الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124910
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124910 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مُقدّساً لدرجة عالية، فالأحكام المترتّبة عليه تختلف عمّا هي عليه في المعنى الفرعي من فروع الدين مثلاً، وبتبع ذلك اختلاف نوع ودرجة التعظيم والتبجيل وحرمة الابتذال من شعيرة لأخرى، حيث لا يكون على وتيرة واحدة بسبب هاتين النقطتين المذكورتين.

فتعظيم كلّ شعيرة يكون بحسبها، يعني بحسب المعنى الذي توضع له، وبحسب شدّة الصلة التي تتّصل وتتوثّق.

ونِعم ما ذكرَ صاحب الجواهر - وقد تقدّمت الإشارة إليه - في بحث الطهارة، حيث قال: إنّ كلّ شيء بحسب ما هو معظّم عند الشارع يجب تعظيمه، ويشير بذلك إلى الاختلاف بحسب المعنى، وهو مفاد الآية الكريمة في سورة الحج( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) ، يعني كلّ شيء له حريم وحرمة وعظمة عند الشارع، يجب أن يراعى الاحترام والتبجيل بحسب ما هو عند الشارع، ولا ريبَ في أنّ حريم حُرمات الله مختلف الدرجات، وإنّها ليست على درجة واحدة ولا على وتيرة ثابتة.

النقطة الثالثة: إنّ كلّ متعلَّق ينطبق على المصاديق على استواء، مثل: لفظة الإنسان ينطبق على كلّ أفراد البشر على حدّ سواء(1) .

وهناك عنوان آخر - كالعدد - ينطبق على الألف أشدّ من انطباقه على العشرة، وهكذا باب الألوان فالسواد: ينطبق على السواد الشديد أشدّ من

____________________

(1) نعم، بلحاظ الآخرة والبرزخ قد تكون إنسانيّة الإنسان أشدّ من إنسانيّة الآخر بحسب خُلُقه وعمله الصالح، لا بحسب لونه أو حسبه ونسبه، وهذا بحث آخر.

١٤١

انطباقه على السواد المتوسّط أو الخفيف، وهناك موارد أخرى عديدة مثل: الشدّة، تنطبق على الأشدّ أقوى من انطباقها الأقل شدّة.

فالعناوين على نحوين: قسم منها يسمّى متواطئ(1) ، بشكل سواء يطأ وطأة واحدة على كلّ مصاديقه.

وقسم تشكيكي(2) أي: ينسبق الذهن إلى بعض مصاديقه قبل انسباقه إلى البعض الآخر، ووجود الطبيعة في بعض الأفراد أشدّ أو أقوى أو أكثر من الأفراد الأخرى.

فإذا أمرَ الشارع بطبيعة تشكيكيّة، أو نهى عن طبيعة تشكيكيّة، مثل: الأمر ببرّ الوالدين، أو بصلة الأرحام، فإنّ صلة الرحم على درجات: درجة عُليا، ودرجة وسطى، ودرجة دانية، وكذلك الحال بالنسبة لبرّ الوالدين والعِشرة بالمعروف مع الزوجة.

وهذه الظاهرة موجودة في القانون الوضعي أيضاً، ولا تختص بالقانون الشرعي، فالطبيعة ذات الدرجات التشكيكيّة ذات الحُكم الإلزامي لا تكون كلّ مراتبها إلزاميّة، بل إنّ القدر المتيقّن منها بحسب موارده، ففي النهي يكون الأعلى هو القدر المتيقّن، وفي الوجوب يكون الأدنى هو المتيقّن، وهذا هو الإلزامي فحسب، والبقيّة ندبيّة راجحة إن كان الحُكم طلبيّاً، أو مكروهة إن كان الحكم زجريّاً.

وديدَن الفقهاء على أنّ القدر المتيقّن هو الإلزامي، مثلاً إذا أمر بصلة

____________________

(1) المتواطئ: هو الكلّي المتوافقة أفراده في مفهومه، والتواطؤ هو التوافق والتساوي.

(2) المشكّك: هو الكلّي المتفاوتة أفراده في صدق مفهومه عليها.

١٤٢

الرحم، أو ببرّ الوالدين؛ فإنّ الملزم من صلة الرحم أو برّ الوالدين هو الدرجة المتيقّنة منه، وهي - باعتبار أنّ الحكم وجوبي وإلزامي - الدرجة الدُنيا، أي امتثال الأمر ببرّ الوالدين بنحو لا يلزم منه عقوق الوالدين، وكذلك صلة الرحم بنحو لا يلزم منه قطيعته.

فمن ثُمّ عند الاستدلال بحرمة عقوق الوالدين، أو بأدلّة وجوب برّ الوالدين وصلتهما تكون النتيجة واحدة؛ لأنّ الأمر بصلة الوالدين وبرّهما حيث كان تشكيكاً، فالقدر المتيقّن منه هو الدرجة الدُنيا، فتكون النتيجة هي عين قول مَن قال: إنّ الحُكم في برّ الوالدين راجح مستحب وليس بإلزامي؛ وإنّما الإلزام في حرمة عقوقهما.

وكذلك الحال في مسألة حُكم صلة الأرحام، هل صلة الأرحام واجبة بكلّ درجاتها، أم أنّ قطع الرحم حرام، الاستدلال بكلا اللسانين من الأدلّة يعطي نفس النتيجة؛ لأنّ المأمور به في صلة الرحم أو في برّ الوالدين أمرٌ تشكيكي، فيكون القدر المتيقّن منه هو الأدنى، أي بمقدار حرمة عقوق الوالدين أو حرمة قطع الرحم.

أمّا في الحرمة فالقدر المتيقّن على العكس، إذ لو كان المتعلّق عنواناً تشكيكيّاً تكون الدرجة العليا منه هي المحرّمة، وما دون ذلك يُحكم عليه بالكراهة.

والحال كذلك في محلّ البحث (المتعلّق) الذي هو تعظيم الشعائر، فإنّه ذو درجات متفاوتة، كلّ تعظيم فوقه تعظيم آخر، وكلّ خضوع فوقه خضوع آخر، وكلّ بث ونشر فوقه بثّ ونشر آخر، وكلّ إتمام لنور الدين فوقه إتمام لنور الدين

١٤٣

آخر، وهلمّ جرّاً.

فهل كلّ هذه الدرجات واجبة، مع أنّ الغالب في العناوين التشكيكيّة ورود لسانين:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) بلسان الحرمة؟

و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) بلسان الوجوب؟

وهل كِلا الحُكمين مُقنّن على نحو الإلزام، أم أحدهما راجح والآخر إلزامي؟ تفصيل هذا البحث في هذه النقطة الثالثة: وهي أنّ العنوان هنا تشكيكي، فالدرجة اللازمة من التعظيم هي التي يلزم من عدمها الابتذال والهتك، فتكون هي واجبة، أمّا بقيّة درجات التعظيم فتكون راجحة.

فلو قيل: إنّ الحُكم هو حرمة الهتك وحرمة الإهانة، فيكون صواباً، أو قيل: إنّ الحكم هو وجوب التعظيم بدرجة لا يلزم منها الابتذال والهتك أيضاً، فهو صواب أيضاً.

عِلماً بأنّ إهانة كلّ شيء بحسبه، وأيضاً تعظيم كلّ شيء بحسبه، فآية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) تحريمٌ وردَ على عنوانٍ متعلّقه تشكيكي، أي: تحريم الابتذال والاستهانة والانتهاك لشعائر الله، ومن هذا الباب قيل: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، وهذه جنبة ثالثة لاختلاف مراتب التعظيم والإهانة، وهي درجة ومقام المخاطب بالتعظيم وطبيعة علاقته مع طرف التعظيم، فعند المقرّبين أدنى ترك للأولى أو للتعظيم لساحة القدس الربوبيّة، يُعتبر نوع خفّة وتهاون بمقام القُدس الإلهي، والإهانة أيضاً لها درجات، الخفيف منها ليس إلزاميّاً، القدر المتيقّن الذي يكون إلزاميّاً هو الشديد، وهو حرام، وبقيّة المراتب المتوسّطة أو الدنيا فيها نوع من الكراهة.

١٤٤

فلابدّ من الالتفات إلى النقاط الثلاث المزبورة، وننتهي بها إلى أنّ تعظيم كلّ شيء بحسبه، وإهانة كلّ شيء بحسبه، وليس ذلك على وتيرة واحدة، وإنّ القدر المتيقّن من الحُكم هو وجوب التعظيم بنحوٍ لو تُركَ للزمَ منه الهتك والإهانة، وليس كلّ مراتب التعظيم إلزاميّة، وإنّما درجات التعظيم الفائقة والعالية تكون راجحة وندبيّة وليست إلزاميّة.

هذا هو تمام البحث في جهة المتعلّق وهي الجهة الخامسة.

١٤٥

الجهةُ السادسة: النسبةُ بين حُكم القاعدة وبقيّة الأحكام

١٤٦

١٤٧

في هذا المقطع من البحث نسلّط الأضواء على العلاقة بين حُكم قاعدة الشعائر مع كلّ من الأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة.

وقد تقدّم ببيان وافٍ، أنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة هو من حيث الملاك حكم أوّلي، ومن حيث الموضوع ثانوي الوجود، وهذا ما اصطلحنا عليه أنّه من الأحكام الثانويّة في جنبة الموضوع.

النسبةُ بين حُكم قاعدة الشعائر والأحكام الأوّليّة

ليس الحُكم في قاعدة الشعائر متّحداً مع الأحكام الأوّليّة كما قد يتخيّل من خلال الآية:( .. وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) ، وكما مرّ في كلمات جملة مِمّن تعرّض إلى ذِكر تعريف الشعائر بأنّها: مناسك الحج، وبعضهم عرّفها بأنّها: الدين كلّه، وبعضهم عرّفها بأنّها: حُرمات الله.

وقلنا: إنّ الصحيح هو ثانويّة القاعدة من جنبة الموضوع لا من جنبة الحُكم، أمّا من جنبة المتعلّق - وهو التعظيم لها - فلها ركنان أساسيّان، وهما: جانب الإعلام، وجانب الإعلاء والاعتزاز المتضمّن للإحياء والإقامة، وهذان كفِعلين تدلّ عليهما الشعيرة والشعائر، ولا تفيدهما بقيّة الأحكام الأوّليّة في باب الفقه،

١٤٨

نعم، تلك الأحكام متكفّلة لملاكات أُخرى ومتعلّقات وأفعال أُخرى، وقد يتصادق حكمان ومتعلّقان في وجود واحد، كما قد يتصادق مثلاً برّ الوالدين مع طاعة الله، ومع تحقّق الصدقة أو تحقّق الهديّة أو ما شابه ذلك، لكن لا يعني ذلك أنّ العنوانين والفعلين والحكمين هما حكم واحد، وبملاك واحد، وبمصلحة واحدة.

فإذاً، تصادق الشعائر مع بعض الأحكام الأوّليّة وانطباقها في مصداق واحد، لا يعني أنّ الشعائر حكمها متّحد مع نفس حكم الأحكام الأوّليّة.

وقد جعلَ بعض المفسّرين حكم الشعائر هو عين الأحكام الأوّليّة، وفسّر( .. وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللّه ) بنفس إيجاب البُدن هو إيجابٌ للشعيرة، يعني البُدن جعلناها من وظائف الحج ومنسكاً من مناسك الحج، والحال أنّ هذه الآية في صدد التعرّض لشيء آخر، كما هو مبيّن في روايات الأئمّة (عليهم السلام) في باب الحجّ(1) .

وفي بعض الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) في أبواب الهَدي، يتبيّن افتراق الشعيرة في البُدن عن وجوب أصل البدنة أو غيرها من أنواع الهَدي.

وقد عقدَ صاحب كتاب الوسائل باباً لاستحباب تعظيم شعيرة البُدن (الهَدي)، كما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام) الأمر الندبي باتّخاذ البُدن(2) السمينة؛ لأنّه نوع من تعظيم الشعائر، أو باعتبار كون البُدن المسوقة مع الحاجّ عَلَماً من أعلام الحجّ(3) ، وهو نوع من الإعلام والتبليغ والدعاية والترويج لفريضة الحجّ، ونوع

____________________

(1) وسائل الشيعة 9: باب 8 من أبواب الذبح.

(2) وسائل الشيعة 10: باب 13 - 14 من أبواب الذبح.

(3) وسائل الشيعة 10: باب 17 من أبواب الذبح (باب تأكّد استحباب كون الهَدي مِمّا عُرّف به

١٤٩

من التظاهرة الشعبيّة للمكلّفين، أو لمجتمع المسلمين في إظهار علامات الحجّ، لا سيّما إذا كانت البُدن تُساق من مسافات عديدة، فهو نوع من حالة النشر الديني لفريضة ونسك الحجّ والتبليغ لها.

ففي الروايات الواردة دلالة واضحة على أنّ جعل الشعيرة كذلك، هو أمر آخر غير جعلها واجبة من فرائض الحجّ.

وإنّ حُكم الشعائر - وهو وجوب التعظيم - غير حكم أصل إيجاب الهَدي في الحجّ، فممّا بحثناه سابقاً عن ماهيّة الشعائر وماهية متعلّق الحكم في الشعائر، يتبيّن أنّ الحكم في الشعائر هو غير الأحكام الأوّليّة، نعم، هو ينطبق على الأحكام الأوّليّة إذا كانت تلك الأحكام الأوّليّة في الفعل والمتعلّق المرتبط بها تتضمّن جنبة إعلام وتبليغ، وتتضمّن جنبة إنذار وإفشاء لحكم من الأحكام الإسلاميّة، أو لعبادة دينيّة معيّنة، نعم، ينطبق عليها أنّها شعيرة، مثل: صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، لا مثل الصلاة فرادى.

على كلّ حال؛ فإنّ الشعيرة ماهيةً وموضوعاً ومتعلّقاً وحكماً وملاكاً تختلف عن الأحكام الأوّليّة، نعم، هي قد تتطابق مع الأحكام الأوّليّة، لكن لا أنّها هي الأحكام الأوّليّة بعينها.

فحكمها ليس هو عين الأحكام الأوّليّة، بل لها حكم أوّلي آخر، وصِرف كونها ثانويّة لا يعني ثانويّة حكمها، بل كثير من الأحكام الأوّليّة تطرأ عليها العناوين بلحاظ انطباقها في المصاديق الخارجيّة، كما في التعظيم أو الاحترام، حيث تتّخذ مصاديق وأساليب ووسائل مختلفة في الاحترام مع أنّها ليست حكماً

____________________

بأن يُحضر يوم عرفة بها).

١٥٠

ثانوياً، بل هي حكم أوّلي(1) ، فالثانويّة هنا في المتعلّق وليس في نفس الحكم، وإلاّ فالحكم هو أوّليٌّ وملاكه أوّلي، وهكذا الحال في قاعدة الشعائر الدينيّة.

فالثانويّة في قاعدة الشعائر الدينيّة: هي في جنبة الموضوع والمصداق لا في جنبة الحُكم والملاك، والحال على العكس في قاعدة(لا ضرر ولا ضرار)، أو قاعدة(لا حرج) ، أو العناوين التسعة في حديث الرفع(2) ، فرفع العناوين التسعة من الاضطرار والنسيان والإكراه التي تطرأ على الحكم، وهي ثانويّة في جنبة الحكم.

فالعلاقة بين حكم قاعدة الشعائر - التي قلنا بأنّ موضوعها ثانوي، وحكمها أوّلي - مع الأحكام الأوّليّة، ينطوي على تفصيل في البَين؛ لأنّ هذا النمط من الأحكام الأوّليّة ذي المواضيع الثانويّة ليس هو حكماً أوّليّاً بقول مطلق، كي يقال إنّه حكم أوّليّ يندرج في الأبحاث السابقة، ولا هو حكم ثانوي كذلك.

بل فيه ازدواجيّة ثانويّة الموضوع التي ذكرنا أنّه لم ينبّه عليها اصطلاحاً علماء الأصول، إلاّ أنّهم مضوا عليها ارتكازاً، ومن جهة المحمول هو حكم أوّلي

____________________

(1) احترام المؤمن للمؤمن، احترام المسلم للمسلم، أو احترام الإنسان للإنسان(الناس: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير في الخلق) فتحفظ حرمته ما لم يهتك هو حرمته، فهذا حكم أوّلي ولكنّ متعلّقه وعنوان متعلّقه - بلحاظ مصاديقه وامتثالاته - قد يتّخذ مصاديق مختلفة ومستجدّة. راجع ص: 82 من هذا الكتاب.

(2) حديث الرفع: عن أبي عبد الله (عليه السلام):(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رُفعَ عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة) .

بحار الأنوار 2: 280 / ح 47.

١٥١

وملاك أوّلي، ففيه ازدواجيّة الجنبتين، فهل يكون هو موروداً، أو محكوماً، أو حاكماً؟

وهل نضعه في قسم الأحكام الأوّليّة، أم نضعه في رديف وقسم الأحكام الثانويّة؟

ويتّضح بناءً على ما قدّمنا سابقاً - في تحرير موضوع قاعدة الشعائر الدينيّة أو متعلّقها - أنّ النسبة بين الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة والأحكام الأوّليّة: هي أنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة موضوعه أو متعلّقه عام يتناول كلّ مُحلّل بالمعنى الأعم بالحلّيّة بالمعنى الأعم، عدا موارد الحرمة، وإن اتّفق اجتماع مورد الحرمة مع بعض الشعائر الدينيّة فهذا لا يوجب التعارض، بل ولا تقديم دليل الحكم الأوّلي على دليل الشعائر، وإنّما يكون من قبيل اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ المفروض أنّ التصادم والتوارد في ذلك المصداق اتفاقي.

فمن ثُمّ نرى أنّ كثيراً من العلماء - في شقوق عديدة من استفتاءاتهم في الشعائر الدينيّة المختلفة، وفي فرض تصادم الشعائر الدينيّة أحياناً في بعض الموارد مع المحرّمات - لا يبنون على التعارض، وعندما نقول ذلك لا نريد منه أنّ الحاكم أو الفقيه في سياسيّته الفتوائيّة يُديم عُمر تصادق الشعيرة الدينيّة (من أيّ باب كانت) مع ذلك المحرّم، حيث ذكرنا سابقاً أنّ التزاحم - سواء كان ملاكيّاً أو امتثاليّاً(1) - له ضرورات استثنائيّة تقدّر بقدرها، يجب أن لا يفسح الفقيه المجال أن تعيش هذه الحالة بنحوٍ دائم وتكون حالة غالبة، بل يجب أن يتفاداها بقدر الإمكان، لكن اتّفاق وقوعها لا يدلّ على التعارض، هذا كلّه في نسبة الحكم في القاعدة والأحكام الأوّليّة.

____________________

(1) لمعرفة الفرق بين التزاحم الملاكي والامتثالي راجع هامش (1) ص 118 من هذا الكتاب.

١٥٢

تقسيمُ الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم

نلاحظ أنّ الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم سنخان:

الأحكامُ الثانويّة المُثبتة

مثل: وجوب طاعة الأبوين، أو حرمة عقوق الأبوين، ومثلها:(المؤمنون عند شروطهم) التي نستفيد منها وجوب الوفاء بالشرط، ومنها: وجوب النذر، واليمين والعهد وما شابه.. هذا نمط من الأحكام الثانويّة.

الأحكام الثانويّة النافية

وهناك نمط آخر من قبيل: (لا ضرر)، (لا حرج)، وغيرها الواردة في حديث الرفع:(رُفع عن أمّتي تسع) ، وهناك فارق بين السِنخين.

وقد يُقرّر بأنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة هو من النمط الأول من العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، والتي فيها جهة إثبات وإلزام، مثل:(المؤمنون عند شروطهم)، ووجوب أداء النذر واليمين، كما قد يُقرّب أنّ وجوب أداء النذر حكم ليس بثانوي، بل تُعدّ هذه الأحكام (في الشقّ الأوّل) أحكاماً أوّليّة، وهي مسانخة للحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة، وإنّها - من هذه الجهة - هي ثانويّة الموضوع أوّلية الحكم، فوجوب الوفاء بالشرط حكم أوّلي، ووجوب الوفاء بالعقد حكم أوّلي، ووجوب الوفاء بالنذر والعهد كذلك، وطاعة الأبوين أو حرمة

١٥٣

عقوقهما كذلك، لكنّ هذه الأحكام ثانويّة الموضوع.

وهذه الدعوى ليست ببعيدة، من جهة أنّ ملاكات الحكم في هذه العناوين من قبيل: الأحكام الأوّليّة، لا أنّها أحكام استثنائيّة شاذّة.

الفارقُ بين حكم القاعدة والأحكام الثانويّة المثبتة

لكن تظل لها ميزة وفارق مع الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة.

فالنذر - مثلاً - قد يكون إنشاؤه مكروهاً، وكذا اليمين والعهد وحكم طاعة الوالدين، على الرغم من أنّه كان بنفسه راجحاً، لكن بلحاظ الجهة الأبويّة، يعني بما يتّصل بالجهة الأبويّة، وليس أنّه يتبدّل حكم الفعل في نفسه إذ يبقى حكمه الذاتي على حاله، ولكن باعتباره مقدّمة لطاعة الأبوَين أو لعدم عقوقهما؛ فإنّه يلزم بفعله ولا يتغيّر عمّا هو عليه، وكذلك:(المؤمنون عند شروطهم) حيث أصبح ذلك الفعل واجباً بسبب الالتزام.

فللشقّ الأوّل من هذه الأحكام الثانويّة ميزة تختلف عن نفس الشعائر، إذ إنّ الشعائر أمرٌ مرغّب فيه، ولها ارتباط بكثير من أبواب الدين وفصول الدين، وليست من قبيل هذه الأحكام الثانويّة المُثبتة، لكن بين هذا الشقّ الأوّل والحكم في قاعدة الشعائر قواسم مشتركة، أكثر من القواسم المشتركة الموجودة بين الحكم في قاعدة الشعائر والشقّ الثاني من الأحكام الثانويّة النافية.

وبهذا المقدار يتبيّن نوع من حقيقة الحكم في الشعائر، وذلك أنّه حكم أوّلي وليس ثانويّاً استثنائيّاً طارئاً، بل يريد الشارع أن يُجريه ويطبّقه ويحقّقه.

ولا يريد إقامة النذر والوفاء به، اللهمّ إلاّ أن يقع النذر فيُلزم بوفائه، وكذلك

١٥٤

الشروط حسب دليلها:(المؤمنون عند شروطهم..) أو الوفاء بالعقود، وعلى مقدار تأدية الضرورات أو الحاجات.

بخلاف باب الصلاة، والعبادات، وأبواب أُخرى، وكذلك في أبواب الشعائر، إذ الإرادة الشرعيّة في الشعائر تتناسب مع ذي الشعيرة كما مرّ بيان ذلك، إذ نمط الحكم هو في مقام الإعلام والإفشاء والتشييد والإعلاء لأحكام الأبواب الشرعيّة، فالحكم وثيق الصلة بالأحكام الأوّليّة.

النسبةُ بين قاعدة الشعائر والأحكام الثانويّة

بعد بيان أقسام الأحكام الثانويّة نحاول تقرير النسبة بين حكم القاعدة والأحكام الثانويّة، أي الثانويّة في جنبة الحكم بقسمَيها المُثبتة والنافية، فمن الواضح حينئذٍ أنّ نسبة الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة، مع الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم - في كلا الشقَّين المُثبتة والنافية - كنسبة الأحكام الأوّليّة مع الأحكام الثانويّة؛ لأنّ حكم الشعائر هو الحكم الأوّلي، والأحكام الثانويّة المثبتة أو الرافعة لا تزيل ولا تنفي ولا تلغي الحكم الأوّلي، بل تُقدّم عليه من باب التزاحم ولكن بشكل مؤقّت وغير دائم، كما هو شأن الحكم الثانوي مع الأحكام الأوّليّة.

حيث يجب أن يُقرّر الفعل أو الموضوع بلحاظ الأحكام الأوّليّة، ومن ثُمّ ملاحظة الأحكام الثانويّة كشيء طارئ استثنائي عليها؛ لأنّ حكم الشعائر هو حكم الطبيعة الأوّليّة التي لابدّ من ديمومة بقائها ورعايتها.

فهكذا حال الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة ووجوب تعظيمها مع الأحكام الثانويّة الأخرى المثبتة والنافية.

١٥٥

وإلاّ فليس من الصحيح ملاحظة الفعل، أو الموضوع بلحاظ الأحكام الثانويّة مقدَّماً على ملاحظة الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة.

مضافاً إلى ذلك هناك إشكال، وهو: أن لو عُدّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة حكماً ثانويّاً، وعُدّت تلك الأحكام الثانويّة أحكاماً ثانويّة أيضاً، فيكون كلّ منهما ثانويّاً فتقديم أحدهما على الآخر رتبةً ترجيح بلا مرجّح، بل غاية الأمر أنّهما في رتبة واحدة، ويقع بينهما التزاحم لا التعارض كما تقدّم.

وهذا جواب نقضي، وإلاّ فالجواب الأساسي هو: أنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة ليس من قبيل الحكم الثانوي، بل هو حكم الطبيعة الأوّليّة التي لا بدّ من بقائها واستمرارها والمحافظة عليها، فضلاً عن أن يكون الحكم في القاعدة مؤخّراً رتبةً عن الأحكام الثانويّة.

الخلاصة في هذه الجهة

ونستنتج من هذه النقاط - التي ذكرناها في العلاقة بين الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة، والأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة - عدّة نتائج، وقبل ذلك لا بأس من التنبيه على أنّه بمقتضى أحد النقاط التي أثرناها في هذه الجهة: من أنّ مبنى مشهور الفقهاء أنّ نسبة العناوين الثانويّة لُبّاً مع الأحكام الأوّليّة هي التزاحم الملاكي، ومن ثمّ قالوا: حرجُ كلّ شيء بحسبه، أو ضررُ كلّ شيء بحسبه، فمثلاً: الضرر في الوضوء بأدنى ضرر طفيف يرفع الإلزام بالوضوء أو الغُسل.

بينما في باب أكل حرمة المِيتة قالوا: إنّ الضرر الذي يرفع حرمة المِيتة هو

١٥٦

ذلك الضرر الذي يكون بدرجة شديدة بحيث يُشرف على الهلكة، وحينئذٍ يتناول من الميتة بقدر ما يحفظ به رَمَق حياته، ولا يتعدّى ذلك، كما يستفاد من الآية:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) .

وكذلك في المحرّمات الأخرى: كشُرب الخمر، أو الزنا أو الفجور، فما الوجه في كون الضرر المُهلك مسوِّغاً لرفع مثل تلك الحرمة دون اليسير منه؟

فالضرر في الوضوء يختلف عنه في باب أكل الميتة.

والحال في عنوان الحرج كذلك، والفقهاء يعبِّرون بهذه العبارة: (الحرج في كلّ شيء بحسبه)، فتجري قاعدة الحرج في الوضوء، وفي غُسل الجنابة بأدنى درجة، بينما هذه القاعدة في المحرّمات الشديدة الكبيرة لابدّ أن تكون بدرجة العسر الشديد جدّاً، والوجه في التفرقة: هو أنّه في المحرّمات الشديدة لا يرفع تلك الحرمة، أو لا يرفع تنجّزها وعزيمتها إلاّ الحاجة الشديدة، بينما في موارد الحرمة الخفيفة يرفعها أدنى عسر ومشقّة كما تقدّم، ويطَّرد الكلام في الاضطرار والإكراه والنسيان.

فالوجه لهذه التفرقة ليس إلاّ مبنى المشهور: من أنّ نسبة العناوين الثانويّة مع الأحكام الأوّليّة هي نسبة التزاحم الملاكي لا التخصيص والتقييد، ومن ثَمّ شملها حكم التزاحم، فالضرر اليسير لا يزاحم ولا يمانع الملاك الشديد، وإنّما يدافع الملاك الخفيف، وكذلك في الحرج والنسيان وغيرهما.

فالشعائر ليست على درجة واحدة من التعظيم أو من حرمة الإهانة، بل هي تختلف شدّةً وضعفاً حسب شدّة وعظمة المعنى الذي تُعلِم عنه وتشير إليه، أو بحسب شدّة العلقة كما مثّلنا لذلك سابقاً.

____________________

(1) البقرة: 173.

١٥٧

اختلافُ أحكام الشعائر شدّة وضعفاً

وبمقتضى هاتين النقطتين: النقطة التي مضت في الجهة الخامسة في المتعلّق، وهي كون الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة تشكيكيّاً، أي على درجاتٍ وعلى مستويات متفاوتة.

والنقطة التي نحن بصددها الآن: وهي أنّ الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم نسبتها مع الأحكام الأوّليّة هي التزاحم، فيجب أن تُلحظ درجة العنوان الثانوي مع درجة الحكم الأوّلي، والحال بعينه في باب الشعائر، أي ليس أيّ ضررٍ يكون رافعاً لكلّ حكم في الشعائر، وإذا كان رافعاً لأحد أحكام الشعائر الدينيّة، فإنّ ذلك لا يعنى كونه رافعاً لكلّ درجات أحكام الشعائر الدينيّة الأخرى؛ لأنّها تختلف بعضها عن البعض شدّةً وضعفاً، فدرجة التعظيم والتقديس للمصحف الشريف تختلف عن درجة التعظيم والتقديس للكتاب الديني.

فليس كلّ ضرر يرفع كلّ درجة من درجات الشعائر الدينيّة.

وليس الضرر الرافع منه لدرجة ما، يكون رافعاً لبقيّة الدرجات أو بقيّة أقسام وأنواع الشعائر الدينيّة، وكذلك الحال في الحرج أو الاضطرار.

فهذا ممّا يجب الالتفات إليه جيّداً، هذا مُجمل الكلام في الجهة السادسة: وهي جهة العلاقة بين الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة والأحكام الأوّليّة من جهة، ومع الأحكام الثانويّة من جهة أخرى.

١٥٨

الجهةُ السابعة: الموانِعُ الطارِئة على قاعدة الشَعائر

١٥٩

١٦٠