الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124911
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124911 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سيّما إذا كان ذلك على نحو افتعال جوّ وزخم إعلامي شديد، وبكثافة إعلاميّة عن طريق الجرائد أو الإذاعات أو النشريّات أو المحافل والأندية - فإنّه سيوجب قهراً وقوع المسلمين أو المؤمنين في جوّ خاطئ أو تربية خاطئة، بأن يستقبحوا ما هو حسن، ويستحسنوا ما هو قبيح.

مثلاً قد يَعتبر الشاب المتديّن في الجامعة أنّ الصلاة تُقلّل من شأنه في نظر زملائه، وإنّها عار عليه ولا تليق به، ثُمّ شيئاً فشيئاً يصبح القبيح حسناً، وبالعكس، ولا ريب في كون ذلك النوع من التفكير سلوكاً منحرفاً واستخداماً خاطئاً وخطيراً في العقل العملي، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام):(كم من عقلٍ أسير تحت هوى أمير) (1) .

سيّما إذا كان العقل الاجتماعي - أو العقل الأُممي، أو العقل العَولمي الذين يحاولون ترويجه الآن - خاطئاً.

هذا العقل البشري المجموعي سوف يؤول بالبشريّة إلى القبائح باسم المحاسن، أو يمنعها عن المحاسن والفضائل باسم أنّها قبائح ورذائل، كما أخبر بذلك النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أربعة عشر قرناً، فكان إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله من علامات آخر الزمان(2) .

____________________

(1) بحار الأنوار 69: 410: 125.

(2) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(كيف بكم إذا فَسدت نساؤكم وفَسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمَرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟) . الكافي 5: 59.

١٨١

فقضيّة الإهانة والهتك والاستهزاء ترتبط ارتباطاً بنافذة عقلّية تربويّة، واجتماعيّة وسلوكيّة وممارسة معيّنة، وقد يحصل اللَبس أنّ مثل هذه الشعيرة أو الشعائر المتّخذة ربّما توجب الوهن في الدين بينما هي ليست بوهن، لكن لشدّة علاقة الطرف الآخر، ولشدّة نفوذ التبليغ والدعاية والطرق والقنوات المتوفّرة لدى الطرف الآخر، يوجِب تأثّرنا بمدركات خاطئة تُملي علينا وتُهيمن على أفكارنا وتُزعزع المبادئ والعقائد.

في مثل هذه الموارد، نقول: وإن كان على صعيد التنظير، بأنّ هذا الاستهزاء وهذا الهتك باطل وليس بمانع للشعائر، لكن شريطة أن يكون هناك نوع من الردع أمام التبليغ المضاد.

ممانعةُ بعض الشعائر تَبعاً للمصلحة

في بعض الحالات قد يرتأي الفقيه طبق الميزان الشرعي أن تُمانع تلك الشعيرة أو الشعائر، لا لأجل أنّها ممانعة في واقع الأمر، ولكن لأجل أنّ مثل هذا الجوّ الحالي قد يُضعِّف نفوس المؤمنين، وإن كان هذا التضعيف ليس في محلّه، ولكن لأجل فترة وقتيّة لشعيرة مستجدّة أو مُستحدَثة، قد يرى من الصالح لأجل عدم إحداث الضعف والوهن في نفوس المسلمين والمؤمنين، قد يكون من الصحيح الممانعة، لا الممانعة من جهة الهتك أو الاستهزاء، بل في الواقع ممانعة بسبب ضعف المسلمين نفسيّاً تجاه هذه الشعيرة، فربّما عدم ممارسة هذه الشعيرة يكون أثره أفضل في النفوس، وبعبارة أخرى: في هذه الموارد قد لا تسمّى ممانعة للشعائر، بل عدم توفّر قيود وشرائط الشعائر، فعدم إقامة الشعيرة يُنسب

١٨٢

إلى فقد الشرط وليس إلى الممانعة عنها، وقد يكون العكس أولى بالرعاية، بأن يتشدّد الوسط الديني بالشعيرة المتّخذة؛ كي لا يستسلموا ولا يعتادوا الانهزام أمام تهريج الخصوم وانتقاداتهم، وتحديد ذلك يكون بيد الفقهاء الأُمناء على الدين والعقيدة.

دواعي أخرى لممانعة الشعيرة

وقد يكون التزاحم والدوران ناشئاً من جهات أُخرى، ليس من جهة مراعاة الهتك والاستهزاء بغير حق من الفِرق أو المِلل الأخرى، بل من جهة ضعف نفوس المسلمين، أو من جهة ضعف شوكتهم، نظير ما يذكره سبحانه وتعالى في قوله:( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (1) .

من جهة حفظ الشكيمة والحيثيّة يُخفَّف التشريع من باب إدراجه في باب التزاحم بين حُكمين شرعيّين، وليس من باب ترتيب الأثر على الهتك والاستهزاء بغير حق.

ومع أنّه بحدّ ذاته غير ممانع، لكنّه يولِّد جوّاً أو ظرفاً أو بيئة معيّنة، وهذا الجو ينتج تصادماً بين حُكمين وآخرين، ولابدّ أن يراعي الفقيه هذه الجهة.

____________________

(1) الأنفال: 65 - 66.

١٨٣

أو قد تنشأ الممانعة للشعائر من عدم إدراك المؤمنين لها وعدم استيعابهم لأهميّتها قصوراً أو تقصيراً، أو لعدم تحمّلهم درجة عالية من التفاعل والاندماج للشعيرة، كمَن لا يتفاعل إلاّ بالبكاء مثلاً في الشعائر الحسينيّة، فليس من المناسب زجّه في الشعائر الأخرى التي تكون أكثر تفاعلاً واندماجاً.

كما ذكرَ الفقهاء أنّ العُرف الخاطئ والفاسد قد يُلجئ المكلّف إلى ترك المستحبّ؛ لأنّه ربّما يكون سبباً للتشهير به، مع العلم أنّ المستحبّ مشروع في نفسه، فالسبب في تركه: هو نشوء عرف غير مألوف في بيئة فاسدة، وهذه البيئة الفاسدة من شأنها أن تجعل المكلّف والمتديّن يترك ذلك المستحب، أو بالعكس قد يكون هناك شيئاً مكروهاً، لكنّ ذلك المكروه يُرتكب، وعدم ارتكابه قد يصبح منقصة أو عاراً، فيُرتكب ذلك المكروه حفظاً لشخصيّة المؤمن أو المكلّف، وقد خالفَ جماعة من الفقهاء منهم: الشهيد الثاني في كتابه الروضة البهيّة، في أولويّة الترك ومراعاة العرف الفاسد وترك ما هو راجح أو ارتكاب ما هو مرجوح.

طبعاً هذا الاستثناء يجب أن لا يدوم ولا يطول زمناً، والمفروض أنّ سياسة الفقيه في الفتوى ناظرة لتربية المجتمع ولمعالجة هذه الحالات والبيئات الفاسدة، أو الممسوخة والمنكوسة والمقلوبة التي هي على خلاف الفطرة وهي سياسة حكيمة وميدانيّة أيضاً.

وكم من مستحب ربّما تُرك قروناً من السنين بحيث يكون الممارس له مورد استهزاء، وبطبيعة الحال فإنّ ذلك يحصل في المجتمعات التي تكون المفاهيم الماديّة والموازين الفاسدة هي السائدة والرائجة فيها.

١٨٤

الشعائرُ والإصلاح الاجتماعي

وهذا هو أحد وظائف الشعائر الدينيّة حيث تؤدّي دور الإعلام والبثّ الديني والإعلاء، ومن نتائجها الواضحة: المحافظة على الهويّة الدينيّة في بيئة المسلمين؛ لأنّه لولا الشعائر فإنّ الدين سوف ينكفئ شيئاً فشيئاً، وتتغيّر المفاهيم الدينيّة، بل تنقلب رأساً على عقب، وتصبح منكوسة الراية، بدلاً من أن تكون مرفوعة عالية مُرفرفة.

فمن الوظائف المهمّة للشعائر الدينيّة: جانب المحافظة على الهويّة الدينيّة، وإلاّ أُلغيت الشعائر الواحدة تلو الأُخرى، وحدثَ نوع من المسخ التدريجي، فقاعدة الشعائر الدينيّة هي قاعدة ممضاة من قِبَل الشارع، ومُنظرّة في باب الفقه الاجتماعي، وكما ذكرنا أنّ للشعائر الدينيّة ركنان: ركن الإعلام والبث، وركن الإعلاء والاعتزاز.

والحوزات العلميّة الدينيّة تقوم بأداء أحد رُكني الشعائر الدينيّة: وهو إحياء الدين ونشره وحفظه عن الاندراس، وما تقوم به في هذا الدور - وإن كان بشكل هادئ وبلا ضجيج - هو دور عظيم؛ لأنّها تحافظ على أحد رُكني الشعائر، أو أحد ركني الدين، وهو جنبة الإعلام والتعلّم والتفقّه وحفظ الدين عن الانطماس والنسيان، وصيانته عن التحريف والتغيير، وحفظ الجانب التنظيري والبعد العقائدي للدين.

ومن الواضح أنّ التحريف والردّة عن الدين قد تكون بصورتين:

الصورةُ الأولى: في جانب العمل، أي الانحراف في السلوك العملي، فلا

١٨٥

تُتّبع الأوامر الدينيّة، ولا يُرتَدع عن النواهي.

الصورةُ الثانية: وهي الأخطر، وهي الانحراف في التنظير، فلا يُذعن المنحرف ولا يؤمن ولا يصدّق، بل يحاول أن يبرِّر انحرافه وينظِّر تكذيبه، وهو الانحراف في العقيدة، وهذا أخطر من الأوّل، بل ربّما يمارس ذلك المنحرف الأوامر الدينيّة ولكن لا يُقرّ بوجودها، وإنّما يمارسها من باب فطرة الطبع أو من باب السُنن الاجتماعيّة، لذا نجد في عدّة من الآيات:( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (1) ، و( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (2) و( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (3) وأمثالها، تُلقي الضوء على جنبة التنظير أو الإعلام الديني والبث الديني أو إتمام النور.

وهذه جنبة مهمّة للغاية، نعم، الجنبة الثانية في الشعائر - وهي الإعلاء والاعتزاز في الممارسة العمليّة - تكون مطويّة ضمن السلوكيّة السابقة، وتظهر بمظاهر ومؤشّرات عديدة.

فالظروف الاستثنائيّة يُشخصّها الفقيه في موارد مختلفة بحسب سياسة الفتوى عند الفقيه، وهي: موازنة الملاكات في الأبواب مع الإحاطة بالظروف الموضوعيّة، والفطنة في تدبير المعالجة للحالات المختلفة، والفقيه يتضلّع لحفظ الدين بلحاظ درجات ملاكات الأحكام في الأبواب المختلفة، فيفحص ويُجري البحث عن الأهمّ عند الشارع، مضافاً إلى فراسته وفطنته في كيفيّة التوسّل في

____________________

(1) التوبة: 122.

(2) التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9.

(3) الحجر: 9.

١٨٦

الوصول إلى الغرض الديني عن طريق الفتوى.

هذا تمام البحث في قاعدة الشعائر الدينيّة مع بيان الخطوط العامّة لها، وهو المقام الأوّل من هذا الكتاب، وبعد ذلك يقع البحث في المقام الثاني الذي يُلقي الضوء على الشعائر الحسينيّة، ودراسة تماميّة أدلّتها الخاصّة والعامّة إن شاء الله تعالى.

١٨٧

١٨٨

المقامُ الثاني: الشَعائرُ الحُسينيّة

١٨٩

١٩٠

تمهيدٌ

نبدأ البحث في الموضوع الأساسي لهذا الكتاب، وهو خصوص الشعائر الحسينيّة، باعتبار أنّ البحث عن الشعائر الحسينيّة له خصوصيات أخرى، وشبهات مختصّة به تختلف عمّا ذكرناه في بحث عموم الشعائر الدينيّة، فمن ثَمّ كان الجدير أن يُبحث بحثاً خاصّاً.

وقد ذكرنا في مقام معرفة درجة أهميّة كلّ شعيرة من الشعائر الدينيّة(1) ، أنّه لابدّ من التأمّل والتدبّر والإمعان في المعنى الذي تدلّ عليه تلك الشعيرة.

وذكرنا - في المقام السابق - ضمن الجهة السادسة: حُكم التزاحم بين الشعائر والأحكام الأوّليّة، أو بينها وبين الأحكام الثانويّة الأُخرى، وكيفيّة معالجة ذلك التزاحم أو ذلك التدافع، وقلنا بأنّه ينبغي معرفة أنّ تلك الشعيرة هي من أيّ بابٍ من أبواب الفقه، وإنّ تلك الشعيرة هي علامة ومعلم على أيّ فرع من الفروع.

فالبحث هنا يدور حول التخريج الفقهي ومحاولة ردّ الإشكالات

____________________

(1) أي العلامة والمعلم لمعنى من المعاني الدينيّة.

١٩١

والانتقادات والاعتراضات المتوجّهة إلى هذه الشعيرة العظيمة.

وحول كيفيّة التعرّف على الفلسفة القانونيّة لنهضة الحسين (عليه السلام)، وبالتالي للشعائر الحسينيّة، فالشعائر الحسينية: هي ذكرى لنهضته (عليه السلام) - تلك النهضة التي كانت الضمان لبقاء الدين، ولحفظ الشريعة السماويّة الدرع المتين - وكانت جنبة الإعلام والتبليغ لنهضة الحسين (عليه السلام) وبيان الأهداف منها.

ونحاول تفصيل البحث فيها عبر الجهات التالية:

الجهةُ الأولى: أهداف النهضة الحسينيّة.

الجهةُ الثانية: أدلّة الشعائر الحسينيّة.

الجهةُ الثالثة: أقسام الشعائر الحسينيّة.

الجهةُ الرابعة: الرواية في الشعائر الحسينيّة.

الجهةُ الخامسة: البكاء والشعائر الحسينيّة.

الجهةُ السادسة: الشعائر الحسينيّة والضرر.

الجهةُ السابعة: لبس السواد.

الجهةُ الثامنة: ضرورة لعن أعداء الدين.

الجهةُ التاسعة: العزاء والرثاء سُنّة قرآنيّة.

مِسكُ الختام: مآتم العزاء التي أقامها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين (عليه السلام).

١٩٢

الجهةُ الأولى: أهدافُ النَهضة الحُسينيّة

١٩٣

١٩٤

هناك عدّة تحليلات فقهيّة واجتماعيّة تبيّن الغاية والهدف من نهضة الحسين (عليه السلام)، لعلّ أهمّها:

التحليلُ الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا ما يستفاد من عبارة الحسين (عليه السلام) الواردة في وصيّته قبل خروجه من المدينة:

(... إنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً؛ وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرُ بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)) (1) .

من أهمّ التوجيهات والتحليلات لنهضته (عليه السلام) هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2) .

وليس معنى المعروف يقتصر على المعروف الفردي، ولا المنكر يقتصر على المنكر في الممارسة الفرديّة، بل هناك المعروف الاجتماعي

____________________

(1) بحار الأنوار 44: 329، العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام): 179.

(2) كان أستاذنا الميرزا هاشم الآملي (رحمه الله) يقول: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب أوسع من الجهاد وأوسع من القضاء، وأوسع من الحدود والقصاص، وأوسع من كلّ الأبواب الفقهيّة، وهو باب قد تسالمَ عليه الفقهاء، وهو لم ولن يُغلق وليس بمسدود، بل مفتوح على مصراعيه في الشريعة إلى يوم القيامة، وينطوي تحت هذا الباب كلّ الأبواب الأخرى. (الأستاذ المحاضِر).

١٩٥

والمعروف الفكري والعقائدي، وهناك المعروف الاقتصادي والمعروف السياسي والمعروف الحقوقي وغيرها، والمنكر كذلك منه السياسي والعقائدي والفكري والاجتماعي والمالي.

وكلّ ما هو مبغوض شرعاً؛ فإنّه يتناول كلّ المحرّمات في كلّ الأبواب، والمعروف يتناول كلّ الأوامر الشرعيّة وجوباً وندباً ورجحاناً في جميع الأبواب.

كما أنّ المراد من الأمر بالمعروف ليس خصوص الإنشاء اللفظي، بل المراد منه الأمر حتى باليد وباللسان وكذلك بالقلب، وهو أضعف الإيمان.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم وواسع وذو أهميّة بالغة، وهو من أعظم الواجبات الدينيّة، قال الله تعالى:( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(كيف بكم إذا فَسدت نساؤكم، وفَسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :نعم. فقال:كيف بكم إذا أمَرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون ذلك؟ فقال:نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً) (2) .

وقال (عليه السلام):(لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله شراركم

____________________

(1) آل عمران: 104.

(2) بحار الأنوار 52: 181، 74 - 153.

١٩٦

على خياركم، ثُمّ يدعو خياركم فلا يُستجاب لهم) (1) .

وقد وردَ عن الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام)، أنّ:(بالأمر بالمعروف تُقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحِلّ المكاسب، وتُمنع المظالم، وتُعمّر الأرض، ويُنتصف للمظلوم من الظالم، ولا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء) (2) .

وكلّ ما يفرزه المجتمع من انحراف فكري ومساوئ سلوكيّة ورذائل خُلقيّة؛ إنّما هو بسبب ترك هذه الفريضة العظيمة، وهذا الباب المهمّ له مُسانخة مع الشعائر نفسها، بما يتضمّنه من البثّ الديني والإعلام الديني، فللشعائر نحوٌ من المُسانخة القريبة مع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإن كان فعل المعصوم فيه نوع من الإجمال أكثر من اللفظ من هذه الجهة؛ لأنّ الفعل قد يتصادق عليه جهات عديدة وكلّها ممكنة، وينطوي تحت تخريجات عديدة قانونيّة وشرعيّة.

التحليلُ الثاني: الاعتراض على الخلافة الغاصبة، وبيان أحقّيّته في الأمر، وهو يُفسّر لنا أيضاً معنى الشعائر الحسينيّة، ومعنى تخليد ذكراه، وهو ما جاء في كلامه (عليه السلام) حينما دعاه الوليد بن عتبة وهو في المدينة لبيعة يزيد، فقال (عليه السلام):(إنّا أهلُ بيت النبوّة ومَعدن الرسالة ومُختلف الملائكة ومحلّ الرحمة، وبنا فتحَ الله وبنا ختمَ، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر، قاتلُ النفس المحرّمة مُعلن بالفسق، ومِثلي

____________________

(1) بحار الأنوار 93: 387 / ح21.

(2) من كتاب منهاج الصالحين، للسيّد الخوئي (قدِّس سرّه) 1: 350.

١٩٧

لا يُبايع مثله، ولكن نُصبح وتُصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقُ بالبيعة والخلافة) (1) .

وكذلك قوله (عليه السلام) لمروان بن الحكم حينما أشارَ عليه ببيعة يزيد، فقال (عليه السلام):(إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان) (2) .

ويظهر من ذلك: شدّة التصلّب والإباء، وهو (عليه السلام) سيّد الإباء، فما هو السرّ في شدّة إبائه لبيعة يزيد، طبعاً هذه البيعة مُنكر من المنكرات، لكنّ خصوص هذا المنكر يُشدّد الإسلام النهي عنه دون بقيّة المُنكرات.

وهذا الوجه يركِّز على مصادمة ظاهرة الخلافة الغاصبة، وهو دليل على بطلانها.

وعلى مذهب الحقّ نقول بعدم مشروعيّة مَن تقدّمَ على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد تذرّعَ المنافقون الأوائل ببعض المتشابهات الدينيّة المعلومة البطلان، مثل:( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (3) ، و( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (4) ، واستمراراً للغضب وعدم المشروعيّة تنتقل بعد ذلك الخلافة إلى وراثة عائليّة ومَلكيّة لا تمُتّ للدين بصلة، وتعود أمور المسلمين إلى الرسم الجاهلي والقبائلي، وفي هذا مصادمة

____________________

(1) بحار الأنوار 44: 325، اللهوف في قتلى الطفوف: 17.

(2) بحار الأنوار: 44: 326، مثير الأحزان: 15.

(3) الشورى: 38.

(4) آل عمران: 159.

١٩٨

واضحة، سيّما والإسلام حديث عهد، والناس حديثو عهد بالدين، ولم يتّضح لبعضهم الانحراف الكبير بين مسار بني أميّة وبين الدين، فقد كان حكّام بني أميّة يتستّرون برداء الدين، فمن ثُمّ كان في هذا المنكر خصوصيّة متميّزة لا نجدها في أيّ نوع آخر من المنكر، وإنّما هو نوع منكرٍ ينطوي على طمس ومحو وزوال لأصل الدين الحنيف.

فكان الحسين (عليه السلام) أشدّ تصلّباً في ذلك، منذ هجرته من المدينة في رجب، وبقائه إلى الثامن من ذي الحجّة في مكّة، قرابة أربعة أشهر، تحت وطأة إرهاب الظالمين، ولم يُعطِّل (عليه السلام) خروجه بعلّة غير هذه العلّة، وهي المعارضة العلنيّة والصارمة للسلطة الغاصبة وللخلافة الزائفة، وبيان أحقّيّته لهذا الأمر من القرآن ومن أقوال الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

التحليل الثالث: مبايعة أهل الكوفة له، وإرسالهم إليه الكتب للقدوم إليهم، واستنصارهم له (عليه السلام)، ومن المقرّر في مذهب الإماميّة: أنّ المعصوم (عليه السلام) إذا وجدَ مَن ينهض به بمقدار العدّة الكافية والعدد وجب عليه النهوض، كما في قول الأمير (عليه السلام) في نهج البلاغة:

(أمَا والّذي خلقَ الحبّة وبَرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحُجّة بوجود الناصر، وما أخذَ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حَبلها على غاربها، وسقيتُ آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دُنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) (1) .

فهذا الوجه الآخر - وهذا الوجه الثالث - إنّما وقعَ له (عليه السلام) بعد معرفة أهل

____________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 202 - الخطبة الشقشقيّة.

١٩٩

الكوفة والعراق بامتناعه وإبائه عن بيعة يزيد، فمن ثَمَّ وجدوا فيه الأمل للتخلّص من يزيد وظلمه ولإقامة العدل، مضافاً إلى عقيدة أهل الكوفة في أهل البيت (عليهم السلام).

لكنّ هذا التخريج والتحليل ليس هو العلّة المنحصرة، حيث تخيّل بعض أنّ هذا هو السبب الوحيد؛ لأنّ هذا السبب ارتفع وانتفى في كربلاء بعد مواجهة أهل الكوفة للحسين (عليه السلام).

التحليلُ الرابع: وهو الدفاع عن نفسه الشريفة وعن حريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يستفاد من قوله (عليه السلام) في يوم عاشوراء:(ألا إنّ الدَعيّ بن الدَعيّ قد ركزَ بينَ اثنَتين: بين السِلّة والذِّلة، وهيهات ما آخذ الدنيّة، يأبى الله ذلك ورسوله وجدودٌ طابَت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة لا تؤثِر مصارِعَ اللّئام على مصارِع الكرام) (1) .

وهذا من باب الدفاع، ومشروعيّة الدفاع ثابتة عقلاً وشرعاً.

التحليل الخامس: أنّ نهضته (عليه السلام) كان منبعها وأساسها هو إقامة الإمامة الإلهيّة، وبعبارةٍ أخرى: أنّ نهضته (عليه السلام) تُمثّل وتُجسّد الإمامة والولاية، وهذا الوجه له ربط بنحو ما مع التحليل الثاني، وهو إباؤه (عليه السلام) لبيعة يزيد؛ لأنّ نكيره لبيعة وخلافة يزيد هو بدوره ومؤدّاه نوع من التبليغ، ونشر لمفهوم الإمامة والدعوة إلى إمامتهم (عليهم السلام)، وقد قال (عليه السلام):(إنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّة جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرُ بسيرة جدّي وأبي) (2) .

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق (ابن عساكر) 14: 219، بحار الأنوار: 45: 9.

(2) بحار الأنوار 44: 329: 2.

٢٠٠