الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد13%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131249 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الجهةُ الرابعة: الروايةُ في الشَعائر الحُسينيّة

٢٢١

٢٢٢

حُكم الرواية لواقعة كربلاء، سواء في الشعر، أو النثر - الكتابة -، أو الخطابة وتصوير مسرح الأحداث التي واجهها الإمام (عليه السلام)، وعرض الخطوات التي أقدمَ عليها (عليه السلام)، وملابسات الظروف التي حفّت آنذاك به وبأصحابه، وما صدر من أعدائه من قساوة وتحدٍّ لله ولرسوله ولأهل بيته (عليهم السلام).

ما هو الميزان في بحث الرواية في واقعة عاشوراء، أو في الشعائر الحسينيّة، هل الرواية هي رواية تاريخيّة؟ أم هي رواية شرعيّة؟ وإذا كانت شرعيّة، فهل هي في باب الفروع والأحكام الفرعيّة؟ أو هي رواية في باب العقائد؟ لابدّ من معرفة كيفيّة بحث الرواية في واقعة كربلاء، والشعائر الحسينيّة بأقسامها المتنوّعة.

وحيث إنّ الرواية مادّة متكرّرة في كثير من أقسام الشعائر الحسينيّة، سواء في الشعر، أو النثر، أو الخطابة، أو مواكب العزاء وما شابه ذلك، فلا بدّ من الوقوف عندها ومعرفة ضوابطها.

وقد كثُر الكلام في ذلك، فكلٌّ يعطي ضابطة تروق له ويُفنّد غيرها، فلابدّ من البحث عن ضابطة معيّنة صحيحة.

ففي هذه الجهة الرابعة مقامان:

٢٢٣

المقامُ الأوّل: في ضابطة الرواية في الشعائر الحسينيّة.

المقامُ الثاني: كيفيّة استخلاص المفاد من الرواية في واقعة كربلاء والشعائر الحسينيّة، أي منهج الاستظهار والاستنباط والتحليل، وإنّ أداة التحليل في مفاد الروايات الواردة على أيّ نمط كانت في المقام الأوّل؟

أمّا المقام الأوّل

فالرواية لواقعة كربلاء، هل هي رواية تاريخيّة، أم قصصيّة، أم رواية في باب الفروع، أم هي رواية في باب العقائد؟

نرى بعض من الباحثين والمحقّقين يتشدّد في قصّ الرواية عن واقعة كربلاء والبحث عنها، مثلما يتشدّد في الرواية التي يعتمد عليها في استنباط الحكم الفقهي، فلذا يتعامل مع رواية الواقعة بدقّة علميّة بالغة، ويؤكّد على ضرورة أن تكون الرواية مُسندة وصحيحة، وإنّها لابدّ أن تكون من كتاب معتبر، وغير ذلك من الضوابط والشروط.

وبعض آخر يتشدّد أكثر من ذلك، حيث إنّ واقعة كربلاء بتفاصيلها وجزئيّاتها والعِبر التي فيها هي قضايا عقائديّة، فينبغي - في رأيه - التشدّد أكثر، وسبر الرواية فيها بدرجة أشد.

وربّما ترى البعض يمارس الرواية القصصيّة في هذا المجال.

وقد يكون سرد الواقعة يأخذ طابع الرواية القصصيّة، كما يصدر هذا النوع غالباً من القائمين على إحياء الشعائر مباشرة، هناك مَن يعرضها على غرار الرواية التاريخيّة المطلقة.

٢٢٤

وكما أنّ عدم الإسهام في الشعائر الحسينيّة جنبة سلبيّة، فإنّ عدم التقيّد في الشعائر الحسينيّة بالمصادر والمراجع لا يقلّ سلبيّة عن عدم المساهمة، فعدم التقيّد في كيفيّة النقل في الرواية لتطبيق مضمونها في الصور المختلفة بالاستعانة بالرواية في واقعة كربلاء، وعدم التقيّد بما هو منضبط وصادق وصحيح وله مدرك ودليل، فيه من الضرر للشعائر الحسينيّة ممّا قد يكون بنسبة الضرر ممّن يتهجّم على الشعائر الحسينيّة ولا يساهم فيها، مثل هذا الناقل غير المتقيّد لن يؤثّر عمله إلاّ تأثيراً مضادّاً، ولن يكون دوره في السلبيّة أقل من المُعارض للشعائر أو غير المساهم فيها.

والسرّ في ذلك: أنّ الشعائر الدينيّة المرتبطة بواقعة كربلاء؛ إنّما تمثّل شعيرة عامّة في الدين وليس شعيرة خاصّة، وإنّ من أهمّ وجوه نهضته (عليه السلام) هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما ذكرنا سابقاً - وقلنا: إنّ المعروف يشمل التوحيد وأصول الدين وفروعه؛ لأنّ كلّ ذلك معروف يجب الأمر به.

وذكرنا أنّ المنكر يشمل الشرك والكفر إلى آخر المنكرات الفرعيّة في باب السياسة والاقتصاد - الظلم المالي والقضائي -؛ لأنّ كلّ ذلك من المنكر.

فإذا كان باب الشعائر الحسينيّة وعنوان نهضته (عليه السلام) قد صرّح بها في قوله (عليه السلام):(إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) (١) ، وإحياء هذه الفريضة العظيمة هو المحافظة على الدين، كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(حُسين منّي وأنا من حسين) (٢) فلذلك يقال:

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٣٢٩ / ح ٢.

(٢) المعجم الكبير (الطبراني): ٣: ٣٣؛ الإرشاد (الشيخ المفيد) ٢: ١٢٧؛ موارد الظمآن

٢٢٥

(الإسلام محمّديّ الوجود، حسينيّ البقاء) وبدون الشعائر تنهدم الفرائض ويضمحلّ الدين وينحسر الهدى، وبها تقوى أركان الشريعة، من التوحيد - الذي هو أوّل فريضة - إلى آخر الفرائض التي لا يمكن أن تُقام بدون تلك الشعائر.

إذاً، نفس الشعائر الحسينيّة فريضة مقدّسة ومهمّة عظيمة، وعَظمتها مترشّحة من عَظمة الدين وعظمة الولاية، وكما ذكرنا فإنّ الشعائر الحسينيّة في تحليلها الماهوي هي علامة ورمز للإمامة ولمسيرة الإمامة الإلهيّة، تمييزاً لها عن الخلافة البشريّة المنحرفة، فلا يمكن التفريط والتهاون بالشعائر الحسينيّة، بل لابدّ من التحفّظ والاهتمام والإقامة؛ لأنّ المفروض أنّ واقعة كربلاء ونهضة الحسين (عليه السلام) وفعل المعصوم - سيّما أنّ الأئمّة قد أبرزوا ذلك في الحسين (عليه السلام) باعتباره قدوة الأحرار وسيّد الأُباة - هي شعار ومنار لمعانٍ سامية وأهداف خالدة، وهي شعار الصدق، وشعار الحقيقة، وشعار الإباء والهُدى.

مبالغةُ الجهد علميّاً وعمليّاً

لابدّ - إذاً - للمُشارك والمساهم في الشعائر الحسينيّة من المبالغة في بذل الجهد العلمي والعملي؛ لأنّ وفرة الجهود العلميّة تحول دون الاندراس الوثائقي لهذه الحقيقة الدينيّة التاريخيّة العظمى، لا سيّما مع تطاول القرون والعصور.

____________________

(الهيثمي): ٥٥٤؛ تاريخ مدينة دمشق ١٤: ١٤٩؛ تهذيب الكمال (المزي) ٦: ٤٠٢؛ تهذيب التهذيب (ابن حجر) ٢: ٢٩٩؛ البداية والنهاية (ابن كثير) ٨: ٢٢٤؛ ينابيع المودّة (القندوزي) ٢: ٣٨.

٢٢٦

لابدّ إذاً من المواظبة على حفظ الموازين الشرعيّة والتوصيات العامّة فيها، ومنها: حفظ الأخلاق والآداب والالتزام الديني، لاجتناب ضياع وخسران الأهداف التي جعلت الشعائر من أجلها.

ولنتعرّض إلى ضوابط هذه الاتجاهات في الرواية، ما هي ضابطة الرواية التاريخيّة؟ والقصصيّة؟ والتي هي في باب الفروع؟ أو في باب العقائد؟

الرواية التاريخيّة

ضابطتها: أن تكون مذكورة في مصدر تاريخي يُعتمد عليه بين فئة معيّنة أو فئات معيّنة، بحيث لم يظهر من صاحبه تدليس أو إخفاء أو تغيير للحقائق، وقد أصبح كتابه متداولاً مُعتمداً عليه في الرواية التاريخيّة، المقصود أن يكون مصدراً من المصادر في البحث التاريخي.

والكتب التاريخيّة الغالب فيها عدم ذِكر السند أصلاً، وفي علم التاريخ والرواية التاريخيّة كلّما كان المصدر أقدم كان أثبت وأقوى، لا بمعنى أنّ الكتاب التاريخي الذي كُتب في القرن التاسع لا يُعتمد عليه، أو ما كُتب في القرن الثالث عشر لا يُعتمد.

بل يبقى مصدراً تاريخيّاً، غاية الأمر، أنّ المصادر التاريخيّة كلّما كانت أقدم كانت أثبت، والضابطة في علم التاريخ وفي البحث التاريخي هي: أنّ المؤرِّخ أو الباحث التاريخي لا يعتمد على نقل تاريخي كشيءٍ مُسلّم، ولا يُفنِّده لعدم ذِكر سنده، وغالباً يكون ذِكر السند في كتب السيَر، مثل: سيرة ابن إسحاق وغيرها.

غاية الأمر أنّ الضابطة عند التاريخي، أنّه حينما يريد أن يرسم في مقام

٢٢٧

الكشف والتنقيب عن واقعة تاريخيّة، يحاول أن يُحصّل ما يرسم هذه الواقعة بكلّ أطرافها وزواياها وأبعادها بتوسّط الفحص المتاخم للاطمئنان والوثوق، ومن ثُمّ يستفيد من لفتات ونقولات تاريخيّة مختلفة تُعتبر بمثابة القرائن، ولها أساليب وفنون عديدة في علم التاريخ، مثل: كيفيّة تحصيل القرائن، ومطابقة الأحداث بعضها مع البعض الآخر، وملاحظة التواريخ، والوفيات، وأدلّة الوقائع الهامّة، والطبقات.

حتّى أنّ علم الرجال يُعدّ شعبة من شعب علم التاريخ، أو قل: إنّ علم التاريخ يساهم مساهمة كبيرة جدّاً في علم الرجال، ولذلك فهناك مشابهة قريبة الصلة بين علم التاريخ وعلم الرجال.

إذاً، الباحث التاريخي دأبهُ هو تصيّد واقتناص الروايات والقرائن والقصاصات واللقطات المختلفة، حتّى يُرتّب ويشكّل ويرسم الصورة الخاصّة للواقعة التاريخيّة، فإذا كان في رواية الشعائر الحسينيّة من حيثيّة البحث والرواية التاريخيّة، فمن الخطأ أن يفنِّد السامع الرواية التاريخيّة ويواجهها بالإنكار بذريعة عدم وجود مستند لتلك الرواية؛ لأنّ الرواية التاريخيّة لا يُقتصر فيها على المسانيد، بل المفروض فيها المصدر المعتمَد المتقادم عهداً.

وكذلك الأمر في الاعتراض على المصدر بأنّه متأخّر زماناً، إذ الرواية التاريخيّة لا تُردّ إذا كان المصدر متأخّراً، غاية الأمر أنّ المصدر المتأخّر بنفسه لا يُعتمد عليه منفرداً بنفسه، بل يكون كقرينة محتملة لابدّ أن تنضمّ إليها قرائن أخرى، فكون هذا الكتاب أو المقتل متأخّراً - في القرن العاشر مثلاً - لا يكون سبباً لطرحه، وإن كان موجباً لضعف الدرجة الاحتماليّة للاعتبار، المهمّ أنّه ناقلٌ

٢٢٨

للكتاب أو للرواية التاريخيّة، وإن لم يُكتب فيه السند، وباب الرواية التاريخيّة لا يُطلب فيها ما يُطلب في باب الأحكام الفرعيّة.

وفي هذا بحث مبسوط، لكنّنا نذكره بشكل مختصر فقط.

فضابطة الرواية التاريخيّة أنّها تعتمد على الكتب التاريخيّة المتداولة ولو كانت متأخّرة.

غايةُ الأمر أنّ الكتب المتقدّمة أكثر اعتماداً، وإنّ الباحث التاريخي يستنفذ جهده ووُسعه في تحصيل القُصاصات والقرائن والشواهد إلى أن ترتسم له حقيقة الحال، بحيث يوقِفك - أيّها القارئ - من مجموع تلك القرائن والشواهد على الصورة الحقيقيّة لهذه الواقعة التاريخيّة.

وهذا المنهج - وهو منهج تحصيل الاطمئنان - هو المتّبع في العديد من العلوم، مثل: علم الرجال؛ فإنّ عُمدة مسلك علماء الرجال في المفردات الرجاليّة(١) في التوثيق والتضعيف، هو: أن يقفوا على حقيقة المفردة بغضّ النظر عن أقوال التوثيق وأقوال التضعيف، وبغضّ النظر عمّا قيل فيها من جُرح وتعديل؛ وإنّما يُعتدّ بالجرح والتعديل كقرائن لا كمصادر منحصرة، وبالدرجة التي يحصل عندها الاطمئنان.

وهناك عدّة مناهج رجاليّة في هذا الباب، عُمدتها منهج التحليل والجمع لأكبر عدد من الشواهد والدلالات لتحصيل الاطمئنان برؤية معيّنة، وهذا هو نفس المنهج التاريخي، وهو أن يصل الباحث إلى واقع حقيقة المفردة ودرجتها العلميّة ودرجتها الاجتماعيّة، ويعرف متى استقامت، ومتى انحرفت، وأيّ درجة من الانحراف فيها؟ إلى أن يصل إلى واقع الحال، وهذا من دأب ومنحى المنهج التاريخي.

____________________

(١) هم رواة سلسلة أسناد الأحاديث، فكلّ راوٍ يُطلق عليه مفردة رجاليّة، أو عنوان رجالي.

٢٢٩

ضابطةُ الرواية القصصيّة

وقد تسمّى بالرواية التمثيليّة أو الرواية التخييليّة.

هذه الرواية القصصيّة هي - على عكس الرواية التاريخيّة - ليست في مقام الإخبار بالجملة، أو قُل ليست في مقام الإخبار للمدلول المطابقي، لكنّها في مقام الإخبار للمدلول الالتزامي، نظير باب الكناية والتعريض، بل هي متقوِّمة بحيثيّة عدم الإخبار؛ وإنّما تقتصر على إنشاء تخيّل وتصوّر لمعانٍ تخيّليّة، ولها أقسام وفنون متعدّدة مذكورة في الأدب القصصي، وهو مختصّ بالعلوم الأدبيّة، أو بعلوم الفنون التشكيليّة.

وهذه الرواية موجودة حتّى في علوم الحوزة الدينيّة، مثل: علم البلاغة الذي يشمل البيان والمعاني والبديع.

مثلاً ترى القصّة التي كتبها القَصَصي لا وجود لها بتاتاً، وإنّه ليس بصدد تأليف هذه القصّة في مقام الإخبار، بل الهدف المرجوّ من كتابة هذه القصّة لأجل التوصّل إلى معنى آخر، مثلاً من خلال القصّة يحاول بيان معنى العدالة، أو يسعى لتوضيح معنى سوء الخلق، أو بذاءة الفاحشة، أو لذّة الروحانيّات والعبادات والأُنس بها، وهلمّ جرّاً.

فهناك فارق بين الرواية التاريخيّة والرواية القصَصيّة، المنوال القصصي والحبكة القصَصيّة الغرض منه الحكاية عن معنى آخر، وذلك المعنى الآخر هو المعنى الالتزامي، فإن كان المعنى صادقاً يقال بأنّ هذا الراوي القصصي صادق، وإن كان ذاك المعنى كاذباً أو قبيحاً، يقال إنّ هذا الرواي القصصي مُدلّس أو

٢٣٠

متحلّل أو منحرف وليس له هدف تربوي نبيل، وإنّ إخباره كاذب، إذ من المسلّم قُبح الخيانة (مثلاً)، فحينئذٍ إذا أردنا معرفة هدف الراوي القصصي في قصّته، وإنّ روايته القصصيّة كاذبة أو صادقة، وما هو موطن الموافقة وعدم الموافقة للواقع؛ فإنّ موطن المطابقة - أي اللازم مطابقته للواقع والحقيقة - هو المعنى الالتزامي للمغزى، وموطن اللامطابقة - أي غير اللازم مطابقته - هو نفس المدلول المطابقي للرواية القصصيّة، كما هو الحال في الكناية مثل: (زيد كثير الرماد).

هذه الرواية القصصيّة - بعد العلم بضابطتها - تقع على أقسام:

١ - تارةً نفس الأشخاص الذين تُذكر حولهم الرواية القصصيّة هم أشخاص موهومون، وبعبارةٍ أخرى: أنّ كلّ الرواية القصصيّة هي خياليّة، ولكنّ معناها ومغزاها حقيقي، وقد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً.

٢ - وقسمٌ آخر: الأشخاص فيه حقيقيّون، لكنّ النسبة في الروايات القصصيّة ليست نسبة حقيقيّة، بل نسبة قصصيّة، من أمثلة ذلك: شِعرُ دعبل الخزاعي في قصيدته المشهورة:

أفاطم لو خِلت الحسين مُجدّلاً = وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُرات(١)

فهو لم يحضر ولم يشهد الواقعة، لكنّه يرسم رَسماً تصويريّاً، فالزهراء (عليها السلام) ليست شخصاً تخيّلياً؛ وإنّما هي حقيقة، والحسين (عليه السلام) أيضاً طرَف في هذه الصورة، لكنّ هذا التجسيم والتمثيل شِعريّ وإن كان قَصصيّاً - ليس بالتاريخ - فإنّه يريد أن يُبيّن بواسطته معنىً معيّناً، وهو: عُظم الفاجعة، وشدّة المصيبة، وفداحة المصاب.

____________________

(١) تقرأها كاملة في بحار الأنوار ٤٩: ٢٤٧.

٢٣١

فالرواية القصصيّة تارةً يكون المحمول فقط فيها قصصيّاً فرضيّاً في القضيّة، وتارةً يكون كِلا الموضوع والمحمول معاً قَصصيّاً تخيّليّاً.

ولا حظر ولا منعَ من كون الرواية القصصيّة تضمّ طرفاً حقيقيّاً وطرفاً تخيّليّاً، ولا يستلزم ذلك الكذب والتدليس، ولا ضرورة ولا لزوم أن تكون كلّ رواية قصَصيّة مجموعها حقيقي.

هذا الخلط قد وقعَ عند البعض، وهذا هو معنى لسان الحال الذي يُعبّر عنه الخطباء والشعراء، والذي له طرف حقيقي وطرف قصصي، والطرف القصصي ليس بخرافة، وأمّا الذي يُسمّي ذلك خرافة فهو لا يفهم معنى الرواية القصصيّة.

ولا يتعاطى أهل الفن الرواية القصصيّة - في الأصل - للإخبار عن الواقع بنفس المدلول المطابقي؛ وإنّما لأجل الإخبار عن الواقع بالمدلول الالتزامي.

فالقول المزبور يدلّ على عدم فهم معنى الرواية القصصيّة، نعم، يجب على الراوي في الرواية القصَصيّة أن ينصب قرينة، ليس قرينة بلسان الحال، بل قرينة واضحة، مثل: بيت الشِعر الذي ذكرناه قبل قليل لدعبل الخزاعي (أفاطم لو)، فكلمة (لو) هي القرينة على أنّه ليس إخباراً عن الواقع بنفس المدلول المطابقي.

كذلك الفيلم، كون اسمه (فيلم) يعني رواية قصصيّة، والمسرحيّة أيضاً كذلك، إذاً لابدّ أن ينصب الراوي القصصي قرينة معيّنة كي يميّزها عن الرواية الخبريّة البَحتة.

فقد يرسم الكاتب، أو الخطيب، أو الشاعر، أو الرادود، أو الراثي صورة قصَصيّة مُفجعة جدّاً عن واقعة كربلاء دون أن يكون في مقام الإخبار، ويُبيّن أنّها ليست

٢٣٢

في مقام الإخبار بقرينة معيّنة، إمّا لفظيّة أو حاليّة، كي يصوِّر شدّة المصاب أو شدّة الخَطب الذي مرّ على سيّد الشهداء (عليه السلام)، أو قوّة الإباء عنده (عليه السلام)، أو تصلّبه (عليه السلام) في ذات الله.

والعَجب، أنّ البعض ممّن كتبَ في المقاتل، أو في الكتب التاريخيّة يُفنّد تفنيداً شديداً هذا الباب، مع العلم بأنّ هذا الباب لا يمكن إغلاقه وإلغاؤه عن مسرح الشعائر، ولا حتّى عن الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة اليوميّة، ففي الحضارات المختلفة للبشر هناك كثير من المعاني يمكن أن تصل إلى المجتمع ويُربّى عليها بتوسط دوالّ وعلامات أخرى؛ لأنّ المفروض أنّ المدلول الالتزامي القصَصي أو المغزى هو معنى حقيقي صادق.

فالكلام في الجهة الرابعة من الشعائر الحسينيّة في خصوص الرواية وأقسامها: التاريخيّة، والقصصيّة، والشرعيّة، الفرعيّة، والعقائديّة في واقعة عاشوراء.

ومرّ بنا خصائص قانون الرواية التاريخيّة، وكذلك قانون الرواية القصَصيّة.

الروايةُ الشرعيّة

أمّا الرواية الشرعية - أي التي يُعتمد عليها في استنباط الأحكام الفرعيّة - فضابطتها هي:

تحرّي الكتب المعتمدة بين الطائفة، والبعيدة عن شبهة الدسّ والتدليس، وبحمد الله فإنّ كُتب الطائفة مسطورة ومنتشرة ومعروفة، وهي على درجات في شدّة الاعتبار وتوسّط الاعتبار.

٢٣٣

ثُمّ لابدّ أن تَعتمد هذه الرواية الشرعيّة نفس الموازين المأخوذة والمُتّبعة في الفروع، فتجري عليها موازين الاعتبار والحجّيّة للرواية، فإمّا أن تكون صحيحة، أو موثّقة، أو حَسنة(١) .

على كلّ حال فمناط حجّيّة الخبر في الفروع مختلفة حسب الأقوال، وأمّا الخبر الضعيف إذا استُخرج من كتابٍ معتبر فلا يُهمل ولا يُطرح جانباً، بل على الأقلّ يُتّخذ كقرينة تعضد بقيّة الروايات، أو يُشكّل رقماً إضافيّاً لتحقّق التواتر، حيث إنّ الخبر المتواتر يَعتمد على قاعدة رياضيّة برهانيّة في تولّد القَطع، وهو تصاعد الاحتمالات نفياً أو إيجاباً إلى أن نصل إلى درجة القطع، فقد يُعتبر هذا الخبر مادّة للتواتر أو مادّة للاستفاضة، أو مادّة لاعتبار وثوق الخبر، فلا يمكن طرح الخبر الضعيف من رأس، وهذا مُحرّر أيضاً في علم الدراية.

عدمُ جواز ردّ الخبر الضعيف

وللخبر الضعيف أحكام تختلف عن أحكام الخبر المعتبر، لا أنّه ليس له أيّ حكم أبداً، وأحد أحكام الخبر الضعيف حرمة ردّه ما لم يَذدك عنه دليل قطعي لدلالة قطعيّة قرآنيّة، أو سُنّة قطعيّة، يعني إذا لم يتعارض مع الدلالة القطعيّة للكتاب والسُنّة، وحرمة ردّ الخبر الضعيف قاعدة مُسلّمة عند الأصوليّين والإخباريين، وحرمة الردّ غير حجّيّة الخبر.

____________________

(١) مشهور الفقهاء على أنّ الرواية الحسنة يُعتدّ بها، وإن كانت في درجة الاعتبار عندهم دون الخبر الموثّق، أو الخبر الصحيح، والخبر الحَسن عند مشهور الفقهاء يُعتمد عليه عند عدم تعارضه بما هو أقوى منه.

٢٣٤

الكثيرُ يختلط عليه الأمر بين حجّيّة الخبر وحرمة الردّ، حرمة الردّ تتناول حتى الخبر الضعيف، وقد عقدَ صاحب الوسائل في أبواب كيفيّة القضاء، أو كيفيّة حكم القاضي باباً يذكر فيه تلك الروايات الدالّة على هذه القاعدة المسلَّمة.

والخبر الضعيف - في علم الدراية والحديث - يختلف عن الخبر الموضوع والمدسوس والمجعول، وتلك الأخبار تشمل الخبر الذي عُلم وَضعه يسمّى ذلك الخبر مدسوساً أو مجعولاً أو موضوعاً، أمّا الذي لم تتوفّر فيه شرائط الحجّيّة، فلا يقال إنّه مدسوس أو موضوع، لا سيّما بعد عمليّة الغَربلة والتنقية والتنقيح التي قامت بها طبقات عديدة من محدّثي الشيعة ورواتهم.

فالخبر الضعيف له أحكام إلزاميّة، وقد وردَ بيان لهذه القاعدة في بعض الروايات بألسِنة مختلفة، منها: أنّ ردّ الخبر بمنزلة الردّ على الله سبحانه من فوق عرشه، أو بعبارة:(رُدّوه إلينا) وغيرها(١) .

وهناك نكتة لها علاقة ببحث الرواية وهي: أنّ الواقعة - واقعة كربلاء، واقعة عاشوراء - قد أحتفّ بها قبل وبعد وقوعها حوادث ومواقف ذات أهميّة بالغة، تظافرت الدواعي والجهود لرصدها ونقلها، مضافاً إلى التقدير الإلهي لبقاء ذكرها وخلود سيرتها إلى يوم القيامة، والسرّ في ذلك: هو أهميّتها في مسار الدين ومسار المسلمين، ولذلك تضافرت الدواعي والجهود لنقلها، حتّى أنّه قد ذَكر غير واحد من العامّة - فضلاً عن الخاصّة - أنّه لم تُرصد واقعة تاريخيّة من حيث التفاصيل

____________________

(١) الكافي ٢: ٢٢٢، حيث وردَ في هذا الحديث(... ولا تبثّوا سرّنا ولا تُذيعوا أمرنا، وإذا جاءكم عنّا حديث فوجَدتم عليه شاهداً أو شاهدَين من كتاب الله فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده، ثُمّ ردّوه إلينا حتّى يستبينَ لكم) .

٢٣٥

والأحداث والجهات الأخرى كما رُصدت واقعة كربلاء.

فمع وجود هذه المادّة الوفيرة والكثيرة، لا ينبغي لأحد أن يترك الضبط، غاية الأمر لابدّ من اتّباع الموازين كما سيتبيّن.

مثلاً عقدَ ابن عساكر في تاريخ دمشق باباً خاصّاً في تاريخ الحسين (عليه السلام)، وما جرى عليه من أحداث حتّى شهادته (عليه السلام)، ونَقل بطرق عديدة، وهو حافظ من الحفّاظ الكبار عند العامّة، وذكرَ من مصادر عديدة أنّ السماء بكت دماً، وإنّه ما قُلب حجر يوم عاشوراء بعد مصرع سيّد الشهداء (عليه السلام) إلاّ وكان خلفه دم عبيط، وكذلك الأمر في أرض الشامات وما حولها.

ويذكر ابن عساكر حوادث أخرى في تاريخه، وذكرها غيره أيضاً، ومنهم: الخطيب البغدادي في تاريخه، ومن كُتب العامّة التي تناولت واقعة الطف: مقتل الخوارزمي، وتاريخ الطبري، والكامل لابن الأثير وغيرها من مصادر العامّة.

وقد نُقلت واقعة الطف في كثير من مصادر الشيعة، مثلاً: كتاب أمالي الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه) فيه عدّة مجالس، إذا جُمعت تكون مقتل خاص، ويذكرها بأسانيد له تصل إلى المعصومين (عليهم السلام).

هذا بالنسبة لضابطة الرواية في باب الفروع.

الروايةُ في باب العقائد

أمّا الرواية في باب العقائد، فالذي عليه مشهور متكلّمي الشيعة، أنّ العقائد لا تثبت إلاّ بالخبر القطعي، ولا تثبت بالخبر الظنّي.

أمّا مشهور المُحدّثين، فقد ذهبوا إلى أنّ العقائد يمكن أن تثبت حتّى بالخبر

٢٣٦

الظنّي المعتدّ به، وأمّا بقيّة فقهاء الشيعة فبعضهم التزمَ بأنّ العقائد لا تثبت إلاّ بالخبر القطعي، وذهب بعضهم إلى التفصيل، فالمعارف الأساسيّة لابدّ من الدليل القطعي في مقام إثباتها، أمّا المعارف غير الأساسيّة وتفاصيل وفروع المعارف، مثل: كيفيّة نشأة البرزخ، وكيفيّة نشأة القيامة وتفاصيلها التي لا يصل إليها العقل، ونشأة الجنّة وتفاصيلها فيمكن إثباتها بالأخبار الظنّيّة.

وقد ذكرَ هذه الأقوال الشيخ الأنصاري في بحث الانسداد، وذهبَ إلى التفصيل: الشيخ الطوسي، والمحقّق الطوسي (الخواجة نصير الدين الطوسي)، والمقدّس الأردبيلي، والميرزا القمّي (صاحب القوانين)، والشيخ البهائي، والعلاّمة المجلسي، والتزموا بإمكان ثبوت تفاصيل المعارف والعقائد بالأخبار الظنّية اعتماداً على الدليل المعتبر الظنّي.

ومن المتأخّرين في عصرنا ممّن اختار هذا القول: السيّد الخوئي (قدِّس سرّه) في كتاب مصباح الأصول، ضمن بحث (حجيّة الظن في الأصول الاعتقاديّة)(١) ، وأستاذه المرحوم المحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدِّس سرّه) في شرحه على الكفاية في باب الانسداد، حيث قرّر إمكان الاعتماد على الدليل الظنّي المعتبر في تفاصيل العقائد.

وقد يظهر من آثار وتقريرات المرحوم أقا ضياء العراقي الميل إلى ذلك.

فإذا تشكّل من الخبر الواحد درجة من الاطمئنان أو التواتر أو الاستفاضة، فيمكن إثبات العقائد به.

وإن لم يتشكّل منه التواتر أو الاستفاضة، فإن كان الخبر الواحد معتبراً، فهناك ثلّة من علماء الإماميّة قديماً وحديثاً ذهبوا إلى إمكان إثبات فروع

____________________

(١) راجع مصباح الأصول ٢: ٢٣٨.

٢٣٧

وتفاصيل العقائد بالخبر الظنّي المعتبر، وإلاّ فيمكن جعله قرينة إضافيّة يضمّ إلى قرائن أخرى؛ ليقوى احتمال ثبوت المؤدّى وذلك حسب نظريّة تراكم الاحتمالات.

من باب النموذج في أصول الكافي، رواية معتبرة السند في فضيلة ليلة القدر، عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:(لقد خلقَ الله جلّ ذكرهُ ليلة القدر، أوّل ما خلقَ الدنيا ولقد خلقَ فيها أوّل نبي يكون، وأوّل وصي يكون، ولقد قضى أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأمور إلى مثلها من السنة المُقبلة، مَن جحدَ ذلك فقدّ ردّ على الله عزّ وجل علمهُ..) (١)، فهذه الرواية تدلّ على لزوم الأخذ بالخبر المعتبر في تفاصيل العقائد، نظير العديد من الروايات في هذا المجال.

كان هذا كلّه في مقام الرواية، أي: الرواية في الواقعة العاشوريّة، الرواية في الشعائر الحسينيّة، وقبل أن نتعرّض إلى المقام الثاني، وهو مقام تمحيص مفاد الرواية في الشعائر الحسينيّة، نستخلص نقطة للمقام الأوّل(٢) ، وهي: أنّ الرواية التاريخيّة - في الضابطة التي ذكرناها - هل لها موطن قَدم في الروايات المنقولة عن كربلاء وعن نهضة كربلاء؟ وما حال الرواية فيها، هل هي الرواية القصصيّة؟ أم الرواية في الفروع؟ أم الرواية العقائديّة؟ أم الرواية التاريخيّة؟

قال بعض: لمّا كانت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) هي نهضة معصوم وفعل معصوم، فمن ثَمّ يجب أن تخضع الرواية التي ينقلها الخطيب أو الشاعر أو الراثي

____________________

(١) أصول الكافي، كتاب الحجّة: باب ٤١ - ٣٠٨.

(٢) راجع المقام الأول ص: ٢٢٠ من هذا الكتاب.

٢٣٨

إلى موازين الرواية في الفروع، وإلاّ كانت تقوّلاً على المعصوم (عليه السلام)، وأن يُنسب للمعصوم ما لا نملك دليلاً على نسبته إليه، ولكنّ هذه الدعوى بإطلاقها غير صحيحة، فنحن نُسلّم أنّ نهضة الحسين (عليه السلام) فعل المعصوم، إلاّ أنّ تاريخ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتاريخ بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً يخضع للضوابط التاريخيّة.

والهدف من الرواية المنقولة هو: نقل مسرح الأحداث وتفاصيلها التي لا تتّصل بالمواقف الرئيسيّة المتعلّقة بالحكم الشرعي أو العقائدي، أو من جهة أخذ العبرة، كما في باب الآداب الشرعيّة أو العامّة، أو أخذ العبرة في باب الحكمة، أي أنّنا لا نتوقّع من هذه الرواية التاريخيّة أن تُثبّت فرعاً من الفروع أو حكماً من الأحكام - فرعيّاً أو عقائديّاً -؛ وإنّما الهدف لمّا كان حكمه ثابتاً ومقرّراً أن نأخذ العبرة في كيفيّة تطبيقه، ونأخذ العبرة في كيفيّة لزوم التقوى مثلاً، ونأخذ العبرة في ما شابه ذلك من السير والسلوك الأخلاقي، فإذاً هذه هي ضابطة المادّة التاريخيّة والبحث التاريخي، وهو أن لا تُثبّت حكماً فرعيّاً أو عقائديّاً؛ وإنّما الغاية هو أخذ العبرة والموعظة لمَا هو مقرّر وثابت.

وبذلك تثبت ضابطة البحث التاريخي، وهذا هو مجال الرواية التاريخيّة في الواقعة الحسينيّة، وفي نهضة الحسين (عليه السلام وفي عاشوراء - سواء في الرواية، أو في الكتابة، أو الخطابة، أو الشِعر، أو غير ذلك - لا سيّما إذا كان هذا الأمر التاريخي واصلاً على نحو الاستفاضة، بنفس الضوابط التاريخيّة التي مرّ ذكرها.

إذاً، ليس كلّ ما يُسرد رواية في باب أقسام الشعائر الحسينيّة - من الخطابة، والشعر، والنثر، والكتابة - له حيثيّة أحكام فرعيّة أو عقائديّة، بل شطر منه من باب الرواية التاريخيّة والمواعظ والعِبر، وما يقوم به الواعظ أو المرشد لبيان سيرة

٢٣٩

الأئمّة (عليهم السلام)، وآدابهم ومظلوميّتهم ليس في مقام تثبيت حكم شرعي ولا حكم عقائدي؛ وإنّما في مقام تربية السامع ووعظه وإرشاده، فحينئذٍ في مقام المواعظ والنصائح التي تقع في مضانّها لا يُطالب الناقل بالسند المعتبر، ولا يجري توخّي ميزان الرواية في باب الاستنباط والحكم الشرعي، بل ينبغي أن تجري ضابطة النقل التاريخي؛ لأنّ الناقل في مقام العِبرة والموعظة وبيان الحكمة، أو في مقام الإخبار عن مجمل وتفاصيل الحدَث لا مجرياته الأصليّة.

إذاً، مسرح ومجال الرواية التاريخيّة في واقعة عاشوراء ونهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، هو هذا الجانب، أي جانب العبرة والموعظة والنصيحة والإرشاد والسرد لتفاصيل الحدَث.

وقد ذكرَ أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة - في خطبة غرّاء في قواعد علم التاريخ - هذا المضمون في قوله:(إنّي وإن لم أكن عمّرتُ عُمر مَن كان قبلي، فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكّرتُ في أخبارهم، وسرتُ في آثارهم، حتّى عدتُ كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرتُ مع أوّلهم إلى آخرهم) (١) .

والعِبر والموعظة والمعرفة التفصيليّة لجزئيّات الأحداث، مطلب يغاير باب الاستنباط وتحرير الأحكام الشرعيّة، وهذه هي ضابطة الرواية التاريخيّة في الشعائر الحسينيّة.

أمّا الرواية القصَصيّة - التي ذَكرنا أنّ الخطباء والشعراء والرواديد يتعرّضون لها، أو ما يسمّى بالتمثيل (الشبيه)(٢) وغيره، حيث يؤتى بما يعبّر عنه بـ(لسان

____________________

(١) نهج البلاغة، طبعة محمّد عبدة ٣: ٤٠.

(٢) المسرحيّات الشعبيّة لأحداث الواقعة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه»(١) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول : فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع ، إنسانا شجاعا شهما هادفا ، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

٣ ـ الدلائل العقليّة على المعاد :

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد ، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص ، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضا على هذه المسألة ، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر :

أ ـ برهان الحكمة :

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر ، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما ، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون ، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر ، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة ، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة ، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥ صفحة ٥٢.

٢٦١

وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرّر يوميا ، واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين ، لماذا؟

فهل حقّا إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة ، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات ، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة ، ويقدم بعضهم على الانتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية ، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون ارتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (١) . أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عند ما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماما كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عاقبة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ،

__________________

(١) المؤمنون ، ١١٥.

٢٦٢

ومتجر أولياء الله»(١) .

خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

ب ـ برهان العدالة :

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(٣) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فما ذا سيكون؟!

ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطئ فما ذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا ، فهل من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ١٣١.

(٢) الواقعة ، ٦٢.

(٣) تفسير الصافي ، المجلّد الخامس ، صفحة ١٠٧.

٢٦٣

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(١) وفي موضع آخر يقول تعالى :( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(٢)

على كلّ حال ، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو ، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها ، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.

وبناء على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة ، القرآن الكريم يقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(٣)

ويقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .(٤)

ج ـ برهان الهدف :

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون ، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفا من خلق الإنسان ، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة»( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .(٥)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

__________________

(١) القلم ، ٣٥ و ٣٦.

(٢) ص ، ٢٨.

(٣) الأنبياء ، ٤٧.

(٤) يونس ، ٥٤.

(٥) الذاريات ، ٥٦.

٢٦٤

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي ، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم ، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة : أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد ، وإذا قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت ، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز ، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

د ـ برهان نفي الاختلاف :

لا شكّ أنّنا جميعا نتعذّب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم ، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات ، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات ـ ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(١)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتما ، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها ، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والانكشاف ، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية ، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة ، يقول تعالى في الآية (١١٣) من سورة البقرة :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما

__________________

(١) المائدة ، ١٤.

٢٦٥

كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وفي الآيات (٣٨) و (٣٩) من سورة النحل يقول تعالى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) .

٤ ـ القرآن ومسألة المعاد :

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية ، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد ، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية ، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالاستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل ، أي الاستدلالات المنطقية ، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيرا على موضوع إمكانية المعاد ، إذ أنّ منكري المعاد غالبا ما يتوهّمون استحالته ، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم ، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة ، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارة يجسّد للإنسان النشأة الاولى ، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .(١)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩.

٢٦٦

وتارة يجسّد حياة وموت النبات ، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كلّ عام ، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماما كالنبات :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) .(٢)

وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته ، وجعل النار في قلب الماء فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) .(٤)

وتارة يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٥)

وأخيرا فإنّ القرآن تارة يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه ، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين ، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول :

__________________

(١) سورة ق ، ٩ ـ ١١.

(٢) فاطر ، ٩.

(٣) الأحقاف ، ٣٣.

(٤) سورة يس ، ٨٠.

(٥) الحجّ ، ٥.

٢٦٧

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .(١)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوة على قصّة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة (البقرة ـ ٢٦٠) وقصّة عزير (البقرة ـ ٢٥٩) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ ٧٣) ، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول ، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه ، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص ، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض : فإنّ ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد ، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.

٥ ـ المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر ، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معا ، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به ، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط ، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب ، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط ، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم ، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق ، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسدا ، ولكن

__________________

(١) الكهف ، ٢١.

٢٦٨

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى ، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة ، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّا ، بحيث يمكن القول قطعا بأنّ الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى اطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(١)

إنّهم يقولون :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٢) . وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٣)

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

__________________

(١) السجدة ، ١٠.

(٢) المؤمنون ، ٣٥.

(٣) سورة سبأ ، ٧.

٢٦٩

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادّعاء.

علاوة على أنّ القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة ، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوة على هذه الأدلّة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيرا ، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة ، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

٦ ـ الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضا غير كاملة.

فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول :( فَلا تَعْلَمُ

٢٧٠

نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(١)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢) ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

على كلّ حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادة فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضا.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها ، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (٣٣) من سورة آل عمران.

إلهي : آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي : لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك ، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

__________________

(١) السجدة ، ١٧.

(٢) سورة يس ـ ٦٥.

(٣) سورة فصلت ، ٢١.

٢٧١
٢٧٢

سورة

الصّافات

مكيّة

وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية

٢٧٣
٢٧٤

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة ، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة ، فهي تسلّط الأضواء على اصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع ، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني : يتحدّث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم ، ويحملهم جميعا الذنب ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافة إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث : يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي ، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته ، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

٢٧٥

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع : يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة ، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير : فيتناول في عدّة آيات قصار انتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وابتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه ، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباريعزوجل .

فضيلة تلاوة سورة الصافات :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ جنّ وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة ، مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبّار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا ، وأماته شهيدا ، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(٢) .

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات ، جاء نتيجة لما تحويه هذه

__________________

(١) مجمع البيان ، أوّل تفسير سورة الصافات.

(٢) تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق ، رحمة الله مع اختلاف بسيط.

٢٧٦

السورة المباركة ، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثمّ الإعتقاد ، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالا صالحة ، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

* * *

٢٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) )

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام :

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم ، ويجعله متهيّئا لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم ، إضافة إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين ، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم ، وإن كان للناكرين ، فإنّ أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائما بالنسبة إلى امور مهمّة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ

٢٧٨

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به ، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الأمور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوة على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة ، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع ، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال ، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(١) .

الأولى :( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

الثانية :( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) .

الثالثة :( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) .

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن ، إلّا أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

__________________

(١) هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام ، ومن جهة اخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

٢٧٩

على الرسل(١) .

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضا ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(٢) .

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(٣) .

ونظرا لكثرة واتّساع مفاهيم هذه الألفاظ ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر ، بل من الممكن أيضا أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات ، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة ، في عالم الخلق ، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع ، وكذلك صفوف المقاتلين

__________________

(١) بالطبع وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد ، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن ، والذين يتلون كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع ، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته ، ومنها : أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة اصطفّت بصفوف منظمة ، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب القبائح ، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف ، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء) ، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة. وقد ذكر العلّامة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الاحتمال ، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي ، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه ، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه ، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.

(٢) ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة ، وهي مؤنّث لفظي.

(٣) ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440