر، فقدمتها لأيام بقين من رجب واستقبلها الوالي، وهو مسلمة بن مخلّد الأنصاري، في شعبان من سنة ٦١ للهجرة.

وجاء الناس لاستقبالها عند قرية قرب (بلبيس)(٢) ؛ وفيهم العلماء والوجهاء والوالي. فلمّا أطلت عليهم، أجهشوا بالبكاء (فتقدّم إليها مسلمة بن مخلّد، وعبد الله بن الحارث، وأبو عميرة المزني فعزّاها مسلمة وبكى، فبكت، وبكى الحاضرون، وقالت: هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون، ثمّ احتملها إلى داره بالحمراء)(٣) .

____________________

(١) اللبيبة: العاقلة، ما صار إلينا: أي ما جرى علينا، الأقتاب: القتب وهو رحل البعير، نتبوأ: نتّخذ.

(٢) بلبيس: بكسر البائين، مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ، على طريق الشام، فتحت سنة ١٨ أو ١٩ هـ على يد عمرو بن العاص. ذكرها المتنبي في بعض شعره. (الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان ١ / ٤٧٩).

(٣) العبيدلي، يحيى بن الحسن: أخبار الزينبات ص١١٦ - ١٢٠.

٤٧

إذن فالمسلمون عموماً، قد تأثّروا لما جرى على الحسين؛ من قتل، ومعه أولاده وأهل بيه وأصابه، ثمّ لمّا جرى على النساء والأطفال، بعد ذلك من السبي، وما صاحبه من المحن والآلام.

ولهذا فإنّ القسطلاني، في باب(مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما) يقول: (ولما قُتل الحسين بكى الناس فأكثروا...)(١) .

وممّا أسهم في ازدياد تأثر الناس بأحداث كربلاء، عودة (الجنود إلى بلدانهم وقبائلهم، ينشرون الأخبار عن الهول الذي رأوه، وشاركوا في صنعه، وعن النهاية الفاجعة للثائرين. وشاهد الناس، على امتداد الطرق؛ من كربلاء والكوفة والشام والمدينة؛ قافلة السبايا والرؤوس، وانفعلوا بالمآتم العرضية العائلية، التي كانت تقام هنا وهناك.

ولابدّ أنّ الانفعال العفوي بالثورة ونهايتها المأساوية، بما يثيره من حزنٍ عميق وأسىً بالغ، قد أعطى الناس الذين عرفوا بما حدث، مبرّراً للتجمّع، ومادّة للحديث وحافزاً على مراجعة المواقف والآراء...)(٢) .

وظاهرة الحزن والبكاء، التي برزت في أكثر من موضع في الأقاليم الإسلاميّة، قامت بتهيئة الأجواء لتلك المآتم، التي تقام على الحسينعليه‌السلام بقصدٍ وإعدادٍ مُسبَقَين، والتي هي موضوع دراستنا هنا، والتي عرّفناها بـ: (المآتم الهادفة).

وهذه (المآتم الهادفة) قامت بعملية استمرار للمآتم العفوية، والتي كان من المتوقّع أنْ تخبو جذوتُها، وتخمد حرقُتها بعد مدّة تطول أو تقصر، مع تقادم الأيام، وابتعاد

____________________

(١) القسطلاني، أحمد بن محمد: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري - ٦ / ١٣٤.

(٢) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص٢٣٣.

٤٨

الناس عن واقعة كربلاء زمنياً ونفسياً.

إذاً فقد كانت هناك مآتم مصاحبة للفاجعة، وهي عادة ما تصاحب الأحداث ذات الإثارة العاطفية البارزة، ثمّ نشأت مآتم أخرى بعد عصر الفاجعة بقصد وهدف.

فمتى نشأت هذه المآتم الهادفة؟ ومن دعا الناس إلى التجمّع بهدف البكاء على الحسينعليه‌السلام بحيث برز البعض، ممّن يجيد فن النوح، وإنشاد الشعر الرثائي بحزن. وهذا البعض؛ كان هو السلف القديم، لخطيب المنبر الحسيني اليوم.

المبحث الأول: الآراء في نشوء المنبر الحسيني

لقد ذكرت آراء عدّة، في مسألة نشوء المآتم الهادفة، والتي شكّلت الأساس لقيام المنبر الحسيني وتوسّع مدرسته. وأهم هذه الآراء هي:

الرأي الأوّل: التوّابون (١)

يذهب أحد المستشرقين، إلى أنّ أوّل من أقام المآتم على

____________________

(١) التّوابون: جيش كوفي قوامه أربعة آلاف رجل، ممّن ندم على خذلانه الحسين وعدم نصرته له. فتوجّهوا إلى كربلاء سنة ٦٥ هـ. وأبرزوا ندمهم وتوبتهم، ثمّ اتجهوا إلى بلاد الشام حتى كانت معركة عين الوردة في أعالي نهر الفرات سنة ٦٥ هـ. ولم يرجع منهم إلاّ القليل بعد قتالٍ شديد مع الجيش الأموي، وقد عرف هذا الجيش بـ (التوابون) لما أبرزوه من ندمٍ وتوبة. واسم (التوابون) قديم، حيث نجد أنّ ابن الأثير في الكامل يضع عنواناً حول التوابين وأخبارهم. وأنّ التوابين هم من أطلق هذا الاسم. حيث كانوا (قد أحسّوا بالخطر الفادح بخذلانهم الحسينعليه‌السلام ، ورأوا أنّ هذا الخذلان لا يغسله إلاّ قتل من قتله، أو القتل =

٤٩

الحسين، هم جيش التوابين، حينما غادروا الكوفة، ووصلوا إلى موضع قبور شهداء كربلاء، حيث أقاموا المأتم ثلاثاً، وعلت أصواتهم بالبكاء والنحيب، عند قبر الحسين(١) ، إذ (عندما ثار التوابون سنة ٦٥ للهجرة (٦٨٤م)، أخذوا أسلحتهم إلى هناك ورفعوا عقائرهم(٢) معاً، في نحيب عالٍ. وبكوا وابتهلوا إلى الله أنْ يغفر لهم تخلّيهم عن حفيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ساعة ضيقة. وصاح زعيمهم(٣) : اللهم ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد، المهدي بن المهدي، الصدّيق ابن الصدّيق. اللهم اشهد إنّنا على دينهم وسبيلهم، وأعداء مقاتليهم وأولياء محبّيهم.

وهنا تكمن، نواة التعزية، ومسرحيات المآتم، التي تمثّل كل عام، في العاشر من محرّم حيثما وجد الشيعة)(٤) .

وهذا هو الرأي الأوّل، في مسألة نشوء المنبر الحسيني، التي عبّر بها بـ (التعزية) - وهو المصطلح الشائع في البلاد الهندية اليوم - ونشوء ظاهرة تمثيل الواقعة، والتي هي ليست محل دراستنا هنا.

ومن المناسب هنا، أنْ نذكر أنّ هذا البكاء والنحيب العام، الذي أطلقه التّوابون عند قبر الحسينعليه‌السلام بكربلاء سنة ٦٥ هجرية، رافقه في تلك الفترة حدث آخر، سجلته بعض المصادر التاريخية

____________________

= في سبيله، وأكثروا من البكاء على الحسين، وسمّوا أنفسهم التوابين) (الحسني، هاشم معروف: الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ، ص٣٢٤). وعين الوردة: رأس عين، المدينة المشهورة بالجزيرة، كانت فيها وقعة للعرب، ويوم من أيّامهم، وكان أحد رؤسائهم يومئذ: رفاعة بن شدّاد. (الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان، ٤ / ١٨٠).

(١) لمزيد من التفصيل في أمر التوابين يراجع (تاريخ الطبري ٤ / ٤٢٧) و(تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٣٢ و ٣٤١).

و(مروج الذهب للمسعودي ٣ / ٩٣)، ومصادر أخرى.

(٢) عقائرهم جمع عقيرة وهي الصوت.

(٣) وهو الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي. المقتول في واقعة عين الوردة سنة ٦٥ هـ.

(٤) تكلسن، ريولد: تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام، ص٣٢٩.

٥٠

وهذه المرّة من رجل آخر، رفع شعار طلب ثأر الإمام الحسينعليه‌السلام وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي(١) ، الذي سيطر على الكوفة، بُعيد خروج التوابين إلى الشام، لمواجهة الجيش الأموي، في واقعة عين الوردة عام ٦٥ هجرية.

إذ لما بلغ المختار بن أبي عبيدة الثقفي، عدم رضا محمد بن الحنفية(٢) عنه، لأنّه يُجلس عمر بن سعد(٣) ، على وسائده (... قال المختار لأبي عمرو صاحب حرَسه: استأجر لي نوائح يبكين الحسين، قال عمر لابنه حفص: يا بني، ائت الأمير فقل له: ما شأن النوائح يبكين الحسين على بابي؟)(٤) .

فهنا نجد أنّ المختار قصد استئجار نساء ينُحْ على الحسين، أي أنّه أمر بإقامة مأتم يندب فيه الحسين. ممّا يمكننا القول، بأنّه من أوائل المآتم التي أقيمت بقصدٍ بعد واقعة كربلاء. ولكنّنا لم نجد من

____________________

(١) المختار بن أبي عُبيدة بن المسعود الثقفي، أبو إسحاق، من زعماء الثائرين على بني أمية. ولد سنة ١ للهجرة بالطائف، ثمّ انتقل إلى المدينة بعد أبيه الذي استشهد في فتوح فارس. نزل مسلم بن عقيل بن أبي طالب في منزله بالكوفة حينما بعثه الحسين إلى أهلها. سجنه ابن زياد ثمّ بايع عبد الله بن الزبير وعاد إلى الكوفة. قتل الكثير ممّن شرك في قتل الحسين. ثمّ قُتِل في معركة مع مصعب بن الزبير عام ٦٧ للهجرة. (ودفن في الكوفة وقبره معروف)(الزركلي، خير الدين: الأعلام ٧ / ١٩٢).

(٢) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، أبو القاسم، عرف بنسبه إلى أمّه الحنفيّة وهي خولة بنت جعفر بن قيس، من بني حنيفة، من الأبطال الأشدّاء في صدر الإسلام. ولد سنة ٢١ للهجرة في المدينة. توفي في المدينة ٨١ للهجرة. (بحر العلوم، محمد تقي: مقتل الحسين، ١٣٦).

(٣) عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري القريشي، أبو حفص من الأمراء والقادة، سيّره عُبيد الله بن زياد على أربعة آلاف لقتال الديلم وكتب له عهده على الريّ. فلمّا علم ابن زياد بمسير الحسين في الكوفة، كتب إليه أنْ يعود. فلمّا عاد ولاّه قتال الحسين فاستعفاه فهدّده ابن زياد فأطاعه. حتى خرج لقتال الحسين في كربلاء ٦١ للهجرة. ثمّ بقي في الكوفة حتى قتله جماعة المختار الثقفي سنة ٦٦ للهجرة. (الزركلي، خير الدين: الأعلام ٥ / ٤٧).

(٤) ابن قتيبة، عبد الله: الإمامة والسياسة ٢ / ٢٤.

٥١

يذهب إلى أنّ المختار، هو أوّل من أسّس، ودعا إلى إقامة المآتم على الإمام الحسينعليه‌السلام . ربّما لأنّ التوابين قد سبقوه إلى إقامة تلك النياحة الكبرى، عند قبر الإمام الحسين، والتي كانت مسألة أشهُر فقط.

والنتيجة؛ أنّ التوابين أقاموا مأتماً كبيراً على قبر الحسين بكربلاء، وهناك رأي يقول: أنّ التوابين - بذلك - هم المؤسّسون للعزاء والمآتم الحسينية وإنّ هم وضعوا نواة ذلك.

مناقشة الرأي الأوّل:

لو أردنا مناقشة هذا الرأي، فيمكن أنْ نسجّل عليه هذه الملاحظات:

(١) إنّ المأتم أو النواح، الذي أقامه التوابون عند قبر الحسين واستمرّ ثلاثة أيام، هو من المآتم العفوية، وليس من المآتم الهادفة، والتي هي موضوع بحثنا؛ لأنّ التوابين حينما توجّهوا إلى كربلاء، لم يتوجّهوا إليها بهدف إقامة مراسم العزاء، ولكنّهم مرّوا على كربلاء - وهم في طريقهم إلى مواجهة أعدائهم الأمويين - من أجل تجديد العهد، على الأخذ بثأره، وقتال من أمَر بقتله. ثمّ إنّ العواطف أخذت مأخذها، حينما رأوا القبور، وتذكّروا ما جرى يوم عاشوراء سنة ٦١ هـ ولهذا فإنّ المأتم الذي دعا إليه المختار، يمكن أنْ يكون أقرب إلى المأتم الهادفة، من بكاء التوابين عند قبر الحسينعليه‌السلام بكربلاء.

(٢) لقد مرّ بنا أن المأّتم أخرى عفوية، قد رافقت مسيرة السبايا في كربلاء والكوفة والشام حتى المدينة، فلماذا لا تعتبر تلك المآتم هي (نواة التعزية). خاصة أنّها تتضمّن بكاء بعضٍ من أهل البيت، ومجموعة من الصحابة وسادة المسلمين، ممّا يعطيها قدسية خاصة.

(٣) مهما قيل في نبل موقف التوابين وصدق نياتهم، حتى مضوا

٥٢

في واقعةٍ من أندر الوقائع التاريخية، التي اندفع أصحابها للقتل بشكل تضحوي بارز، رغم كل ذلك، فإنّ التوابين لا يملكون المؤهّلات الشرعية والدينية التي تجعل تصرّفاتهم سنّة يستنّ بها الشيعة، ويُعظّمها أئمتُهم وعلماؤهم.

الرأي الثاني: البويهيّون (١)

إنّ مَن يراجع المصادر التاريخية، التي تحدثت عن حوادث سنة ثلاثمِئة واثنتين وخمسين للهجرة، أي بعد ما يقارب من ثلاثة قرون على واقعة كربلاء، وحينما كان البويهيون، يسيطرون على مقاليد الخلافة العبّاسية في بغداد، يجد أنّ تلك المصادر سجّلت ما أمر به معزّ الدولة البويهي يوم عاشوراء من تلك السنة. يقول ابن الأثير في الكامل: (في هذه السنة عاشر المحرّم. أمر معزّ الدولة(٢) الناس أنْ يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء. وأنْ يُظهِروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح(٣) ، وأنْ تخرج النساء، منشّرات الشعور، مسودّات الوجوه، وقد شقَقن ثيابهن في البلد ويلطمن وجوهن، على الحسين بن

____________________

(١) بنو بويه: أسرة فارسية من أصل ديلمي، حكمت (٣٣٤ - ٤٤٧هـ) الموافق (٩٣٢ - ١٠٥٥م) أسّس حكمهم أبو شجاع بويه. استولى أولاده علي عماد الدولة والحسن ركن الدولة، وأحمد معزّ الدولة على أصفهان وشيراز وكرمان وبغداد. وبقوا في حكم بغداد حتى غلبهم السلطان السلجوقي طغرل بك سنة ٤٤٧ هـ ١٠٥٥ م (معلوف، لويس: المنجد / الأعلام ص١٥٥).

(٢) معزّ الدولة: أحمد بن بويه بن فناخسرو بن تمام، من سلالة سابور ذي الأكتاف الساساني ولد سنة ٣٠٣ هجرية في بلاد الديلم. فارسي الأصل مستعرب. يقال له الأقطع لأنّ يده اليسرى قطعت في معركة مع الأكراد. سيطر على بغداد سنة ٣٣٤ هجرية في خلافة المستكفي. حكم ٢٢ عاماً، مات ببغداد سنة ٣٥٦ هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ١ / ١٠٥).

(٣) المسوح: جمعهُ مِسْح وهو الكساء من الشَعر.

٥٣

علي رضي الله عنهما ففعل الناس ذلك...)(١) .

هذا، وقد شكّك علماء الشيعة، ببعض ما ذكر آنفاً:

يقول: السيد محسن الأمين في موسوعة (أعيان الشيعة) معلّقاً على ما ذكرته المصادر التاريخية من خروج النساء على تلك الهيئة التي وصفت، فيقول: (مُبالغ فيه فإبراز النساء شعورهن أمام الأجانب محرّم بضرورة الدين، فكيف يقدم عليه وهو إنّما يفعل ذلك تدّيناً؟ وكيف يمكّنه أهل الدين منه)؟(٢) ويذكر أحد العلماء، إنّ مواكب الحزن والبكاء هذه، لم يكن فيها اختلاط بين الرجال والنساء (فكانت النساء تخرج ليلاً والرجال نهاراً)(٣) .

وعلى كل حال، فقد رصد هذه الظاهرة، في بغداد، كل المصادر التي تحدثت عن تلك الفترة.

ولكن بعض هذه المصادر، لم تكتفِ برصد الظاهرة وتسجيلها، بل أبدى بعض المؤرِّخين رأياً فيها، فالحافظ جلال الدين السيوطي، يعلّق بعد ذكره لحوادث يوم عاشوراء ذاك فيقول: (وهذا أوّل يوم نِيْحَ على الحسينعليه‌السلام فيه ببغداد.

ويقول الذهبي في تاريخ الإسلام: (هذا أوّل يوم نيح عليه ببغداد)(٥) .

____________________

(١) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ، ٧ / ٧ راجع كذلك (السيوطي، عبد الرحمان بن أبي بكر: تاريخ الخلفاء ص٤٠١)، (ابن كثير: إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية - ١١ / ٢٤٣)، (ابن الجوزي، عبد الرحمان، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ٧ / ١٥) ولم يؤرّخ الطبري ذلك؛ لأنّ آخر سنة أرّخها هي ٣١٠ هجرية.

(٢) الأمين، محسن: أعيان الشيعة، ٢ / ٤٨٦.

(٣) الشهرستاني، هبة الدين: نهضة الحسين، ص١٧٥.

(٤) السيوطي، عبد الرحمان بن أبي بكر: تاريخ الخلفاء ص٤٠١.

(٥) الذهبي، محمد بن أحمد: تاريخ الإسلام. حوادث (٣٥٧ - ٤٨٠هـ) ١٧ / ١١، وقاله الذهبي كذلك في كتابه (العِبر في خبر من غبر، ٢ / ٨٩).

٥٤

وردّد هذه المقالة آخرون من القدماء والمحدثين(١) حتى تولّد فهم مفاده أن ّّّالبويهيّين، هم أول مَن أقام المأتم الحسيني (المنبر الحسيني). باعتبار إنّ مظاهر العزاء المذكورة، يصاحبها إنشاد للشعر الرثائي، وقراءة لمقتل الحسينعليه‌السلام ، وهما العنصران المؤسّسان، لظاهرة المنبر الحسيني، كما سيأتي بيانها.

مناقشة الرأي الثاني:

وهنا لابدّ أنْ نثير بعض النقاط:

(١) إنّ المصادر التاريخية، التي أرّخت ليوم عاشوراء عام ٣٥٢هـ، قد ذكرت؛ أنّه أوّل يوم نيح فيه على الحسينعليه‌السلام ببغداد، ولم تقل أنّه أوّل يوم أقيمت فيه المأتم على الحسين مطلقاً. وفي كل البلدان. فلا يمنع هذا القول من احتمال قيام مآتم للحسين، سبقت هذا التاريخ، في بلدان أخرى غير بغداد، لو سلمّنا بما قالته هذه المصادر.

(٢) إنّ البويهيّين، ومهما قيل عنهم، فإنّهم لا يعدون أنْ يكونوا سلاطين وأُمراء، كانت لهم مقادير الحكم في بغداد. ولكنّهم لا يمتلكون الأهلية الشرعية، والقداسة الدينية، حتى يمكن أنْ يكون عملهم سنّة وقدوة. فإذا كان التوّابون مع كل ما عُرفوا به، من صدق وإخلاص واندفاع نحو الموت، وفيهم بعض الصحابة، ومع ذلك قلنا: إنّ مأتمهم في كربلاء، لا يصلح أنْ يكون سنّةً ومبرّراً شرعياً عند الشيعة في هذه المسألة، فكيف يمكن أنْ يكون ذلك لبني بويه، وهم دون التوّابين في تديّنهم والتزامهم؟ أي إنّ ما قيل في مناقشة الرأي

____________________

(١) على سبيل المثال، ما ذكره د. فاروق عمر في كتابه (الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية)، ص١١ حيث جاء فيه: (إنّ معزّ الدولة، هو الذي استنّ (هكذا) سُنّة النواح على الحسين (رض) في يوم عاشوراء، وجعلها عزاءً رسمياً، ولم تكن كذلك قبله. فأمر بغلق الدكاكين والأسواق، وإظهار النواح).

٥٥

الأول، يقال هنا وبشكل أقوى وأكثر دلالة.

(٣) ونعود إلى ما ذكره المؤرّخون، من تحديد يوم عاشوراء سنة ٣٥٢ هـ، من أنّه أول يوم نيح على الحسينعليه‌السلام فيه. ونسأل: هل يمكن لنا أنْ نجد ما يثبت، أنّ هناك مآتم كانت موجودة في بغداد أو غيرها قبل هذا التاريخ أم لا؟ فإذا لم يثبت ذلك، رجّحت كفّة قول هؤلاء المؤرّخين. وإنْ وجدنا إنّ هناك مآتم أقيمت في غيرها، فهذا يدل على أنّ المأتم الحسيني، عُرف له وجودٌ قبل هذا التاريخ في غير مدينة بغداد. أمّا إذا وجدنا، أنّ ّهناك مآتم، كانت قائمةً حتى في بغداد وقل هذا التاريخ، فإنّ من حقّنا أنْ نسجّل ملاحظة على دقّة ما ذكره بعض المؤرّخين سابقاً، حول هذه النقطة.

رصد بعض أدلّة وجود المنبر الحسيني قبل البويهيّين

قد بذلت ما بوسعي من جهد، لرصد ما أمكنني رصده، من تلك الأدلة، ولا يخفى أنّ هذا العمل تكتنفه الصعوبة من جوانب عدّة، منها:

١ - أنّ كتب التاريخ، إنّما تهتم - عادةً - بتسجيل أعمال وأحداث الخلفاء والحكّام والسلاطين، الذين حكموا بلاد المسلمين، ورصد بعض الوقائع في عهودهم. ولولا أنّ البويهيّين كانوا قد حكموا بغداد، لما اهتمّت كتب التاريخ بأمرهم ولما رصدته أساساً، ومنه ما كان يوم عاشوراء عام ٣٥٢ هـ. وعليه، فإنّ المصادر التاريخية لم تتعرّض إلى موضوع المأتم الحسيني إلاّ ما جاء عرضاً.

٢ - ولا نريد أنْ نغفل بعض الأجواء المذهبية، والظروف التاريخية، والتي جعلت المنبر الحسيني ينحصر في الشيعة، دون بقية مذاهب المسلمين، ممّا يعني عدم إيلاء عموم كتب المسلمين

٥٦

مسألة المنبر الحسيني اهتماماً، ممّا يجعل البحث أكثر صعوبة. ببداهة، أنّ البحث في مسألة أو أمر يهتمّ به جميع المسلمين، غير البحث في مسألة خاصة، ببعض مذاهبهم ومدارسهم. ممّا يعني بالتالي، قلّة المصادر وندرة المراجع.

٣ - لعل للأجواء السياسية الضاغطة والمتحسّسة، من مسألة إقامة المآتم على الحسينعليه‌السلام في فترة الحكم الأموي؛ بما تتضمّنه المآتم من إدانة لقتلته، قد ساهمت بشكل كبير، في إبقاء هذه المآتم في أجواء التكتّم. وقد أشارت بعض المصادر إلى هذه المسألة. وكمثال؛ ما علّق به ابن الأثير في الكامل، على قصيدةٍ لأعشى همدان(١) قالها في رثاء التوابين بقوله: (وهي ممّا يكتّم ذلك الزمان)(٢) ، ومطلع القصيدة:

ألّمَّ خيال منك يا أمّ غالب

فحيّيت عنّا مَن حييت بجانبِ

ثمّ إنّ العباسيّين، بعد ذلك، كانوا كالأمويّين في تحسّسهم من مسألة المأتم الحسيني، كما سيتّضح لاحقاً.

٤ - إنّ الساحة الإسلامية، لم تبرز دولاً شيعية قبل البويهيّين في بغداد، والحمدانيّين في حلَب والفاطميّين في مصر، والتي جاءت بفترات زمنية متقاربة، وما أدرانا لو أنّ الشيعة حكموا قبل هذا التاريخ، لجاءت المصادر مسجّلةً للمآتم الحسينية عنهم، بمثل ما جاءت كتب التاريخ وسجّلته عن البويهيين في بغداد.

وبعد عرض النقاط الأربع الآنفة، نعود إلى بحثنا حيث لابدّ أنْ نذكّر، أنّا نرصد المآتم التي أقيمت بوعيٍ وقصد، بعد انتهاء واقعة كربلاء،

____________________

(١) أعشى همدان: عبد الرحمان بن عبد الله بن الحارث بن نظام بن جشم الهمداني. شاعر اليمانيين بالكوفة وفارسهم في عصره. من شعراء الدولة الأموية. غزا الديلم وله شعر كثير في وصف بلادهم. انضمّ إلى عبد الرحمان بن الأشعث. أسر وأمر به الحجاج فضرب عنقه سنة ٨٣ للهجرة. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٣ / ٣١٢).

(٢) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ ٣ / ٣٤٥.

٥٧

ولسنا معنيين بتلك المآتم العفوية، التي رافقت حوادث كربلاء وما تلاها.

المآتم الحسينية قبل سنة ٣٥٢ هـ

من المآتم التي أقيمت بقصد ما يلي:

(١) المأتم الذي أقامه التوابون، عند قبور شهداء كربلاء عام ٦٥ للهجرة (وقد سبقت الإشارة إليه)، وباعتباره مأتماً أقيم بعد واقعة كربلاء بأربع سنين، حسب بعض الآراء.

(٢) ما أمر به المختار بن عبيدة الثقفي، لنوائح يُنحن على الحسين، عند باب عمر بن سعد (وقد سبقت الإشارة إليه أيضاً) سنة ٦٥ أو ٦٦ للهجرة.

(٣) ذكرت بعض المصادر الأدبية، أنّ السيدة سكينة بنت الحسين(١) كانت تولي شعر النياحة اهتماماً كبيراً، (وقال ابن جامع(٢) : وحدثني جماعة من شيوخ أهل مكّة أنّهم حدّثوا: إنّ سكينة بنت الحسين، بعثت إلى ابن سريج(٣) بشعر أمرته أنْ يصوغ فيه لحناً يناح به، فصانج(٤) به، وهو الآن داخل في غنائه، والشعر:

____________________

(١) السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمية القريشيّة. نبيلة من سيّدات المسلمين. روي عنها مجالستها لأجلّة الشعراء من قريش. ونفاها قوم آخرون. تزوجها مصعب بن الزبير. (كانت سبية مع أهلها في واقعة كربلاء). توفّيت في المدينة سنة ١١٧ هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٣ / ١٠٦).

(٢) أبو القاسم إسماعيل بن جامع السهلي القريشي. ويعرف أيضاً بابن أبي وداعة. من أشهر المغنّين ومن أحفظ الناس للقرآن الكريم. ولد بمكّة ومن ثمّ انتقل إلى المدينة المنوّرة واحترف الغناء حتى اشتهر فيها. اتصل بالرشيد فحظي عنده حتى مات سنة ١٩٢ هجرية. (الزركلي، خير الدين، الأعلام، ١ / ٣١١).

(٣) ابن سريج: هو أبو يحيى عبيد الله بن سريح، ولد في مكة، مغنٍ وملحّن، ويُقال هو أوّل من أدخل العود الفارسي إلى مكة، وقد تعلّم الضرب من صنّاع الفرس الذين أعادوا بناء الكعبة. اشتهر بصياغة الألحان توفّي بعد ٧٢٤ م. (معلوف، لويس: المنجد ٢ / ٣٥٤).

(٤) صانج: اسم فاعل من الصنج (فارسية) معناها: الصوت المستخدم في الغناء. والصنج =

٥٨

يا أرضُ ويحك أكرمي أمواتي

فلقد ظفرتِ بسادتي وحُماتي

فقدّمه ذلك عند أهل الحرمين، على جميع ناحية مكّة والمدينة والطائف)(١) .

ولا نحتاج إلى مزيد اهتمام، لنربط بين اهتمام السيدة سكينة بالنوح، وبين كون هذا النوح هو على الإمام الحسينعليه‌السلام .

وهذا النصّ، يدلّ على وجود مختصّين بشعر النياحة وإنشاده، في مكة والمدينة والطائف، على الأقل تقيّداً بما ذكره النصّ. ولا شكّ أنّ بعض هؤلاء النياحة، قد وجد في شعر الرثاء الحسيني مادةً خصبة لتخصّصه.

ثمّ يذكر أنّ السيدة سكينة، لم تكتف بنوح ابن سريج بل (بعثت إلى ابن سريج، بمملوك لها، يقال له عبد الملك، وأمرته أنْ يعلّمه النياحة، فلم يزل يعلّمه مدّة طويلة)(٢) .

(٤)_ورد في ترجمة السيد الحِمْيَري(٣) ، كما جاء في الأغاني، أنّه قد (ذكر التميمي - وهو علي بن إسماعيل - عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد(٤) ، إذ استأذن آذنه للسيد، فأمره بإيصاله،

____________________

= صفيحة من النحاس (الصُفر) مدوّرة تضرب على أخرى مثلها عند الغناء. (ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب ٢٠ / ٣١١).

(١) الأصفهاني، علي بن الحسين: الأغاني - ١ / ٢٥٥ ولابدّ أنْ نسجّل هنا تحفّظنا على ما ذكره صاحب الأغاني من أمور أُلصقت بالسيدة سكينة لا تناسب موقعها الديني ووضعها والنفسي، خاصّة بعد استشهاد أبيها الحسينعليه‌السلام .

(٢) المصدر نفسه ١ / ٢٠٥.

(٣) السيد الحميري: أبو جعفر محمد بن وهيب الحميري البصري، ولد في البصرة وعاش في بغداد. كان يتكسب المديح ويتشيع. له مراثٍ في أهل البيت. (كان من أبوين أباضيّين). عهد إليه بتأديب الفتح بن خاقان. توفّي سنة ١١٥ هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، ٧ / ١٣٤).

(٤) أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أمّه أمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر. ولد في المدينة سنة ٨٣ للهجرة. من أئمّة المسلمين =

٥٩

وأقعد حرمه خلف ستر، ودخل فسلّم وجلس، فاستنشده فانشد، قوله:

أُمرر على جَدَثِ الحس

ين وقل لأعظمهِ الزكيّة

أأعـظماً لا زلـتِ مِن

وطـفاء سـاكبةٍ رويّـة

وإذا مررتِ بـقبرهِ

فأطـل بهِ وقفَ المطيّة

وأبـكِ الـمطهّر لـلمط

هّـرِ والـمطهّرةِ النقيّة

كـبكاء مـعولةٍ أتـت

يوماً لواحدها المنيّة(١)

قال: فرأيت دموع جعفر بن محمّد تنحدر على خدّيه، وارتفع الصراخ من داره، حتى أمره بالإمساك فأمسك)(٢) .

فهذا النصّ، يكشف أنّ الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام ، قد طلب من الشاعر، السيد الحميري، أنْ يُنشده شعراً في رثاء الحسينعليه‌السلام ، ولم يكتف بذلك بل أقام ستاراً وأجلس نساءه خلفه.

ولمّا أنشد الحميري، بكى الإمام الصادق، وارتفعت أصوات الصراخ من الدار.

وفي مكان آخر من الأغاني، (قال التميمي، وحدّثني أبي قال: قال لي فضيل الرسّان: وأُنشد جعفر بن محمّد الصادق قصيدة السيّد:

____________________

= والسادس من أئمّة أهل البيت شهد بفضله وعلمه كبار الفقهاء والعلماء. انتقل من المدينة إلى الكوفة بطلبته ومدرسته، له عدّة ألقاب، أشهرها الصادق، مات سنة ١٤٨ هجرية ودفن في البقيع. (الأربلي، علي بن عيسى: كشف الغمة في معرفة الأئمة، ٢ / ٣٦٧).

(١) الجَدَث هو القبر، والوطفاء هي جمع وُطُفُ وهي المطر، والمُعولة هي التي تبكي مع رفع الصوت. ومعنى الأبيات: أنّها دعوة لِمن يمرّ على قبر الحسين أنْ يقف عنده وهو يخاطب جسده وإنّما خوطبت العظام لأنّها آخر ما يبقى من الميت في قبره، وهكذا جرت عادة شعراء العرب. يخاطب تلك العظام الزكية ويدعو لها بأنْ تدوم عليها الأمطار الساكبة الغزيرة، وأنْ يقف طويلاً إذا وصل القبر. ولا يكتفي بالوقوف حتى يشفعه بالبكاء؛ لأنّه مطهّر بن مطهّر بن مطهّرة وهما علي وفاطمة. وأنْ يكون بكاؤه بحرقة وحزن كبكاء أمٍّ فقدت ولدها الوحيد.

(٢) الأصفهاني، علي بن الحسين (أبو الفرج): الأغاني ٧ / ٢٤٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

قصّة بعض الفضلاء

ومنها : قصّة تغيّر الأمر الإلهي في قبض روح بعض الفضلاء من أهل السنّة ، كما حكاه الشعراني في (لواقح الأنوار ) بترجمة الشيخ محمد الشريبي ، إذ قال :

( وأخبرني والده الشيخ أحمد ـ أيضاً ـ وصدّقه على ذلك الإمام العالم العلاّمة شهاب الدين البهوني الحنبلي ، قال : مرضت مرّةً حتّى أشرفت على الموت ، وحضرني عزرائيل ، ورأيته جالساً عندي لقبض روحي ، فدخل عليّ والدي ، فقال لعزرائيل : راجع ربّك فإنّ ذلك الأمر تغيَّر ، فخرج عزرائيل وأنا أعيش إلى الآن ، والحكاية لها أكثر من ثلاثين سنة )(١) .

تبدّل حال الرجل

ومنها : تبدّل حال الرّجل من الشقاوة إلى السعادة ، كما ذكر القاضي ثناء الله في (تفسيره ) بعد ذكر مذهب ابن مسعود وعمر ، قال :

( ويوافق مذهب عمر وابن مسعود ( رضي الله عنهما ) ما ذكر في المقامات المجدديّة : أنّ المجدّدرضي‌الله‌عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوباً في ناصية ملاّ طاهر اللاّهوري ( شقيّ ) ، وكان ملاّ طاهر معلّماً لابنيه الكريمين محمّد سعيد ومحمّد معصوم ( رضي الله عنهما ) ، فذكر المجدّدرضي‌الله‌عنه ما أبصر لولديه الشريفين ، فالتمسا منه ( رضي الله عنهم ) أن يدعو الله سبحانه أن يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة ، فقال المجدّدرضي‌الله‌عنه : نظرت في اللّوح المحفوظ ، فإذا فيه : إنّه قضاءٌ مبرم لا يمكن ردّه ، فألجأه ولداه الكريمان في الدعاء لمّا التمسا منه ، فقال المجدّدرضي‌الله‌عنه : تذكّرت ما قال غوث الثقلين السيّد السند محي الدين عبد القادر الجيليرضي‌الله‌عنه : إنّ القضاء المبرم أيضاً يردّ بدعوتي ، فدعوت الله سبحانه ، وقلت : اللّهمّ رحمتك واسعة وفضلك غير مقتصرٍ على أحد ، أرجوك وأسألك من فضلك العظيم أن تجيب دعوتي في محو كتاب الشقاء من ناصية ملاّ طاهر وإثبات السعادة مكانه ، كما أجبت دعوة السيّد السندرضي‌الله‌عنه قال : فكأنّي أنظر إلى ناصية ملاّ طاهر

ـــــــــــــــــ

(١) لواقح الأنوار ـ ترجمة الشيخ محمّد الشريبي .

٢٢١

إنّه مُحِي منها كلمة ( شقيّ ) وكُتب مكانه ( سعيد ) وما ذلك على الله بعزيز ) .

قصّة أبي رومي

ومنها : قصّة أبي رومي ، التي رووها عن ابن عباس ، كما في (الدر المنثور ) قال :

( أخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال : كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه ، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلاّ ارتكبه ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لئن رأيت أبا رومي في بعض أزقّة المدينة لأضربنّ عنقه .

وإنّ بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه ضيف له ، فقال لامرأته : اذهبي إلى أبي رومي فخذي لنا منه بدرهم طعاماً حتّى ييسّر الله تعالى فقالت له : إنّك لتبعثني إلى أبي رومي وهو أفسق أهل المدينة ؟!

فقال : اذهبي فليس عليك منه بأس إنْ شاء الله تعالى ، فانطلقت فضربت عليه الباب ، فقال : من هذا ؟

قالت : فلانة

قال : ما كنت لنا بزوّارة ؟!

ففتح لها الباب فأخذها بكلام رفث ، ومدّ يده إليها فأخذتها رعدة شديدة ، فقال : ما شأنك ؟

قالت : إنّ هذا عمل ما عملته قطّ

قال أبو رومي : ثكلت أبا رومي أُمّه ، هذا عمل عَمِله وهو صغير لا تأخذه رعدة ولا يبالي على أبي رومي ، عهد الله إن عاد لشيء من هذا أبداً .

فلمّا أصبح غدا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان ، وقال له : يا أبا رومي ما عملت البارحة ؟

فقال : ما عسى أن أعمل يا نبيّ الله ، أنا شرّ أهل الأرض ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله قد حوّل مكتبك إلى الجنّة فقال :( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) ) .

٢٢٢

وأخرج يعقوب بن سفيان وأبو نعيم عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال : كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه ، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلاّ ارتكبه ، فلمّا أصبح غدا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعيد قال : مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان ، فقال له : يا أبا رومي ، ما عملت البارحة ؟

قال : ما عسى أن أعمل يا نبيّ الله ، أنا شرّ أهل الأرض

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله جعل مكتبك إلى الجنّة ، فقال :( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ الْكِتَابِ ) (١) .

وبعد :

فهل يبقى المعاندون يشنّعون على الإماميّة رواياتهم في البداء وعقيدتهم في هذه الحقيقة الدينيّة ؟

وهل يستمرّون على التبحّج بكلام سليمان ابن جرير الزيدي(٢) وأمثاله من أعداء أهل البيت ؟

ـــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٤ : ٦٦٣ .

(٢) انظر الملل والنحل ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ .

٢٢٣

الميثـاق والصّـور

رأي السيّد المرتضى في خبر الميثاق

لقد نسب الشيخ عبد العزيز الدهلوي صاحب كتاب (التحفة الإثني عشريّة ) ـ تبعاً لشيخه الكابلي صاحب (الصواقع ) ـ إلى السيّد المرتضى ـ رضي الله عنه ـ الحكم بوضع خبر الميثاق ، وقد أجاب عن ذلك علماؤنا الأعلام في ردودهم على كتاب (التحفة ) بالجملة والتفصيل ، وكان مجمل كلامهم : إنّ السيّد المرتضى لم يكذّب أخبار الميثاق المرويّة بالطرق المختلفة والأسانيد المتكثّرة ، ونحن نذكر أوّلاً كلام (التحفة ) ثمّ نعقّبه بنصّ عبارة السيّد المرتضىرحمه‌الله ؛ ليتّضح واقع الحال ، ويظهر كذب الدهلوي فيما نُسب إلى السيّد من المقال :

قال الدهلوي في (التحفة ) عند تعداد موارد غلوّ الإماميّة في الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام :

( الثاني ـ قولهم : إنّ الله تعالى أخذ من الملائكة والأنبياء الميثاق على ولاية الأئمّة وطاعتهم .

وهذا ـ أيضاً ـ خلاف العقل تماماً ؛ لأنّ أخذ الميثاق من الأنبياء على ذلك ـ مع العلم القطعي بعدم معاصرتهم للأئمّة ـ عبث محض ، إذ الغرض من أخذ الميثاق هو النصرة والإعانة وبيان المناقب ونشر المدائح ، وأيّ فائدةٍ في ذلك مع عدم اتّحاد الزمان

وأمّا أخذ الميثاق منهم على بيان وصف خاتم الأنبياء كما في القرآن المجيد ؛ فلأنّ نصوص نبوّته وصفاته ونعوته نازلة في الكتب السماويّة ومصرَّح بها فيها ، ووجود أهل الكتاب في زمانه وإظهار تلك النصوص على يده مقطوع به ، فلذا أخذ الميثاق من الأنبياء على تفهيم تلك النصوص وتبليغها إلى أُممهم ، وأخذ ذلك الميثاق من الأُمم أيضاً ؛ حتّى تبقى تلك النصوص قرناً بعد قرن ، من دون تغيير وتبديل ، إلى أنْ يأتي وقت الحاجة إلى إظهارها والاحتجاج بها .

٢٢٤

بخلاف إمامة الأئمّة ، فلا هي ممّا نزل في كتب الأنبياء ، ولا هي ممّا أُبلغ به الأُمم ، ولا ممّا وقعت الحاجة إلى إظهاره ؛ لأنّ الإمامة إنّما تثبت بالنصّ من النبي ؛ لكونها نيابةً عنه ، ولم يراجع أهل الكتاب بشأنها ولم يكن لقولهم فيها اعتبار ، ولو كان أخذ الميثاق في هذا الأمر ضروريّاً ، لأُخذ من أبي بكر وعمر وعثمان ، بل كان على النبيّ أنْ يأخذ منهم كتاباً في أنْ ليس لهم حقٌّ في الإمامة ، ويستشهد على ذلك الثقات ، ويودعه عند الأمير ، لا أنْ يأخذ الميثاق من موسى وعيسى وهارون ، الذين ليس لهم ولا لأتباعهم دخلٌ في غصب الإمامة من الأئمّة أو تقريرها والتسليم بها .

ومستمسك هؤلاء في هذا الغلوّ الباطل ، ما رواه محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر يقول : إنّ الله أخذ ميثاق النبيّين بولاية عليّ بن أبي طالب .

وما رواه محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد ، عن داود الرّقي ، عن أبي عبد الله في خبرٍ طويل ، قال : ( لمّا أراد الله أن يخلق الخلق نشرهم بين يديه ، وقال : من أنا ؟

فكان أوّل من نطق رسول الله وأمير المؤمنين والأئمّة ـعليهم‌السلام ـ فقالوا : أنت ربّنا

فحمّلهم العلم والدين ثمّ قال للملائكة : هؤلاء حملة علمي وديني وأمانتي من خلقي ، ثمّ قال لبني آدم : أقرّوا لله بالربوبيّة ولهؤلاء النّفر بالطاعة ، فقالوا : نعم ربّنا أقررنا ) .

في هذه الرواية والرواية السابقة لم يذكر أخذ الميثاق من الملائكة ، وإنّما الغرض من الرواية الثانية مجرّد إظهار فضل الأئمّة ، وشرفهم عند الملائكة ، ومن الواضح أنْ لا معنى لأخذ الميثاق من الملائكة ، ولذا لم يدخل الملائكة في أخذ ميثاقٍ من المواثيق ؛ لأنّ الميثاق إنّما يؤخذ من المكلَّفين ؛ لأنّهم الذين يحتمل منهم الطاعة والعصيان ، بخلاف الملائكة فإنّهم :

( لاَ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)

فأيّ فائدةٍ في أخذ الميثاق منهم ؟

وأيضاً ، فلم يذكر في الرواية الأخيرة أخذ الميثاق من الأنبياء ، إلاّ أنْ يستفاد ذلك من عموم لفظ ( بني آدم ) ولكنْ قد أشتهر أنّه : ما من عام إلاّ وقد خصّ منه البعض .

٢٢٥

وأيضاً ، فإنّ هذه الرواية فيها أخذ ميثاق الطاعة للنبيّ والأمير والأئمّة فقط ، فلابدَّ وأنْ يكون وجوب الطاعة للأنبياء أُولي العزم وغيرهم ـ الذي لا شكّ في ثبوته ـ قد وقع بطريق البداء !

والرواية التي تعجب هؤلاء القوم ، تجدها في مجاميع الشيخ ابن بابويه ، فقد روى ابن بابويه في خبرٍ طويل عن ابن عبّاس عن النبي ، أنّه لمّا أُسري به وكلّمه ربّه ، قال بعد كلامٍ : إنّك رسولي إلى خلقي وإنّ عليّاً وليّ المؤمنين ، أخذت ميثاق النبيّين وملائكتي وجميع خلقي بولايته .

وأحوال الصفّار وابن بابويه ورجالهما ـ خصوصاً محمّد بن مسلم وغيره ـ معروفة ، وركّة ألفاظ هذه الأخبار تشهد بكونها كذباً وافتراءً ، ومع هذا ، فإنّ أهل السنّة ـ والحمد لله ـ في غنىً عن توهين وتضعيف هذه الأخبار أو تأويل هذه المفتريات ؛ لأنّ الشريف المرتضى ـ الملقَّب بزعم الشيعة بـ ( علم الهدى ) ـ قد أثبت جدارته بهذا اللقب في كتابه (الدرر والغرر ) بتكذيب خبر الميثاق بكلّ جزمٍ وحتم ، وكفى الله المؤمنين القتال )(١) .

التحقيق فيما نُسب إلى السيّد المرتضى

حاصل هذا الكلام دعوى موافقة السيّد المرتضى العامّةَ في إنكار أخذ الميثاق على ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام من الأنبياء والملائكة ، وهل هذا إلاّ محض البهتان وصريح الإفك وواضح الهذيان ؟

وتوضيح ذلك :

أوّلاً : إنّ السيّد المرتضى لم يذكر في كتابه (الدرر والغرر ) خبر الميثاق أصلاً ، فضلاً عن أن يكذّب أو يصدّق به ، نعم ، قد ذكر السيّد قوله تعالى( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) وأنكر أن يكون المراد منها أنّ الله تعالى أخذ من جميع ذريّة آدم الذين في ظهره الميثاق على الإقرار بمعرفته تعالى ، وأنّه أشهدهم على ذلك ، وإنّما ذكر للآية تأويلاً آخر ، وأيّ ربطٍ لذلك بتكذيب أخبار الميثاق ؟!

ــــــــــــــ

(١) التحفة الاثني عشريّة : ١٦١ .

٢٢٦

وثانياً : إنّه على فرض أنّ السيّد ينكر وقوع أخذ الميثاق في عالم الأرواح ، فأين الدليل من كلامه على إنكار أخذ الميثاق على الإطلاق ، كما يدّعيه الدهلوي ؟

وكيف يثبت بذلك تضعيف خبر الصفّار وخبر ابن بابويه ، الدالّين على مطلق أخذ ميثاق ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟

فظهر أنّ نسبة تكذيب أخبار الميثاق على الإطلاق إلى السيّد المرتضى كذب بحت وبهتان صريح ، وهذا كتاب (الغرر والدرر ) موجود بين أيدي الناس ، ونسخه شائعة في البلاد ...

وبعد ، فإنّ العلماء قد اختلفوا في معنى الآية المباركة على قولين ، فذهب الأكثر إلى الأخذ بظاهرها ، وقالوا : بأنّ ذريّة آدم كانوا في عالم الأرواح ذوي عقولٍ ـ كما هم في هذا العالم ـ وقد أخذ منهم الميثاق ، وقال جماعة ـ منهم السيّد المرتضى ـ بتأويل الآية على معنىً آخر ، وهذا نصُّ عبارة السيّد في الكتاب المذكور :

( إنّه تعالى ، لمّا خلقهم وركّبهم تركيباً يدلّ على معرفته ، ويشهد بقدرته ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم ، كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، وكانوا ـ في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته ـ بمنزلة المقرّ المعترف ، وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى :( ثُمّ اسْتَوَى‏ إِلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهما جواب ، ومثله قوله تعالى :( شَاهِدِينَ عَلَى‏ أَنْفُسِهِم بِالْكُفْرِ ) ونحن نعلم أنّ الكفّار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم ، وإنّما لما يظهر منهم ظهوراً لا يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به )(١) .

فدلَّ هذا الكلام منه على أنّه غير منكرٍ لأصل الميثاق ، وإنّما له كلامٌ في كيفيّته ، وله رأيٌ في تأويل الآية .

ـــــــــــــــــ

(١) الغرر والدرر أمالي السيّد المرتضى ١ : ٣٠ .

٢٢٧

رأي الغزالي في خبر الميثاق

وهذا بخلاف الغزّالي مثلاً ـ من علماء القوم ـ فإنّه ينكر أصل الميثاق ، كما في كتابه (المضنون به على أهله ) :

 ( فقيل له ـ أي للغزالي ـ : إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد ، فما معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، وقولهعليه‌السلام : أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ، وقالعليه‌السلام : كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين ؟

فقالرضي‌الله‌عنه : شيء من هذه لا يدلّ على قدم الروح ، بل يدلّ على حدوثه وكونه مخلوقاً ، نعم ، ربّما يدلّ بظاهره على تقدّم وجوده على الجسد ، وأمر الظواهر ضعيف وتأويلها يمكن ، والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر ، بل يسلّط على تأويل الظواهر ، كما في ظواهر التشبيه في حقّ الله .

وأمّا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، فأراد بالأرواح أرواح الملائكة ، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسماوات والكواكب والماء والهواء والأرض ، كما أنّ أجساد الآدميّين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى الأرض ، وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير ، ثمّ لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكه ، ولا لفلكه إلى السماوات التي فوقه ، ثمّ كلّ ذلك اتّسع له الكرسي ، إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض ، والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش ، فإذا تفكّرت في جميع ذلك ، استحقرت جميع أجساد الآدميّين ، ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد .

فكذلك فاعلم وتحقّق : أنّ أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم ، ولو انفتح لك باب معرفة أرواح الملائكة لرأيت الأرواح البشريّة كسراج اقتبس من نار عظيمة طبّق العالم ، وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة ، ولأرواح الملائكة ترتيب ، ولكلّ واحد انفراد بمرتبة ، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان ، بخلاف

٢٢٨

الأرواح البشريّة المتكثّرة مع اتّحاد النوع والمرتبة ، أمّا الملائكة فكلّ واحدٍ نوعٌ برأسه وهو كلّ ذلك النوع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :( وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافّونَ ) وبقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الراكع منهم لا يسجد ، والقائم منهم لا يركع ، وإنّه ما من واحد إلاّ له مقام معلوم ، فلا تفهمنّ إذاً من الأرواح والأجساد المطلقة أرواح الملائكة .

وأمّا قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ؛ فالخلق هاهنا هو الإيجاد ، فإنّه قبل أن ولدته أُمّه ليس موجوداً مخلوقاً ، ولكنّ الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، وهو معنى قولهم : أوّل الفكرة آخر العمل بيانه : أنّ المقدّر المهندس أوّل ما يتمثّل صورته في تقديره ، وهي دار كاملة ، وآخر ما يوجد في أثر أعماله هي الدار الكاملة ؛ فالدار الكاملة أوّل الأشياء في ذهنه تقديراً وآخرها وجوداً ؛ لأنّ ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى غاية الكمال وهي الدار ، فالغاية هي الدار ، ولأجلها تُقدّر الآلات والأعمال )(١) .

فإن لم يتيسّر الوقوف على كتاب الغزالي ، فقد نقل المتأخّرون مقالته في كتبهم ، ففي (المواهب اللدنيّة ) ـ مثلاً ـ جاء محصّل المقالة المذكورة ، حيث قال :

( فإن قلت : إنّ النبوّة وصف ، ولابدّ أن يكون الموصوف به موجوداً ، وإنّما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضاً ، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله ؟

ـــــــــــــــــ

(١) المضنون به على أهله وهذا الكلام موجود في رسالته ( الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية ) ضمن ( مجموعة رسائل الإمام الغزالي ) : ١٧٨ ـ ١٨٠ .

٢٢٩

قلت : أجاب الغزالي في كتابالنفخ والتسوية عن هذا وعن قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ، بأنّ المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد ، فإنّه قبل أنْ ولدته أُمّه لم يكن موجوداً مخلوقاً ، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود )(١) .

فإنّ هذا الكلام يفيد أنّ الغزالي ينكر تقدّم خلق الأرواح على الأجساد ، ولا يسلّم بأنّ للخلق وجوداً سابقاً على ولادتهم الظاهريّة في هذا العالم ، ولا يرى خلقةً للنبيّ قبل وجوده الظاهري ، فضلاً عن القول بالوجود في عالم الذرّ .

ومن الواضح أنّ أخذ الميثاق في عالم الأرواح فرع على وجودها فيه .

فالغزالي ينكر وقوع الميثاق في ذلك العالم ، مع دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة من طرقهم في ذلك ، وكونها مخرّجةً في كتابي البخاري ومسلم ، وفي الموطّأ لمالك(٢) ، وغيرها من كتبهم كما أنّ السيوطي أخرج ما يقارب الخمسين حديثاً في أخذ الميثاق من ذريّة آدم في عالم الأرواح ، بذيل الآية المباركة من (الدرّ المنثور )(٣) .

وقد نصَّ الشعراني في (اليواقيت ) على ابتناء كثيرٍ من الاعتقادات في إثبات الحشر والنشر على مسألة الميثاق(٤) .

وحينئذٍ ، فكلّ جوابٍ يذكرونه من طرف الغزالي ، فهو الجواب من طرف السيّد المرتضى لو صحّت النسبة إليه !

ـــــــــــــــــ

(١) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّدية : ١ : ٣٦ .

(٢) الموطأ ٢ : ٨٩٨ ـ ٨٩٩/٢ كتاب القدر ، باب النهي عن القول بالقدر .

(٣) الدر المنثور ٣ : ٥٩٨ ـ ٦٠٧ .

(٤) اليواقيت والجواهر : ٤٣٩ ـ ٤٤٢ .

٢٣٠

رأي مجاهد في آية الميثاق

هذا ، وقد أنكر مجاهد أخذ الميثاق من الأنبياء ، والتزم بتحريف الآية المباركة الناصّة على ذلك ، كما ذكر السيوطي في (تفسيره ) إذ قال :

( أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله تعالى :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)

قال : هي خطأ من الكتّاب ، وهي في قراءة ابن مسعود : ميثاق الذين أُوتوا الكتاب .

وأخرج ابن جرير عن الربيع ، أنّه قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب ، قال : وكذلك كان يقرؤها أُبي بن كعب ، قال الربيع : ألا ترى إنّه يقول :( ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ ) لتؤمننّ بمحمّد ولتنصرنّه

قال : هم أهل الكتاب )(١) .

حول كلام الطبرسي في آية الصّور

وقد نُسب إلى الشيخ الطبرسي بل إلى الشيخ المفيد القول بأنّ ( الصور ) في قوله تعالى:

( وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض ِ ) (٢) هو ( جمع صورة ) وليس المراد ( صور إسرافيل ) .

وهذه النسبة باطلة ، وقد نشأت من الخطأ والغلط في فهم عبارة الشيخ المجلسي ...

فإنّ هذا المتوهّم قد نظر إلى قول الشيخ المجلسي :

( وأمّا الصور فيجب الإيمان به ، على ما ورد في النصوص الصريحة ، وتأويله بأنّه جمع الصورة كما

ـــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٥٢ .

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٦٨ .

٢٣١

مرَّ من الطبرسي وقد سبقه الشيخ المفيد )(١) وغفل عن كلامه السابق ، حيث قال :

( قال الطبرسي في قوله تعالى :( وَنُفِخَ فِي الصّورِ ) : اختلف في الصور .

فقيل : هو قرن ينفخ فيه عن ابن عباس وابن عمر

وقيل : هو جمع صورة ، فإنّ الله يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الأُمّهات ، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام أُمّهاتهم عن الحسن وأبي عبيدة

وقيل : إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات : النفخة الأُولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق يصعق من في السماوات والأرض بها فيموتون ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم )(٢) .

فهذا كلام صاحب (مجمع البيان ) ، وأين اختيار القول الذي نسب إليه ؟

فقول الشيخ المجلسي : ( كما مرّ من الطبرسي ) يعني : كما مرَّ نقل هذا القول ـ الذي قاله غير الطبرسي ـ من الطبرسي ، حيث نقله في تفسيره ، لا أنّه قائل به ومعتقد له .

بل لعلّ في تقديمه القول الأوّل إشارة إلى اختياره له بل إنّ كلامه في تفسير الآية المذكورة صريح في ذلك ، فإنّه قال في (مجمع البيان ) :

(( وَنُفِخَ فِي الصّورِ ) وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل

ووجه الحكمة في ذلك : إنّها علامة جعلها الله ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ تجديد الخلق ، فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول ، ولا تتصوّره النفوس بأحسن من هذه الطريقة

وقيل : إنّ الصّور جمع صورة ، فكأنّه ينفخ

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٦ : ٣٣٦ .

(٢) بحار الأنوار ٦ : ٣١٨ .

٢٣٢

في صور الخلق )(١) .

ثمّ قال ـرحمه‌الله ـ : (( فَصَعِقَ مَن فِي السّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ) أي : يموت من شدّة تلك الصيحة التي يخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض ، يُقال : صعق فلان : إذا مات بحال هائلة شبيهةٍ بالصيحة العظيمة ) .

قال : (( ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ) يعني : نفخة البعث ، وهي النفخة الثانية

وقال قتادة في حديثٍ رفعه : إنّ ما بين النفختين أربعين سنة

وقيل : إنّ الله تعالى يفني الأجسام كلّها بعد الصعق وموت الخلق ثمّ يعيدها

وقوله :( فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ) إخبار عن سرعة إيجادهم ؛ لأنّه سبحانه إذا نفخ النفخة الثانية أعادهم عقيب ذلك ، فيقومون من قبورهم أحياء )(٢) .

وعلى هذا المنوال كلامه في تفسيره الآخر (جوامع الجامع ) في قوله تعالى :( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) (٣) : ( والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين ، فيفنى الخلق بالنفخة الأُولى ويحيون بالثانية وعن الحسن إنّه جمع صورة )(٤) .

وقد قال في (مجمع البيان ) بتفسيرها : ( وأمّا الصور فقيل فيه إنّه قرن ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام نفختين ، فيفنى الخلائق كلّهم بالنفخة الأُولى ويحيون بالنفخة الثانية ، فتكون الأُولى لانتهاء الدنيا والثانية لابتداء الآخرة

وقال الحسن : هو جمع صورة ، كما أنّ السور جمع سورة ، وعلى هذا فيكون معناه : يوم ينفخ الروح في الصور .

ويؤيّد الأوّل : ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله

ـــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ٨ : ٤٥٩ .

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٦٠ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ٧٣ .

(٤) جوامع الجامع ١ : ٥٨٤ .

٢٣٣

وسلَّم ) إنّه قال :

( كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أنْ يُؤمر فينفخ ؟

قالوا : فكيف نقول يا رسول الله ؟

قال :قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) .

والعرب تقول : نفخ الصور ونفخ في الصور ، قال الشاعر :

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم

ولا خراسان حتّى ينفخ الصور )(١)

وكما أيّد القول الأوّل هنا بالحديث ، كذلك أيّده به بتفسير( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) حيث قال : ( وقد ورد ذلك في الحديث ) أي : إنّ القول الآخر لا مؤيّد له في الأحاديث ...

وقال بتفسير( فَإِذَا نُقِرَ فِي النّاقُورِ ) : ( الناقور فاعول من النقر ، كهاضوم من الهضم وحاطوم من الحطم ، وهو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به ) قال :

( معناه : إذا نفخ في الصور ، وهي كهيئة البوق ، عن مجاهد

وقيل : إنّ ذلك في النفخة الأُولى وهو أول الشدّة الهائلة العامّة

وقيل : إنّه النفخة الثانية ، وعندها يحيي الله الخلق ، وتقوم القيامة وهي صيحة الساعة ، عن الجبائي )(٢) .

وعلى الجملة ، فإنّ التتبع في كلمات الشيخ الطبرسي في المواضع المختلفة من تفسيريه ، يفيد أنّ ما نُسب إليه من إنكار الصور بالمعنى بالمذكور من غرائب التوهّمات ، بل من عجائب الافتراءات .

حول كلام المفيد في معنى ( الصور )

وأمّا ما نُسب إلى الشيخ المفيد (رحمه‌الله ) من تأويل (الصور ) ، وأنّه يقول

ـــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان ٤ : ٩٥ .

(٢) مجمع البيان ١٠ : ١٩١ و ١٩٥ .

٢٣٤

بأنّه جمع للصّورة ، ففيه كلام كذلك ، ومجرّد قول الشيخ المجلسي ( وسبقه الشيخ المفيد ) لا يكفي ، إذ يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيخ المفيد قد سبق الشيخ الطبرسي في نقل القول المذكور عن بعض العامّة .

ولو سلّمنا أنّ الشيخ المفيد يجوّز أنْ يكون (الصور ) جمعاً للصورة ، فإنّه لا ينكر (الصور ) بمعنى (القرن ) الذي ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام ، لثبوت ذلك في الكتاب والسنّة ، غاية ما هناك أنّه جوّز في بعض تلك الأدلّة أنْ يكون (الصور ) جمعاً للصورة ، وذلك لا يلازم إنكار كون المراد هو (القرن ) في البعض الآخر كما هو واضح ...

فإنْ كان الخصم في شكٍّ من هذا ، ذكرنا له كلام إمامه الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى :( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) فإنّه يصدّق ما قلناه تماماً ، وهذا نصّه :

( المسألة الثالثة : قوله تعالى :( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ ) لا شبهة أنّ المراد منه يوم الحشر ، ولا شبهة عند أهل الإسلام أنّ الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة ، وذلك القرن مسمّى بالصور على ما ذكر الله هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ، ولكنّهم اختلفوا في المراد بالصّور في هذه الآية على قولين : الأوّل : إنّ المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور ، والقول الثاني : إنّ الصور جمع صورة ، والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى )(١) .

فلو فرض تفسير الشيخ المفيد لفظ (الصور ) في بعض الموارد بـ (جمع الصورة ) ، فإنّ هذا لا يستلزم كونه منكراً وجود (الصور ) بمعنى (النفخ ) ، وكيف

ـــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٣٣

٢٣٥

يجوز نسبة ذلك إليه ؟ والحال أنّ كلامه في (أجوبة المسائل السروية ) صريح في الاعتقاد بالصور

وهذه عبارة السؤال والجواب على ما نقل في (البحار ) :

( ما قوله ـ أدام الله تأييده ـ في عذاب القبر وكيفيّته ؟

ومتى يكون ؟

وهل تردّ الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا ؟

وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين ؟

الجواب :

الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل ، وقد ورد عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام أنّهم قالوا :

( ليس يعذّب في القبر كلّ ميّت ، وإنّما يعذّب من جملتهم من محّض الكفر محضاً ، ولا ينعم كلّ ماض لسبيله ، وإنّما ينعم منهم من محّض الإيمان محضاً ، فأمّا سوى هذين الصنفين فإنّه يلهى عنهم )

وكذلك روي : أنّه لا يُسئَل في قبره إلاّ هذان الصنفان خاصّة ، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه .

فأمّا عذاب الكافر في قبره ، ونعيم المؤمنين فيه ، فإنّ الخبر ـ أيضاً ـ قد ورد بأنّ : الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة من جنانه ينعمه فيها إلى يوم الساعة ، فإذا نُفِخ في الصور أُنشىء جسده الذي بُلي في التراب وتمزّق ، ثمّ أعاده إليه وحشره إلى الموقف وأمر به إلى جنّة الخلد ، فلا يزال منعّماً ببقاء الله عزّ وجلّ ، غير أنّ جسده الذي يُعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا ، بل تعدّل طباعه وتحسّن صورته ، فلا يهرم مع تعديل الطباع ، ولا يمسّه نصبٌ في الجنّة ولا لغوب .

والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا ، في محلّ عذاب يعاقب به ونار يعذّب بها حتّى الساعة ، ثمّ أُنشئ جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه ، ثمّ يعذّب به في الآخرة إلى الأبد ، ويركّب ـ أيضاً ـ جسده تركيباً لا يفنى معه ، وقد

٢٣٦

قال الله عزّ وجلّ اسمه :

( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ)

وقال في قصّة الشهداء :

 ( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .

فدلّ أنّ العذاب والثواب يكونان قبل يوم القيامة وبعدها .

والخبر وارد بأنّه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا ، والروح هاهنا عبارة عن الفعّال الجوهر البسيط ، وليس بعبارة عن الحياة التي يصحّ معها العلم والقدرة ؛ لأنّ هذه الحياة عرض لا يبقى ولا يصحّ الإعادة فيه .

فهذا ما عوّل عليه بالنقل وجاء به الخبر على ما بيّنّاه )(١) .

هذا كلام الشيخ المفيد ، وهو نصّ قاطع في أنّه غير منكر للصور ، بل ذكر عقيدته على أساس الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام وجعلها المعوَّل عليه والمعتَمد .

ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام أيضاً ، يحتمل كون المراد من الصور هو نفخ الأرواح في الأجساد ، وأنّ الصور جمع الصورة ؛ لأنّ هذا الإحتمال فاسد قطعاً ، وكلامه صريح في أنّ المراد من (الصور ) هو (القرن ) لا جمع الصورة ، ويدلّ على ذلك وجهان :

الأوّل : قوله : ( فإذا نفخ في الصور أُنشئ جسده ) فإنّه يدلّ بوضوحٍ على أنّ إنشاء الجسد إنّما يكون بعد نفخ الصور ، فنفخ الصور متقدّم على إنشاء الجسد الذي بلي في التراب وتمزّق ، وهذا مقتضى الشرط والجزاء ؛ فإنّ الجزاء متفرّعٌ على وجود الشرط متأخّرٌ عنه

ومن البديهي أنّه لو كان (الصور ) جمع الصّورة ، وكان المراد نفخ الأرواح في الأجساد ، لم يكن تأخّر إنشاء

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٦ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ عن أجوبة المسائل السرويّة .

٢٣٧

الجسد ، وإلاّ لزم تأخّر الشيء عن نفسه ؛ لأنّ النفخ في الصور ـ على تقدير كون (الصور ) جمع الصورة ـ هو نفخ الأرواح في الأجساد ، فلابدّ من إنشاء الأجساد قبل النفخ حتى ينفخ فيها الأرواح .

الثاني : إنّ لفظة ( ثمّ ) في قوله : ( ثمّ أعاد إليه وحشره إلى الموقف ) صريحٌ في تأخّر إعادة الروح إلى الجسد ، عن نفخ الصور وإنشاء الجسد ، كما هو ظاهر لفظة ( ثمّ ) الموضوعة للتراخي والبعديّة ، ولا ريب أنّ أعادة الروح إلى الجسد هو عين نفخ الروح فيه فلو كان المراد من( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ ) هو جمع الصورة ، وكان المراد من النفخ هو نفخ الأرواح في الأجساد ، لزم تأخّر الشيء عن نفسه .

وتلخّص : أنّ الشيخ المفيد (رحمه‌الله ) يقول بوجود الصور بمعنى القرن ، وبوقوع النفخ فيه كما دلّت عليه الأدلّة ، وقد أشار إليها في جواب السؤال ونصَّ على الاعتماد عليها فلا يجوز نسبة غير ذلك إليه ألبتّة .

عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة

لكنّها عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة وغيرهما من أهل السنّة ، وقد نصّ غير واحدٍ من أعلام القوم على أنّها خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة :

قال العيني في (عمدة القاري ) بشرح قول البخاري : ( باب نفخ الصور ) :

( الصور ، وهو بضمّ الصاد وسكون الواو ، وذكر عن الحسن أنّه قرأها بفتح الواو جمع الصورة ، وتأوّله على أنّ المراد النفخ في الأجسام ليعاد إليها الأرواح

قال الأزهري : إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة )(١) .

ـــــــــــــــــ

(١) عمدة القاري بشرح البخاري ٢٣ : ٩٨ باب نفخ الصور .

٢٣٨

بل هو عقيدة جماعة

وليس هذا قول الحسن وحده ، ففي (فتح الباري ) ما نصّه :

( باب نفخ الصور ، تكرّر ذكره في القرآن ، في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وقاف وغيرها ، وهو بضمّ المهملة وسكون الواو ، وثبت كذلك في القراآت المشهورة والأحاديث ، وذكر عن الحسن البصري أنّه قرأها بفتح الواو جمع صورة ، وتأوّله على أنّ المراد النفخ في الأجساد ليعاد إليها الأرواح

وقال أبو عبيدة في المجاز : يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة ، كما يقال سور المدينة جمع سورة

قال الشاعر :

لمّا أتى خــبر الزبير

تواضعت صور المدينة

فيستوي معنى القراءتين .

وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد : كالصوف جمع صوفة .

قالوا : والمراد بالنفخ في الصور ـ وهي الأجساد ـ أن تعاد فيها الأرواح ، كما قال تعالى :( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي ) .

وتعقّب قوله : جمع ، بأنّ هذه أسماء أجناس لا جموع .

وبالغ النحّاس وغيره في الردّ على التأويل المذكور .

وقال الأزهري : إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة )(١) .

وقال الرازي في (تفسيره ) :

( اعلم : إنّ الله سبحانه لمّا قال :( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ذكر أحوال ذلك اليوم ، فقال :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ ) وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : إنّ الصور آلة ، إذا نفخ فيها يظهر صوتٌ عظيم جعله الله علامةً

ـــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح البخاري ١١ : ٣٠٨ باب نفخ الصور .

٢٣٩

لخراب الدنيا وإعادة الأموات

روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قرن ينفخ فيها .

وثانيها : إنّ المراد من الصور مجموع الصور ، والمعنى : فإذا نفخ في الصور أرواحها ، وهو قول الحسن ، وكان يقرأ بفتح الواو ، وبالفتح والكسر عن أبي رزين ، وهو حجّة لمن فسّر الصّور بجمع صورة .

وثالثها : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث والحشر .

والأولى الأوّل )(١) .

وقال ابن الأثير في (النهاية ) :

( وفيه ذكر النفخ في الصور ، هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام عند بعث الموتى إلى المحشر

وقال بعضهم : إنّ الصور جمع صورة ، يريد صور الموتى ينفخ فيه الأرواح ، والصحيح الأوّل ؛ لأنّ الأحاديث تعاضدت عليه تارةً بالصور وتارةً بالقرن )(٢) .

وقال محمد طاهر في (مجمع البحار ) :

( ونفخ في الصور ، هو قرن ينفخ فيه إسرافيلعليه‌السلام عند بعث الموتى إلى المحشر ، وقيل : هو جمع صورة يريد صور الموتى ينفخ فيها الأرواح ، والصحيح الأوّل لتظاهر الأحاديث فيه )(٣) .

وفي (الصحاح ) :

( الصور القرن قال الراجز :

ـــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢١ .

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ( صور ) .

(٣) مجمع البحار ( صور ) .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397