الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124810
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124810 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهي الجهة الأخيرة في بحث الخطوط العامّة للشعائر الدينيّة.

وتدور حول ممانعة الخرافة لقاعدة الشعائر الدينيّة، أو استلزام بعض الشعائر للإهانة والاستهزاء أو الهتك، وهذه عناوين بالطبع متعدّدة مختلفة، ويجب أن نحلّل كلّ عنوان على حدة، ونرى كيف يكون كلّ من هذه العناوين ممانعاً؟ وهل هناك موارد للتصادق بين هذه العناوين وقاعدة الشعائر الدينيّة؟ أو لا تصادق في البين أصلاً؟

وبادئ ذي بِدء، نقف على عنوان ومصطلح الخرافة.

الخُرافة والشعائر

الخرافة ما هو موضوعها، وكيف تكون مانعة لقاعدة الشعائر الدينيّة؟

فالبحث في الخرافة تارة يكون حُكميّاً، وأخرى يكون موضوعيّاً.

أمّا من جهة الموضوع: الخرافة في اللغة وفي العرف تُطلق على أيّ شيءٍ وهمي أو تخيّلي، أو الذي لا يُمتّ إلى حقيقة واقعيّة أو حسّيّة، فأيّ شيء يُمليه الوهم أو يمليه الخيال من دون أن يكون له مطابق حقيقي في الواقع - لا عقلي ولا حسّي - يسمّى خرافة.

١٦١

والحسّ ليس معصوماً على الدوام، إذ قد يتطرّق إليه الخطأ(1) وإن كان الحسّ إجمالاً من منابع البديهيّات، وكذلك العقل منبع جملة من أقسام البديهيّات، وليس كلّ ما لا يُدرك بالحس هو ليس بحقيقة؛ ولأنّ كثيراً من الأشياء موجودة وحقيقيّة، مع أنّها لا تُدرك بالحسّ، وعلى كلّ حال، فاقتناص الحقيقة يكون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحس أو بأداة القلب فيما يعاينه من العلوم الحضوريّة.

ففي مقابل الحقائق هناك خرافات، فإذاً هذه ماهيّة الخرافة الموضوعة التي لا يقوم عليها دليل عقلي ولا دليل نقلي ولا دليل حسّي ولا دليل مبرهن؛ وإنّما يُصوّرها الخيال أو الوهم، وحينئذٍ تكون خرافة.

وحينما نُقرّر أنّ الأداة العقليّة أو الأداة الحسّيّة تتوسّط لإثبات الحقائق، فليس ذلك على الدوام، بل لابدّ من ميزان يعتصم به العقل عن الخطأ، في البديهيات التي هي كرأسمال فطري مودَع في الإنسان من قِبل الله تعالى، فتلك أداة عصمة للإنسان يستهدي بها في دوائر الشبهة، وهي من الأمور النظريّة، وكذلك في الحس هناك دائرة كبيرة من البديهيات يستهدي بها في دوائر الشبهة.

وإلاّ فإنّك ترى نهاية الشارع (الطريق) كأنّما يتلاقى طرفاه، مع أنّ تلاقي طرَفي الشارع في نهاية مدّ البصر ليس بحقيقة، لكنّ العقل يهتدي إلى نفي ذلك.

أو ترى النار الجوّالة التي يديرها اللاعب بيده، تراها حلقة ناريّة، مع أنّها في الحقيقة ليست حلقة ناريّة، فهذه من أخطاء الحس التي يميّزها العقل، على

____________________

(1) وقد ذكروا موارد عديدة يخطأ فيها الحس: كالقطرة النازلة التي يراها الحس خيطاً، والسراب الذي يعتقد الناظر أنّه ماء، وغير ذلك من الموارد.

١٦٢

كلّ حال فعندما يقال بأنّ أداة الحس والعقل معصومتان يعني إذا قُوِّمتا بموازين مُتقنة.

الوهمُ والخيال

كذلك الحال في الأداة الوهميّة والأداة التخيّليّة المتصرّفة إذا سخَّرت إحداهما الأخرى، فإنّهما غالباً ما تُركّبان صوراً من قريحتهما لا مساس لها بالواقع.

وقد يكون الوهم والخيال خادمَين للقوى العقليّة، فيصيب الإنسان بها الحقيقة، (نعم، قد تخطِّئان الواقع إذا كانتا تُبديان من أنفسهما أفعالاً فكريّةً وتصرّفاتٍ في المعاني من دون استخدام العقل لها)، ولكن مع استخدام العقل فإنّهما تصيبان الواقع.

فالخُرافة: فعلٌ من الأفعال الفكريّة والإدراكيّة والتصوّريّة تقوم بها المخيَّلة أو الواهمة من دون هداية العقل، ويُذعن الجانب العملي (العمّالي) في النفس إلى تلك الصورة أو إلى ذلك الإدراك.

ثُمّ إنّ في النفس مشجّرة للطرفين:

طرف القوّة الإدراكيّة: التي تُدرِك المعلومات.

وطرف القوّة العمليّة: العمّالة.

وهناك أجنحة أُخرى في جهاز النفس، لكنّ الذي يُعنينا في المقام هو هذان الجناحان: الجناح العملي، والجناح النظري والإدراكي.

فالخُرافة إذاً، مبدأها من فعل إدراكي خاطئ بتوسّط المخيّلة أو الواهمة

١٦٣

يذعن لها الجانب العملي في النفس، وتَبني عليها النفس عملاً وتُرتّب عليها آثاراً، من دون أن يكون الـمَدرك صحيحاً.

وأداة الوهم والخيال إذا كانتا من دون هداية العقل وإراءته إليهما فالنتيجة تكون خاطئة، ولكنّ بعض الأشياء لا ُتدرَك بالحس ولا بالعقل مع أنّها حقائق؛ وإنّما يدركها الوهم والخيال بهداية العقل، مثلاً: حبّ زيد، بغض عمرو، حُب الأم لطفلها، البغض الخاص، والحُب الخاص، هذه تُسمّى معانٍ وهميّة، لكنّها مطابقة للحقيقة ولها حقائق، فلولا الوهم والخيال لم يصل الإنسان لإدراكها.

فلا يُحكم على كلّ شيء خيالي أو كلّ شيء وهمي أنّه غير مصيب وغير صحيح.

وقد تحصل بعض المغالطات، حيث يُحكم بالخرافة على كلّ شيء يُدرك بالخيال والوهم، فليس الخيالي يساوي اللاواقعيّة ويساوي الخطأ.

الخيال والوهم بدون هداية العقل واستخدام العقل يساوي الخرافة أو يساوي البطلان.

بخلاف ما يكون بهداية العقل، مثل: بعض الحقائق التي لا يمكن أن يدركها الحس ولا العقل، بل يدركها الوهم الصادق.

والدليل على ذلك: بعض المنامات الصادقة التي لا يدركها العقل؛ لأنّها ليست تفكيراً بحتاً، ولا يدركها الحس أيضاً، وتكون صادقة في الجملة.

والمُدرَكات العقليّة ليس لها صورة: طول، وعرض، وعمق، وليست نقوشاً من رأس، إذ المعاني العقليّة معاني مجرّدة مصمتة مكبوسة، بل ظهور تلك المعاني العقليّة يكون بتوسّط الخيال أو الوهم، بتخطّطات مقداريّة، أو بتشخّص

١٦٤

خواصّ جزئيّة معيّنة، كما هو الحال في الرؤيا المناميّة الصادقة، فالكثير منّا قد صادفَ في حياته أن رأى رؤيا صادقة طابقت الخارج، أو قل: كما هي الحال في رؤيا الأنبياء التي ليس فيها تخلّف.

الرؤيا الصادقة المصوَّرة إنّما يدركها الإنسان بأداة الخيال، حيث إنّ الحس ينعدم في النوم فلا يحس النائم شيئاً، وهذه المعلومات تنزل على الإنسان - كما يقال - من الباطن لا من الخارج، وليست الرؤيا من تصنّع وتسويل النفس، إذ النفس لا تَدرك المستقبليّات من لدن ذاتها - في حال النفوس العاديّة - فمن أين أتت هذه الرؤيا الصادقة، وبأيّ أداة أدركها الإنسان؟ وكما ذَكرنا من أمثلة حبّ الأم، وبغض العدوّ وما شابه ذلك من المعاني التي يحتاج الإنسان لها في أصل عيشه، وإلاّ لمَا قامَ عيشٌ ولا استقامت حياة بدونها.

فالقول: إنّ كلّ شيء خيالي أو وهمي يساوي اللاواقعيّة أو الخرافة هو مغالطة، نعم، قوّة الخيال أو قوّة الوهم إن تجرّدت عن العقل، فحينئذٍ تكون خرافة ولا واقعيّة.

أمّا إذا استُخدِمتا من قِبل القوى العاقلة، فيدرك الإنسان بها شطراً وافراً من الحقائق التي لا يمكن له أن يعيش بدونها في هذه النشأة، أو حتّى في النشآت الأخرى.

والوهم ألطف من الخيال، فهو من عالَم ونشأة أخرى، ومعانيه مجرّدة عن الطول والعرض والعمق، وإن كان له تشخّصات معيّنة بالإضافة إلى الجزئيّات المادّيّة.

فاصطلاح الوهم والخيال في العلوم العقليّة ليس بمعنى ما لا حقيقة له كي

١٦٥

تقع فيه المغالطات؛ إنّما القوّة الواهمة أو الخياليّة إذا لم تُوجّه ولم تُستخدم من قِبل العقل فإنّها ستُخطئ الواقع غالباً وكثيراً.

وبذلك يتبيّن موضوع الخُرافة، وإنّها بتوسّط أيّ قوةٍ من قوى النفس يمكن أن تُدرك.

وإذا كان شيء ما خرافة، فيجب على الإنسان أن يهمله وأن لا يرتّب عليه آثار الحقيقة؛ لأنّ اللازم أن لا يعتدّ بها الإنسان كحقيقة، فضلاً عن أن يتديّن بها، أو يداين بها، أو يعظّمها، أو يقدّسها، أو يُجلّها.

التضادّ بين الشعائر والخرافة

فهذه مقولة الخُرافة وحكمها، أمّا العلاقة بين قاعدة الشعائر الدينيّة وحكم العقل في إبطال وتسفيه الخرافة، وادّعاء وجود موارد الاجتماع والتصادق بينهما.

فالشعيرة - كما عرفنا فيما سبق -: هي عبارة عن الدلالة والمعلَم للمعنى الديني، فإمّا أن يتسرّب البطلان واللاحقيقة إلى العلامة، أو إلى ذي العلامة، والبطلان الذي يتسرّب ويتخلّل إليها، إمّا من جهة أنّها ليست لها علاميّة لذلك المعنى - يعني إمّا في العلامة، بحيث لا علاميّة لها على ذلك المعنى -، أو يدبّ الإشكال ويسري في نفس المعنى (الذي هو ذو العلامة).

فالمعاني الدينيّة إذا كانت معانٍ قام الدليل عليها، سواء الدليل القطعي الضروري الديني، أو الدليل النقلي الظنّي المعتبر، فالحكم بأنّها خرافة أو لا حقيقة لها يكون تصادماً مع الدليل الشرعي وخلاف الفرض، نعم، إذا كان هناك معنىً من المعاني جزئيّاً أو متوسّطاً - وما أكثر المتوسّطات - أو كلّيّاً لم يقُم عليه دليل معيّن، فيمكن أن يوصف بذلك.

١٦٦

ومن جهةٍ أخرى: فإنّ عدم الدليل غير دليل العدم، فهناك تارة شيء لم يقم عليه الدليل، وهناك تارةً أخرى شيء قام الدليل على عدمه، فلا ريب حينئذٍ في عدم واقعيّته، فيتصادق ويتّفق مع الخرافة، مثل: الأديان الوثنيّة، أو الأديان الأخرى الباطلة، ومثل هذه الأديان تُعتبر شعائرها باطلة وخرافيّة؛ لأنّ شعائرها علامات ومعالِم على معانٍ ليست واقعيّة، بل منحرفة وخاطئة وتخيّليّة ووهميّة - مثل: الثنويّة في الخالق، والثنويّة في ربّ الوجود، ولا ريب في زيف هذه المعاني، فمن ثُمّ الشعائر الدينيّة لهذه الأديان باطلة خرافيّة من هذه الجهة.

فهذه المعاني التي في الشريعة، إن قام عليها الدليل - ولو الدليل العام - فلا يصح أن يصدق عليها الخرافة.

فعمدة الكلام في التحرّي والتحقيق والتثبّت في ماهيّة المعنى الذي تعكسه تلك الشعيرة، ثُمّ نتحرّى عن الدليل عليه، أمّا إطلاق عبارة الخرافة من دون التدليل على ذلك فهو أشبه بالمغالطة أو الإبداع، ولا بدّ لكلٍّ من النافي أو المُثبت أن يستدلّ على مدّعاه.

فدعوى الخرافيّة في جنبة المعنى تتوقّف على إقامة الدليل على بطلان ذلك المعنى المعيّن، أمّا إذا كان ذلك المعنى معزّزاً ومؤيّداً بالدليل، فحينئذٍ تكون دعوى الخرافيّة فيه غير مقبولة، والغرض من التطرّق لبحث الخرافة الذي يواجه قاعدة الشعائر الدينيّة قديماً وحديثاً: أنّه إن كان يعترض بذلك في طرف وجنبة الموضوع، فلابدّ من النظر في ذلك المعنى، كي يتبيّن مدى وجود التقاء - من جهة المعنى - بين الشعيرة والخرافة.

١٦٧

وأمّا في جنبة نفس الشعيرة: فقد يُتوهّم إطلاق الخرافة، لكنّ العلامة - بما هي علامة - لا يصدق عليها خرافة، إذ المفروض أنّ الخرافة هي المعنى الذي ليس له حقيقة، أمّا العلامة في نفسها فليست من سنخ المعنى، فكيف نتصوّر فيها الخرافة، هذا ممّا لا يمكن أن يُتصوّر.

حيث إنّ هذه الشعيرة لها دلالات على معانٍ معيّنة، والمعاني قد تكون باطلة وغير صحيحة، وبالتالي تكون خرافيّة، أمّا الشعيرة في نفسها فليست لها وظيفة إلاّ الدلالة على معنى والإشارة إلى محتوى فحسب، نعم، قد تكون بعض الشعائر كعلامات ودلالات غير متناسبة مع المعنى الشامخ الذي وضِعت هي له، أو تكون موجِبة لتضعضعه، وهذا أمر آخر غير الخرافيّة، بل هو محذور الهوان والاستهانة.

مميّزات وخصوصيّات الشعائر

ذكرَ علماء الاجتماع بعض المميّزات والخصوصيات للشعائر منها:

تنوّع الشعائر

تنوّع الشعائر والرسوم بين المجتمعات المختلفة، مثلاً: أسلوب التعظيم في بلدة معيّنة، يختلف عن أسلوب التعظيم في بلدة أخرى، بل قد يُعتبر ذلك التعظيم في بلاد أخرى مظهراً لعدم الاحترام مثلاً، إذ إنّ مداليل العلامات تختلف بحسب التواضع والقرار بين أفراد المجموعات البشريّة، وهذا ممّا لا بدّ من وضعه في الحسبان، إذاً، لا يمكن أن نَحمل حُكم الشعيرة في بلدٍ على حكم شعيرة في بلد آخر.

١٦٨

منشأ الشعيرة وأبعادها الخطيرة

الشعائر والعلامات لا تكون في الغالب مبتدئة ومبتكرة من رأس؛ وإنّما تكون موروثاً حضاريّاً مكدَّساً، بمعنى أنّ أيّ عُرف، أو أيّ قوم، أو أيّ مجموعة معيّنة من البشريّة تتوارث أساليب ووسائل معيّنة، يعرض عليها شيء من التطوير والتغيير، لكنّ أصل جذور تلك الشعيرة أو تلك الوسيلة، هي موروث حضاري قديم يُنقل من الأجداد إلى الأبناء في إطار حضارات مختلفة، من مؤثّرات وخصوصيّات معيّنة، مثل: العِرق المعيّن، أو القوميّة المعيّنة، أو المنطقة الجغرافيّة، ففي الواقع الشعيرة التي تتّخذ في مجال ديني - أو في مجال غير ديني، أو مجال معاشي، أو فني، أو اجتماعي، أو تاريخي، أو قومي - تحمل هويّة وخصوصيّات ومميّزات تلك المنطقة أو تلك القوميّة - كما يعبّرون -، يعني أنّ الشعيرة ليست هي شعيرة فقط، بل تستبطن الهويّة القوميّة والشخصيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة بقدر ما تحتوي على معاني ومبادئ.

ومن ثُمّ ترى متخصّصي عِلم الحضارات أو علم التاريخ والاجتماع، أو علم السيكولوجيا (علم النفس) يشيرون على أنّه من الخطورة بمكان تغيير الشعارات الوطنيّة والرموز الوطنيّة والعبث فيها؛ لأنّ هذه الرموز والشعارات المعيّنة تحمل هويّة قرون لهذه المنطقة، وتغييرها مقابل رموز وشعارات بديلة، يعني ذوبان هذه القوميّة في مقابل ثقافات دخيلة، فهذه الرموز والشعارات ليس من الهيّن والبسيط أن تُستبدل برموز تشكيليّة جديدة وتذوب أمام الغزو الفكري

١٦٩

الجديد، وليس من الهيّن أن تتلاشى العادات والتقاليد وتضعف الحصيلة التاريخيّة للمنطقة، مقابل الفكر الجديد والثقافة البديلة التي يأتي بها الغُزاة والمستعمرون.

فنحن نرى مثلاً إصرار بعض الدول الغربيّة - كبريطانيا - في ترويج اللغة الإنجليزيّة، مع أنّ بريطانيا قد انحسر امتداد نفوذها الرسمي الظاهري حاليّاً، مع ذلك لديها إصرار في تعليم ونشر اللغة الإنجليزيّة، السرّ يكمن في أنّ وراء تعليم اللغة تحميل تقاليد أصحاب اللغة أنفسهم، وتحميل ثقافة وروحيات الإنجليز، يعني تذويب القوميّات الأخرى مقابل قوميّتهم.

فالرموز والشعارات الإسلاميّة لا يصحّ الاستهانة بها واستصغارها؛ فإنّ لها دوراً كبيراً في تحديد الهويّة الحضاريّة للأمّة الإسلاميّة.

فإذا كانت الشعيرة والشعائر بهذا الموقع من الأهميّة والحسّاسيّة، فليس من الهيّن محاولة تغييرها من دون دراسة مختلفة الجوانب محيطة بالجهات العديدة؛ لأنّ هذه الرموز والشعائر الدينيّة، سواء شعائر الحجّ، أو الشعائر الحسينيّة، أو شعائر الصلاة، أو شعائر المسجد، أو شعائر قبور الأئمّة (عليهم السلام) هي تُعدّ بقاءً للمعالِم التاريخيّة والحضاريّة للمسلمين.

لذا نجد البشريّة الآن تحتفظ بالتراث، وتهتمّ به وتحرسه بأخطر الأثمان، وتصرف على ذلك من الثروات الطبيعيّة الهائلة للبلد؛ لأنّ التراث - في الواقع - يحكي عن وجود حضارات استنزفت فيها الجهود والطاقات، ثُمّ بعد ذلك وصلت إلى هذا العصر الحاضر، فليس من اليسير التفريط بها.

فالخرافة قد تتصادق مع الشعيرة بلحاظ تأويل المعنى المدلول عليه، لكنّه

١٧٠

يجب الحذر والتفطّن من فقد هذه الرموز التي هي مخزون لمعانٍ سامية، والضمان لأصالة المجتمع الإسلامي، ولا يسوغ التفريط بها بدون تدبّر، بل لا بدّ من دراستها بدقّة وتأنٍّ.

وإذا كانت هذه الشعيرة بالنسبة إلى الآخرين (خارج المجتمع الإسلامي) مثل: اليهود، أو النصارى قد يكون لها مدلول معيّن، فهذا لا ينتقص من شأن الشعيرة نفسها؛ لأنّ المفروض أنّ مدلولها لدى المسلمين هو المؤدّى الرفيع والمعنى السامي، فكيف يُنتظر منّا أن نتّخذ شعيرة ورمزاً، يكون له مؤدّى مقبول عندهم وهم لا يذعنون بالمبادئ الإسلاميّة، فلو اشترطنا في الشعيرة قبولهم لمعناها، فهذا يعني فقد الشعيرة وظيفتها أو ضياع الدور المرجوّ منها أو الغرض المأمول منها، وبعبارةٍ أخرى: إنّ التساهل والتهاون بذلك يُعتبر فقداناً لهويّتنا وأصالتنا.

وقد تمّ البيان بما لا مزيد عليه أنّ الشعيرة تحتوي على ركنين: ركن النشر والإعلام، وركن الإعلاء والاعتزاز وحفظ الهويّة،( ولَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ،( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) .

فوظيفة الشعائر حفظ الهويّة الإسلاميّة والدينيّة المبدئيّة وإعلائها، فإذا فقدناها واستبدلناها بشعارات تروق للأعداء فعلى الإسلام السلام.

وهنا نقطة مهمّة ونكتة فقهيّة مرتبطة بقاعدة الشعائر الدينيّة وهي: أنّ هذه القاعدة تحمل في ماهيّتها ركن الإعلام والإنذار والبثّ والعلامة والمعلَم، وركن آخر في ماهيّتها - كالجنس والفصل - هو الإعلاء والاعتزاز، أي حفظ الهوية بل إعلائها والاعتزاز بها وتقديمها على بقيّة الهويّات البشريّة الأخرى، وهي الهويّة السماويّة والشخصيّة الإلهيّة في الواقع.

١٧١

دائرةُ الشعائر الدينيّة

ومن جهة أخرى، فإنّ المطلوب من الشعائر الدينيّة ثلاثة أنماط من الوظائف:

تارةً أن تؤدّي دورها في الوسط الديني المسلم، وتكون فائدتها للمسلمين أنفسهم فقط.

وتارةً يكون تأثيرها ضمن أبناء الطائفة والوسط المؤمن.

وتارةً ثالثة أن تؤدّي دوراً لدعوة الآخرين من المِلل والنِحل البشريّة إلى الإسلام أو إلى الإيمان.

فهذه الشعائر التي أُمرنا بتحريمها وتعظيمها، إمّا على نحو وجوب إقامتها بين المسلمين ثُمّ نشرها في الدار الإسلاميّة أو دار الإيمان، أو أن تكون وسيلة إعلاميّة عامّة يُرجى لها الوجود، ويكون الأمر بها بلحاظ الوسط غير المسلم، ويُتوخّى أن تؤثّر في الأعم من الوسط المسلم وغير المسلم.

ولا يخفى أنّ المطلوب من الشعائر - بصورة عامّة -: هو إيجادها في الوسط المسلم أو المؤمن أوّلاً وبالذات، والمحافظة على نفس الوسط المسلم وتوجيهه إلى الهدف، والسمو به إلى القمّة في نفس الوسط الإسلامي، نعم، توجد بعض الشعائر المعيّنة قد اختصّها الفقه والدين الإسلامي لأجل التبليغ في ساحة الوسط غير المسلم.

مثل:( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ

١٧٢

أَحْسَنُ ) (1) ، ونحوه من الأدلّة ممّا يجب أن تكون الدعوة بلغة يفهمها المدعوّ ويستأنس بها، فليس من الحِكمة استخدام أسلوب صحيح في ذاته، ولكن يستهجنه الناس ويُنفِّر عن الإسلام، ولا شكّ أنّ هذا ليس من الحكمة بل هو نقض للحكمة.

تباين مِلاكات الأقسام في الشعائر

ولكنّ الكلام هو في التفرقة والتمييز بين الشعائر التي هي لأجل الوسط المسلم أو الوسط المؤمن، وتلك التي هي للوسط غير المسلم، بل اللازم أيضاً التفرقة بين الشعائر الإسلاميّة والشعائر الإيمانيّة، فالأولى للوسط المسلم، والثانية للوسط المؤمن، ولا يطغى حساب وموازنة أحدها على الأخرى، بل كلّ منها في مورده مطلوب ولازم، إذ الغرض قائم من الأقسام الثلاثة من الشعائر من حفظ هويّة الإيمان، وحفظ هويّة الإسلام والإعلام والدعوة لكلّ منهما.

نعم، يجب أن يُختار فيها ما يلائم ويناسب المقام، ولكن في حدود أن لا تذوب الشخصيّة الإسلاميّة ولا الشخصيّة الإيمانيّة، وشريطة عدم تقديم التنازلات العقائديّة والسلوكيّة، وإلاّ فسوف ينتقض غرض الدعوة؛ لأنّ المفروض من ظاهر الآية( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ ) هو الدعوة إلى سبيل الله، وليس الدعوة إلى سبيل النصارى أو اليهود، أو سبيل أهل الضلال، المفروض هو الدعوة إلى سبيل ربّك، لكن بالحكمة والأسلوب المناسب، الدعوة إلى سبيل الله مع

____________________

(1) النحل: 125.

١٧٣

حفظ الهويّة، لكن بالأسلوب والكيفيّة والنمط الذي يستأنسون به وينجذبون إليه من سبيل الله، فحينئذٍ تؤثّر الدعوة وتؤتي ثمارها.

غالب الشعائر هو التعظيم بلحاظ دار المسلمين ودار المؤمنين،( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ،( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) - ولم يقل سبحانه: جعلناها لهم -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ... ) ، وليس لمَن لا يحجّ البيت، وصلاة الجماعة خاصّة بدار المسلمين الذين يحرصون على أداء الصلاة، وهي تظاهرة عباديّة دينيّة، وصلاة الجمعة كذلك.

وهناك طقوس دينيّة كثيرة قد يستخفّ ويستهزأ الآخرون بها! فقد يقول مثلاً: ما هذا الانحناء ونكس الرأس ورفع العجيزة؟! هذه مظاهر لا يفهمها غير المسلمين؛ لأنّ هذه الطقوس المفروض فيها أن تُقام بنفسها لأجل الحفاظ على المجتمع المسلم في نفسه، وكذلك الحال بالنسبة إلى طقوس الإيمان في وسط الطائفة، فإنّه لا يعيها غير المؤمنين، فمن الخبط بمكان تفسير الشعائر المأمور بها في وسط خاص والحكم عليها بموازين الوسط العام فضلاً عن الوسط الأعم، وهذا البحث في الشعائر ليس فقط في الشعائر الدينيّة، بل يجري في الشعائر الوطنيّة والقوميّة.

بعض الشعائر الوطنيّة والقوميّة تؤسَّس لأجل حفظ الفكر والهويّة وربط المُواطن بتربة وطنه، أو بقوميّته، وليس الغرض من تلك الشعيرة أو الرمز دعوة الأمم الأخرى، كلاّ!

مثلاً لأجل ربط الجنود بالتربة والوطن، أو من أجل تحقّق معاني الدفاع

١٧٤

عن الوطن وحماية مقدّرات البلد وما شابه ذلك، يُربط الجنود برمز معيّن وإن لم يفهمه الآخرون، أو قد يسيء فهمه الآخرون، إذ ليس الغرض من هذا الرمز العسكري أو الجهادي هو فهم الآخرين، بل المطلوب فيه هو فهم أهل الوطن.

كذلك الحال في الشعائر الدينيّة التي يظهر غالب الخطاب فيها، بل مدلول الأدلّة الكثيرة، أنّها موجّهة لأجل نفس المجتمع المسلم أو المجتمع المؤمن، ولأجل حفظ هويّتهما، وحفظ مبادئهما، ويتماسكا ويترابطا، لا أنّه لأجل التبليغ لجهة أخرى أو لأمّة أخرى.

نعم، قد يُفترض ذلك في بعض الشعائر، مثل: باب الدعوة إلى الجهاد الفكري، ولا ريب في كون الغرض منه دعوة الآخرين، فيُفترض مثلاً من الكاتب، أو المفكّر، أو الخطيب، أو المحاضر، أو على صعيد منتدى عالَمي كمحطة فضائيّة أو مواقع الكترونيّة مثلاً أن يُختار الأسلوب المقبول والمؤثر، والمفروض أن يركّز على النقاط المعيّنة في القانون الإسلامي ومعارف المذهب التي تجذب الآخرين مثل: موارد الوفاء بالعهد وأداء الأمانة، لا سيّما في الأبواب التي لها صلة بالآخرين، حتّى تتّخذ رموزاً وشعارات وقوانين ومعالِم تجذب الآخرين إلى الوسط الإسلامي والإيماني لا أن تُنفّر عنه، عملاً بمقولة:(كونوا دُعاةً للناس بغير ألسِنتكم) (1) .

فالخُلق الإيماني الإسلامي - مثلاً - ينبغي الدعوة إليه، كما أنّ هناك في المجتمعات العصريّة دعوة إلى المثال النموذجي: سواء المثال الاقتصادي، أو المثال التربوي، لابدّ أن ندعو إلى مثال خُلق معيّن يجذب الآخرين، وهو المثال

____________________

(1) أصول الكافي 2: 78 / ح 14، مكيال المكارم 2: 257.

١٧٥

الذي يدعو له الإيمان والإسلام؛ لأنّ الغرض منه هو الإعلان والتبليغ والدعوة لجذب الآخرين إلى حوزة الدين.

وأمّا غالب الشعائر التي يُفرض أنّها طقوس ورسوم تُتّخذ في دار الإسلام أو الإيمان، فالمفروض فيها هو المحافظة على هويّتها الأصليّة الإيمانيّة والإسلاميّة، والمنع من ضياعها.

والمتخصّصون من أصحاب الفنون والعلوم العديدة: كالشعراء، والأدباء، والخطباء، والقرّاء، وأصحاب المهارات في الأنشطة والمراسم الدينيّة المختلفة، يلمسون ذلك مع التحصّن بالمعاني الإسلاميّة العالية وهضمها والإحاطة بها، فيطمئنّ لهم بأن يبرزوا لنا تشكيلة شعاريّة معيّنة فنّيّة، أدبيّة، شعريّة، قصصيّة، وبلاغيّه تُناسب المعنى السامي القرآني، وأمّا إذا كان المتخصّص متأثّراً بالمعاني والمبادئ الدخيلة على المذهب أو الدين الإسلامي، فما ينتجه ويرسمه من شعار يشكّل خطورة على المعالِم الإيمانيّة والإسلاميّة.

فهذا البحث ينبغي أن يُلحظ كيفيّةً وحيثيّةً، استعانةً بالأخصّائيّين إخلاصاً وخبرةً، كما ينبغي دراسة هذه الشعيرة مع مقدار امتداد جذورها التاريخيّة، ومدى ارتباطها بمسار الطائفة وبحضارة الأمّة الإسلاميّة، حتّى يمكن البتّ في سلبيّة أو إيجابيّة هذه الشعيرة أو مؤدّاها الذي تدلّ عليه.

الشعائرُ والهَتك

يبقى الكلام ضمن هذه الجهة السابعة عن ممانعيّة الهتك، أو الهوان الذي قد يعرض على ممارسة الشعائر الدينيّة المستحدَثة أو المستجدّة، فيكون مانعاً

١٧٦

خارجياً لعموم دليل قاعدة الشعائر الدينيّة.

في النظرة الأوّليّة البَدويّة يتبادر كونه مانعاً، باعتبار استلزامه هوان الدين، وهتك الدين.

وقد تمسّك البعض بهذا العنوان، واستدلّ به على ممانعة كثير من الشعائر المستجدّة المتّخذة، فلابدّ - من ثَمّ - من تحليل هذا العنوان ومعرفة ماهيّته العقليّة واللغويّة.

معنى الهَتك (1) : كشف المستور، وطبعاً - بالنسبة إلى حرمة الدين أو المسلمين - قد يُراد منه كشف نقاط الضعف (في المسلمين أو المؤمنين) وكشف الستر عن ذلك، مثل: هتك حرمة المؤمنين والمسلمين، وكشف النقص، أو الضعف الموجود فيهم ممّا يؤثر في زوال قوّتهم وتضعيف شوكتهم.

والهوان أيضاً في ماهيّته ومعناه يتقارب من الهتك، ويكون مسبَّباً عن الهتك مثلاً ومعلولاً عن كشف الستر.

فالهتك والهوان أمران متلازمان في الغالب، وأحدهما مسبّب عن الآخر، وإن كانت الماهيّة الحرفيّة وبالدقّة في الهتك هي كشف الستر، لكنّ كشف الستر: إمّا عن معائب، أو عَوار، أو نقائص، وكلّها بمعنى واحد، ومن ثُمّ يستلزم الهوان من الطرف الآخر.

ولا ريبَ أنّ هذه الماهيّة هي مضادّة لأغراض الشارع، ونقيض أهدافه في التشريع التي بُيّنت في آيات عديدة منها:

____________________

(1) الهتك: خرق الستر عمّا وراءه - وتهتّك أي: افتضح - الصِحاح للجوهري.

١٧٧

-( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) (1) .

-( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (2) .

-( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (3) .

-( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) (4) .

إنّ الأغراض الأوّليّة الضروريّة من التشريع هي الرفعة والعلوّ، وهي أغراض أوّليّة كبرى وأهداف فوقانيّة قصوى في التشريعات القرآنيّة، والهتك بمعنى كشف نقاط الضعف أو عَوار المسلمين أو المتديّنين، الذي يستلزم الهوان والنقص المعاكس والمناقض لأهداف الشارع ورغباته.

لكنّ الكلام: أنّ هذا الهتك والهوان، هل هو مترتّب على صرف الاستهزاء من قِبل المذاهب الأخرى، أو من قِبل المِلل الأخرى؟

أقسامُ الهتك والاستهزاء

والاستهزاء - سواء كان من الفِرق الإسلاميّة الأخرى أو من المِلل الأخرى - يكون على أقسام:

منه: الاستهزاء باطلاً وبما ليس بحق، وهذا لا يؤثّر وليس بمانع، ولا ريب أنّه لا يستلزم الهتك؛ لأن هذا الاستهزاء غير كاشف عن عَوار ونقص ومعائب في

____________________

(1) التوبة: 40.

(2) النساء: 141.

(3) الحجّ: 32.

(4) الحجّ: 30.

١٧٨

المؤمنين، أو في الدين.

ومنه: الاستهزاء نتيجة اختلاف الأعراف والبيئات والأعراق، واختلاف الشعائر أو الطقوس حسب المِلل والبلدان المختلفة في شعيرة منصوبة لتدلّ على معنى سامٍ، لكنّ الآخرين قد ينطبع بأذهانهم معنى آخر، فهذا لا يستلزم ممانعة الشعائر ولا يُعرقل اتّخاذها وتعظيمها، والسرّ في ذلك: أنّ هذا يرجع إلى حفظ الهويّة، كما في حفظ الهويّة الوطنيّة أو التراثيّة، وهنا يرجع إلى حفظ الهوية الدينيّة، أو حفظ الهويّة الخاصّة بالطائفة وبهذه الملّة وهذه النِحلة.

فلو استُجيب لكلّ ما يروق للآخرين ممّا يكون مقبولاً عندهم، لتبدّلت هويّتنا إلى هويّتهم، وكان ذلك نوعاً من الانهزام والانزلاق تحت سيطرتهم، ولأدّى إلى ذوبان شخصيّتنا في بوتقة الفكر الدخيل والأجنبي، فهذا القسم أيضاً لا يستلزم الهتك أو الهوان.

ومنه: استهزاء لجهات واقعيّة، فهذا يلزم منه هتك وهوان، فعلى ضوء هذا التقسيم الثلاثي، نخرج بهذه النتيجة: أنّ قِسمين من السخريّة أو الاستهزاء أو التعجّب من الآخرين لا يوجِب الهتك والهوان، وإن تخيّله الباحث أو المتتبّع للشعائر الدينيّة كذلك.

والهتك أو الهوان أو الاستهزاء حيث إنّه من مصاديق وأصناف التحسين والتقبيح العقليّين، وقد ذكرنا أنّ بعض مواردهما يكون مطابقاً للواقع فيكون صادقاً، وبعض مواردها غير مطابق للواقع فلا يكون صادقاً، بل كاذباً.

العقلُ العملي والعقلُ النظري: هذا التحسين والتقبيح العقليّان، في قوّة العقل العملي في النفس، التي تختلف وظيفتها عن قوّة العقل النظري الذي يُدرك وجود

١٧٩

الأشياء وثبوتها، أو عدمها ونفيها، كما يقال: إنّ العقل النظري بنفسه لا يوجب تحريكاً في الإنسان ولا انبعاثاً ولا تربيةً، ومن ثَمّ قالوا: إنّ الحكماء (الفلاسفة) لا يؤثّرون في المجتمعات مثل ما يؤثّر الأنبياء والرسل؛ لأنّ الفلاسفة يعتمدون غالباً على العقل النظري، وهو ينطوي على جنبة الإدراك فقط.

بينما إذا اتّصل العقل النظري - وهو إدراك الأشياء وثبوتها في العلوم المختلفة - بالعقل العملي، أي أدرك حُسن وقُبح الأشياء وتحسينها وتقبيحها، حتّى يكون محفزّاً ومحرّكاً، أو زاجراً ومؤدّباً للنفس، ففي الواقع فإنّ العقل العملي ليس صِرف إدراك فقط، وليس صِرف حجّيّة وتنجيز وتعذير إدراكي فقط، وإنّما هو نوع من الباعثيّة والتحريك والتكوين؛ لأنّ التحسين نوع من المدح ونوع من إيجاد الجَذبة والمَغنطة بين النفس وذلك الفعل الحسن، والتقبيح - في المقابل - نوع من إيجاد الشرارة والنفرة والبعد بين النفس وذلك الفعل القبيح، فهذا الجذب والوصل من جهة والنفرة والانقطاع من جهة أخرى هما من خاصيّات العقل العملي.

فإذا كان التحسين والتقبيح كاذِبين، فإنّ هذا بنفسه يكون عاملاً مُغرياً وخاطئاً ومزيّفاً للنفس؛ لأن يُحسّن لها القبيح ويقبّح لها الحسن، وسوف يؤدّي إلى تربية خاطئة للنفس، وإلى نوع من الترويض السيئ في النفس.

الشعائرُ والآثار الاجتماعيّة

إذا اتّضح ذلك، عَلمنا أنّه إذا حصلَ الاستهزاء والسخريّة - اللذَين هما من أصناف المدح والذمّ والتحسين والتقبيح، بسلوكيّة خاطئة ومدلّسة،

١٨٠