الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد13%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131244 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الجهةُ الرابعة: الروايةُ في الشَعائر الحُسينيّة

٢٢١

٢٢٢

حُكم الرواية لواقعة كربلاء، سواء في الشعر، أو النثر - الكتابة -، أو الخطابة وتصوير مسرح الأحداث التي واجهها الإمام (عليه السلام)، وعرض الخطوات التي أقدمَ عليها (عليه السلام)، وملابسات الظروف التي حفّت آنذاك به وبأصحابه، وما صدر من أعدائه من قساوة وتحدٍّ لله ولرسوله ولأهل بيته (عليهم السلام).

ما هو الميزان في بحث الرواية في واقعة عاشوراء، أو في الشعائر الحسينيّة، هل الرواية هي رواية تاريخيّة؟ أم هي رواية شرعيّة؟ وإذا كانت شرعيّة، فهل هي في باب الفروع والأحكام الفرعيّة؟ أو هي رواية في باب العقائد؟ لابدّ من معرفة كيفيّة بحث الرواية في واقعة كربلاء، والشعائر الحسينيّة بأقسامها المتنوّعة.

وحيث إنّ الرواية مادّة متكرّرة في كثير من أقسام الشعائر الحسينيّة، سواء في الشعر، أو النثر، أو الخطابة، أو مواكب العزاء وما شابه ذلك، فلا بدّ من الوقوف عندها ومعرفة ضوابطها.

وقد كثُر الكلام في ذلك، فكلٌّ يعطي ضابطة تروق له ويُفنّد غيرها، فلابدّ من البحث عن ضابطة معيّنة صحيحة.

ففي هذه الجهة الرابعة مقامان:

٢٢٣

المقامُ الأوّل: في ضابطة الرواية في الشعائر الحسينيّة.

المقامُ الثاني: كيفيّة استخلاص المفاد من الرواية في واقعة كربلاء والشعائر الحسينيّة، أي منهج الاستظهار والاستنباط والتحليل، وإنّ أداة التحليل في مفاد الروايات الواردة على أيّ نمط كانت في المقام الأوّل؟

أمّا المقام الأوّل

فالرواية لواقعة كربلاء، هل هي رواية تاريخيّة، أم قصصيّة، أم رواية في باب الفروع، أم هي رواية في باب العقائد؟

نرى بعض من الباحثين والمحقّقين يتشدّد في قصّ الرواية عن واقعة كربلاء والبحث عنها، مثلما يتشدّد في الرواية التي يعتمد عليها في استنباط الحكم الفقهي، فلذا يتعامل مع رواية الواقعة بدقّة علميّة بالغة، ويؤكّد على ضرورة أن تكون الرواية مُسندة وصحيحة، وإنّها لابدّ أن تكون من كتاب معتبر، وغير ذلك من الضوابط والشروط.

وبعض آخر يتشدّد أكثر من ذلك، حيث إنّ واقعة كربلاء بتفاصيلها وجزئيّاتها والعِبر التي فيها هي قضايا عقائديّة، فينبغي - في رأيه - التشدّد أكثر، وسبر الرواية فيها بدرجة أشد.

وربّما ترى البعض يمارس الرواية القصصيّة في هذا المجال.

وقد يكون سرد الواقعة يأخذ طابع الرواية القصصيّة، كما يصدر هذا النوع غالباً من القائمين على إحياء الشعائر مباشرة، هناك مَن يعرضها على غرار الرواية التاريخيّة المطلقة.

٢٢٤

وكما أنّ عدم الإسهام في الشعائر الحسينيّة جنبة سلبيّة، فإنّ عدم التقيّد في الشعائر الحسينيّة بالمصادر والمراجع لا يقلّ سلبيّة عن عدم المساهمة، فعدم التقيّد في كيفيّة النقل في الرواية لتطبيق مضمونها في الصور المختلفة بالاستعانة بالرواية في واقعة كربلاء، وعدم التقيّد بما هو منضبط وصادق وصحيح وله مدرك ودليل، فيه من الضرر للشعائر الحسينيّة ممّا قد يكون بنسبة الضرر ممّن يتهجّم على الشعائر الحسينيّة ولا يساهم فيها، مثل هذا الناقل غير المتقيّد لن يؤثّر عمله إلاّ تأثيراً مضادّاً، ولن يكون دوره في السلبيّة أقل من المُعارض للشعائر أو غير المساهم فيها.

والسرّ في ذلك: أنّ الشعائر الدينيّة المرتبطة بواقعة كربلاء؛ إنّما تمثّل شعيرة عامّة في الدين وليس شعيرة خاصّة، وإنّ من أهمّ وجوه نهضته (عليه السلام) هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما ذكرنا سابقاً - وقلنا: إنّ المعروف يشمل التوحيد وأصول الدين وفروعه؛ لأنّ كلّ ذلك معروف يجب الأمر به.

وذكرنا أنّ المنكر يشمل الشرك والكفر إلى آخر المنكرات الفرعيّة في باب السياسة والاقتصاد - الظلم المالي والقضائي -؛ لأنّ كلّ ذلك من المنكر.

فإذا كان باب الشعائر الحسينيّة وعنوان نهضته (عليه السلام) قد صرّح بها في قوله (عليه السلام):(إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) (١) ، وإحياء هذه الفريضة العظيمة هو المحافظة على الدين، كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(حُسين منّي وأنا من حسين) (٢) فلذلك يقال:

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٣٢٩ / ح ٢.

(٢) المعجم الكبير (الطبراني): ٣: ٣٣؛ الإرشاد (الشيخ المفيد) ٢: ١٢٧؛ موارد الظمآن

٢٢٥

(الإسلام محمّديّ الوجود، حسينيّ البقاء) وبدون الشعائر تنهدم الفرائض ويضمحلّ الدين وينحسر الهدى، وبها تقوى أركان الشريعة، من التوحيد - الذي هو أوّل فريضة - إلى آخر الفرائض التي لا يمكن أن تُقام بدون تلك الشعائر.

إذاً، نفس الشعائر الحسينيّة فريضة مقدّسة ومهمّة عظيمة، وعَظمتها مترشّحة من عَظمة الدين وعظمة الولاية، وكما ذكرنا فإنّ الشعائر الحسينيّة في تحليلها الماهوي هي علامة ورمز للإمامة ولمسيرة الإمامة الإلهيّة، تمييزاً لها عن الخلافة البشريّة المنحرفة، فلا يمكن التفريط والتهاون بالشعائر الحسينيّة، بل لابدّ من التحفّظ والاهتمام والإقامة؛ لأنّ المفروض أنّ واقعة كربلاء ونهضة الحسين (عليه السلام) وفعل المعصوم - سيّما أنّ الأئمّة قد أبرزوا ذلك في الحسين (عليه السلام) باعتباره قدوة الأحرار وسيّد الأُباة - هي شعار ومنار لمعانٍ سامية وأهداف خالدة، وهي شعار الصدق، وشعار الحقيقة، وشعار الإباء والهُدى.

مبالغةُ الجهد علميّاً وعمليّاً

لابدّ - إذاً - للمُشارك والمساهم في الشعائر الحسينيّة من المبالغة في بذل الجهد العلمي والعملي؛ لأنّ وفرة الجهود العلميّة تحول دون الاندراس الوثائقي لهذه الحقيقة الدينيّة التاريخيّة العظمى، لا سيّما مع تطاول القرون والعصور.

____________________

(الهيثمي): ٥٥٤؛ تاريخ مدينة دمشق ١٤: ١٤٩؛ تهذيب الكمال (المزي) ٦: ٤٠٢؛ تهذيب التهذيب (ابن حجر) ٢: ٢٩٩؛ البداية والنهاية (ابن كثير) ٨: ٢٢٤؛ ينابيع المودّة (القندوزي) ٢: ٣٨.

٢٢٦

لابدّ إذاً من المواظبة على حفظ الموازين الشرعيّة والتوصيات العامّة فيها، ومنها: حفظ الأخلاق والآداب والالتزام الديني، لاجتناب ضياع وخسران الأهداف التي جعلت الشعائر من أجلها.

ولنتعرّض إلى ضوابط هذه الاتجاهات في الرواية، ما هي ضابطة الرواية التاريخيّة؟ والقصصيّة؟ والتي هي في باب الفروع؟ أو في باب العقائد؟

الرواية التاريخيّة

ضابطتها: أن تكون مذكورة في مصدر تاريخي يُعتمد عليه بين فئة معيّنة أو فئات معيّنة، بحيث لم يظهر من صاحبه تدليس أو إخفاء أو تغيير للحقائق، وقد أصبح كتابه متداولاً مُعتمداً عليه في الرواية التاريخيّة، المقصود أن يكون مصدراً من المصادر في البحث التاريخي.

والكتب التاريخيّة الغالب فيها عدم ذِكر السند أصلاً، وفي علم التاريخ والرواية التاريخيّة كلّما كان المصدر أقدم كان أثبت وأقوى، لا بمعنى أنّ الكتاب التاريخي الذي كُتب في القرن التاسع لا يُعتمد عليه، أو ما كُتب في القرن الثالث عشر لا يُعتمد.

بل يبقى مصدراً تاريخيّاً، غاية الأمر، أنّ المصادر التاريخيّة كلّما كانت أقدم كانت أثبت، والضابطة في علم التاريخ وفي البحث التاريخي هي: أنّ المؤرِّخ أو الباحث التاريخي لا يعتمد على نقل تاريخي كشيءٍ مُسلّم، ولا يُفنِّده لعدم ذِكر سنده، وغالباً يكون ذِكر السند في كتب السيَر، مثل: سيرة ابن إسحاق وغيرها.

غاية الأمر أنّ الضابطة عند التاريخي، أنّه حينما يريد أن يرسم في مقام

٢٢٧

الكشف والتنقيب عن واقعة تاريخيّة، يحاول أن يُحصّل ما يرسم هذه الواقعة بكلّ أطرافها وزواياها وأبعادها بتوسّط الفحص المتاخم للاطمئنان والوثوق، ومن ثُمّ يستفيد من لفتات ونقولات تاريخيّة مختلفة تُعتبر بمثابة القرائن، ولها أساليب وفنون عديدة في علم التاريخ، مثل: كيفيّة تحصيل القرائن، ومطابقة الأحداث بعضها مع البعض الآخر، وملاحظة التواريخ، والوفيات، وأدلّة الوقائع الهامّة، والطبقات.

حتّى أنّ علم الرجال يُعدّ شعبة من شعب علم التاريخ، أو قل: إنّ علم التاريخ يساهم مساهمة كبيرة جدّاً في علم الرجال، ولذلك فهناك مشابهة قريبة الصلة بين علم التاريخ وعلم الرجال.

إذاً، الباحث التاريخي دأبهُ هو تصيّد واقتناص الروايات والقرائن والقصاصات واللقطات المختلفة، حتّى يُرتّب ويشكّل ويرسم الصورة الخاصّة للواقعة التاريخيّة، فإذا كان في رواية الشعائر الحسينيّة من حيثيّة البحث والرواية التاريخيّة، فمن الخطأ أن يفنِّد السامع الرواية التاريخيّة ويواجهها بالإنكار بذريعة عدم وجود مستند لتلك الرواية؛ لأنّ الرواية التاريخيّة لا يُقتصر فيها على المسانيد، بل المفروض فيها المصدر المعتمَد المتقادم عهداً.

وكذلك الأمر في الاعتراض على المصدر بأنّه متأخّر زماناً، إذ الرواية التاريخيّة لا تُردّ إذا كان المصدر متأخّراً، غاية الأمر أنّ المصدر المتأخّر بنفسه لا يُعتمد عليه منفرداً بنفسه، بل يكون كقرينة محتملة لابدّ أن تنضمّ إليها قرائن أخرى، فكون هذا الكتاب أو المقتل متأخّراً - في القرن العاشر مثلاً - لا يكون سبباً لطرحه، وإن كان موجباً لضعف الدرجة الاحتماليّة للاعتبار، المهمّ أنّه ناقلٌ

٢٢٨

للكتاب أو للرواية التاريخيّة، وإن لم يُكتب فيه السند، وباب الرواية التاريخيّة لا يُطلب فيها ما يُطلب في باب الأحكام الفرعيّة.

وفي هذا بحث مبسوط، لكنّنا نذكره بشكل مختصر فقط.

فضابطة الرواية التاريخيّة أنّها تعتمد على الكتب التاريخيّة المتداولة ولو كانت متأخّرة.

غايةُ الأمر أنّ الكتب المتقدّمة أكثر اعتماداً، وإنّ الباحث التاريخي يستنفذ جهده ووُسعه في تحصيل القُصاصات والقرائن والشواهد إلى أن ترتسم له حقيقة الحال، بحيث يوقِفك - أيّها القارئ - من مجموع تلك القرائن والشواهد على الصورة الحقيقيّة لهذه الواقعة التاريخيّة.

وهذا المنهج - وهو منهج تحصيل الاطمئنان - هو المتّبع في العديد من العلوم، مثل: علم الرجال؛ فإنّ عُمدة مسلك علماء الرجال في المفردات الرجاليّة(١) في التوثيق والتضعيف، هو: أن يقفوا على حقيقة المفردة بغضّ النظر عن أقوال التوثيق وأقوال التضعيف، وبغضّ النظر عمّا قيل فيها من جُرح وتعديل؛ وإنّما يُعتدّ بالجرح والتعديل كقرائن لا كمصادر منحصرة، وبالدرجة التي يحصل عندها الاطمئنان.

وهناك عدّة مناهج رجاليّة في هذا الباب، عُمدتها منهج التحليل والجمع لأكبر عدد من الشواهد والدلالات لتحصيل الاطمئنان برؤية معيّنة، وهذا هو نفس المنهج التاريخي، وهو أن يصل الباحث إلى واقع حقيقة المفردة ودرجتها العلميّة ودرجتها الاجتماعيّة، ويعرف متى استقامت، ومتى انحرفت، وأيّ درجة من الانحراف فيها؟ إلى أن يصل إلى واقع الحال، وهذا من دأب ومنحى المنهج التاريخي.

____________________

(١) هم رواة سلسلة أسناد الأحاديث، فكلّ راوٍ يُطلق عليه مفردة رجاليّة، أو عنوان رجالي.

٢٢٩

ضابطةُ الرواية القصصيّة

وقد تسمّى بالرواية التمثيليّة أو الرواية التخييليّة.

هذه الرواية القصصيّة هي - على عكس الرواية التاريخيّة - ليست في مقام الإخبار بالجملة، أو قُل ليست في مقام الإخبار للمدلول المطابقي، لكنّها في مقام الإخبار للمدلول الالتزامي، نظير باب الكناية والتعريض، بل هي متقوِّمة بحيثيّة عدم الإخبار؛ وإنّما تقتصر على إنشاء تخيّل وتصوّر لمعانٍ تخيّليّة، ولها أقسام وفنون متعدّدة مذكورة في الأدب القصصي، وهو مختصّ بالعلوم الأدبيّة، أو بعلوم الفنون التشكيليّة.

وهذه الرواية موجودة حتّى في علوم الحوزة الدينيّة، مثل: علم البلاغة الذي يشمل البيان والمعاني والبديع.

مثلاً ترى القصّة التي كتبها القَصَصي لا وجود لها بتاتاً، وإنّه ليس بصدد تأليف هذه القصّة في مقام الإخبار، بل الهدف المرجوّ من كتابة هذه القصّة لأجل التوصّل إلى معنى آخر، مثلاً من خلال القصّة يحاول بيان معنى العدالة، أو يسعى لتوضيح معنى سوء الخلق، أو بذاءة الفاحشة، أو لذّة الروحانيّات والعبادات والأُنس بها، وهلمّ جرّاً.

فهناك فارق بين الرواية التاريخيّة والرواية القصَصيّة، المنوال القصصي والحبكة القصَصيّة الغرض منه الحكاية عن معنى آخر، وذلك المعنى الآخر هو المعنى الالتزامي، فإن كان المعنى صادقاً يقال بأنّ هذا الراوي القصصي صادق، وإن كان ذاك المعنى كاذباً أو قبيحاً، يقال إنّ هذا الرواي القصصي مُدلّس أو

٢٣٠

متحلّل أو منحرف وليس له هدف تربوي نبيل، وإنّ إخباره كاذب، إذ من المسلّم قُبح الخيانة (مثلاً)، فحينئذٍ إذا أردنا معرفة هدف الراوي القصصي في قصّته، وإنّ روايته القصصيّة كاذبة أو صادقة، وما هو موطن الموافقة وعدم الموافقة للواقع؛ فإنّ موطن المطابقة - أي اللازم مطابقته للواقع والحقيقة - هو المعنى الالتزامي للمغزى، وموطن اللامطابقة - أي غير اللازم مطابقته - هو نفس المدلول المطابقي للرواية القصصيّة، كما هو الحال في الكناية مثل: (زيد كثير الرماد).

هذه الرواية القصصيّة - بعد العلم بضابطتها - تقع على أقسام:

١ - تارةً نفس الأشخاص الذين تُذكر حولهم الرواية القصصيّة هم أشخاص موهومون، وبعبارةٍ أخرى: أنّ كلّ الرواية القصصيّة هي خياليّة، ولكنّ معناها ومغزاها حقيقي، وقد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً.

٢ - وقسمٌ آخر: الأشخاص فيه حقيقيّون، لكنّ النسبة في الروايات القصصيّة ليست نسبة حقيقيّة، بل نسبة قصصيّة، من أمثلة ذلك: شِعرُ دعبل الخزاعي في قصيدته المشهورة:

أفاطم لو خِلت الحسين مُجدّلاً = وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُرات(١)

فهو لم يحضر ولم يشهد الواقعة، لكنّه يرسم رَسماً تصويريّاً، فالزهراء (عليها السلام) ليست شخصاً تخيّلياً؛ وإنّما هي حقيقة، والحسين (عليه السلام) أيضاً طرَف في هذه الصورة، لكنّ هذا التجسيم والتمثيل شِعريّ وإن كان قَصصيّاً - ليس بالتاريخ - فإنّه يريد أن يُبيّن بواسطته معنىً معيّناً، وهو: عُظم الفاجعة، وشدّة المصيبة، وفداحة المصاب.

____________________

(١) تقرأها كاملة في بحار الأنوار ٤٩: ٢٤٧.

٢٣١

فالرواية القصصيّة تارةً يكون المحمول فقط فيها قصصيّاً فرضيّاً في القضيّة، وتارةً يكون كِلا الموضوع والمحمول معاً قَصصيّاً تخيّليّاً.

ولا حظر ولا منعَ من كون الرواية القصصيّة تضمّ طرفاً حقيقيّاً وطرفاً تخيّليّاً، ولا يستلزم ذلك الكذب والتدليس، ولا ضرورة ولا لزوم أن تكون كلّ رواية قصَصيّة مجموعها حقيقي.

هذا الخلط قد وقعَ عند البعض، وهذا هو معنى لسان الحال الذي يُعبّر عنه الخطباء والشعراء، والذي له طرف حقيقي وطرف قصصي، والطرف القصصي ليس بخرافة، وأمّا الذي يُسمّي ذلك خرافة فهو لا يفهم معنى الرواية القصصيّة.

ولا يتعاطى أهل الفن الرواية القصصيّة - في الأصل - للإخبار عن الواقع بنفس المدلول المطابقي؛ وإنّما لأجل الإخبار عن الواقع بالمدلول الالتزامي.

فالقول المزبور يدلّ على عدم فهم معنى الرواية القصصيّة، نعم، يجب على الراوي في الرواية القصَصيّة أن ينصب قرينة، ليس قرينة بلسان الحال، بل قرينة واضحة، مثل: بيت الشِعر الذي ذكرناه قبل قليل لدعبل الخزاعي (أفاطم لو)، فكلمة (لو) هي القرينة على أنّه ليس إخباراً عن الواقع بنفس المدلول المطابقي.

كذلك الفيلم، كون اسمه (فيلم) يعني رواية قصصيّة، والمسرحيّة أيضاً كذلك، إذاً لابدّ أن ينصب الراوي القصصي قرينة معيّنة كي يميّزها عن الرواية الخبريّة البَحتة.

فقد يرسم الكاتب، أو الخطيب، أو الشاعر، أو الرادود، أو الراثي صورة قصَصيّة مُفجعة جدّاً عن واقعة كربلاء دون أن يكون في مقام الإخبار، ويُبيّن أنّها ليست

٢٣٢

في مقام الإخبار بقرينة معيّنة، إمّا لفظيّة أو حاليّة، كي يصوِّر شدّة المصاب أو شدّة الخَطب الذي مرّ على سيّد الشهداء (عليه السلام)، أو قوّة الإباء عنده (عليه السلام)، أو تصلّبه (عليه السلام) في ذات الله.

والعَجب، أنّ البعض ممّن كتبَ في المقاتل، أو في الكتب التاريخيّة يُفنّد تفنيداً شديداً هذا الباب، مع العلم بأنّ هذا الباب لا يمكن إغلاقه وإلغاؤه عن مسرح الشعائر، ولا حتّى عن الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة اليوميّة، ففي الحضارات المختلفة للبشر هناك كثير من المعاني يمكن أن تصل إلى المجتمع ويُربّى عليها بتوسط دوالّ وعلامات أخرى؛ لأنّ المفروض أنّ المدلول الالتزامي القصَصي أو المغزى هو معنى حقيقي صادق.

فالكلام في الجهة الرابعة من الشعائر الحسينيّة في خصوص الرواية وأقسامها: التاريخيّة، والقصصيّة، والشرعيّة، الفرعيّة، والعقائديّة في واقعة عاشوراء.

ومرّ بنا خصائص قانون الرواية التاريخيّة، وكذلك قانون الرواية القصَصيّة.

الروايةُ الشرعيّة

أمّا الرواية الشرعية - أي التي يُعتمد عليها في استنباط الأحكام الفرعيّة - فضابطتها هي:

تحرّي الكتب المعتمدة بين الطائفة، والبعيدة عن شبهة الدسّ والتدليس، وبحمد الله فإنّ كُتب الطائفة مسطورة ومنتشرة ومعروفة، وهي على درجات في شدّة الاعتبار وتوسّط الاعتبار.

٢٣٣

ثُمّ لابدّ أن تَعتمد هذه الرواية الشرعيّة نفس الموازين المأخوذة والمُتّبعة في الفروع، فتجري عليها موازين الاعتبار والحجّيّة للرواية، فإمّا أن تكون صحيحة، أو موثّقة، أو حَسنة(١) .

على كلّ حال فمناط حجّيّة الخبر في الفروع مختلفة حسب الأقوال، وأمّا الخبر الضعيف إذا استُخرج من كتابٍ معتبر فلا يُهمل ولا يُطرح جانباً، بل على الأقلّ يُتّخذ كقرينة تعضد بقيّة الروايات، أو يُشكّل رقماً إضافيّاً لتحقّق التواتر، حيث إنّ الخبر المتواتر يَعتمد على قاعدة رياضيّة برهانيّة في تولّد القَطع، وهو تصاعد الاحتمالات نفياً أو إيجاباً إلى أن نصل إلى درجة القطع، فقد يُعتبر هذا الخبر مادّة للتواتر أو مادّة للاستفاضة، أو مادّة لاعتبار وثوق الخبر، فلا يمكن طرح الخبر الضعيف من رأس، وهذا مُحرّر أيضاً في علم الدراية.

عدمُ جواز ردّ الخبر الضعيف

وللخبر الضعيف أحكام تختلف عن أحكام الخبر المعتبر، لا أنّه ليس له أيّ حكم أبداً، وأحد أحكام الخبر الضعيف حرمة ردّه ما لم يَذدك عنه دليل قطعي لدلالة قطعيّة قرآنيّة، أو سُنّة قطعيّة، يعني إذا لم يتعارض مع الدلالة القطعيّة للكتاب والسُنّة، وحرمة ردّ الخبر الضعيف قاعدة مُسلّمة عند الأصوليّين والإخباريين، وحرمة الردّ غير حجّيّة الخبر.

____________________

(١) مشهور الفقهاء على أنّ الرواية الحسنة يُعتدّ بها، وإن كانت في درجة الاعتبار عندهم دون الخبر الموثّق، أو الخبر الصحيح، والخبر الحَسن عند مشهور الفقهاء يُعتمد عليه عند عدم تعارضه بما هو أقوى منه.

٢٣٤

الكثيرُ يختلط عليه الأمر بين حجّيّة الخبر وحرمة الردّ، حرمة الردّ تتناول حتى الخبر الضعيف، وقد عقدَ صاحب الوسائل في أبواب كيفيّة القضاء، أو كيفيّة حكم القاضي باباً يذكر فيه تلك الروايات الدالّة على هذه القاعدة المسلَّمة.

والخبر الضعيف - في علم الدراية والحديث - يختلف عن الخبر الموضوع والمدسوس والمجعول، وتلك الأخبار تشمل الخبر الذي عُلم وَضعه يسمّى ذلك الخبر مدسوساً أو مجعولاً أو موضوعاً، أمّا الذي لم تتوفّر فيه شرائط الحجّيّة، فلا يقال إنّه مدسوس أو موضوع، لا سيّما بعد عمليّة الغَربلة والتنقية والتنقيح التي قامت بها طبقات عديدة من محدّثي الشيعة ورواتهم.

فالخبر الضعيف له أحكام إلزاميّة، وقد وردَ بيان لهذه القاعدة في بعض الروايات بألسِنة مختلفة، منها: أنّ ردّ الخبر بمنزلة الردّ على الله سبحانه من فوق عرشه، أو بعبارة:(رُدّوه إلينا) وغيرها(١) .

وهناك نكتة لها علاقة ببحث الرواية وهي: أنّ الواقعة - واقعة كربلاء، واقعة عاشوراء - قد أحتفّ بها قبل وبعد وقوعها حوادث ومواقف ذات أهميّة بالغة، تظافرت الدواعي والجهود لرصدها ونقلها، مضافاً إلى التقدير الإلهي لبقاء ذكرها وخلود سيرتها إلى يوم القيامة، والسرّ في ذلك: هو أهميّتها في مسار الدين ومسار المسلمين، ولذلك تضافرت الدواعي والجهود لنقلها، حتّى أنّه قد ذَكر غير واحد من العامّة - فضلاً عن الخاصّة - أنّه لم تُرصد واقعة تاريخيّة من حيث التفاصيل

____________________

(١) الكافي ٢: ٢٢٢، حيث وردَ في هذا الحديث(... ولا تبثّوا سرّنا ولا تُذيعوا أمرنا، وإذا جاءكم عنّا حديث فوجَدتم عليه شاهداً أو شاهدَين من كتاب الله فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده، ثُمّ ردّوه إلينا حتّى يستبينَ لكم) .

٢٣٥

والأحداث والجهات الأخرى كما رُصدت واقعة كربلاء.

فمع وجود هذه المادّة الوفيرة والكثيرة، لا ينبغي لأحد أن يترك الضبط، غاية الأمر لابدّ من اتّباع الموازين كما سيتبيّن.

مثلاً عقدَ ابن عساكر في تاريخ دمشق باباً خاصّاً في تاريخ الحسين (عليه السلام)، وما جرى عليه من أحداث حتّى شهادته (عليه السلام)، ونَقل بطرق عديدة، وهو حافظ من الحفّاظ الكبار عند العامّة، وذكرَ من مصادر عديدة أنّ السماء بكت دماً، وإنّه ما قُلب حجر يوم عاشوراء بعد مصرع سيّد الشهداء (عليه السلام) إلاّ وكان خلفه دم عبيط، وكذلك الأمر في أرض الشامات وما حولها.

ويذكر ابن عساكر حوادث أخرى في تاريخه، وذكرها غيره أيضاً، ومنهم: الخطيب البغدادي في تاريخه، ومن كُتب العامّة التي تناولت واقعة الطف: مقتل الخوارزمي، وتاريخ الطبري، والكامل لابن الأثير وغيرها من مصادر العامّة.

وقد نُقلت واقعة الطف في كثير من مصادر الشيعة، مثلاً: كتاب أمالي الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه) فيه عدّة مجالس، إذا جُمعت تكون مقتل خاص، ويذكرها بأسانيد له تصل إلى المعصومين (عليهم السلام).

هذا بالنسبة لضابطة الرواية في باب الفروع.

الروايةُ في باب العقائد

أمّا الرواية في باب العقائد، فالذي عليه مشهور متكلّمي الشيعة، أنّ العقائد لا تثبت إلاّ بالخبر القطعي، ولا تثبت بالخبر الظنّي.

أمّا مشهور المُحدّثين، فقد ذهبوا إلى أنّ العقائد يمكن أن تثبت حتّى بالخبر

٢٣٦

الظنّي المعتدّ به، وأمّا بقيّة فقهاء الشيعة فبعضهم التزمَ بأنّ العقائد لا تثبت إلاّ بالخبر القطعي، وذهب بعضهم إلى التفصيل، فالمعارف الأساسيّة لابدّ من الدليل القطعي في مقام إثباتها، أمّا المعارف غير الأساسيّة وتفاصيل وفروع المعارف، مثل: كيفيّة نشأة البرزخ، وكيفيّة نشأة القيامة وتفاصيلها التي لا يصل إليها العقل، ونشأة الجنّة وتفاصيلها فيمكن إثباتها بالأخبار الظنّيّة.

وقد ذكرَ هذه الأقوال الشيخ الأنصاري في بحث الانسداد، وذهبَ إلى التفصيل: الشيخ الطوسي، والمحقّق الطوسي (الخواجة نصير الدين الطوسي)، والمقدّس الأردبيلي، والميرزا القمّي (صاحب القوانين)، والشيخ البهائي، والعلاّمة المجلسي، والتزموا بإمكان ثبوت تفاصيل المعارف والعقائد بالأخبار الظنّية اعتماداً على الدليل المعتبر الظنّي.

ومن المتأخّرين في عصرنا ممّن اختار هذا القول: السيّد الخوئي (قدِّس سرّه) في كتاب مصباح الأصول، ضمن بحث (حجيّة الظن في الأصول الاعتقاديّة)(١) ، وأستاذه المرحوم المحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدِّس سرّه) في شرحه على الكفاية في باب الانسداد، حيث قرّر إمكان الاعتماد على الدليل الظنّي المعتبر في تفاصيل العقائد.

وقد يظهر من آثار وتقريرات المرحوم أقا ضياء العراقي الميل إلى ذلك.

فإذا تشكّل من الخبر الواحد درجة من الاطمئنان أو التواتر أو الاستفاضة، فيمكن إثبات العقائد به.

وإن لم يتشكّل منه التواتر أو الاستفاضة، فإن كان الخبر الواحد معتبراً، فهناك ثلّة من علماء الإماميّة قديماً وحديثاً ذهبوا إلى إمكان إثبات فروع

____________________

(١) راجع مصباح الأصول ٢: ٢٣٨.

٢٣٧

وتفاصيل العقائد بالخبر الظنّي المعتبر، وإلاّ فيمكن جعله قرينة إضافيّة يضمّ إلى قرائن أخرى؛ ليقوى احتمال ثبوت المؤدّى وذلك حسب نظريّة تراكم الاحتمالات.

من باب النموذج في أصول الكافي، رواية معتبرة السند في فضيلة ليلة القدر، عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:(لقد خلقَ الله جلّ ذكرهُ ليلة القدر، أوّل ما خلقَ الدنيا ولقد خلقَ فيها أوّل نبي يكون، وأوّل وصي يكون، ولقد قضى أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأمور إلى مثلها من السنة المُقبلة، مَن جحدَ ذلك فقدّ ردّ على الله عزّ وجل علمهُ..) (١)، فهذه الرواية تدلّ على لزوم الأخذ بالخبر المعتبر في تفاصيل العقائد، نظير العديد من الروايات في هذا المجال.

كان هذا كلّه في مقام الرواية، أي: الرواية في الواقعة العاشوريّة، الرواية في الشعائر الحسينيّة، وقبل أن نتعرّض إلى المقام الثاني، وهو مقام تمحيص مفاد الرواية في الشعائر الحسينيّة، نستخلص نقطة للمقام الأوّل(٢) ، وهي: أنّ الرواية التاريخيّة - في الضابطة التي ذكرناها - هل لها موطن قَدم في الروايات المنقولة عن كربلاء وعن نهضة كربلاء؟ وما حال الرواية فيها، هل هي الرواية القصصيّة؟ أم الرواية في الفروع؟ أم الرواية العقائديّة؟ أم الرواية التاريخيّة؟

قال بعض: لمّا كانت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) هي نهضة معصوم وفعل معصوم، فمن ثَمّ يجب أن تخضع الرواية التي ينقلها الخطيب أو الشاعر أو الراثي

____________________

(١) أصول الكافي، كتاب الحجّة: باب ٤١ - ٣٠٨.

(٢) راجع المقام الأول ص: ٢٢٠ من هذا الكتاب.

٢٣٨

إلى موازين الرواية في الفروع، وإلاّ كانت تقوّلاً على المعصوم (عليه السلام)، وأن يُنسب للمعصوم ما لا نملك دليلاً على نسبته إليه، ولكنّ هذه الدعوى بإطلاقها غير صحيحة، فنحن نُسلّم أنّ نهضة الحسين (عليه السلام) فعل المعصوم، إلاّ أنّ تاريخ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتاريخ بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً يخضع للضوابط التاريخيّة.

والهدف من الرواية المنقولة هو: نقل مسرح الأحداث وتفاصيلها التي لا تتّصل بالمواقف الرئيسيّة المتعلّقة بالحكم الشرعي أو العقائدي، أو من جهة أخذ العبرة، كما في باب الآداب الشرعيّة أو العامّة، أو أخذ العبرة في باب الحكمة، أي أنّنا لا نتوقّع من هذه الرواية التاريخيّة أن تُثبّت فرعاً من الفروع أو حكماً من الأحكام - فرعيّاً أو عقائديّاً -؛ وإنّما الهدف لمّا كان حكمه ثابتاً ومقرّراً أن نأخذ العبرة في كيفيّة تطبيقه، ونأخذ العبرة في كيفيّة لزوم التقوى مثلاً، ونأخذ العبرة في ما شابه ذلك من السير والسلوك الأخلاقي، فإذاً هذه هي ضابطة المادّة التاريخيّة والبحث التاريخي، وهو أن لا تُثبّت حكماً فرعيّاً أو عقائديّاً؛ وإنّما الغاية هو أخذ العبرة والموعظة لمَا هو مقرّر وثابت.

وبذلك تثبت ضابطة البحث التاريخي، وهذا هو مجال الرواية التاريخيّة في الواقعة الحسينيّة، وفي نهضة الحسين (عليه السلام وفي عاشوراء - سواء في الرواية، أو في الكتابة، أو الخطابة، أو الشِعر، أو غير ذلك - لا سيّما إذا كان هذا الأمر التاريخي واصلاً على نحو الاستفاضة، بنفس الضوابط التاريخيّة التي مرّ ذكرها.

إذاً، ليس كلّ ما يُسرد رواية في باب أقسام الشعائر الحسينيّة - من الخطابة، والشعر، والنثر، والكتابة - له حيثيّة أحكام فرعيّة أو عقائديّة، بل شطر منه من باب الرواية التاريخيّة والمواعظ والعِبر، وما يقوم به الواعظ أو المرشد لبيان سيرة

٢٣٩

الأئمّة (عليهم السلام)، وآدابهم ومظلوميّتهم ليس في مقام تثبيت حكم شرعي ولا حكم عقائدي؛ وإنّما في مقام تربية السامع ووعظه وإرشاده، فحينئذٍ في مقام المواعظ والنصائح التي تقع في مضانّها لا يُطالب الناقل بالسند المعتبر، ولا يجري توخّي ميزان الرواية في باب الاستنباط والحكم الشرعي، بل ينبغي أن تجري ضابطة النقل التاريخي؛ لأنّ الناقل في مقام العِبرة والموعظة وبيان الحكمة، أو في مقام الإخبار عن مجمل وتفاصيل الحدَث لا مجرياته الأصليّة.

إذاً، مسرح ومجال الرواية التاريخيّة في واقعة عاشوراء ونهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، هو هذا الجانب، أي جانب العبرة والموعظة والنصيحة والإرشاد والسرد لتفاصيل الحدَث.

وقد ذكرَ أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة - في خطبة غرّاء في قواعد علم التاريخ - هذا المضمون في قوله:(إنّي وإن لم أكن عمّرتُ عُمر مَن كان قبلي، فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكّرتُ في أخبارهم، وسرتُ في آثارهم، حتّى عدتُ كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرتُ مع أوّلهم إلى آخرهم) (١) .

والعِبر والموعظة والمعرفة التفصيليّة لجزئيّات الأحداث، مطلب يغاير باب الاستنباط وتحرير الأحكام الشرعيّة، وهذه هي ضابطة الرواية التاريخيّة في الشعائر الحسينيّة.

أمّا الرواية القصَصيّة - التي ذَكرنا أنّ الخطباء والشعراء والرواديد يتعرّضون لها، أو ما يسمّى بالتمثيل (الشبيه)(٢) وغيره، حيث يؤتى بما يعبّر عنه بـ(لسان

____________________

(١) نهج البلاغة، طبعة محمّد عبدة ٣: ٤٠.

(٢) المسرحيّات الشعبيّة لأحداث الواقعة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

المخالفين لأنّه منصب الهيّ وكمال نفسانيّ ودرجة وهيبة

وما قيل من أنّ الولاية بمنزلة الحليلة للأئمّة واغتصبها المغتصبون منهم فتزوّجها فالنواصب أبناء هذه البغيّة ونزّلوا أخبار خبث مولد النواصب هذا التنزيل وقالوا : إنّ الزوج الشرعي للولاية هم الأئمّةعليهم‌السلام وقد عقد الله هذا الزواج في السماء

وهذا حديث باطل ومردود وهو أدنى من كلام المبرسمين أصحاب الماليخوليا ، والأولى أن ندعوه هذيان القلم ، وأكثر من هذا لا يستحقّ من عناية العلماء لردّه ولا يتّسق مع سابقة العلماء وشئوناتهم العلميّة ورتب أهل الفضل كما قال الحكماء :

از سخن پُر در من هم چون صدف هر گوش را

قفل گوهر ساز ياقوت زمر پوش را

در جواب هر سؤالى حاجت گفتار نيست

چشم بينا عذر مى خواهد لب خاموش را

لا تجعلنّ كلّ قول مثل جوهرة

تقرط الأُذن فيها كي تحلّيها

أبعد عن العين بالأقفال جوهرة

فإنّ حقّ يتيم الدرّ تخفيها

ولا تجيبنّ يوماً كلّ مسألة

إطباق كلّ شفاه عذرها فيها

ومن الأشعار التي أنشدها الإمام الرضاعليه‌السلام في حضرة المأمون ونسبه إلى بعض فتيان آل عبد المطّلب كما ورد في العيون هذان البيتان :

وإذا ابتليت بجاهل متكلّف

يجد المحال من الأُمور صوابا

أوليته منّي السكوت وربّما

كان السكوت عن الجواب جوابا(١)

وجملة القول : إنّ هذه الفقرة من الزيارة مساوقة لفقرة الصحيفة السجاديّة

_________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ : ١٥٧ وفيه بدل « ابتليت » « بليت » وبدل « متكلّف » « متحكّم » ( هامش الأصل ) وفي المجلّد الأوّل منه ص ١٨٧ أربعة أبيات بدل البيتين ( المترجم )

٣٠١

وفيها يشير الإمام السجّاد إلى عيد الأضحى والجمعة وصلاة العيدين والخطبة ويقول : « اللهمّ هذا المقام لخلفائك وأصفياءك ومواضع اُمناءك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها »(١) وهذا الابتزاز والإزالة والدفع كلّ ذلك ناشئ عن الصدر السالف والقرن الأوّل من عدول الصحابة ، ولا تتنافى عدالتهم مع ظلم أهل البيت وإيذاء فاطمةعليها‌السلام وإحراق بيتها والخلاف مع عليّعليه‌السلام وبغض الحسنينعليهما‌السلام ، كما مرّ عليك جانب من ذلك وعسى أن نشير فيما يأتي إلى جملة اُخرى منه

بل لا يتنافى ذلك عندهم مع تغيير جميع الفروع والاُصول والأحكام وهدم أساس الشريعة المقدّسة ـ على الصادع بها ألف سلام ـ كما يظهر ذلك من الأخبار المبثوثة في مطاوي كتبهم المعتمدة واُصولهم الصحيحة

نقل السيّد المحقّق الأمين شارح الصحيفة المقدّسة من الجمع بين الصحيحين في مسند أبي الدرداء في الحديث الأوّل من أخبار البخاري : قالت اُمّ الدرداء : دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف من أمر محمّد شيئاً إلّا أنّهم يصلّون جميعاً(٢)

وفي الحديث الأوّل من صحيح البخاري من مسند أنس بن مالك نقل عن الزهري قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرض شيئاً ممّا أدركت إلّا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيّعت(٣)

وفي حديث آخر إنّه قال : ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

_________________

(١) الصحيفة السجاديّة ، دعاء ٤٩ ( هامش الأصل ) الكاملة : ٢٨١ نشر جامعة المدرّسين ( المترجم )

(٢) صحيح البخاري ١ : ١٦٦ باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، ط دار مطابع الشعب بمصر ( هامش الأصل )

(٣) نفسه ، باب تضييع الصلاة عن وقتها ، ص ١٤١ ( هامش الأصل )

٣٠٢

قيل : فالصلاة ؟ قال : أليس صنعتم ما صنعتم فيها(١)

وهذه شهادة صريحة من أبي الدرداء وأنس بن مالك ـ وهما من أكابر الصحابة عند أهل السنّة والجماعة ـ بأنّ أحكام الشريعة بأجمعها غيّرت ، وبدّلت أحكام الشرع الشريف عامّة ، حتّى الصلاة وهي أظهر الواجبات وأعرف الفرايض ، وجميع ما مرّ جرى على أيدي الصحابة والتابعين الذين رووا في حقّهم « خير القرون قرني ثمّ القرن الذي يليه »(٢)

وإذا كان حال القرن الأوّل والثاني بهذه المثابة فما بالك بالقرون اللاحقة والأعصار التابعة التي تتبدّل في كلّ يوم أحوالها ، وتتنزّل شئونها باعترافهم

وطبقاً للحديث سابق الذكر يمكن أن نقول :

õ خُذ جملة البلوى ودع تفصيلها õ

_________________

(١) نفسه

(٢) عمران بن حصين ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خيركم قرني ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم قال عمران : فما أدري قال النبيّ بعد قوله مرّتين أو ثالثاً ، ثمّ يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن

وفي خبر آخر : خير الناس قرني ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتهم إيمانهم ، وإيمانهم شهادتهم [ صحيح البخاري ، ٨ : ١١٣ باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، ط دار ومطابع الشعب بمصر ] ( هامش الأصل )

٣٠٣

وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدِينَ لَهُمْ بِالتَّمْكِينِ مِنْ قِتالِكُمْ

الشرح : التمهيد مأخوذ من المهاد بمعنى البساط والفراش أو من العهد بمعنى سرير الطفل ، وكلاهما عائد إلى أصل واحد ونصّ في أساس البلاغة على أنّ التمهيد معناه التوطئة وتسهيل الأمر والإصلاح ، والمراد في أمثال هذه الوقائع وتمهيد العذر من المعاني المجازيّة ، ومعناه بسطه وتهيئة قبوله

والباء في « بالتمكين » للسببيّة على الظاهر والتمكين بمعنى الإقدار ، والظاهر أنّ اشتقاق المكان منه بحسب اللفظ ، وأمّا بحسب المعنى فاشتقاقه من الكون

القتال : بمعنى القتل والذبح والحرب

والمقصود من الممهّدين هم الأوائل الذين سهّلوا السبيل ووطّئوا الاُمور ، وهيّئوا أسباب الظلم ، لأنّه لولاهم وما ارتكبوه من السلوك الوحشي الخشن مع أهل البيت لما جرأ الأواخر على ظلمهم بتلك القسوة المعهودة

وهذا أصحّ الوجوه في تفسير الفقرة المعروفة « المقتول في يوم الجمعة أو الاثنين »(١)

_________________

(١) كما في البحار ٤٤ : ١٩٩ و ٢٠١

وعن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : يوم الاثنين يوم نحس قبض الله عزّ وجلّ نبيّه ، وما اُصيب آل محمّد إلّا يوم الاثنين [ الكافي ، باب صوم عرفة وعاشوراء ؛ بحار الأنوار ٤٥ : ٩٤ ] وتأتي هذه الرواية بتفصيلها ذيل « اللهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو اُميّة »

مروج الذهب : وسُمعت في جنازته ( الإمام أبي الحسن الهاديعليه‌السلام ) سوداء وهي تقول : ماذا لقينا من يوم الاثنين [ بحار الأنوار ٥٠ : ٢٠٧ ]

ولنعم ما قيل : « ما قُتل الحسين إلّا في يوم السقيفة » فلعنة الله على من أسّس أساس الظلم والجور على أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين [ بحار الأنوار ٤٥ : ٣٣٨ ]

٣٠٤

لأنّ يوم السقيفة حدث في يوم الاثنين ، وقد أجاد الشاعر المفلّق الحاج هاشم الكعبي حيث قال :

تا الله ما سيف شمر نال منك ولا

يدا سنان وإن جلّ الذي ارتكبوا

لولا الذي أغضبوا ربّ العُلى وأبوا

نصّ الولا ولحقّ المصطفى غصبوا

أصابك النفر الماضي بما ابتدعوا

وما المسبّب لو لم ينجح السبب

ولا تزال خيول الحقد كامنة

حتّى إذا أبصروها فرصة وثبوا

فادرك الكلّ ما قد كان يطلبه

والقصد يدرك لمّا يمكن الطلب

كفُّ بها اُمّك الزهراء قد ضربوا

هي التي اُختك الحورا بها سلبوا

وإن نار وغىً صاليت جمرتها

كانت لها كفّ ذاك البغي تحتطب

وليبك يومك من يبكيك يوم غدوا

بالصنوا قوداً وبنت المصطفى ضربوا

والله ما كربلا لو لا السقيفة والإحياء

تدري(١) ولا لا النار ما الحطب

وورد في كثير من الأخبار لعن قاتلي سيّد الشهداء ومقاتليه ، ولعلّنا نشير إلى جانب منه فيما يأتي ونكتفي هنا بذكر حديث واحد ليقوم بأداء حقّ هذا العنوان ،

_________________

ولنعم ما نقله عليّ بن عيسى عن بعض الأصحاب عن القاضي أبي بكر بن أبي قريعة في ضمن أبياتٍ له :

وأريتكم أنّ الحسين

اُصيب في يوم السقيفه

ولأيّ حالٍ اُلحدت

بالليل فاطمة الشريفه

ولما حمت شيخيكم

عن وطي حجرتها المنيفه

أوّه لبنت محمّد

ماتت بغصّتها أسيفه

فوالله لا أنسى زينب بنت عليّعليهما‌السلام وهي تندب وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : وا محمّداه ! صلّى عليك مليك السماء وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا بأبي من فساط مقطّع العُرى . [ بحار الأنوار ٤٥ : ٥٩ ]

(١) جاء في الكتاب « تعلم » ولا يستقيم بها الوزن فاستبدلنا بها « تدري » لأنّي أحفظها هكذا

٣٠٥

ولئلّا تخلو هذه المقولة من هذه الأخبار من رأس

وفي تفسير الإمام الحسن العسكري :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ) (١) نزلت في اليهود ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نزلت هذه الآية في هؤلاء اليهود الذين نقضوا عهد الله وكذّبوا رسل الله وقتلوا أولياء الله : أفلا اُنبّئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الاُمّة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : قومٌ من اُمّتي ينتحلون بأنّهم أهل ملّتي ، يقتلون أفاضل ذرّيّتي وأطائب اُرومتي ، ويبدّلون شريعتي وسنّتي ، ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريّا ويحيى

ألا وإنّ الله يلعنهم كما لعنهم ، ويبعث على بقايا ذراريهم يوم القيامة هادياً مهديّاً من ولد الحسين المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه إلى نار جهنّم

ألا ولعن الله قتلة الحسين ومحبّيهم وناصريهم والساكتين عن لعنهم من غير تقيّة تسكتهم

ألا وصلّى الله على الباكين على الحسين بن عليّعليهما‌السلام رحمة وشفقة ، واللاعنين لأعدائهم والممتلئين عليهم غيظاً وحنقاً

ألا وإنّ الراضين بقتل الحسينعليه‌السلام شركاء قتله

ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم ، والمتقدّمين بهم برآء من دين الله

ألا إنّ الله ليأمر الملائكة المقرّبين أن يتلقّوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسينعليه‌السلام إلى الخزّان في الجنان فيمزجونها بماء الحيوان فيزيد في عذوبتها وطيبها ألف ضعفها ، وإنّ الملائكة ليتلقّون دموع الفرحين الضاحكين لقتل الحسينعليه‌السلام ويلقونها في ألهاوية ويمزجونها بحميمها وصديدها وغسّاقها وغسلينها فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها ، يشدّد بها على

_________________

(١) البقرة : ٨٤

٣٠٦

المنقولين إليها من أعداء آل محمّد عذابهم(١)

اللهمّ اجر دموعنا في مصاب الحسين ، ووفّقنا للعن قتلته من الأوّلين والآخرين ، اللهمّ العنهم لعناً وبيلاً ، وعذّبهم عذاباً أليماً لا تعذّب به أحداً من خلقك ، وصلّ على محمّد وآله الطاهرين من اليوم إلى يوم الدين

_________________

(١) تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام : ٣٦٧ ط اُولى ١٤٠٩ مهر ـ قم المقدّسة ( المترجم ) تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام : ١٤٨ ، بحار الأنوار ٤٤ : ٣٠٤ رقم ١٧ ( هامش الأصل )

٣٠٧

بَرِئْتُ إِلَىٰ اللهِ وَإِلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْياعِهِمْ وَأَتْباعِهِمْ وَأَوْلِيائِهِمْ(١)

برء : من باب سمع أي فارق ، والتبرّي بمعنى المفارقة ، وهذا المعنى مأخوذ من كتب الأدب من قبيل منتهى الإرب وتاج المصادر ، وترجمة القزويني على القاموس ، ولم تبيّن الكتب العربيّة حقيقة معنى البرائة ، وبرأ من مرضه أي تنق وعوفي ، وبرأ من دينه أي سقط عنه طلبه ، وكلا المعنيين مأخوذ من المعنى المتقدّم

وفي تفسير مجمع البيان ومفاتيح الغيب لابن الخطيب الرازي فسّر البرائة بانقطاع العصمة ، وهذا تفسير باللازم

وبعض المنتسبين إلى العلم فسّروا البرائة بالامتناع ، وبعد التتبّع والفحص الكامل لم نجد وجهاً لهذا التفسير

وسبب تعدّيته بـ « إلى » كان لإشرابه معنى توجّه أو تعطّف ، لأنّ المتبرّء من واحد متقرّب إلى الآخر ، إذ المتبرّء حين يدبر عنه يقبل على غيره فيثير حنقه بمحبّة غيره ورعاية قربه ، ولعلّ هذا المعنى هو الذي صحّح دخول « إلى » على هذا الطرف

والضمير في « منهم » راجع إلى جميع الطوائف المذكورة المراد من هذه الصفات أولئك الذين لهم المدخليّة التامّة في ذلك الأمر حيث استندت إليهم الأفعال ممّا جرى على الحسينعليه‌السلام بنحو من الأنحاء لينفى عنهم عنوان الأشياع والأتباع وينطبق عليهم عنوان مستقلّ آخر

تبع تباعاً وتِباعاً : اقتفى أثر فلان ، وتبع وزان فرس بمعنى تابع ، ويطلق على

_________________

(١) الصحيح من أشياعهم وأتباعهم وغفلةً من المؤلّف أو الناسخ حدث التقديم والتأخير ( هامش الأصل )

٣٠٨

المفرد والجمع مثل :( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) (١) وجمع أتباع ، وتباعة ، وإن كان يطلق على المشي الظاهر ولكنّه من جهة التوسّع في الإطلاق يتناول المعنوي أيضاً وفي هذا السياق يوجد حديث مبنى على ذوق أهل المعرفة وليس هذا المقام موضع بيانه

الشيعة : عبارة عن الأنصار والأتباع ، صرّح بذلك في المصباح وغيره ، واشتقاقه من المشايعة ومعناها المتابعة والنصرة ، وهو مأخوذ من التشييع والمشايعة بمعنى المصاحبة للتعظيم ، كما يستعمل في معنى مشايعة الموتى وتشييعهم ، وكلا الحقيقتين مأخوذ من الشيوع بمعنى الظهور لأنّ في لفظ : مشيّع ومشايع يتبادر الميّت والضيف إلى الذهن وبه يتعالى اسمه ويشيع شرفه

ومجمل القول : جمع الشيعة شيعٍ ، وجمع الشيع أشياع ، وقد ارتكب الفيروزآبادي في القاموس خطأً حين اعتبر الأشياع والشيع كلاهما جمع التشيّع ، لأنّ قياس العربيّة لا يسمع بجمع « فعله » على « أفعال » وصرّح بما قلناه الفيّومي في المصباح

الولي : مأخوذ من ولي ومعناه الحقيقي القرب ، ويستعمل في القرابة النسبيّة والقرب الروحاني وهو المحبّة ، ويستعمل أيضاً في قرب الإحاطة وهو الرئاسة

واعلم أنّ رعاية الصحّة تتمّ في أمرين :

الأمر الأوّل : التنقية وهي دفع الفضلات والأخلاط الفاسدة

والأمر الثاني : التقوية وهي حفظ البنية وبقاء المزاج الذي هو الصورة الخامسة الحاصلة من تفاعل الكيفيّات الأربع ، المتداعية بالانفكاك والانفصال

كما أنّ حصول الكمال الإنساني والترقّي النفساني في السلوك الأخلاقي بأمرين :

_________________

(١) إبراهيم : ٢١

٣٠٩

أحدهما : دفع الرذائل من قبيل الحسد واللؤم والقساوة وحبّ الجاه

وثانيهما : كسب الفضائل من جنس العفو والسماح ورقّة القلب والإعراض عن الخلق

ومثله الإيمان وهو مصحّح جميع الأعمال وميزان كلّ كمال مركّب كذلك من جزئين :

الأوّل : البرائة من أعداء الله

والثاني : محبّة الله وأوليائه

وهذا المعنى مضافاً إلى ما جاء في سرده وتوضيحه من الكتاب والسنّة فإنّه وارد في خصوص جماعة معيّنة من طريق أهل بيت النبيّ ؛ أهل العصمة والطهارة أرواحنا لهم الفداء ، وذلك معترف به ومشهود به من جميع القلوب الصافية والنفوس الزاكية

حيث ما من عاقل نبيه يستولي عليه الوهم بالقدرة على الجمع بين محبّة إنسان ومحبّة عدوّه ، كما قال الشاعر في الحكمة الشعريّة :

تحبّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني

صديقك إنّ الرأي منك لعازبُ

وللعقلاء أصحاب البصائر والقلوب الواعية تكفي هذه الآية المباركة التي يقول الحقّ تعالى فيها :( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَـٰئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) وفي هذه الآية المباركة وردت وجوه من تأكيد المنع عن موادّة أعداء الله

_________________

(١) المجادلة : ٢٢

٣١٠

وفي الحديث المنقول عن العيون بطرق عدّة أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام كتب إلى المأمون في حديث طويل : حبّ أولياء الله واجب وكذلك بغض أعداء الله والبرائة منهم ومن أئمّتهم ولعلّنا نشير في أثناء البحث إلى جانب منه في مقام آخر(١)

_________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ : ١٢٢ رقم ٣٥ ما كتبه الرضاعليه‌السلام إلى المأمون في محض الإسلام وشرايع الدين ( هامش الأصل ) وفي نسختي ص ١٢٤ ( المترجم )

٣١١

يَا أَبا عبد الله إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيامَةِ

الشرح : السلم : بمعنى المسالمة والصلح والموادعة لأنّه جاء بمعنى المسالمة والصلح كما في القاموس وغيره ، والظاهر عدم الاشتراك بل من باب استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل ، فإمّا أن يكون محمولاً على المبالغة أو بتقدير ذو ( اي ذو سلم ) كما صرّح بذلك الأُدباء ، وهذا المعنى وإن لم يكن قياسيّاً بل متوقّفاً على مقتضى الحال الخاصّة التي يعرفها الأديب بالممارسة ، كما صرّح بذلك الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري ، وإن كانت الأمثلة التي استشهد بها لا تخلو من نقاش ، ولكنّ الميزان في هذا الموضع ثابت ومحقّق

ومثله الحديث في كلمة « حرب » والأظهر في رأي هذا العبد لله أنّها المعنى المصدري نفسه

ويجب أن نقول ذلك من أجل إظهار كمال المطاوعة والتوغّل في العبوديّة والمتابعة أنّا وصلنا في هذا المقام إلى درجة أصبحنا حقيقة السلم مع من سالمكم ومصداقاً واقعيّاً للحرب لمن حاربكم

اليوم : بحسب أصل اللغة من أوّل طلوع الشمس إلى غروبها ـ كما هو المشهور بين اللغويّين ـ ويطابق اصطلاح حكماء الفرس وعلماء الهيئة والحساب أو أنّه من أوّل طلوع الفجر حتّى غروب الشمس كما صرّح بذلك ابن هشام في « شرح الكعبيّة » والظاهر أنّ المعنى الثاني لليوم هو تحديد الزمن الشرعي من اليوم وليس المعنى اللغوي ، وهذا القليل البضاعة أشار تلويحاً في « منظومة ميزان الفلك » إلى هذا المعنى :

واليوم من طلوع جرم الشمس

إلى غروبها بزعم الفُرْس

كذاك في النجوم والحساب

وذاك في السنّة والكتاب

يؤخذ من طلوع فجر صادق

إلى ذهاب حمرة المشارق

٣١٢

وتفصيل هذه الجملة أنّ غاية النهار زوال الحمرة(١) كما هو المعروف من مذهب الإماميّة ، أو غروب القرص كما هو مذهب أهل السنّة ، وقال بهذا شرذمة من علماء الشيعة نظراً إلى الأخبار المحمولة على التقيّة أو أنّهم جعلوا الأخبار في القول السابقة حاكمة على الأخبار التي قال بها الشيعة لا الأقلّيّة منهم فمالوا إليها وقالوا بها ، والإفاضة بها خارجة عن منهج هذا الشرح

وأحياناً يطلق اليوم على مطلق الزمان كما صرّح به ابن هشام في شرح الكعبيّة وحكى القول به عن سيبويه واستشهد بما أثر عن القوم من قولهم : أنا اليوم أفعل كذا ، ويريدون الوقت الحاضر ، ومن هذا القبيل قولهم : تلك أيّام الهرج ، كما قال بعض شرّاح القاموس(٢)

وأكثر اللغويّين والاُدباء نصّوا على هذا المعنى واستعماله في يوم القيامة أظهر ، لأنّه مبنى على هذا المعنى غير ملحوظٍ به طلوعاً أو غروباً ، ولابدّ من أخذهما في المعنى عند الوقوف على ظواهر العبارات

وفي الحقيقة إنّنا وإن أمكننا القول عن حقيقة اليوم بأنّه مدّة ظهور الشمس في نصف الفلك المرئي ، وأخذ الطلوع والغروب في معناه للدلالة على مصاديق أفراده في الخارج ، وبناءاً على هذا يكون يوم القيامة من مصاديق المعنى الأوّل ، والله أعلم بالصواب

القيامة : مصدر قيام ظاهراً ، يقال : قام قياماً وقيامة كما نقل بعض العلماء المتبحّرين اللغويّين ، وإن لم يذكر في كثير من الكتب

_________________

(١) يجب تحديدها بالمشرقيّة وبها يعرف دخول الليل ، أمّا الحمرة المغربيّة التي تمتدّ بعد اختطاط الظلام فلا عبرة بها ( المترجم )

(٢) قال الزبيدي : وقد يراد باليوم الوقت ، ومنه الحديث : تلك أيّام الهرج أي وقته ، ولا يختصّ بالنهار دون الليل [ تاج العروس ٩ : ١١٥ ]

٣١٣

وإطلاق يوم القيامة على يوم الحشر إمّا بسبب قيام البشريّة كافّة من مضاجعها للعرض على الله تعالى ، وإمّا بسبب قيام الخلق كافّة في ساحة العدل الربّاني جلّت عظمة الله ، كما في قوله تعالى عزّ من قائل :( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١)

وزعم بعضهم أنّ الكلمة مولّدة من السريانيّة بمعنى « قيماً » أي يوم الحشر ، وهذا غاية في البعد ، والأصحّ الأوّل

والظاهر أنّ التعبير عن يوم الجمعة بيوم القيامة نظراً لهذا المعنى ، لقيام الخطيب فيها بالخطبة أو لقيام الناس فيه كافّة بالصلوات ، أو لقيام أمر النبيّ فيه ، أو لتذكاره بأمر يوم القيامة ، والله أعلم

فائدة

في الأخبار الكثيرة المرويّة عن الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة وأمير المؤمنينعليهما‌السلام : حربك حربي وسلمك سلمي(٢) وكذلك قال لأهل العباعليهم‌السلام : « أنا سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم » أو قريباً من هذا اللفظ ، كما أوصل الترمذي في الجامع السند إلى زيد بن أرقم : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام : أنا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم(٣)

يتبيّن من هذا الحديث على اُصول أهل السنّة والجماعة كفر معاوية وأصحاب الجمل وأصحاب واقعة كربلاء جميعاً ، لأنّ من حارب رسول الله باتفاق الاُمّة ونصّ الكتاب والسنّة كافر ، فإذا كان محارب هذه الجماعة محارباً لرسول الله فهو كافر البتّة

_________________

(١) المطفّفين : ٦

(٢) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٦١ وتجد ذلك أيضاً في الأجزاء التالية ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٣٩ ـ ٤٠ ـ ٦٥ ( المترجم )

(٣) اُنظر : سنن ابن ماجة القزويني ١ : ٥٢ ( المترجم ) صحيح الترمذي ، ج ٥ باب ٦١ فضل فاطمة رقم ٣٨٧٠ ( هامش الأصل )

٣١٤

وَلَعَنَ اللهُ آلَ زِيادٍ

الشرح : يمكن أن يكون الواو في مطلع الجملة للعطف ، وتكون هذه الجملة الدعائيّة معطوفة على ما سبقها من اللعائن ، وعلى هذا الوجه تكون الجملة المتضمّنة للبرائة والاستسلام والمتابعة معترضة بين العاطف والمعطوف عليه ، والنكتة المتصوّرة في وجه إقحام هذه الجملة بينهما أنّ الزائر وهو يمارس لعن الأعداء يتذكّر أعمالهم الشنيعة وآثارهم الفظيعة ، فتقلّبهم الأيّام الخوالي فيهيج وجده الكامن وشوقه الساكن فيفقد السيطرة على نفسه وهو يستعرض جرائم القوم ومنكراتهم فيظهر البرائة منهم دونما اختيار منه ، وتدركه النفرة منهم ومن أتباعهم وأشياعهم ، من هنا يخاطب الإمام المظلوم لفرط حبّه وخلوص إرادته فيحمله ذلك على عرض مسالمته الكاملة ومتابعته الشاملة مع صفاء الباطن وخلوص النيّة بين يدي ساحة الإمام المقدّسة وسدّته الرفيعة

وينعتق من هذا الكلام الذي اندفع فجئة على لسانه مرّة اُخرى ويعدل عنه إلى الحديث الأوّل من لعن الأعداء ويعطف عليهم أولئك الذين هم أعيان الظالمين المسبّبين لهذا الخطب الفادح والرزء الجليل ، والذين لهم أثر يذكر في جريان هذه الخطوب وإعانة على حدوثها فيأخذ بلعنهم واحداً واحداً ، ويعطفهم على الأوائل لكي يشفي غيظه ويريح حنقه ويبرأ من لواعج صدره من ذكرهم بالتفصيل ، كما يمكن أن تكون الواو استئنافيّة

وعلى كلّ حال فإنّ النكتة تعود إلى ما ذكرناه تفصيلاً

وسوف نذكر معنى الآل بعد هذا الحديث إن شاء الله(١)

_________________

(١) ذيل « صلّی الله عليه وآله » ( هامش الأصل )

٣١٥

وزياد المنصوص عليه باللعن هو والد عبيد الله لعنهما الله المعروف بزياد بن أبيه وزياد بن اُمّه وزياد بن عبيد وزياد بن سميّة ، واشتهر بعد استلحق معاوية إيّاه بابن أبي سفيان ، وعبيد وسميّة كلاهما من موالي كسرىٰ فأهداهما كسرى إلى أبي الخير بن عمر الكندي أحد أقيال اليمن ، وأشار إلى ذلك أبو بكر بن دريد في مقصورته المعروفة ، فقال :

فخامرت نفس أبي الخير جوىٰ

حتّى حواه الحتف فيمن قد حوىٰ

وشرح حاله في الشروح الدريديّة وغيرها ، وفي شرح الدريديّة(١) : وكان من حديثه مسيره إلى كسرى يستجيشه على قومه فأعطاه جيشاً من الأساورة فلمّا صاروا بكاظمة ونظروا إلى وحشة بلاد العرب ، فقالوا : أين نمضي مع هذا ، فعمدوا إلى سمّ فدفعوه إلى طبّاخه ووعدوه بالإحسان إليه(٢) إن ألقى السمّ في طعام الملك ، ففعل ذلك ، فما استقرّ الطعام في جوفه حتّى اشتدّ وجعه ، فلمّا علم الأساورة ذلك دخلوا عليه فقالوا له : إنّك قد بلغت إلى هذه الحالة فاكتب لنا إلى الملك كسرى إنّك قد أذنت لنا في الرجوع ، فكتب لهم بذلك

ثمّ إنّ أبا الجبر خفّ ما به فخرج إلى الطائف البليدة التي بالقرب من مكّة وكان بها الحارث بن كلدة طبيب العرب الثقفي ، فعالجه فأبرأه فأعطاه سميّة ـ بضمّ العين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثنّاة من تحتها وفي آخره هاء ـ وعبيداً ـ بضمّ العين المهملة تصغير عبد ـ وكان كسرى قد أعطاهما أبا الجبر في جملة ما أعطاه(٣) وهذا يوافق ما نقله ابن عبد ربّه وابن خلّكان

_________________

(١) فيها : إنّه أبو الجبر ولم يذكر سميّة ولا عبيداً [ الخطيب التبريزي ، شرح مقصورة ابن دريد ، ص ٥٩ ] ( المترجم )

(٢) إلى هنا أخذناه من هامش الخطيب : ٥٩

(٣) ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ٦ : ٣٥٦

٣١٦

ويقول ابن الأثير في الكامل وابن خلدون في العبر : أنّ سميّة جارية لدهقان من أهل زنده رود ، أهداها للحارث بن كلدة لمّا عالجه ، والطريق الأوّل أتقن وأمتن

وخلاصة القول : إنّ سميّة ولدت نافعاً على فراش الحارث ولكنّه نفاه ، ثمّ ولدت أبابكرة الصحابي المعروف على فراشه ، فنفاه أيضاً ولم يعترف به ، وأعطى سميّة لعبيد ، وهؤلاء الثلاثة : زياد ونافع وأبوبكرة أولاد سميّة ومعهم شبل بن معبد الذين شهدوا على المغيرة لعنه الله بالزنا عند عمر بن الخطّاب ، وتلكّأ زياد بشهادته بتلويح من عمر ، فدرأ عن المغيرة الحدّ وأقامه على الشهود ، وهي من أشدّ المطاعن على عمر ، كما هو مذكور بالتفصيل في الأسفار الكلاميّة

وقال في العقد الفريد : كان الزانيات من النساء في الجاهليّة ينصبن على بيوتهنّ رايات ليعرفن بذلك ويقصدهنّ الشباب ، وكان بغاة النفع من الناس يرسلون جواريهم في هذا السبيل كرهاً ليجمعن لهم الحطام الفاني والعرض الزائل وينالوا بذلك الحياة الدنيا ، وقد أشار الله تعالى في محكم كتابه المجيد بقوله :( وَلَا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ
) (١) يريد في الجاهليّة( فَإِنَّ اللَّـهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) يريد في الإسلام

وفي مروج الذهب : وكانت سميّة من ذوات الرايات بالطائف تؤدّي الضريبة إلى الحارث بن كلدة وكانت تنزل بالموضع الذي نزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلّة يقال لها : حارّة البغايا .

وجاء أبو سفيان يوماً إلى أبي مريم السلولي وهو خمّار في الطائف في الجاهليّة ، فقال : أبغني بغيّاً ، فأتيته وقلت له : لم أجد إلّا جارية الحارث بن كلدة سميّة فقال : ائتني بها على ذفرها وقذرها ( يظهر من قول أبي سفيان هذا أنّه

_________________

(١) النور : ٣٣

٣١٧

وطأها قبل هذا اليوم ) ( الى أن قال ) والله لقد أخذ بدرعها وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً ، فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت : مه يا أبا سفيان ، فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها وذفر من فيها(١)

وولدت سميّة زياداً عام أوّل من الهجرة على فراش عبيد الله ، فكان يعرف بزياد بن عُبيد وابن اُمّه وابن أبيه وابن سميّة ، ولمّا بلغ أشدّه استكتبه أبو موسى الأشعري فأرسله عمر في حاجة فأحسن القيام بها فقدم على عمر وهو في المسجد ، فخطب بين يديه خطبة أعجب بها الحاضرون ، فقال عمرو بن العاص : لو كان قرشيّاً لساق العرب بعصاه ،

فقال أبو سفيان : اُقسم بالله أنّي أعرف الذي وضعه في رحم اُمّه

فقيل له : من يا تُرى ؟

فقال : أنا هو !

ولمّا استخلف أمير المؤمنين ، كان زياد معروفاً بالنزاهة ولم يظهر منه خلاف وكان إدرايّاً سياسيّاً حازماً ذا فطنة وكياسة ، من ثمّ عهد إليه أمير المؤمنين بإدارة حدود فارس(٢) ، وأراد معاوية خديعته فما تأتّىٰ ذلك له ، وكتب إليه يوماً يتهدّده ، فقال عقيب ذلك : « أتعجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إيّاي » ، وأثنى على أمير المؤمنينعليه‌السلام ثناءاً بليغاً فأرسل إليه أمير المؤمنين رسالة يحذّره من مكر معاوية ويأمره بالثبات على عهده إلى أن استشهد أمير المؤمنين وانقضت أيّامه عند ذلك فتح معاوية أحابيله عليه ، واستعان عليه بخبث فطرته

_________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٥ و ١٦ بتصرّف من المؤلّف ( المترجم ) و ٣ : ٦ ط دار الهجرة ( هامش الأصل )

(٢) لم يعهد إليه الإمام بذلك إنّما كان بفعل ابن عبّاس لأنّه والي البصرة يومئذٍ وفارس من توابعها ( المترجم )

٣١٨

ودنائة مولده وأوكل أمر جذبه نحوه إلى المغيرة بن شعبة وهو يومئذٍ رأس النفاق ومعدن النصب فانطلّت الحيلة على زياد واستلحقه معاوية وصيّره أخاه واعترف زياد حبّاً في الدنيا وميلاً إلى جاهها بخباثة مولده ورضي باُخوّة معاوية وأبوة أبي سفيان وعند ذلك أقسم أبوبكرة أن لا يكلّمه لأنّه زنىّ سميّة وقدح في نسبه(١)

ولمّا استقرّ رأيهما على ذلك أرسلت إليه جويريّة بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية ، فأتاها فأذنت له وكشفت عن شعرها بين يديه وقالت : أنت أخي ، أخبرني بذلك أبو مريم ثمّ أخرجه معاوية إلى المسجد وجمع الناس ، فقام أبو مريم السلولي ، فقال : أشهد أنّ أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمّار في الجاهليّة ، فقال : أبغني بغيّاً ، فأتيته وقلت له : لم أجد إلّا جارية الحارث بن كلدة سميّة ، فقال : إأتني بها على ذفرها(٢) وقذرها

فقال له زياد : مهلاً يا أبا مريم ، إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شائماً ، فقال أبو مريم : لو كنتم كفيتموني لكان أحبّ إليّ وإنّما شهدت بما عاينت ورأيت ، والله لقد أخذ بكُمِّ درعها وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً ، فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت : مه ، يا أبا سفيان ، فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم ، لولا استرخاء من ثديها وذفر من فيها(٣)

وفي رواية الكامل : فخرجت من عنده وإنّ اسكتيها لتقطر منيّاً(٤)

_________________

(١) كان صرم أبي بكرة له قبل هذا التاريخ أي عندما تلجلج في الشهادة وكان أحد الشهود على المغيرة فأقسم أبوبكرة لا يكلّمه مادام حيّاً ( المترجم )

(٢) الذفر : الرائحة الخبيثة

(٣) المسعودي ٣ : ١٦ ط دار الكتب العلميّة لبنان ـ ١٤١١ ( المترجم )

(٤) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٠١ ( المترجم )

٣١٩

ولولا أنّ ذلك في فضائح أعداء أهل البيت لما ذكرت هذه الجملة ، ولكنّها في فضائهم وأنا مترجمها أيضاً

ويقال : إنّ المتنبّي قال في حقّها :

أقم المسالح حول شفر سميّة

إنّ المنيّ بحلقتيها خضرم

وخلاصة الحديث : إنّ معاوية بهذه الشهادة صيّر زياداً أخاه ، وقام يونس بن عبيد فقال : يا معاوية ، قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر وقضيت أنت أنّ الولد للعاهر وأنّ الحجر للفراش مخالفة لكتاب الله تعالى وانصرافاً عن سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان(١)

والحقّ أنّ هذا العار لا يمحوه الماء وهو طعن لا تجد له جواباً بأيّ كتاب ، وكان الفضل بن روزبهان التزم بالجواب على مطاعن معاوية في ردّه على نهج الحقّ وحين يبلغ الحديث إلى هذا الحدّ يقول : لم يكن معاوية بالخليفة الشرعي فلا يلزمنا الجواب عن كلّ مطاعنه وهذه الحكاية مذكورة في جميع كتب أهل السنّة والجماعة ، ولم يردّها أحد منهم ، وذكرها الشعراء في تلك الفترة وطعنوا بها على معاوية وزياد منهم عبدالرحمن بن الحكم أخو مروان لعنه الله :

ألا أبلغ معاوية بن حربٍ

مغلغلة من الرجل اليماني(٢)

أتغضب أن يقال أبوك عفّ

وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد أنّها حملت زياداً

وصخر من سميّة غير دان

_________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٧ ( المترجم ) والكامل لابن الأثير ٣ : ٤٤٢ ط بيروت ( هامش الأصل )

(٢) كذا في مروج الذهب وفي شرح النهج والوفيات فقد ضاقت بما تأتي اليدان وهو أثبت على هذه الرواية وقيل أنّها ليزيد بن المفرغ فيصحّ ما ذكرناه في المتن ( منهرحمه‌الله )

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440