الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد13%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131260 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهي الجهة الأخيرة في بحث الخطوط العامّة للشعائر الدينيّة.

وتدور حول ممانعة الخرافة لقاعدة الشعائر الدينيّة، أو استلزام بعض الشعائر للإهانة والاستهزاء أو الهتك، وهذه عناوين بالطبع متعدّدة مختلفة، ويجب أن نحلّل كلّ عنوان على حدة، ونرى كيف يكون كلّ من هذه العناوين ممانعاً؟ وهل هناك موارد للتصادق بين هذه العناوين وقاعدة الشعائر الدينيّة؟ أو لا تصادق في البين أصلاً؟

وبادئ ذي بِدء، نقف على عنوان ومصطلح الخرافة.

الخُرافة والشعائر

الخرافة ما هو موضوعها، وكيف تكون مانعة لقاعدة الشعائر الدينيّة؟

فالبحث في الخرافة تارة يكون حُكميّاً، وأخرى يكون موضوعيّاً.

أمّا من جهة الموضوع: الخرافة في اللغة وفي العرف تُطلق على أيّ شيءٍ وهمي أو تخيّلي، أو الذي لا يُمتّ إلى حقيقة واقعيّة أو حسّيّة، فأيّ شيء يُمليه الوهم أو يمليه الخيال من دون أن يكون له مطابق حقيقي في الواقع - لا عقلي ولا حسّي - يسمّى خرافة.

١٦١

والحسّ ليس معصوماً على الدوام، إذ قد يتطرّق إليه الخطأ(١) وإن كان الحسّ إجمالاً من منابع البديهيّات، وكذلك العقل منبع جملة من أقسام البديهيّات، وليس كلّ ما لا يُدرك بالحس هو ليس بحقيقة؛ ولأنّ كثيراً من الأشياء موجودة وحقيقيّة، مع أنّها لا تُدرك بالحسّ، وعلى كلّ حال، فاقتناص الحقيقة يكون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحس أو بأداة القلب فيما يعاينه من العلوم الحضوريّة.

ففي مقابل الحقائق هناك خرافات، فإذاً هذه ماهيّة الخرافة الموضوعة التي لا يقوم عليها دليل عقلي ولا دليل نقلي ولا دليل حسّي ولا دليل مبرهن؛ وإنّما يُصوّرها الخيال أو الوهم، وحينئذٍ تكون خرافة.

وحينما نُقرّر أنّ الأداة العقليّة أو الأداة الحسّيّة تتوسّط لإثبات الحقائق، فليس ذلك على الدوام، بل لابدّ من ميزان يعتصم به العقل عن الخطأ، في البديهيات التي هي كرأسمال فطري مودَع في الإنسان من قِبل الله تعالى، فتلك أداة عصمة للإنسان يستهدي بها في دوائر الشبهة، وهي من الأمور النظريّة، وكذلك في الحس هناك دائرة كبيرة من البديهيات يستهدي بها في دوائر الشبهة.

وإلاّ فإنّك ترى نهاية الشارع (الطريق) كأنّما يتلاقى طرفاه، مع أنّ تلاقي طرَفي الشارع في نهاية مدّ البصر ليس بحقيقة، لكنّ العقل يهتدي إلى نفي ذلك.

أو ترى النار الجوّالة التي يديرها اللاعب بيده، تراها حلقة ناريّة، مع أنّها في الحقيقة ليست حلقة ناريّة، فهذه من أخطاء الحس التي يميّزها العقل، على

____________________

(١) وقد ذكروا موارد عديدة يخطأ فيها الحس: كالقطرة النازلة التي يراها الحس خيطاً، والسراب الذي يعتقد الناظر أنّه ماء، وغير ذلك من الموارد.

١٦٢

كلّ حال فعندما يقال بأنّ أداة الحس والعقل معصومتان يعني إذا قُوِّمتا بموازين مُتقنة.

الوهمُ والخيال

كذلك الحال في الأداة الوهميّة والأداة التخيّليّة المتصرّفة إذا سخَّرت إحداهما الأخرى، فإنّهما غالباً ما تُركّبان صوراً من قريحتهما لا مساس لها بالواقع.

وقد يكون الوهم والخيال خادمَين للقوى العقليّة، فيصيب الإنسان بها الحقيقة، (نعم، قد تخطِّئان الواقع إذا كانتا تُبديان من أنفسهما أفعالاً فكريّةً وتصرّفاتٍ في المعاني من دون استخدام العقل لها)، ولكن مع استخدام العقل فإنّهما تصيبان الواقع.

فالخُرافة: فعلٌ من الأفعال الفكريّة والإدراكيّة والتصوّريّة تقوم بها المخيَّلة أو الواهمة من دون هداية العقل، ويُذعن الجانب العملي (العمّالي) في النفس إلى تلك الصورة أو إلى ذلك الإدراك.

ثُمّ إنّ في النفس مشجّرة للطرفين:

طرف القوّة الإدراكيّة: التي تُدرِك المعلومات.

وطرف القوّة العمليّة: العمّالة.

وهناك أجنحة أُخرى في جهاز النفس، لكنّ الذي يُعنينا في المقام هو هذان الجناحان: الجناح العملي، والجناح النظري والإدراكي.

فالخُرافة إذاً، مبدأها من فعل إدراكي خاطئ بتوسّط المخيّلة أو الواهمة

١٦٣

يذعن لها الجانب العملي في النفس، وتَبني عليها النفس عملاً وتُرتّب عليها آثاراً، من دون أن يكون الـمَدرك صحيحاً.

وأداة الوهم والخيال إذا كانتا من دون هداية العقل وإراءته إليهما فالنتيجة تكون خاطئة، ولكنّ بعض الأشياء لا ُتدرَك بالحس ولا بالعقل مع أنّها حقائق؛ وإنّما يدركها الوهم والخيال بهداية العقل، مثلاً: حبّ زيد، بغض عمرو، حُب الأم لطفلها، البغض الخاص، والحُب الخاص، هذه تُسمّى معانٍ وهميّة، لكنّها مطابقة للحقيقة ولها حقائق، فلولا الوهم والخيال لم يصل الإنسان لإدراكها.

فلا يُحكم على كلّ شيء خيالي أو كلّ شيء وهمي أنّه غير مصيب وغير صحيح.

وقد تحصل بعض المغالطات، حيث يُحكم بالخرافة على كلّ شيء يُدرك بالخيال والوهم، فليس الخيالي يساوي اللاواقعيّة ويساوي الخطأ.

الخيال والوهم بدون هداية العقل واستخدام العقل يساوي الخرافة أو يساوي البطلان.

بخلاف ما يكون بهداية العقل، مثل: بعض الحقائق التي لا يمكن أن يدركها الحس ولا العقل، بل يدركها الوهم الصادق.

والدليل على ذلك: بعض المنامات الصادقة التي لا يدركها العقل؛ لأنّها ليست تفكيراً بحتاً، ولا يدركها الحس أيضاً، وتكون صادقة في الجملة.

والمُدرَكات العقليّة ليس لها صورة: طول، وعرض، وعمق، وليست نقوشاً من رأس، إذ المعاني العقليّة معاني مجرّدة مصمتة مكبوسة، بل ظهور تلك المعاني العقليّة يكون بتوسّط الخيال أو الوهم، بتخطّطات مقداريّة، أو بتشخّص

١٦٤

خواصّ جزئيّة معيّنة، كما هو الحال في الرؤيا المناميّة الصادقة، فالكثير منّا قد صادفَ في حياته أن رأى رؤيا صادقة طابقت الخارج، أو قل: كما هي الحال في رؤيا الأنبياء التي ليس فيها تخلّف.

الرؤيا الصادقة المصوَّرة إنّما يدركها الإنسان بأداة الخيال، حيث إنّ الحس ينعدم في النوم فلا يحس النائم شيئاً، وهذه المعلومات تنزل على الإنسان - كما يقال - من الباطن لا من الخارج، وليست الرؤيا من تصنّع وتسويل النفس، إذ النفس لا تَدرك المستقبليّات من لدن ذاتها - في حال النفوس العاديّة - فمن أين أتت هذه الرؤيا الصادقة، وبأيّ أداة أدركها الإنسان؟ وكما ذَكرنا من أمثلة حبّ الأم، وبغض العدوّ وما شابه ذلك من المعاني التي يحتاج الإنسان لها في أصل عيشه، وإلاّ لمَا قامَ عيشٌ ولا استقامت حياة بدونها.

فالقول: إنّ كلّ شيء خيالي أو وهمي يساوي اللاواقعيّة أو الخرافة هو مغالطة، نعم، قوّة الخيال أو قوّة الوهم إن تجرّدت عن العقل، فحينئذٍ تكون خرافة ولا واقعيّة.

أمّا إذا استُخدِمتا من قِبل القوى العاقلة، فيدرك الإنسان بها شطراً وافراً من الحقائق التي لا يمكن له أن يعيش بدونها في هذه النشأة، أو حتّى في النشآت الأخرى.

والوهم ألطف من الخيال، فهو من عالَم ونشأة أخرى، ومعانيه مجرّدة عن الطول والعرض والعمق، وإن كان له تشخّصات معيّنة بالإضافة إلى الجزئيّات المادّيّة.

فاصطلاح الوهم والخيال في العلوم العقليّة ليس بمعنى ما لا حقيقة له كي

١٦٥

تقع فيه المغالطات؛ إنّما القوّة الواهمة أو الخياليّة إذا لم تُوجّه ولم تُستخدم من قِبل العقل فإنّها ستُخطئ الواقع غالباً وكثيراً.

وبذلك يتبيّن موضوع الخُرافة، وإنّها بتوسّط أيّ قوةٍ من قوى النفس يمكن أن تُدرك.

وإذا كان شيء ما خرافة، فيجب على الإنسان أن يهمله وأن لا يرتّب عليه آثار الحقيقة؛ لأنّ اللازم أن لا يعتدّ بها الإنسان كحقيقة، فضلاً عن أن يتديّن بها، أو يداين بها، أو يعظّمها، أو يقدّسها، أو يُجلّها.

التضادّ بين الشعائر والخرافة

فهذه مقولة الخُرافة وحكمها، أمّا العلاقة بين قاعدة الشعائر الدينيّة وحكم العقل في إبطال وتسفيه الخرافة، وادّعاء وجود موارد الاجتماع والتصادق بينهما.

فالشعيرة - كما عرفنا فيما سبق -: هي عبارة عن الدلالة والمعلَم للمعنى الديني، فإمّا أن يتسرّب البطلان واللاحقيقة إلى العلامة، أو إلى ذي العلامة، والبطلان الذي يتسرّب ويتخلّل إليها، إمّا من جهة أنّها ليست لها علاميّة لذلك المعنى - يعني إمّا في العلامة، بحيث لا علاميّة لها على ذلك المعنى -، أو يدبّ الإشكال ويسري في نفس المعنى (الذي هو ذو العلامة).

فالمعاني الدينيّة إذا كانت معانٍ قام الدليل عليها، سواء الدليل القطعي الضروري الديني، أو الدليل النقلي الظنّي المعتبر، فالحكم بأنّها خرافة أو لا حقيقة لها يكون تصادماً مع الدليل الشرعي وخلاف الفرض، نعم، إذا كان هناك معنىً من المعاني جزئيّاً أو متوسّطاً - وما أكثر المتوسّطات - أو كلّيّاً لم يقُم عليه دليل معيّن، فيمكن أن يوصف بذلك.

١٦٦

ومن جهةٍ أخرى: فإنّ عدم الدليل غير دليل العدم، فهناك تارة شيء لم يقم عليه الدليل، وهناك تارةً أخرى شيء قام الدليل على عدمه، فلا ريب حينئذٍ في عدم واقعيّته، فيتصادق ويتّفق مع الخرافة، مثل: الأديان الوثنيّة، أو الأديان الأخرى الباطلة، ومثل هذه الأديان تُعتبر شعائرها باطلة وخرافيّة؛ لأنّ شعائرها علامات ومعالِم على معانٍ ليست واقعيّة، بل منحرفة وخاطئة وتخيّليّة ووهميّة - مثل: الثنويّة في الخالق، والثنويّة في ربّ الوجود، ولا ريب في زيف هذه المعاني، فمن ثُمّ الشعائر الدينيّة لهذه الأديان باطلة خرافيّة من هذه الجهة.

فهذه المعاني التي في الشريعة، إن قام عليها الدليل - ولو الدليل العام - فلا يصح أن يصدق عليها الخرافة.

فعمدة الكلام في التحرّي والتحقيق والتثبّت في ماهيّة المعنى الذي تعكسه تلك الشعيرة، ثُمّ نتحرّى عن الدليل عليه، أمّا إطلاق عبارة الخرافة من دون التدليل على ذلك فهو أشبه بالمغالطة أو الإبداع، ولا بدّ لكلٍّ من النافي أو المُثبت أن يستدلّ على مدّعاه.

فدعوى الخرافيّة في جنبة المعنى تتوقّف على إقامة الدليل على بطلان ذلك المعنى المعيّن، أمّا إذا كان ذلك المعنى معزّزاً ومؤيّداً بالدليل، فحينئذٍ تكون دعوى الخرافيّة فيه غير مقبولة، والغرض من التطرّق لبحث الخرافة الذي يواجه قاعدة الشعائر الدينيّة قديماً وحديثاً: أنّه إن كان يعترض بذلك في طرف وجنبة الموضوع، فلابدّ من النظر في ذلك المعنى، كي يتبيّن مدى وجود التقاء - من جهة المعنى - بين الشعيرة والخرافة.

١٦٧

وأمّا في جنبة نفس الشعيرة: فقد يُتوهّم إطلاق الخرافة، لكنّ العلامة - بما هي علامة - لا يصدق عليها خرافة، إذ المفروض أنّ الخرافة هي المعنى الذي ليس له حقيقة، أمّا العلامة في نفسها فليست من سنخ المعنى، فكيف نتصوّر فيها الخرافة، هذا ممّا لا يمكن أن يُتصوّر.

حيث إنّ هذه الشعيرة لها دلالات على معانٍ معيّنة، والمعاني قد تكون باطلة وغير صحيحة، وبالتالي تكون خرافيّة، أمّا الشعيرة في نفسها فليست لها وظيفة إلاّ الدلالة على معنى والإشارة إلى محتوى فحسب، نعم، قد تكون بعض الشعائر كعلامات ودلالات غير متناسبة مع المعنى الشامخ الذي وضِعت هي له، أو تكون موجِبة لتضعضعه، وهذا أمر آخر غير الخرافيّة، بل هو محذور الهوان والاستهانة.

مميّزات وخصوصيّات الشعائر

ذكرَ علماء الاجتماع بعض المميّزات والخصوصيات للشعائر منها:

تنوّع الشعائر

تنوّع الشعائر والرسوم بين المجتمعات المختلفة، مثلاً: أسلوب التعظيم في بلدة معيّنة، يختلف عن أسلوب التعظيم في بلدة أخرى، بل قد يُعتبر ذلك التعظيم في بلاد أخرى مظهراً لعدم الاحترام مثلاً، إذ إنّ مداليل العلامات تختلف بحسب التواضع والقرار بين أفراد المجموعات البشريّة، وهذا ممّا لا بدّ من وضعه في الحسبان، إذاً، لا يمكن أن نَحمل حُكم الشعيرة في بلدٍ على حكم شعيرة في بلد آخر.

١٦٨

منشأ الشعيرة وأبعادها الخطيرة

الشعائر والعلامات لا تكون في الغالب مبتدئة ومبتكرة من رأس؛ وإنّما تكون موروثاً حضاريّاً مكدَّساً، بمعنى أنّ أيّ عُرف، أو أيّ قوم، أو أيّ مجموعة معيّنة من البشريّة تتوارث أساليب ووسائل معيّنة، يعرض عليها شيء من التطوير والتغيير، لكنّ أصل جذور تلك الشعيرة أو تلك الوسيلة، هي موروث حضاري قديم يُنقل من الأجداد إلى الأبناء في إطار حضارات مختلفة، من مؤثّرات وخصوصيّات معيّنة، مثل: العِرق المعيّن، أو القوميّة المعيّنة، أو المنطقة الجغرافيّة، ففي الواقع الشعيرة التي تتّخذ في مجال ديني - أو في مجال غير ديني، أو مجال معاشي، أو فني، أو اجتماعي، أو تاريخي، أو قومي - تحمل هويّة وخصوصيّات ومميّزات تلك المنطقة أو تلك القوميّة - كما يعبّرون -، يعني أنّ الشعيرة ليست هي شعيرة فقط، بل تستبطن الهويّة القوميّة والشخصيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة بقدر ما تحتوي على معاني ومبادئ.

ومن ثُمّ ترى متخصّصي عِلم الحضارات أو علم التاريخ والاجتماع، أو علم السيكولوجيا (علم النفس) يشيرون على أنّه من الخطورة بمكان تغيير الشعارات الوطنيّة والرموز الوطنيّة والعبث فيها؛ لأنّ هذه الرموز والشعارات المعيّنة تحمل هويّة قرون لهذه المنطقة، وتغييرها مقابل رموز وشعارات بديلة، يعني ذوبان هذه القوميّة في مقابل ثقافات دخيلة، فهذه الرموز والشعارات ليس من الهيّن والبسيط أن تُستبدل برموز تشكيليّة جديدة وتذوب أمام الغزو الفكري

١٦٩

الجديد، وليس من الهيّن أن تتلاشى العادات والتقاليد وتضعف الحصيلة التاريخيّة للمنطقة، مقابل الفكر الجديد والثقافة البديلة التي يأتي بها الغُزاة والمستعمرون.

فنحن نرى مثلاً إصرار بعض الدول الغربيّة - كبريطانيا - في ترويج اللغة الإنجليزيّة، مع أنّ بريطانيا قد انحسر امتداد نفوذها الرسمي الظاهري حاليّاً، مع ذلك لديها إصرار في تعليم ونشر اللغة الإنجليزيّة، السرّ يكمن في أنّ وراء تعليم اللغة تحميل تقاليد أصحاب اللغة أنفسهم، وتحميل ثقافة وروحيات الإنجليز، يعني تذويب القوميّات الأخرى مقابل قوميّتهم.

فالرموز والشعارات الإسلاميّة لا يصحّ الاستهانة بها واستصغارها؛ فإنّ لها دوراً كبيراً في تحديد الهويّة الحضاريّة للأمّة الإسلاميّة.

فإذا كانت الشعيرة والشعائر بهذا الموقع من الأهميّة والحسّاسيّة، فليس من الهيّن محاولة تغييرها من دون دراسة مختلفة الجوانب محيطة بالجهات العديدة؛ لأنّ هذه الرموز والشعائر الدينيّة، سواء شعائر الحجّ، أو الشعائر الحسينيّة، أو شعائر الصلاة، أو شعائر المسجد، أو شعائر قبور الأئمّة (عليهم السلام) هي تُعدّ بقاءً للمعالِم التاريخيّة والحضاريّة للمسلمين.

لذا نجد البشريّة الآن تحتفظ بالتراث، وتهتمّ به وتحرسه بأخطر الأثمان، وتصرف على ذلك من الثروات الطبيعيّة الهائلة للبلد؛ لأنّ التراث - في الواقع - يحكي عن وجود حضارات استنزفت فيها الجهود والطاقات، ثُمّ بعد ذلك وصلت إلى هذا العصر الحاضر، فليس من اليسير التفريط بها.

فالخرافة قد تتصادق مع الشعيرة بلحاظ تأويل المعنى المدلول عليه، لكنّه

١٧٠

يجب الحذر والتفطّن من فقد هذه الرموز التي هي مخزون لمعانٍ سامية، والضمان لأصالة المجتمع الإسلامي، ولا يسوغ التفريط بها بدون تدبّر، بل لا بدّ من دراستها بدقّة وتأنٍّ.

وإذا كانت هذه الشعيرة بالنسبة إلى الآخرين (خارج المجتمع الإسلامي) مثل: اليهود، أو النصارى قد يكون لها مدلول معيّن، فهذا لا ينتقص من شأن الشعيرة نفسها؛ لأنّ المفروض أنّ مدلولها لدى المسلمين هو المؤدّى الرفيع والمعنى السامي، فكيف يُنتظر منّا أن نتّخذ شعيرة ورمزاً، يكون له مؤدّى مقبول عندهم وهم لا يذعنون بالمبادئ الإسلاميّة، فلو اشترطنا في الشعيرة قبولهم لمعناها، فهذا يعني فقد الشعيرة وظيفتها أو ضياع الدور المرجوّ منها أو الغرض المأمول منها، وبعبارةٍ أخرى: إنّ التساهل والتهاون بذلك يُعتبر فقداناً لهويّتنا وأصالتنا.

وقد تمّ البيان بما لا مزيد عليه أنّ الشعيرة تحتوي على ركنين: ركن النشر والإعلام، وركن الإعلاء والاعتزاز وحفظ الهويّة،( ولَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ،( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) .

فوظيفة الشعائر حفظ الهويّة الإسلاميّة والدينيّة المبدئيّة وإعلائها، فإذا فقدناها واستبدلناها بشعارات تروق للأعداء فعلى الإسلام السلام.

وهنا نقطة مهمّة ونكتة فقهيّة مرتبطة بقاعدة الشعائر الدينيّة وهي: أنّ هذه القاعدة تحمل في ماهيّتها ركن الإعلام والإنذار والبثّ والعلامة والمعلَم، وركن آخر في ماهيّتها - كالجنس والفصل - هو الإعلاء والاعتزاز، أي حفظ الهوية بل إعلائها والاعتزاز بها وتقديمها على بقيّة الهويّات البشريّة الأخرى، وهي الهويّة السماويّة والشخصيّة الإلهيّة في الواقع.

١٧١

دائرةُ الشعائر الدينيّة

ومن جهة أخرى، فإنّ المطلوب من الشعائر الدينيّة ثلاثة أنماط من الوظائف:

تارةً أن تؤدّي دورها في الوسط الديني المسلم، وتكون فائدتها للمسلمين أنفسهم فقط.

وتارةً يكون تأثيرها ضمن أبناء الطائفة والوسط المؤمن.

وتارةً ثالثة أن تؤدّي دوراً لدعوة الآخرين من المِلل والنِحل البشريّة إلى الإسلام أو إلى الإيمان.

فهذه الشعائر التي أُمرنا بتحريمها وتعظيمها، إمّا على نحو وجوب إقامتها بين المسلمين ثُمّ نشرها في الدار الإسلاميّة أو دار الإيمان، أو أن تكون وسيلة إعلاميّة عامّة يُرجى لها الوجود، ويكون الأمر بها بلحاظ الوسط غير المسلم، ويُتوخّى أن تؤثّر في الأعم من الوسط المسلم وغير المسلم.

ولا يخفى أنّ المطلوب من الشعائر - بصورة عامّة -: هو إيجادها في الوسط المسلم أو المؤمن أوّلاً وبالذات، والمحافظة على نفس الوسط المسلم وتوجيهه إلى الهدف، والسمو به إلى القمّة في نفس الوسط الإسلامي، نعم، توجد بعض الشعائر المعيّنة قد اختصّها الفقه والدين الإسلامي لأجل التبليغ في ساحة الوسط غير المسلم.

مثل:( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ

١٧٢

أَحْسَنُ ) (١) ، ونحوه من الأدلّة ممّا يجب أن تكون الدعوة بلغة يفهمها المدعوّ ويستأنس بها، فليس من الحِكمة استخدام أسلوب صحيح في ذاته، ولكن يستهجنه الناس ويُنفِّر عن الإسلام، ولا شكّ أنّ هذا ليس من الحكمة بل هو نقض للحكمة.

تباين مِلاكات الأقسام في الشعائر

ولكنّ الكلام هو في التفرقة والتمييز بين الشعائر التي هي لأجل الوسط المسلم أو الوسط المؤمن، وتلك التي هي للوسط غير المسلم، بل اللازم أيضاً التفرقة بين الشعائر الإسلاميّة والشعائر الإيمانيّة، فالأولى للوسط المسلم، والثانية للوسط المؤمن، ولا يطغى حساب وموازنة أحدها على الأخرى، بل كلّ منها في مورده مطلوب ولازم، إذ الغرض قائم من الأقسام الثلاثة من الشعائر من حفظ هويّة الإيمان، وحفظ هويّة الإسلام والإعلام والدعوة لكلّ منهما.

نعم، يجب أن يُختار فيها ما يلائم ويناسب المقام، ولكن في حدود أن لا تذوب الشخصيّة الإسلاميّة ولا الشخصيّة الإيمانيّة، وشريطة عدم تقديم التنازلات العقائديّة والسلوكيّة، وإلاّ فسوف ينتقض غرض الدعوة؛ لأنّ المفروض من ظاهر الآية( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ ) هو الدعوة إلى سبيل الله، وليس الدعوة إلى سبيل النصارى أو اليهود، أو سبيل أهل الضلال، المفروض هو الدعوة إلى سبيل ربّك، لكن بالحكمة والأسلوب المناسب، الدعوة إلى سبيل الله مع

____________________

(١) النحل: ١٢٥.

١٧٣

حفظ الهويّة، لكن بالأسلوب والكيفيّة والنمط الذي يستأنسون به وينجذبون إليه من سبيل الله، فحينئذٍ تؤثّر الدعوة وتؤتي ثمارها.

غالب الشعائر هو التعظيم بلحاظ دار المسلمين ودار المؤمنين،( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ،( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) - ولم يقل سبحانه: جعلناها لهم -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ... ) ، وليس لمَن لا يحجّ البيت، وصلاة الجماعة خاصّة بدار المسلمين الذين يحرصون على أداء الصلاة، وهي تظاهرة عباديّة دينيّة، وصلاة الجمعة كذلك.

وهناك طقوس دينيّة كثيرة قد يستخفّ ويستهزأ الآخرون بها! فقد يقول مثلاً: ما هذا الانحناء ونكس الرأس ورفع العجيزة؟! هذه مظاهر لا يفهمها غير المسلمين؛ لأنّ هذه الطقوس المفروض فيها أن تُقام بنفسها لأجل الحفاظ على المجتمع المسلم في نفسه، وكذلك الحال بالنسبة إلى طقوس الإيمان في وسط الطائفة، فإنّه لا يعيها غير المؤمنين، فمن الخبط بمكان تفسير الشعائر المأمور بها في وسط خاص والحكم عليها بموازين الوسط العام فضلاً عن الوسط الأعم، وهذا البحث في الشعائر ليس فقط في الشعائر الدينيّة، بل يجري في الشعائر الوطنيّة والقوميّة.

بعض الشعائر الوطنيّة والقوميّة تؤسَّس لأجل حفظ الفكر والهويّة وربط المُواطن بتربة وطنه، أو بقوميّته، وليس الغرض من تلك الشعيرة أو الرمز دعوة الأمم الأخرى، كلاّ!

مثلاً لأجل ربط الجنود بالتربة والوطن، أو من أجل تحقّق معاني الدفاع

١٧٤

عن الوطن وحماية مقدّرات البلد وما شابه ذلك، يُربط الجنود برمز معيّن وإن لم يفهمه الآخرون، أو قد يسيء فهمه الآخرون، إذ ليس الغرض من هذا الرمز العسكري أو الجهادي هو فهم الآخرين، بل المطلوب فيه هو فهم أهل الوطن.

كذلك الحال في الشعائر الدينيّة التي يظهر غالب الخطاب فيها، بل مدلول الأدلّة الكثيرة، أنّها موجّهة لأجل نفس المجتمع المسلم أو المجتمع المؤمن، ولأجل حفظ هويّتهما، وحفظ مبادئهما، ويتماسكا ويترابطا، لا أنّه لأجل التبليغ لجهة أخرى أو لأمّة أخرى.

نعم، قد يُفترض ذلك في بعض الشعائر، مثل: باب الدعوة إلى الجهاد الفكري، ولا ريب في كون الغرض منه دعوة الآخرين، فيُفترض مثلاً من الكاتب، أو المفكّر، أو الخطيب، أو المحاضر، أو على صعيد منتدى عالَمي كمحطة فضائيّة أو مواقع الكترونيّة مثلاً أن يُختار الأسلوب المقبول والمؤثر، والمفروض أن يركّز على النقاط المعيّنة في القانون الإسلامي ومعارف المذهب التي تجذب الآخرين مثل: موارد الوفاء بالعهد وأداء الأمانة، لا سيّما في الأبواب التي لها صلة بالآخرين، حتّى تتّخذ رموزاً وشعارات وقوانين ومعالِم تجذب الآخرين إلى الوسط الإسلامي والإيماني لا أن تُنفّر عنه، عملاً بمقولة:(كونوا دُعاةً للناس بغير ألسِنتكم) (١) .

فالخُلق الإيماني الإسلامي - مثلاً - ينبغي الدعوة إليه، كما أنّ هناك في المجتمعات العصريّة دعوة إلى المثال النموذجي: سواء المثال الاقتصادي، أو المثال التربوي، لابدّ أن ندعو إلى مثال خُلق معيّن يجذب الآخرين، وهو المثال

____________________

(١) أصول الكافي ٢: ٧٨ / ح ١٤، مكيال المكارم ٢: ٢٥٧.

١٧٥

الذي يدعو له الإيمان والإسلام؛ لأنّ الغرض منه هو الإعلان والتبليغ والدعوة لجذب الآخرين إلى حوزة الدين.

وأمّا غالب الشعائر التي يُفرض أنّها طقوس ورسوم تُتّخذ في دار الإسلام أو الإيمان، فالمفروض فيها هو المحافظة على هويّتها الأصليّة الإيمانيّة والإسلاميّة، والمنع من ضياعها.

والمتخصّصون من أصحاب الفنون والعلوم العديدة: كالشعراء، والأدباء، والخطباء، والقرّاء، وأصحاب المهارات في الأنشطة والمراسم الدينيّة المختلفة، يلمسون ذلك مع التحصّن بالمعاني الإسلاميّة العالية وهضمها والإحاطة بها، فيطمئنّ لهم بأن يبرزوا لنا تشكيلة شعاريّة معيّنة فنّيّة، أدبيّة، شعريّة، قصصيّة، وبلاغيّه تُناسب المعنى السامي القرآني، وأمّا إذا كان المتخصّص متأثّراً بالمعاني والمبادئ الدخيلة على المذهب أو الدين الإسلامي، فما ينتجه ويرسمه من شعار يشكّل خطورة على المعالِم الإيمانيّة والإسلاميّة.

فهذا البحث ينبغي أن يُلحظ كيفيّةً وحيثيّةً، استعانةً بالأخصّائيّين إخلاصاً وخبرةً، كما ينبغي دراسة هذه الشعيرة مع مقدار امتداد جذورها التاريخيّة، ومدى ارتباطها بمسار الطائفة وبحضارة الأمّة الإسلاميّة، حتّى يمكن البتّ في سلبيّة أو إيجابيّة هذه الشعيرة أو مؤدّاها الذي تدلّ عليه.

الشعائرُ والهَتك

يبقى الكلام ضمن هذه الجهة السابعة عن ممانعيّة الهتك، أو الهوان الذي قد يعرض على ممارسة الشعائر الدينيّة المستحدَثة أو المستجدّة، فيكون مانعاً

١٧٦

خارجياً لعموم دليل قاعدة الشعائر الدينيّة.

في النظرة الأوّليّة البَدويّة يتبادر كونه مانعاً، باعتبار استلزامه هوان الدين، وهتك الدين.

وقد تمسّك البعض بهذا العنوان، واستدلّ به على ممانعة كثير من الشعائر المستجدّة المتّخذة، فلابدّ - من ثَمّ - من تحليل هذا العنوان ومعرفة ماهيّته العقليّة واللغويّة.

معنى الهَتك (١) : كشف المستور، وطبعاً - بالنسبة إلى حرمة الدين أو المسلمين - قد يُراد منه كشف نقاط الضعف (في المسلمين أو المؤمنين) وكشف الستر عن ذلك، مثل: هتك حرمة المؤمنين والمسلمين، وكشف النقص، أو الضعف الموجود فيهم ممّا يؤثر في زوال قوّتهم وتضعيف شوكتهم.

والهوان أيضاً في ماهيّته ومعناه يتقارب من الهتك، ويكون مسبَّباً عن الهتك مثلاً ومعلولاً عن كشف الستر.

فالهتك والهوان أمران متلازمان في الغالب، وأحدهما مسبّب عن الآخر، وإن كانت الماهيّة الحرفيّة وبالدقّة في الهتك هي كشف الستر، لكنّ كشف الستر: إمّا عن معائب، أو عَوار، أو نقائص، وكلّها بمعنى واحد، ومن ثُمّ يستلزم الهوان من الطرف الآخر.

ولا ريبَ أنّ هذه الماهيّة هي مضادّة لأغراض الشارع، ونقيض أهدافه في التشريع التي بُيّنت في آيات عديدة منها:

____________________

(١) الهتك: خرق الستر عمّا وراءه - وتهتّك أي: افتضح - الصِحاح للجوهري.

١٧٧

-( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) (١) .

-( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢) .

-( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٣) .

-( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) (٤) .

إنّ الأغراض الأوّليّة الضروريّة من التشريع هي الرفعة والعلوّ، وهي أغراض أوّليّة كبرى وأهداف فوقانيّة قصوى في التشريعات القرآنيّة، والهتك بمعنى كشف نقاط الضعف أو عَوار المسلمين أو المتديّنين، الذي يستلزم الهوان والنقص المعاكس والمناقض لأهداف الشارع ورغباته.

لكنّ الكلام: أنّ هذا الهتك والهوان، هل هو مترتّب على صرف الاستهزاء من قِبل المذاهب الأخرى، أو من قِبل المِلل الأخرى؟

أقسامُ الهتك والاستهزاء

والاستهزاء - سواء كان من الفِرق الإسلاميّة الأخرى أو من المِلل الأخرى - يكون على أقسام:

منه: الاستهزاء باطلاً وبما ليس بحق، وهذا لا يؤثّر وليس بمانع، ولا ريب أنّه لا يستلزم الهتك؛ لأن هذا الاستهزاء غير كاشف عن عَوار ونقص ومعائب في

____________________

(١) التوبة: ٤٠.

(٢) النساء: ١٤١.

(٣) الحجّ: ٣٢.

(٤) الحجّ: ٣٠.

١٧٨

المؤمنين، أو في الدين.

ومنه: الاستهزاء نتيجة اختلاف الأعراف والبيئات والأعراق، واختلاف الشعائر أو الطقوس حسب المِلل والبلدان المختلفة في شعيرة منصوبة لتدلّ على معنى سامٍ، لكنّ الآخرين قد ينطبع بأذهانهم معنى آخر، فهذا لا يستلزم ممانعة الشعائر ولا يُعرقل اتّخاذها وتعظيمها، والسرّ في ذلك: أنّ هذا يرجع إلى حفظ الهويّة، كما في حفظ الهويّة الوطنيّة أو التراثيّة، وهنا يرجع إلى حفظ الهوية الدينيّة، أو حفظ الهويّة الخاصّة بالطائفة وبهذه الملّة وهذه النِحلة.

فلو استُجيب لكلّ ما يروق للآخرين ممّا يكون مقبولاً عندهم، لتبدّلت هويّتنا إلى هويّتهم، وكان ذلك نوعاً من الانهزام والانزلاق تحت سيطرتهم، ولأدّى إلى ذوبان شخصيّتنا في بوتقة الفكر الدخيل والأجنبي، فهذا القسم أيضاً لا يستلزم الهتك أو الهوان.

ومنه: استهزاء لجهات واقعيّة، فهذا يلزم منه هتك وهوان، فعلى ضوء هذا التقسيم الثلاثي، نخرج بهذه النتيجة: أنّ قِسمين من السخريّة أو الاستهزاء أو التعجّب من الآخرين لا يوجِب الهتك والهوان، وإن تخيّله الباحث أو المتتبّع للشعائر الدينيّة كذلك.

والهتك أو الهوان أو الاستهزاء حيث إنّه من مصاديق وأصناف التحسين والتقبيح العقليّين، وقد ذكرنا أنّ بعض مواردهما يكون مطابقاً للواقع فيكون صادقاً، وبعض مواردها غير مطابق للواقع فلا يكون صادقاً، بل كاذباً.

العقلُ العملي والعقلُ النظري: هذا التحسين والتقبيح العقليّان، في قوّة العقل العملي في النفس، التي تختلف وظيفتها عن قوّة العقل النظري الذي يُدرك وجود

١٧٩

الأشياء وثبوتها، أو عدمها ونفيها، كما يقال: إنّ العقل النظري بنفسه لا يوجب تحريكاً في الإنسان ولا انبعاثاً ولا تربيةً، ومن ثَمّ قالوا: إنّ الحكماء (الفلاسفة) لا يؤثّرون في المجتمعات مثل ما يؤثّر الأنبياء والرسل؛ لأنّ الفلاسفة يعتمدون غالباً على العقل النظري، وهو ينطوي على جنبة الإدراك فقط.

بينما إذا اتّصل العقل النظري - وهو إدراك الأشياء وثبوتها في العلوم المختلفة - بالعقل العملي، أي أدرك حُسن وقُبح الأشياء وتحسينها وتقبيحها، حتّى يكون محفزّاً ومحرّكاً، أو زاجراً ومؤدّباً للنفس، ففي الواقع فإنّ العقل العملي ليس صِرف إدراك فقط، وليس صِرف حجّيّة وتنجيز وتعذير إدراكي فقط، وإنّما هو نوع من الباعثيّة والتحريك والتكوين؛ لأنّ التحسين نوع من المدح ونوع من إيجاد الجَذبة والمَغنطة بين النفس وذلك الفعل الحسن، والتقبيح - في المقابل - نوع من إيجاد الشرارة والنفرة والبعد بين النفس وذلك الفعل القبيح، فهذا الجذب والوصل من جهة والنفرة والانقطاع من جهة أخرى هما من خاصيّات العقل العملي.

فإذا كان التحسين والتقبيح كاذِبين، فإنّ هذا بنفسه يكون عاملاً مُغرياً وخاطئاً ومزيّفاً للنفس؛ لأن يُحسّن لها القبيح ويقبّح لها الحسن، وسوف يؤدّي إلى تربية خاطئة للنفس، وإلى نوع من الترويض السيئ في النفس.

الشعائرُ والآثار الاجتماعيّة

إذا اتّضح ذلك، عَلمنا أنّه إذا حصلَ الاستهزاء والسخريّة - اللذَين هما من أصناف المدح والذمّ والتحسين والتقبيح، بسلوكيّة خاطئة ومدلّسة،

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

بكاءً، كما في سورة الدخان(1) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام)، مثل: ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام)، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار وفوق الحيطان وغير ذلك.

أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها

نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات وإشكالات ونتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً، فهناك عدّة نظريات وآراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.

الوجه الأوّل: أنّ أدلة وروايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل، مثل:(إنّ مَن بكى ودَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات - بتعبيرهم - مضمونها إسرائيلي، شبيه لمـَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة، فهي - بزعم هؤلاء - إغراء بالذنوب وإغراء للمعاصي، فلا يمكن العمل بهذه الروايات؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها، وهو مضمون دخيل كما عبّروا، وهذا الوجه - في الحقيقة - يتألّف من أمرين:

____________________

(1) الدخان: 29.

٣٠١

الأول: ضعفُ سند هذه الروايات.

الثاني: ضعفُ المضمون؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.

الجواب: أمّا ضعفُ السند، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام)، ويحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء، وهذه الروايات الخمسون، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل وغير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى، فكيف نردّ هذه الروايات؟ وبأيّ ميزان دِرائيّ ورجالي نُشكّك بها؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً، منها: الصحيح، والموثّق، والمُعتبر، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا المضمون، فقد طعنَ عليه غير واحد، حيث قالوا: إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام)، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء، ويستشهدون على ذلك: بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة ويخدمون ويحضرون المجالس ويبكون، واتّكالاً على هذه المشاركة وتذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.

الجواب عن هذا الإشكال: إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة، وهي موارد مسلّمة، مثلاً:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

٣٠٢

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) ، فهل هذا إغراء بالصغائر، أو:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!

يُضاف إلى ذلك، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله، منها:

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر) (3) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته، حرّم الله ديباجة وجهه على النار) (4) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب؟! وكذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم وغيرها من الثواب العظيم، وغفران الذنوب، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:

أوّلاً: الترغيب في نفس العمل، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.

ثانياً: فتح باب التوبة وعدم اليأس.

ثالثاً: إنّ البكاء من خشية الله؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب، وليس من باب العلّة التامّة، أي أنّ هناك أموراً وشرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي، من قبيل: عدم الإصرار على الصغائر، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية وغير ذلك، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات

____________________

(1) النساء: 31.

(2) النساء: 48.

(3) روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): 452.

(4) المصدر السابق.

٣٠٣

وتوفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة، لذلك نقول: إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة.

ورابعاً: في آية( إِنْ تَجْتَنِبُوا... ) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل، والذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران، وهذا نظير ما وردَ في باب الحج: أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل(1)، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه، ويُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب، بل المقصود: أنّ هذه مقتضيات، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.

وقد ورد في مضمون بعض الروايات: مَن مات على الولاية، يَشفع ويُشفّع(2)، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.

إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة وأعظم حبل للنجاة، وهو العقيدة، ويؤدّي إلى ضياع الإيمان، حيث قال تعإلى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ

____________________

(1) بحار الأنوار 99: 315 / 6؛ وكذلك في تفسير القمّي 1: 70؛ واللفظ للأخير: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة، ومُحيَ عنه سيّئة، ورُفع له بها درجة، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه، فقال له: استأنِف العمل..) .

(2) ورد في بحار الأنوار 8: 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار) .

٣٠٤

أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى، وإذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة - والعياذ بالله - فليس فيها جانب إغراء، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة، وهي: أنّها تُخلّص الإنسان وتنقذه من حضيض المعاصي والرذائل، وتعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.

فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة، وينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.

وليس مفاد الروايات: أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح، ليس مفادها ذلك؛ إنّما مفاد الروايات: مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه، مثل أثر فريضة الحجّ، وغفران الذنوب مشروط - كما يقال - بالموافاة، والموافاة: اصطلاح كلامي وروائي، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة، وإلاّ فمعَ سوء العاقبة - والعياذ بالله - ترجع عليه السيئات وتُحبط الحسنات ولا تُكتب له.

____________________

(1) الروم: 10.

٣٠٥

فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر وأنواع الظلم والعدوان، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.

وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات، فمنطق الآية:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى، أولئك يقولون: نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟

مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً، بل فيه نوع من إدانة المذنبين، إضافةً إلى فتح باب الأمل وعدم القنوط وعدم اليأس، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات، ولا يقع في طريق المعاصي ويتخبّط في الذنوب.

الوجهُ الثاني: سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً ومتناً ومضموناً، لكن مضمونها غير أبدي، وليس بدائم، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام)، وهي فترة وحقبة التقيّة، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم وإبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء، أمّا في يومنا هذا، فالشيعة - ولله الحمد - يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة، فليست هذه الوسيلة صحيحة.

كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو: حصول غرض معيّن، وهو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام)، أو التولّي لأهل البيت، وإظهار الاستنكار

٣٠٦

والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة، كانت الأفواه مكمّمة، وكانت النفوس في معرض الخطر من الظالم، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك، أمّا في أيّامنا هذه - وقد زال الخوف - فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.

أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.

الجواب: فنقول: أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام، لكن ليس هو تمام غاية البكاء، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة، هذا أوّلاً، وثانياً: ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين، وإلاّ لو حاولت - إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة - بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح وغير نافع، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة، وأنجح علاجاً لهداية الآخرين، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن: نَظري إدراكي، وعَملي انفعالي.

والغاية ليست منحصرة في ذلك، بل هناك عِلل كثيرة - كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء - وحصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.

اعتراض: أمّا ما يقال: بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب، وخَمش الوجوه، ونهاهنّ عن البكاء، فهذا النهي في الواقع مُغيّى

٣٠٧

ومُعلّل، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب، لطمَت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين (عليه السلام):(مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا) (1) .

حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام)، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام)، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام)، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم، وأنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) وخطبها، وخُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(2) .

والسرّ واضح؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان، ومحاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس): 55؛ بحار الأنوار 44: 391 / 2.

(2) وهناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:

سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي منكِ البكاء إذا الحِمام دَهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعك حسرةً مادام مني الروح في جثماني

وإذا قُتلتُ فأنتِ أولى بالذي تأتينهُ يا خيرة النِسوان

مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3: 257.

٣٠٨

الجواب: ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.

وأصلاً؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة، وبين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن، بل البكاء - كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي - هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة، وشدّة التأثّر بها، وشدّة الإذعان والمتابعة لها، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.

ومن غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس وكفعل نفساني، من دون أن يكون هناك إدراك ما، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم، وشدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة، ومن ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة وينفعل بدرجة عالية، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.

وهذا التفاعل: إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم؛ وإنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.

فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام)، والبراءة من أعدائه ومناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).

٣٠٩

وهذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً، وهو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل، والنفرة والارتداع عن الرذائل، وهل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا؟ وهل الغاية في نشر الدين وتبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.

هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول، ولا الحياديّة السلبيّة.

فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً، فيظلّ مرتاباً متردّداً، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف:( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (1) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه، لا هو ينجذب للفضائل، ولا يتأثّر بالرذائل، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص، وهذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق وعلم السير والسلوك؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل ودركات، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.

فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان، وبالتالي التبعيّة.

بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة، وشتّان بين الحالتين!

أضف إلى ذلك: أنّ في البكاء نوعاً من التولّي، حيث إنّ البكاء يدلّ على

____________________

(1) الحديد: 14.

٣١٠

فإذاً، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط وتدبير وحزم، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف، وهو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام)، ولابدّ من لمّ الشَمل وجمع الشِتات للأرامل واليتامى، وإنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.

خلاصة القول: في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة: أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما: أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي، وأن يكون لغاية حقيقيّة وهادفة إيجابيّة، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب، وهو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة، وخَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ إعطاء السامع، أو القارئ، أو المُشاهد، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده، وإنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة، أو ما يعبّر عنه: بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.

فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة.

ويُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي وإيمانه واختياره لمسيرة تلك العِبرة.

الوجهُ الثالث: الذي يُذكر للنقض على البكاء: أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي، أو راتب شهري، أو

٣١١

أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة وانطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون، وإنّهم يحملون العُقد، واستمرارهم بالبكاء واجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة، وكبت نفسي دَفين، فبدل أن يَقدموا على أعمال وبرامج ومراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع، وهذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع)، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي؛ وإنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل، بل نحن عديمو الأمل، لدينا حالة كبت، وهذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.

فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة، فمن اللازم الابتعاد عنها ونبذها جانباً.

فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث: هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة، وهو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب وأبناء الطائفة.

الجواب: فنقول: على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس

٣١٢

والاجتماع والفلسفة: بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة، إذ فيها جناح واحد فقط وهو جناح الإدراك، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.

فعلى عكس زعم المُعترض، تكون هذه حالة صحيحة وسليمة وليست حالة مرضيّة، ولا حالة عُقد، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال، يعني أنّ الذي لا ينفعل، والذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه والذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد وتناقضات، وإلى أن تنفجر يوماً ما، وربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل: سوء الظن بالآخرين، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.

والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة - بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم - نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة، ولا تظهر أشكالها عليه، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد وأكوام من العُقد، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ ومتولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.

فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.

لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن

٣١٣

يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.

فإذاً، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.

الوجهُ الرابع: أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل، كما في سورة البقرة( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل ومُناقض للاستعانة بالله سبحانه.

الجواب: أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 156 ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) .

فنقول: كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه، هل هذا خلاف الصبر؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.

فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر؟ كلاّ.

وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام):(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام)؛ فإنّه فيه مأجور) (3) ، هذا ليس استثناءً

____________________

(1) البقرة: 156 - 157.

(2) البقرة: 156 - 157.

(3) بحار الأنوار 44: 291 / 32. راجع روايات الجزع ص: 312 من هذا الكتاب.

٣١٤

متّصلاً، بل هو استثناء منقطع؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله ويُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره، بل هو - بالعكس - نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).

فقد يقال: أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر وقول:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فلا موضع للبكاء، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك، ونرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي: نبيّ الله يعقوب، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام).

ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل؛ وذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله وقدره، ومآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ وغير إيجابي؛ لأنّه من الضعف وعدم الصمود والطيش، وعدم رباطة الجأش، وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه وتعإلى وقدره، أو مردّه إلى الاعتراض على الله - والعياذ بالله - أو كراهة ما قضى الله سبحانه، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً، مثلاً: صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ وحفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة ومع

٣١٥

توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (1) .

فالصبر ثمّة ليس في محلّه، ومثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:(رَوّوا السيوف من الدماء، تَرووا من الماء) (2) ، و(ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا) (3) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى: مذموم، ومحمود.

ومثلُ ما في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي (عليه السلام):(أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك، فكيف صبرك إذاً، فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر..) (4) .

أي هذا موضع إبراز الشكر لله، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر، نعم، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً، أمّا في مقابل تقدير الله، ليس عليك فقط أن تصبر، بل عليك الشكر والرضا بقضائه وقدره.

فالصبر درجة، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه وقدره فهو أرقى وأسمى.

الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه

____________________

(1) البقرة: 193.

(2) نهج البلاغة 3: 244.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) شرح نهج البلاغة 9: 305.

٣١٦

وبحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى، فتكون مورداً للرضا وللشكر، وهذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران وفقدان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصيبة عُظمى، وتعبيرهم (عليهم السلام):(لم يُصب أحد فيما يُصاب، كما يُصاب بفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة، فهي أعظم مصيبة) .

إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه وقدره، فهذا صحيح وفي محلّه، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس، وعدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.

وفي مصحّحة معاوية بن وهب:(كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)) (1) .

وفي رواية علي بن أبي حمزة:(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور) (2) .

وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام):(وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 505 أبواب المزار - باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).

(2) وسائل الشيعة 14: 507 أبواب المزار باب 66، ح13.

٣١٧

القلوب التي جَزعت واحترَقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا) (1) .

الجَزع: بمعنى الانكسار، ولكنّه هنا ليس انكساراً، وليس بجزع بحقيقته، نعم، جزع من ظلم الأعداء وجزع من رذائل الأداء، وهذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام)، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة، قالت: لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جَرت دموعه على لحيته، فقيل: يا رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟!

فقال:(ليس هذا بكاء؛ وإنّما هذه رحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحم) (2) .

والسرّ في ذلك: هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي، أو بالآداب الإلهيّة، أو بكلمات الله، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام)، فعدم التفاعل الشديد معها ومع هذا الخلق ومع تلك الآداب، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم، وهذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود وحسن، ليس هو من الجزع المذموم، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين ونبذ للرذيلة وأصحابها، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد، وتوجّه إليها وقال: كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ وبأهل بيتكِ، قالت: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(3) .

في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة، وقد أحاطتها هالة من

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 412 أبواب المزار باب 37، ح7.

(2) وسائل الشيعة 3: 282 أبواب الدفن باب 88، ح 8.

(3) بحار الأنوار: 45: 116.

٣١٨

الحُزن والأسى.

الوجهُ الخامس: أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام)، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة، بل هي حالة هيجان واضطراب نفسي، وهذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو: الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام)، والاقتباس من أنوار سيرته، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر ورَويّة.

فإذاً، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة، والحال أنّ المطلوب من الشعائر: هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة، وأخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!

وربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر، وإن اختلفت عناوينها.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض وغايات الشعائر الحسينيّة، وإنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها وتفريغها عن مضمونها.

فالبكاء: صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة، أو من دون إدراك أغراض وغايات وأهداف النهضة الحسينيّة.

٣١٩

الحبّ، وهل التولّي إلاّ الحبّ؟ وهل هناك مصداق للحبّ أوضح وأصدق من البكاء على مصابهم؟ والحُزن لحزنهم؟ والنفرة من أعدائهم؟ وبعبارةٍ أخرى: لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى، فهو نوع من المحافظة على جذور وأسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه وأعدائهم.

نعم، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك، مثل: لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء، كذلك هناك ورايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم:(... ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه...) (1) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.

ومع ذلك، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل - سواء في نثر، أو شعر، أو خطابة - لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.

الوجهُ السادس: البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي، بينما هذه الشحنة التي امتلأ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16: 205.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440