الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد13%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131205 / تحميل: 6170
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهي الجهة الأخيرة في بحث الخطوط العامّة للشعائر الدينيّة.

وتدور حول ممانعة الخرافة لقاعدة الشعائر الدينيّة، أو استلزام بعض الشعائر للإهانة والاستهزاء أو الهتك، وهذه عناوين بالطبع متعدّدة مختلفة، ويجب أن نحلّل كلّ عنوان على حدة، ونرى كيف يكون كلّ من هذه العناوين ممانعاً؟ وهل هناك موارد للتصادق بين هذه العناوين وقاعدة الشعائر الدينيّة؟ أو لا تصادق في البين أصلاً؟

وبادئ ذي بِدء، نقف على عنوان ومصطلح الخرافة.

الخُرافة والشعائر

الخرافة ما هو موضوعها، وكيف تكون مانعة لقاعدة الشعائر الدينيّة؟

فالبحث في الخرافة تارة يكون حُكميّاً، وأخرى يكون موضوعيّاً.

أمّا من جهة الموضوع: الخرافة في اللغة وفي العرف تُطلق على أيّ شيءٍ وهمي أو تخيّلي، أو الذي لا يُمتّ إلى حقيقة واقعيّة أو حسّيّة، فأيّ شيء يُمليه الوهم أو يمليه الخيال من دون أن يكون له مطابق حقيقي في الواقع - لا عقلي ولا حسّي - يسمّى خرافة.

١٦١

والحسّ ليس معصوماً على الدوام، إذ قد يتطرّق إليه الخطأ(١) وإن كان الحسّ إجمالاً من منابع البديهيّات، وكذلك العقل منبع جملة من أقسام البديهيّات، وليس كلّ ما لا يُدرك بالحس هو ليس بحقيقة؛ ولأنّ كثيراً من الأشياء موجودة وحقيقيّة، مع أنّها لا تُدرك بالحسّ، وعلى كلّ حال، فاقتناص الحقيقة يكون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحس أو بأداة القلب فيما يعاينه من العلوم الحضوريّة.

ففي مقابل الحقائق هناك خرافات، فإذاً هذه ماهيّة الخرافة الموضوعة التي لا يقوم عليها دليل عقلي ولا دليل نقلي ولا دليل حسّي ولا دليل مبرهن؛ وإنّما يُصوّرها الخيال أو الوهم، وحينئذٍ تكون خرافة.

وحينما نُقرّر أنّ الأداة العقليّة أو الأداة الحسّيّة تتوسّط لإثبات الحقائق، فليس ذلك على الدوام، بل لابدّ من ميزان يعتصم به العقل عن الخطأ، في البديهيات التي هي كرأسمال فطري مودَع في الإنسان من قِبل الله تعالى، فتلك أداة عصمة للإنسان يستهدي بها في دوائر الشبهة، وهي من الأمور النظريّة، وكذلك في الحس هناك دائرة كبيرة من البديهيات يستهدي بها في دوائر الشبهة.

وإلاّ فإنّك ترى نهاية الشارع (الطريق) كأنّما يتلاقى طرفاه، مع أنّ تلاقي طرَفي الشارع في نهاية مدّ البصر ليس بحقيقة، لكنّ العقل يهتدي إلى نفي ذلك.

أو ترى النار الجوّالة التي يديرها اللاعب بيده، تراها حلقة ناريّة، مع أنّها في الحقيقة ليست حلقة ناريّة، فهذه من أخطاء الحس التي يميّزها العقل، على

____________________

(١) وقد ذكروا موارد عديدة يخطأ فيها الحس: كالقطرة النازلة التي يراها الحس خيطاً، والسراب الذي يعتقد الناظر أنّه ماء، وغير ذلك من الموارد.

١٦٢

كلّ حال فعندما يقال بأنّ أداة الحس والعقل معصومتان يعني إذا قُوِّمتا بموازين مُتقنة.

الوهمُ والخيال

كذلك الحال في الأداة الوهميّة والأداة التخيّليّة المتصرّفة إذا سخَّرت إحداهما الأخرى، فإنّهما غالباً ما تُركّبان صوراً من قريحتهما لا مساس لها بالواقع.

وقد يكون الوهم والخيال خادمَين للقوى العقليّة، فيصيب الإنسان بها الحقيقة، (نعم، قد تخطِّئان الواقع إذا كانتا تُبديان من أنفسهما أفعالاً فكريّةً وتصرّفاتٍ في المعاني من دون استخدام العقل لها)، ولكن مع استخدام العقل فإنّهما تصيبان الواقع.

فالخُرافة: فعلٌ من الأفعال الفكريّة والإدراكيّة والتصوّريّة تقوم بها المخيَّلة أو الواهمة من دون هداية العقل، ويُذعن الجانب العملي (العمّالي) في النفس إلى تلك الصورة أو إلى ذلك الإدراك.

ثُمّ إنّ في النفس مشجّرة للطرفين:

طرف القوّة الإدراكيّة: التي تُدرِك المعلومات.

وطرف القوّة العمليّة: العمّالة.

وهناك أجنحة أُخرى في جهاز النفس، لكنّ الذي يُعنينا في المقام هو هذان الجناحان: الجناح العملي، والجناح النظري والإدراكي.

فالخُرافة إذاً، مبدأها من فعل إدراكي خاطئ بتوسّط المخيّلة أو الواهمة

١٦٣

يذعن لها الجانب العملي في النفس، وتَبني عليها النفس عملاً وتُرتّب عليها آثاراً، من دون أن يكون الـمَدرك صحيحاً.

وأداة الوهم والخيال إذا كانتا من دون هداية العقل وإراءته إليهما فالنتيجة تكون خاطئة، ولكنّ بعض الأشياء لا ُتدرَك بالحس ولا بالعقل مع أنّها حقائق؛ وإنّما يدركها الوهم والخيال بهداية العقل، مثلاً: حبّ زيد، بغض عمرو، حُب الأم لطفلها، البغض الخاص، والحُب الخاص، هذه تُسمّى معانٍ وهميّة، لكنّها مطابقة للحقيقة ولها حقائق، فلولا الوهم والخيال لم يصل الإنسان لإدراكها.

فلا يُحكم على كلّ شيء خيالي أو كلّ شيء وهمي أنّه غير مصيب وغير صحيح.

وقد تحصل بعض المغالطات، حيث يُحكم بالخرافة على كلّ شيء يُدرك بالخيال والوهم، فليس الخيالي يساوي اللاواقعيّة ويساوي الخطأ.

الخيال والوهم بدون هداية العقل واستخدام العقل يساوي الخرافة أو يساوي البطلان.

بخلاف ما يكون بهداية العقل، مثل: بعض الحقائق التي لا يمكن أن يدركها الحس ولا العقل، بل يدركها الوهم الصادق.

والدليل على ذلك: بعض المنامات الصادقة التي لا يدركها العقل؛ لأنّها ليست تفكيراً بحتاً، ولا يدركها الحس أيضاً، وتكون صادقة في الجملة.

والمُدرَكات العقليّة ليس لها صورة: طول، وعرض، وعمق، وليست نقوشاً من رأس، إذ المعاني العقليّة معاني مجرّدة مصمتة مكبوسة، بل ظهور تلك المعاني العقليّة يكون بتوسّط الخيال أو الوهم، بتخطّطات مقداريّة، أو بتشخّص

١٦٤

خواصّ جزئيّة معيّنة، كما هو الحال في الرؤيا المناميّة الصادقة، فالكثير منّا قد صادفَ في حياته أن رأى رؤيا صادقة طابقت الخارج، أو قل: كما هي الحال في رؤيا الأنبياء التي ليس فيها تخلّف.

الرؤيا الصادقة المصوَّرة إنّما يدركها الإنسان بأداة الخيال، حيث إنّ الحس ينعدم في النوم فلا يحس النائم شيئاً، وهذه المعلومات تنزل على الإنسان - كما يقال - من الباطن لا من الخارج، وليست الرؤيا من تصنّع وتسويل النفس، إذ النفس لا تَدرك المستقبليّات من لدن ذاتها - في حال النفوس العاديّة - فمن أين أتت هذه الرؤيا الصادقة، وبأيّ أداة أدركها الإنسان؟ وكما ذَكرنا من أمثلة حبّ الأم، وبغض العدوّ وما شابه ذلك من المعاني التي يحتاج الإنسان لها في أصل عيشه، وإلاّ لمَا قامَ عيشٌ ولا استقامت حياة بدونها.

فالقول: إنّ كلّ شيء خيالي أو وهمي يساوي اللاواقعيّة أو الخرافة هو مغالطة، نعم، قوّة الخيال أو قوّة الوهم إن تجرّدت عن العقل، فحينئذٍ تكون خرافة ولا واقعيّة.

أمّا إذا استُخدِمتا من قِبل القوى العاقلة، فيدرك الإنسان بها شطراً وافراً من الحقائق التي لا يمكن له أن يعيش بدونها في هذه النشأة، أو حتّى في النشآت الأخرى.

والوهم ألطف من الخيال، فهو من عالَم ونشأة أخرى، ومعانيه مجرّدة عن الطول والعرض والعمق، وإن كان له تشخّصات معيّنة بالإضافة إلى الجزئيّات المادّيّة.

فاصطلاح الوهم والخيال في العلوم العقليّة ليس بمعنى ما لا حقيقة له كي

١٦٥

تقع فيه المغالطات؛ إنّما القوّة الواهمة أو الخياليّة إذا لم تُوجّه ولم تُستخدم من قِبل العقل فإنّها ستُخطئ الواقع غالباً وكثيراً.

وبذلك يتبيّن موضوع الخُرافة، وإنّها بتوسّط أيّ قوةٍ من قوى النفس يمكن أن تُدرك.

وإذا كان شيء ما خرافة، فيجب على الإنسان أن يهمله وأن لا يرتّب عليه آثار الحقيقة؛ لأنّ اللازم أن لا يعتدّ بها الإنسان كحقيقة، فضلاً عن أن يتديّن بها، أو يداين بها، أو يعظّمها، أو يقدّسها، أو يُجلّها.

التضادّ بين الشعائر والخرافة

فهذه مقولة الخُرافة وحكمها، أمّا العلاقة بين قاعدة الشعائر الدينيّة وحكم العقل في إبطال وتسفيه الخرافة، وادّعاء وجود موارد الاجتماع والتصادق بينهما.

فالشعيرة - كما عرفنا فيما سبق -: هي عبارة عن الدلالة والمعلَم للمعنى الديني، فإمّا أن يتسرّب البطلان واللاحقيقة إلى العلامة، أو إلى ذي العلامة، والبطلان الذي يتسرّب ويتخلّل إليها، إمّا من جهة أنّها ليست لها علاميّة لذلك المعنى - يعني إمّا في العلامة، بحيث لا علاميّة لها على ذلك المعنى -، أو يدبّ الإشكال ويسري في نفس المعنى (الذي هو ذو العلامة).

فالمعاني الدينيّة إذا كانت معانٍ قام الدليل عليها، سواء الدليل القطعي الضروري الديني، أو الدليل النقلي الظنّي المعتبر، فالحكم بأنّها خرافة أو لا حقيقة لها يكون تصادماً مع الدليل الشرعي وخلاف الفرض، نعم، إذا كان هناك معنىً من المعاني جزئيّاً أو متوسّطاً - وما أكثر المتوسّطات - أو كلّيّاً لم يقُم عليه دليل معيّن، فيمكن أن يوصف بذلك.

١٦٦

ومن جهةٍ أخرى: فإنّ عدم الدليل غير دليل العدم، فهناك تارة شيء لم يقم عليه الدليل، وهناك تارةً أخرى شيء قام الدليل على عدمه، فلا ريب حينئذٍ في عدم واقعيّته، فيتصادق ويتّفق مع الخرافة، مثل: الأديان الوثنيّة، أو الأديان الأخرى الباطلة، ومثل هذه الأديان تُعتبر شعائرها باطلة وخرافيّة؛ لأنّ شعائرها علامات ومعالِم على معانٍ ليست واقعيّة، بل منحرفة وخاطئة وتخيّليّة ووهميّة - مثل: الثنويّة في الخالق، والثنويّة في ربّ الوجود، ولا ريب في زيف هذه المعاني، فمن ثُمّ الشعائر الدينيّة لهذه الأديان باطلة خرافيّة من هذه الجهة.

فهذه المعاني التي في الشريعة، إن قام عليها الدليل - ولو الدليل العام - فلا يصح أن يصدق عليها الخرافة.

فعمدة الكلام في التحرّي والتحقيق والتثبّت في ماهيّة المعنى الذي تعكسه تلك الشعيرة، ثُمّ نتحرّى عن الدليل عليه، أمّا إطلاق عبارة الخرافة من دون التدليل على ذلك فهو أشبه بالمغالطة أو الإبداع، ولا بدّ لكلٍّ من النافي أو المُثبت أن يستدلّ على مدّعاه.

فدعوى الخرافيّة في جنبة المعنى تتوقّف على إقامة الدليل على بطلان ذلك المعنى المعيّن، أمّا إذا كان ذلك المعنى معزّزاً ومؤيّداً بالدليل، فحينئذٍ تكون دعوى الخرافيّة فيه غير مقبولة، والغرض من التطرّق لبحث الخرافة الذي يواجه قاعدة الشعائر الدينيّة قديماً وحديثاً: أنّه إن كان يعترض بذلك في طرف وجنبة الموضوع، فلابدّ من النظر في ذلك المعنى، كي يتبيّن مدى وجود التقاء - من جهة المعنى - بين الشعيرة والخرافة.

١٦٧

وأمّا في جنبة نفس الشعيرة: فقد يُتوهّم إطلاق الخرافة، لكنّ العلامة - بما هي علامة - لا يصدق عليها خرافة، إذ المفروض أنّ الخرافة هي المعنى الذي ليس له حقيقة، أمّا العلامة في نفسها فليست من سنخ المعنى، فكيف نتصوّر فيها الخرافة، هذا ممّا لا يمكن أن يُتصوّر.

حيث إنّ هذه الشعيرة لها دلالات على معانٍ معيّنة، والمعاني قد تكون باطلة وغير صحيحة، وبالتالي تكون خرافيّة، أمّا الشعيرة في نفسها فليست لها وظيفة إلاّ الدلالة على معنى والإشارة إلى محتوى فحسب، نعم، قد تكون بعض الشعائر كعلامات ودلالات غير متناسبة مع المعنى الشامخ الذي وضِعت هي له، أو تكون موجِبة لتضعضعه، وهذا أمر آخر غير الخرافيّة، بل هو محذور الهوان والاستهانة.

مميّزات وخصوصيّات الشعائر

ذكرَ علماء الاجتماع بعض المميّزات والخصوصيات للشعائر منها:

تنوّع الشعائر

تنوّع الشعائر والرسوم بين المجتمعات المختلفة، مثلاً: أسلوب التعظيم في بلدة معيّنة، يختلف عن أسلوب التعظيم في بلدة أخرى، بل قد يُعتبر ذلك التعظيم في بلاد أخرى مظهراً لعدم الاحترام مثلاً، إذ إنّ مداليل العلامات تختلف بحسب التواضع والقرار بين أفراد المجموعات البشريّة، وهذا ممّا لا بدّ من وضعه في الحسبان، إذاً، لا يمكن أن نَحمل حُكم الشعيرة في بلدٍ على حكم شعيرة في بلد آخر.

١٦٨

منشأ الشعيرة وأبعادها الخطيرة

الشعائر والعلامات لا تكون في الغالب مبتدئة ومبتكرة من رأس؛ وإنّما تكون موروثاً حضاريّاً مكدَّساً، بمعنى أنّ أيّ عُرف، أو أيّ قوم، أو أيّ مجموعة معيّنة من البشريّة تتوارث أساليب ووسائل معيّنة، يعرض عليها شيء من التطوير والتغيير، لكنّ أصل جذور تلك الشعيرة أو تلك الوسيلة، هي موروث حضاري قديم يُنقل من الأجداد إلى الأبناء في إطار حضارات مختلفة، من مؤثّرات وخصوصيّات معيّنة، مثل: العِرق المعيّن، أو القوميّة المعيّنة، أو المنطقة الجغرافيّة، ففي الواقع الشعيرة التي تتّخذ في مجال ديني - أو في مجال غير ديني، أو مجال معاشي، أو فني، أو اجتماعي، أو تاريخي، أو قومي - تحمل هويّة وخصوصيّات ومميّزات تلك المنطقة أو تلك القوميّة - كما يعبّرون -، يعني أنّ الشعيرة ليست هي شعيرة فقط، بل تستبطن الهويّة القوميّة والشخصيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة بقدر ما تحتوي على معاني ومبادئ.

ومن ثُمّ ترى متخصّصي عِلم الحضارات أو علم التاريخ والاجتماع، أو علم السيكولوجيا (علم النفس) يشيرون على أنّه من الخطورة بمكان تغيير الشعارات الوطنيّة والرموز الوطنيّة والعبث فيها؛ لأنّ هذه الرموز والشعارات المعيّنة تحمل هويّة قرون لهذه المنطقة، وتغييرها مقابل رموز وشعارات بديلة، يعني ذوبان هذه القوميّة في مقابل ثقافات دخيلة، فهذه الرموز والشعارات ليس من الهيّن والبسيط أن تُستبدل برموز تشكيليّة جديدة وتذوب أمام الغزو الفكري

١٦٩

الجديد، وليس من الهيّن أن تتلاشى العادات والتقاليد وتضعف الحصيلة التاريخيّة للمنطقة، مقابل الفكر الجديد والثقافة البديلة التي يأتي بها الغُزاة والمستعمرون.

فنحن نرى مثلاً إصرار بعض الدول الغربيّة - كبريطانيا - في ترويج اللغة الإنجليزيّة، مع أنّ بريطانيا قد انحسر امتداد نفوذها الرسمي الظاهري حاليّاً، مع ذلك لديها إصرار في تعليم ونشر اللغة الإنجليزيّة، السرّ يكمن في أنّ وراء تعليم اللغة تحميل تقاليد أصحاب اللغة أنفسهم، وتحميل ثقافة وروحيات الإنجليز، يعني تذويب القوميّات الأخرى مقابل قوميّتهم.

فالرموز والشعارات الإسلاميّة لا يصحّ الاستهانة بها واستصغارها؛ فإنّ لها دوراً كبيراً في تحديد الهويّة الحضاريّة للأمّة الإسلاميّة.

فإذا كانت الشعيرة والشعائر بهذا الموقع من الأهميّة والحسّاسيّة، فليس من الهيّن محاولة تغييرها من دون دراسة مختلفة الجوانب محيطة بالجهات العديدة؛ لأنّ هذه الرموز والشعائر الدينيّة، سواء شعائر الحجّ، أو الشعائر الحسينيّة، أو شعائر الصلاة، أو شعائر المسجد، أو شعائر قبور الأئمّة (عليهم السلام) هي تُعدّ بقاءً للمعالِم التاريخيّة والحضاريّة للمسلمين.

لذا نجد البشريّة الآن تحتفظ بالتراث، وتهتمّ به وتحرسه بأخطر الأثمان، وتصرف على ذلك من الثروات الطبيعيّة الهائلة للبلد؛ لأنّ التراث - في الواقع - يحكي عن وجود حضارات استنزفت فيها الجهود والطاقات، ثُمّ بعد ذلك وصلت إلى هذا العصر الحاضر، فليس من اليسير التفريط بها.

فالخرافة قد تتصادق مع الشعيرة بلحاظ تأويل المعنى المدلول عليه، لكنّه

١٧٠

يجب الحذر والتفطّن من فقد هذه الرموز التي هي مخزون لمعانٍ سامية، والضمان لأصالة المجتمع الإسلامي، ولا يسوغ التفريط بها بدون تدبّر، بل لا بدّ من دراستها بدقّة وتأنٍّ.

وإذا كانت هذه الشعيرة بالنسبة إلى الآخرين (خارج المجتمع الإسلامي) مثل: اليهود، أو النصارى قد يكون لها مدلول معيّن، فهذا لا ينتقص من شأن الشعيرة نفسها؛ لأنّ المفروض أنّ مدلولها لدى المسلمين هو المؤدّى الرفيع والمعنى السامي، فكيف يُنتظر منّا أن نتّخذ شعيرة ورمزاً، يكون له مؤدّى مقبول عندهم وهم لا يذعنون بالمبادئ الإسلاميّة، فلو اشترطنا في الشعيرة قبولهم لمعناها، فهذا يعني فقد الشعيرة وظيفتها أو ضياع الدور المرجوّ منها أو الغرض المأمول منها، وبعبارةٍ أخرى: إنّ التساهل والتهاون بذلك يُعتبر فقداناً لهويّتنا وأصالتنا.

وقد تمّ البيان بما لا مزيد عليه أنّ الشعيرة تحتوي على ركنين: ركن النشر والإعلام، وركن الإعلاء والاعتزاز وحفظ الهويّة،( ولَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ،( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) .

فوظيفة الشعائر حفظ الهويّة الإسلاميّة والدينيّة المبدئيّة وإعلائها، فإذا فقدناها واستبدلناها بشعارات تروق للأعداء فعلى الإسلام السلام.

وهنا نقطة مهمّة ونكتة فقهيّة مرتبطة بقاعدة الشعائر الدينيّة وهي: أنّ هذه القاعدة تحمل في ماهيّتها ركن الإعلام والإنذار والبثّ والعلامة والمعلَم، وركن آخر في ماهيّتها - كالجنس والفصل - هو الإعلاء والاعتزاز، أي حفظ الهوية بل إعلائها والاعتزاز بها وتقديمها على بقيّة الهويّات البشريّة الأخرى، وهي الهويّة السماويّة والشخصيّة الإلهيّة في الواقع.

١٧١

دائرةُ الشعائر الدينيّة

ومن جهة أخرى، فإنّ المطلوب من الشعائر الدينيّة ثلاثة أنماط من الوظائف:

تارةً أن تؤدّي دورها في الوسط الديني المسلم، وتكون فائدتها للمسلمين أنفسهم فقط.

وتارةً يكون تأثيرها ضمن أبناء الطائفة والوسط المؤمن.

وتارةً ثالثة أن تؤدّي دوراً لدعوة الآخرين من المِلل والنِحل البشريّة إلى الإسلام أو إلى الإيمان.

فهذه الشعائر التي أُمرنا بتحريمها وتعظيمها، إمّا على نحو وجوب إقامتها بين المسلمين ثُمّ نشرها في الدار الإسلاميّة أو دار الإيمان، أو أن تكون وسيلة إعلاميّة عامّة يُرجى لها الوجود، ويكون الأمر بها بلحاظ الوسط غير المسلم، ويُتوخّى أن تؤثّر في الأعم من الوسط المسلم وغير المسلم.

ولا يخفى أنّ المطلوب من الشعائر - بصورة عامّة -: هو إيجادها في الوسط المسلم أو المؤمن أوّلاً وبالذات، والمحافظة على نفس الوسط المسلم وتوجيهه إلى الهدف، والسمو به إلى القمّة في نفس الوسط الإسلامي، نعم، توجد بعض الشعائر المعيّنة قد اختصّها الفقه والدين الإسلامي لأجل التبليغ في ساحة الوسط غير المسلم.

مثل:( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ

١٧٢

أَحْسَنُ ) (١) ، ونحوه من الأدلّة ممّا يجب أن تكون الدعوة بلغة يفهمها المدعوّ ويستأنس بها، فليس من الحِكمة استخدام أسلوب صحيح في ذاته، ولكن يستهجنه الناس ويُنفِّر عن الإسلام، ولا شكّ أنّ هذا ليس من الحكمة بل هو نقض للحكمة.

تباين مِلاكات الأقسام في الشعائر

ولكنّ الكلام هو في التفرقة والتمييز بين الشعائر التي هي لأجل الوسط المسلم أو الوسط المؤمن، وتلك التي هي للوسط غير المسلم، بل اللازم أيضاً التفرقة بين الشعائر الإسلاميّة والشعائر الإيمانيّة، فالأولى للوسط المسلم، والثانية للوسط المؤمن، ولا يطغى حساب وموازنة أحدها على الأخرى، بل كلّ منها في مورده مطلوب ولازم، إذ الغرض قائم من الأقسام الثلاثة من الشعائر من حفظ هويّة الإيمان، وحفظ هويّة الإسلام والإعلام والدعوة لكلّ منهما.

نعم، يجب أن يُختار فيها ما يلائم ويناسب المقام، ولكن في حدود أن لا تذوب الشخصيّة الإسلاميّة ولا الشخصيّة الإيمانيّة، وشريطة عدم تقديم التنازلات العقائديّة والسلوكيّة، وإلاّ فسوف ينتقض غرض الدعوة؛ لأنّ المفروض من ظاهر الآية( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ ) هو الدعوة إلى سبيل الله، وليس الدعوة إلى سبيل النصارى أو اليهود، أو سبيل أهل الضلال، المفروض هو الدعوة إلى سبيل ربّك، لكن بالحكمة والأسلوب المناسب، الدعوة إلى سبيل الله مع

____________________

(١) النحل: ١٢٥.

١٧٣

حفظ الهويّة، لكن بالأسلوب والكيفيّة والنمط الذي يستأنسون به وينجذبون إليه من سبيل الله، فحينئذٍ تؤثّر الدعوة وتؤتي ثمارها.

غالب الشعائر هو التعظيم بلحاظ دار المسلمين ودار المؤمنين،( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ،( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) - ولم يقل سبحانه: جعلناها لهم -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ... ) ، وليس لمَن لا يحجّ البيت، وصلاة الجماعة خاصّة بدار المسلمين الذين يحرصون على أداء الصلاة، وهي تظاهرة عباديّة دينيّة، وصلاة الجمعة كذلك.

وهناك طقوس دينيّة كثيرة قد يستخفّ ويستهزأ الآخرون بها! فقد يقول مثلاً: ما هذا الانحناء ونكس الرأس ورفع العجيزة؟! هذه مظاهر لا يفهمها غير المسلمين؛ لأنّ هذه الطقوس المفروض فيها أن تُقام بنفسها لأجل الحفاظ على المجتمع المسلم في نفسه، وكذلك الحال بالنسبة إلى طقوس الإيمان في وسط الطائفة، فإنّه لا يعيها غير المؤمنين، فمن الخبط بمكان تفسير الشعائر المأمور بها في وسط خاص والحكم عليها بموازين الوسط العام فضلاً عن الوسط الأعم، وهذا البحث في الشعائر ليس فقط في الشعائر الدينيّة، بل يجري في الشعائر الوطنيّة والقوميّة.

بعض الشعائر الوطنيّة والقوميّة تؤسَّس لأجل حفظ الفكر والهويّة وربط المُواطن بتربة وطنه، أو بقوميّته، وليس الغرض من تلك الشعيرة أو الرمز دعوة الأمم الأخرى، كلاّ!

مثلاً لأجل ربط الجنود بالتربة والوطن، أو من أجل تحقّق معاني الدفاع

١٧٤

عن الوطن وحماية مقدّرات البلد وما شابه ذلك، يُربط الجنود برمز معيّن وإن لم يفهمه الآخرون، أو قد يسيء فهمه الآخرون، إذ ليس الغرض من هذا الرمز العسكري أو الجهادي هو فهم الآخرين، بل المطلوب فيه هو فهم أهل الوطن.

كذلك الحال في الشعائر الدينيّة التي يظهر غالب الخطاب فيها، بل مدلول الأدلّة الكثيرة، أنّها موجّهة لأجل نفس المجتمع المسلم أو المجتمع المؤمن، ولأجل حفظ هويّتهما، وحفظ مبادئهما، ويتماسكا ويترابطا، لا أنّه لأجل التبليغ لجهة أخرى أو لأمّة أخرى.

نعم، قد يُفترض ذلك في بعض الشعائر، مثل: باب الدعوة إلى الجهاد الفكري، ولا ريب في كون الغرض منه دعوة الآخرين، فيُفترض مثلاً من الكاتب، أو المفكّر، أو الخطيب، أو المحاضر، أو على صعيد منتدى عالَمي كمحطة فضائيّة أو مواقع الكترونيّة مثلاً أن يُختار الأسلوب المقبول والمؤثر، والمفروض أن يركّز على النقاط المعيّنة في القانون الإسلامي ومعارف المذهب التي تجذب الآخرين مثل: موارد الوفاء بالعهد وأداء الأمانة، لا سيّما في الأبواب التي لها صلة بالآخرين، حتّى تتّخذ رموزاً وشعارات وقوانين ومعالِم تجذب الآخرين إلى الوسط الإسلامي والإيماني لا أن تُنفّر عنه، عملاً بمقولة:(كونوا دُعاةً للناس بغير ألسِنتكم) (١) .

فالخُلق الإيماني الإسلامي - مثلاً - ينبغي الدعوة إليه، كما أنّ هناك في المجتمعات العصريّة دعوة إلى المثال النموذجي: سواء المثال الاقتصادي، أو المثال التربوي، لابدّ أن ندعو إلى مثال خُلق معيّن يجذب الآخرين، وهو المثال

____________________

(١) أصول الكافي ٢: ٧٨ / ح ١٤، مكيال المكارم ٢: ٢٥٧.

١٧٥

الذي يدعو له الإيمان والإسلام؛ لأنّ الغرض منه هو الإعلان والتبليغ والدعوة لجذب الآخرين إلى حوزة الدين.

وأمّا غالب الشعائر التي يُفرض أنّها طقوس ورسوم تُتّخذ في دار الإسلام أو الإيمان، فالمفروض فيها هو المحافظة على هويّتها الأصليّة الإيمانيّة والإسلاميّة، والمنع من ضياعها.

والمتخصّصون من أصحاب الفنون والعلوم العديدة: كالشعراء، والأدباء، والخطباء، والقرّاء، وأصحاب المهارات في الأنشطة والمراسم الدينيّة المختلفة، يلمسون ذلك مع التحصّن بالمعاني الإسلاميّة العالية وهضمها والإحاطة بها، فيطمئنّ لهم بأن يبرزوا لنا تشكيلة شعاريّة معيّنة فنّيّة، أدبيّة، شعريّة، قصصيّة، وبلاغيّه تُناسب المعنى السامي القرآني، وأمّا إذا كان المتخصّص متأثّراً بالمعاني والمبادئ الدخيلة على المذهب أو الدين الإسلامي، فما ينتجه ويرسمه من شعار يشكّل خطورة على المعالِم الإيمانيّة والإسلاميّة.

فهذا البحث ينبغي أن يُلحظ كيفيّةً وحيثيّةً، استعانةً بالأخصّائيّين إخلاصاً وخبرةً، كما ينبغي دراسة هذه الشعيرة مع مقدار امتداد جذورها التاريخيّة، ومدى ارتباطها بمسار الطائفة وبحضارة الأمّة الإسلاميّة، حتّى يمكن البتّ في سلبيّة أو إيجابيّة هذه الشعيرة أو مؤدّاها الذي تدلّ عليه.

الشعائرُ والهَتك

يبقى الكلام ضمن هذه الجهة السابعة عن ممانعيّة الهتك، أو الهوان الذي قد يعرض على ممارسة الشعائر الدينيّة المستحدَثة أو المستجدّة، فيكون مانعاً

١٧٦

خارجياً لعموم دليل قاعدة الشعائر الدينيّة.

في النظرة الأوّليّة البَدويّة يتبادر كونه مانعاً، باعتبار استلزامه هوان الدين، وهتك الدين.

وقد تمسّك البعض بهذا العنوان، واستدلّ به على ممانعة كثير من الشعائر المستجدّة المتّخذة، فلابدّ - من ثَمّ - من تحليل هذا العنوان ومعرفة ماهيّته العقليّة واللغويّة.

معنى الهَتك (١) : كشف المستور، وطبعاً - بالنسبة إلى حرمة الدين أو المسلمين - قد يُراد منه كشف نقاط الضعف (في المسلمين أو المؤمنين) وكشف الستر عن ذلك، مثل: هتك حرمة المؤمنين والمسلمين، وكشف النقص، أو الضعف الموجود فيهم ممّا يؤثر في زوال قوّتهم وتضعيف شوكتهم.

والهوان أيضاً في ماهيّته ومعناه يتقارب من الهتك، ويكون مسبَّباً عن الهتك مثلاً ومعلولاً عن كشف الستر.

فالهتك والهوان أمران متلازمان في الغالب، وأحدهما مسبّب عن الآخر، وإن كانت الماهيّة الحرفيّة وبالدقّة في الهتك هي كشف الستر، لكنّ كشف الستر: إمّا عن معائب، أو عَوار، أو نقائص، وكلّها بمعنى واحد، ومن ثُمّ يستلزم الهوان من الطرف الآخر.

ولا ريبَ أنّ هذه الماهيّة هي مضادّة لأغراض الشارع، ونقيض أهدافه في التشريع التي بُيّنت في آيات عديدة منها:

____________________

(١) الهتك: خرق الستر عمّا وراءه - وتهتّك أي: افتضح - الصِحاح للجوهري.

١٧٧

-( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) (١) .

-( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢) .

-( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٣) .

-( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) (٤) .

إنّ الأغراض الأوّليّة الضروريّة من التشريع هي الرفعة والعلوّ، وهي أغراض أوّليّة كبرى وأهداف فوقانيّة قصوى في التشريعات القرآنيّة، والهتك بمعنى كشف نقاط الضعف أو عَوار المسلمين أو المتديّنين، الذي يستلزم الهوان والنقص المعاكس والمناقض لأهداف الشارع ورغباته.

لكنّ الكلام: أنّ هذا الهتك والهوان، هل هو مترتّب على صرف الاستهزاء من قِبل المذاهب الأخرى، أو من قِبل المِلل الأخرى؟

أقسامُ الهتك والاستهزاء

والاستهزاء - سواء كان من الفِرق الإسلاميّة الأخرى أو من المِلل الأخرى - يكون على أقسام:

منه: الاستهزاء باطلاً وبما ليس بحق، وهذا لا يؤثّر وليس بمانع، ولا ريب أنّه لا يستلزم الهتك؛ لأن هذا الاستهزاء غير كاشف عن عَوار ونقص ومعائب في

____________________

(١) التوبة: ٤٠.

(٢) النساء: ١٤١.

(٣) الحجّ: ٣٢.

(٤) الحجّ: ٣٠.

١٧٨

المؤمنين، أو في الدين.

ومنه: الاستهزاء نتيجة اختلاف الأعراف والبيئات والأعراق، واختلاف الشعائر أو الطقوس حسب المِلل والبلدان المختلفة في شعيرة منصوبة لتدلّ على معنى سامٍ، لكنّ الآخرين قد ينطبع بأذهانهم معنى آخر، فهذا لا يستلزم ممانعة الشعائر ولا يُعرقل اتّخاذها وتعظيمها، والسرّ في ذلك: أنّ هذا يرجع إلى حفظ الهويّة، كما في حفظ الهويّة الوطنيّة أو التراثيّة، وهنا يرجع إلى حفظ الهوية الدينيّة، أو حفظ الهويّة الخاصّة بالطائفة وبهذه الملّة وهذه النِحلة.

فلو استُجيب لكلّ ما يروق للآخرين ممّا يكون مقبولاً عندهم، لتبدّلت هويّتنا إلى هويّتهم، وكان ذلك نوعاً من الانهزام والانزلاق تحت سيطرتهم، ولأدّى إلى ذوبان شخصيّتنا في بوتقة الفكر الدخيل والأجنبي، فهذا القسم أيضاً لا يستلزم الهتك أو الهوان.

ومنه: استهزاء لجهات واقعيّة، فهذا يلزم منه هتك وهوان، فعلى ضوء هذا التقسيم الثلاثي، نخرج بهذه النتيجة: أنّ قِسمين من السخريّة أو الاستهزاء أو التعجّب من الآخرين لا يوجِب الهتك والهوان، وإن تخيّله الباحث أو المتتبّع للشعائر الدينيّة كذلك.

والهتك أو الهوان أو الاستهزاء حيث إنّه من مصاديق وأصناف التحسين والتقبيح العقليّين، وقد ذكرنا أنّ بعض مواردهما يكون مطابقاً للواقع فيكون صادقاً، وبعض مواردها غير مطابق للواقع فلا يكون صادقاً، بل كاذباً.

العقلُ العملي والعقلُ النظري: هذا التحسين والتقبيح العقليّان، في قوّة العقل العملي في النفس، التي تختلف وظيفتها عن قوّة العقل النظري الذي يُدرك وجود

١٧٩

الأشياء وثبوتها، أو عدمها ونفيها، كما يقال: إنّ العقل النظري بنفسه لا يوجب تحريكاً في الإنسان ولا انبعاثاً ولا تربيةً، ومن ثَمّ قالوا: إنّ الحكماء (الفلاسفة) لا يؤثّرون في المجتمعات مثل ما يؤثّر الأنبياء والرسل؛ لأنّ الفلاسفة يعتمدون غالباً على العقل النظري، وهو ينطوي على جنبة الإدراك فقط.

بينما إذا اتّصل العقل النظري - وهو إدراك الأشياء وثبوتها في العلوم المختلفة - بالعقل العملي، أي أدرك حُسن وقُبح الأشياء وتحسينها وتقبيحها، حتّى يكون محفزّاً ومحرّكاً، أو زاجراً ومؤدّباً للنفس، ففي الواقع فإنّ العقل العملي ليس صِرف إدراك فقط، وليس صِرف حجّيّة وتنجيز وتعذير إدراكي فقط، وإنّما هو نوع من الباعثيّة والتحريك والتكوين؛ لأنّ التحسين نوع من المدح ونوع من إيجاد الجَذبة والمَغنطة بين النفس وذلك الفعل الحسن، والتقبيح - في المقابل - نوع من إيجاد الشرارة والنفرة والبعد بين النفس وذلك الفعل القبيح، فهذا الجذب والوصل من جهة والنفرة والانقطاع من جهة أخرى هما من خاصيّات العقل العملي.

فإذا كان التحسين والتقبيح كاذِبين، فإنّ هذا بنفسه يكون عاملاً مُغرياً وخاطئاً ومزيّفاً للنفس؛ لأن يُحسّن لها القبيح ويقبّح لها الحسن، وسوف يؤدّي إلى تربية خاطئة للنفس، وإلى نوع من الترويض السيئ في النفس.

الشعائرُ والآثار الاجتماعيّة

إذا اتّضح ذلك، عَلمنا أنّه إذا حصلَ الاستهزاء والسخريّة - اللذَين هما من أصناف المدح والذمّ والتحسين والتقبيح، بسلوكيّة خاطئة ومدلّسة،

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440