الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد13%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131270 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الحال)(١) ، ويتوصّل به إلى ترسيم الصورة المراد تجسيدها - فالضابطة التي ينبغي اتّباعها وممارستها في بيان حوادث وأبعاد واقعة عاشوراء هي: أن يؤول إلى أمر حقيقي، بأن يتوخّى الخطيب أو الشاعر، أو الكاتب، أو الراثي، نقل أمرٍ تاريخي ثابت بحسب الضابطة التاريخيّة، لا بالضابطة الشرعيّة للاستنباط، بعد أن يتثبّت الأمر تاريخيّاً، أو قُل يثبّت أمراً فرعيّاً، حتّى يتناول ذلك المعنى الصادق بالرواية القصصيّة، أو ما يُعرف بـ(لسان الحال)، أو ما يقال بـ(الرسم والتصوير التمثيلي) في علم البلاغة.

بحيث إنّه قد ثبتَ لدى الشاعر أو الناثر شكل تفجّع الزهراء (عليها السلام)، أو العقيلة زينب (عليها السلام) مثلاً أو غيرها من المواقف المؤلمة، فيريد أن يصوّر تلك الحقيقة التي هي حقيقة مؤثّرة ومفجعة لا يتحمّلها إنسان ذو ضمير، ويرسمها بشكل لسان الحال، فضابطة الرواية القصَصيّة هنا ينبغي أن تتّبع حقيقة ما، إمّا حقيقة تاريخيّة، أو حقيقة فرعيّة، أو حقيقة عقائديّة، ولولا ذلك لكانت الرواية القصصيّة خرافيّة.

وإنّما المراد الإخبار عن مغزى معيّن وقد ينتج - على سبيل المثال - فيلماً ليس له واقعيّة، ليس له غالباً إخبار عن الواقع، لكنّ مغزاه الذي يروم الكاتب القصصي التوصّل إليه له مغزى حقيقي - إذا كان الكاتب صادقاً في غرضه - كأن يريد أن يتوصّل إلى حُسن الوفاء مثلاً، أو إلى دناءة الفاحشة، فيجب أن يعتمد الراوي لقضيّة قصصيّة على حقيقةٍ ما أوّلاً، ثُمّ يصوّرها بترسيم تنفيذي،

____________________

(١) مثل قول الشاعر السيّد رضا الموسوي الهندي:

ولو ترى أعين الزهراء قرّتها والنبلُ من فوقه كالهـُدب ينعقد

إذاً لحنّت وأنّت وانهمَت مُقلٌ منها وحَرّت بنيران الأسى كبدُ

٢٤١

بالاستعارة وأقسامها، والتشبيه، والبديع، كما هو مرسوم في علم اللغة.

فأوّلاً يجب أن يعتمد على الحقيقة، وهذه ضابطة لا بدّ منها في واقعة عاشوراء، حيث يجب على الخطيب القصصي، أو الراثي، أو الناثر، أو الشاعر أن يلتزم بهذه الضابطة، وينصب قرينة على أنّه بصدد التصوير التمثيلي لا الإخبار الحقيقي، نعم، مغزى وهدف التصوير التمثيلي هو الحقيقة.

نعم، يجب أن يكون هذا الرسم متناسباً مع الحقيقة وليس مناقضاً لها؛ لأنّ الأديب يريد أن يصوّر صبر العقيلة (عليها السلام) مثلاً، ثُمّ يرسم رسماً تصويريّاً في نثر، أو شعر، أو خطابة يناقض صبر العقيلة كان غير موفّق في عمله، فلابدّ أن يكون رسماً يناسب ذلك المعنى والمغزى المراد.

هذه إذاً الضابطة في الرواية القصصيّة، وهناك أمر آخر في ضابطة الرواية القصصيّة، هي غير الضابطة الذاتيّة الداخليّة التي ذكرناها للرواية القصصيّة، وهي: أنّه يجب أن يخضع الأسلوب القصصي التصويري للسمت التاريخي أو السمت الروائي الفرعي؛ لأنّ المفروض هو أنّ هذا القسم - من الكتابة، أو من الأسلوب الأدبي، أو التصوير التمثيلي - ليس عمدة في باب الأدب، وإنّما هو كحاشية وأسلوب يُستعان به في بيان الحقائق، فالواقعة - التي هي ناصعة بالحقيقة - مليئة بالعطاء يجب أن لا نتوخّى فيها الرسم القصصي والرواية القصصيّة، بحيث يكون لها الغلبة على الأنحاء الأخرى للرواية المسندة أو التاريخيّة، ونترك السرد التاريخي الحقيقي، أو نترك السرد الروائي المسند.

هذا - بلا شكّ - إفراط في التصوير التمثيلي قد ينقض الغرض من التصوير التمثيليّ بدل أن يحقّقه؛ لأنّه إذا أفرطنا في التصوير التمثيلي - وأكثرنا فيه على

٢٤٢

حساب السرد التاريخي أو التحليل التاريخي، وعلى حساب الروايات المسندة من المصادر المعتبرة - فإنّنا سوف نَحجب الصورة الحقيقيّة للواقعة؛ لأنّ الغاية من الأسلوب الأدبي - في الرواية القصصيّة أو النثر القصصي أو الشعر - هو نشر الحقائق لا طمسها، فالإفراط فيه على حساب بقيّة الجهات من الرواية التاريخيّة أو الرواية المسندة في الفروع، أو المسندة في العقائد، لا شكّ أنّه نقض للغرض، نقض للغرض من الشعائر الحسينيّة بالذات، ونقض للغرض حتّى من نفس الرواية والأسلوب القصصي.

فإذاً، أوّلاً وبالذات، ينبغي أن يعتمد الخطيب والشاعر والكاتب والراثي على بيان الحقائق التاريخيّة، أو الحقائق المُسندة بالروايات وبالكتب التاريخيّة أو الروائيّة الحديثيّة، ثُمّ إذا ثبّت للآخرين - مستمعين كانوا، أو مشاهدين، أو قارئين...ـ ما هي حقيقة الواقع، شرعَ بعد ذلك يستثير عواطفهم ويصوّر لهم عظمة وهول هذه الحقائق، ومقدار عُظم الفاجعة وجلل الرزيّة، فيأتي الدور المتأخّر للرواية القصصيّة.

وكثيراً ما يُخلط بين المساحة للرواية التاريخيّة، والمساحة للرواية القصصيّة (لسان الحال وما شابه ذلك)، وبهذا المقدار في المقام الأوّل من الجهة الرابعة اتّضح ضابطة وموارد الرواية التاريخيّة في واقعة عاشوراء، وموطن الرواية القصصيّة، وموطن وضابطة الرواية العقائديّة أو الفرعيّة، إذ ليس من الصحيح بحالٍ من الأحوال أن تأخذ الضابطة لأحدها على حساب الأخرى.

هذا بالنسبة للمقام الأوّل.

٢٤٣

المقامُ الثاني

ضابطة وميزان التحليل للرواية وكيفيّة قبولها سواء كانت تاريخيّة، أو قصصيّة، أو فرعيّة، أو عقائديّة(١) .

البعض قد يُحكّم الإدراكات العقليّة الظنيّة، والبعض الآخر قد يُحكّم الاستحسانات.

فما هي الضابطة - على كلّ حال - في قبول الرواية التاريخيّة، أو الروايات الحديثيّة عن واقعة كربلاء أو تفنيدها؟

هذا هو المقام الثاني، هل أنّ ميزان اعتبار الروايات بأقسامها الأربعة التي ذكرناها، يخضع للإدراكات الظنّيّة العقليّة أو للاستحسانات، أم لأمور أخرى؟

الرواية في الفروع أو في العقائد إذا كانت عن واقعة عاشوراء، فمن الواضح أنّها خاضعة لموازين باب الاستنباط في الفروع أو في العقائد، ولكن - للأسف - قد نلاحظ نقضاً أو إبراماً، نفياً أو إثباتاً ممّن يقوم بالمساهمة في الشعائر الحسينيّة، حيث لا يستعين في هذا الباب (الرواية في مفاد الفروع، أو مفاد عقائدي)، بموازين مقررّة، فمع كونه غير مجتهد فإنّه لا يستعين بآراء فقهاء الإماميّة؛ وإنّما يتّخذ الموقف بنفسه، والحال أنّه ينبغي له أن يستعرض أقوال العلماء في المسألة؛ لأنّ المفروض أنّ هذا بحث تخصّصي، فإذا كان كذلك، فهو إذا قام بنشاط في مجال الشعائر من طريقة الشِعر، أو النثر، أو الخطابة، أو الرثاء،

____________________

(١) تطّلع على المقام الأوّل ص: ٢٢٠.

٢٤٤

وتعرّض لذلك المفاد الفرعي، أو المفاد العقائدي نفياً أو إثباتاً بمعزل عن آراء الفقهاء والعلماء وبعيداً عن أقوالهم، فسوف لن يصل هذا الشخص إلى النتيجة الصائبة والهدف المطلوب، بل سوف يُسيء للشعائر الحسينيّة وهو يحسب أنّه يُحسن صُنعاً.

وقد شملت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) سُنناً عديدة فرعيّة أو عقائديّة، ممّا يستلزم رجوع المُساهم فيها إلى أصحاب التخصّص إذا أراد معالجة حكم فرعي أو حكم عقائدي.

وكذلك بالنسبة إلى قضيّة البكاء التي سنبحثها في الجهة الآتية، إذ هناك تحليلات حول استحباب البكاء أو رجحانه، وحول إدخال التمثيل و(الشبيه) أو الآلات الموسيقيّة في الموكب الحسيني وغير ذلك، فالمفروض أن يُرجع في مثل هذا البحث إلى أهل الاختصاص، ومن هذا القبيل أمر تحليل الرواية في شؤون واقعة كربلاء سواء الرواية الفرعيّة، أو المرتبطة بمضمونٍ عقائدي.

فتحكيم العقل الظنّي أو العقل الاستحساني، يُشكّل خطورة على المعتقدات ويعتبر مَحقاً للدين؛ لأنّ ذلك ليس مقياساً وميزاناً لمثل هذه الأمور الشرعيّة.

أمّا في استخلاص المفاد في الرواية التاريخيّة أو الرواية القصصيّة؛ فإنّ التحليل التاريخي يخضع لوجود قرائن ومصادر تاريخيّة، ولو كانت هذه المصادر متأخّرة بحسب درجتها في الاعتبار.

بحيث لو ذَكرت المصادر التاريخيّة المتأخّرة حَدَثاً تاريخيّاً لم نعثر عليه في المصادر المتقدّمة التي وصلت بأيدينا، فلا ينبغي طرحه وإهماله.

مثلاً: كتاب أخبار المدينة للزبير بن بكّار، ينقل كثيراً من الحقائق التي لم

٢٤٥

تُدوّن في كتب التاريخ والسيرة، وينقلها عنه ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة، والحال أنّ الزبير بن بكّار كان في أوائل أو منتصف القرن الثالث، ويذكر حقائق حول قضايا تاريخيّة، حول تاريخ المدينة، فلا تُطرح هذه الأحداث بسبب عدم درجها وتدوينها في الكتب التاريخيّة التي تقدّمت عليه.

فإذا ذَكر أحد المتقدّمين واقعة تاريخيّة أو حَدثاً ولم يكن منحرفاً في عقيدته فلا يُهمل ذلك النقل ولا يُطرح، إذ من المحتمل أنّه توفّرت لديه مصادر غنيّة جدّاً لم تصل بأيدينا، كما يُنقل عن السيّد ابن طاووس، حيث إنّ المصادر التي توفّرت عنده كانت كثيرة جدّاً وغنيّة ذكرها أصحاب التراجم، لكنّ المصادر القديمة التي سبقت ابن طاووس لم تصل بأيدينا، فحينما يَذكر ابن طاووس في كتابه اللهوف في قتلى الطفوف - مثلاً - أمراً تاريخيّاً، فلابدّ من الأخذ به؛ لتعذّر إثبات عدم نقل المصادر المتقدّمة عنه لذلك الحَدَث التاريخي، هذا إذا كانت حيثيّة البحث تاريخيّة وليست استنباطيّة فرعيّة(١) .

وينبغي التفريق بين الحيثيّات نفياً وإثباتاً، فإذا كان الباحث في مقام حيثيّة البحث التاريخي فلا يحتاج أن يكون الحديث مسنداً متسلسلاً روائيّاً، بل تبقى الواقعة المذكورة كواقعة تاريخيّة ذُكِرت وأُرّخت محتملة الصدق

____________________

(١) باعتبار أنّ واقعة كربلاء والشعائر الحسينيّة تختلف فيها حيثيّات البحث، فمن ثَمّ، يُحتمل للخطيب، أو الشاعر، أو الراثي، أو الكاتب للقصّة أن يمرّ بمقطع من المقاطع في حيثيّة تاريخيّة، ثُمّ ينتقل إلى حيثيّة فرعيّة، ثُمّ ينتقل إلى حيثيّة عقائديّة، ثُمّ يرجع إلى قضيّة قصصيّة، هذه الجهات متشابكة، ولا سيّما أنّها مركّزة حول شخصيّة واحدة، وهي شخصيّة المعصوم (عليه السلام)، فحينئذٍ يقع الخلط والالتباس، سواء عند المُثبِت أو النافي بين هذه الجهات وبين هذه الحيثيّات المتنوّعة.

٢٤٦

والكذب ما لم تقم عليها شواهد أخرى مؤيّدة.

وقلنا: إنّ أقسام الشعائر الحسينيّة لم تقتصر على الروايات التي هي في باب الفروع، أو الروايات التي هي في باب العقائد، وقد يكون جملة منها من قسم الرواية التاريخيّة أيضاً.

فتحصّل: أنّ أيّة مفردة تاريخيّة في الشعائر الحسينيّة لابدّ من تحليلها تحليلاً وافياً من جميع الجهات، وينبغي عدم الخلط بين موازين الرواية في باب الفروع، أو في باب العقائد - الذي هو ميزان استنباطي اجتهادي - مع ميزان الرواية التاريخيّة.

وفي واقعة كربلاء قلنا إنّ حيثيّات وجِهات الرواية تختلف على صعيد الأقسام الأربعة للرواية.

إشكالٌ وجواب

ومن الإشكالات التي تطرح استخلاص المادة التصويريّة التمثيليّة، هي: أنّ واقعة كربلاء باعتبارها واقعة صدق وواقعة حقيقة، فكيف نرسمها نحن بتصوير تمثيلي على أساس قواعد علم الأدب والبلاغة، أو على غِرار الرواية القصصيّة، كيف نرسمها بأسلوب قصصي، هذا ممّا يطمس الحقائق في واقعة كربلاء ويُخفي الصدق في تلك الواقعة، والحال أنّه لابدّ أن يظهر الصدق والحقيقة فيها، فكيف نطمسها بخرافات.

قلنا: إنّ هذه الدعوة في الجملة صحيحة، وهي: أنّ طغيان الأسلوب القصصي أو التصوير التمثيلي - الذي يُعبّر عنه بلسان الحال، أو بلسان التمثيل - إذا طغى على

٢٤٧

جميع مُجريات الشعيرة الحسينيّة، فلا ريب أنّه سوف يزوي جانب الحقيقة، ويحيد جانب الصدق في واقعة كربلاء، فالمفروض أن لا يكون همّ الخطيب أو الراثي أو الشاعر منحصراً في التصوير بالرواية التاريخيّة أو القصصيّة؛ لأنّه إذا ملأه بهذا الجانب فإنّه سوف يطمس جانب الواقع والحقيقة، ولكنّ هذا لا يعني أنّنا نلغي ونسدّ باب الأسلوب القصصي والتمثيلي في واقعة كربلاء، بل حتّى في الوقائع الأخرى؛ لأنّنا قلنا: إنّه ينبغي أوّلاً (كما هو منهج وضابطة الأسلوب القصصي والتصوير التمثيلي) أن يجري ذِكر الحقيقة، وذِكر كلّ خصوصيّات الحقيقة في أيّ واقعة معيّنة، فيُذكر مَعلم من معالم واقعة كربلاء الخالدة، ثُمّ لأجل التفاعل المطلوب اللازم مع حجم وخطورة الحدَث في الدين واستثارة العواطف - واستثارتها بحقّ لا بباطل، إذ كلّ حقيقة تتطلّب حيويّة روحيّة تناسب درجتها، أي تجسيد هذه الواقعة الحقيقية كصورة ماثلة حيّة لدى المستمعين أو القرّاء أو المشاهدين - ينبغي اعتماد التصوير التمثيلي.

والغرض منه ليس الإخبار بالمفاد المطابقي، بل الإخبار بالمفاد الالتزامي واللحاظ التَبعي فحينئذٍ لابدّ للناثر والخطيب والشاعر والراثي - بعدَما يروي رواية تاريخيّة صادقة (مقطع من مقاطع كربلاء)، ومن أجل أن يبيّن شدّة الحزن وعُظم الفاجعة فيها - أن يستعين بأساليب معيّنة ومنها التمثيل، حيث له دور في اتّساع المخيّلة والواهمة وفتح بقيّة قوى النفس على مصراعيها؛ لأجل الانجذاب إلى العقل وإلى ما أدركه العقل من صدق الواقعة ومن عُظم المصاب فيها، وما أدركه من ضرورة الوقوف إلى جانب الحقّ ونصرته، ومجانبة الظلم والعدوان ومحاربته.

ومن الغريب، أن يُفنّد بعض المحقّقين باب الرواية القصَصيّة أو التصوير

٢٤٨

التمثيلي ويُفنّده بدعوى أنّ الأسلوب القصصي كاذب، فلا يمكن اعتماد الكذب في واقعة كربلاء، والحال: أنّ البشريّة كلّها تعتمد هذا الأُسلوب، ومدار الصدق والكذب في هذا الأسلوب هو المدلول الالتزامي لا المدلول المطابقي، مثلاً إنتاج الفيلم ليس له أيّ واقعيّة حينما يكتبه كاتب قصصي، فإذا كانت غاية الفيلم تربية المجتمع على قضيّة أخلاقيّة سامية، فيقال: بأنّ هذه الرواية القصصيّة صادقة، صادقة لا بلحاظ مضمونها المطابقي؛ وإنّما بلحاظ غايتها، أمّا إذا كان فيلماً روائيّاً يصوّر من قِبل الراوي القصصي لأجل إشاعة الخيانة أو التعدّي على الآخرين، فيقال: إنّ هذا الكاتب منحلّ وكاذب ومخالف للحقيقة البشريّة، فالصدق والكذب في الرواية القصصيّة يدور مدار الغاية والجنبة الالتزاميّة، ولا يدور مدار المفاد المطابقي.

غاية الأمر أنّ لكلّ من الرواية القصصيّة والرواية التاريخيّة والرواية الفرعيّة مجالاً، كما أنّ للرواية في باب العقائد مجالاً ضمن مجموع نشاطات وآليّات الشعائر الحسينيّة، أي: الشعر، والنثر، والخطابة، والرثاء، فالمفروض هو عدم طغيان أحد الجوانب على الجانب الآخر، وينبغي أن يكون الأسلوب القصصي مؤدّياً للتفاعل مع الحقيقة، ولكن بشكل عاطفي صادق.

والأمثلة كثيرة، ولكن ينبغي الانتباه في تطبيق الضوابط السابقة التي ذكرناها للقارئ الكريم.

٢٤٩

٢٥٠

الجهةُ الخامسة: البكاءُ في الشَعائر الحسينيّة

٢٥١

٢٥٢

البكاءُ في المَصادر المُعتبرة

البكاء: أحد أقسام الشعائر الحسينيّة، ولأهمّيّته عقدَ المرحوم الشيخ المجلسي (قدِّس سرّه) - في كتابه بحار الأنوار - باباً خاصّاً للبكاء على مصيبة سيّد الشهداء(١) ، وقد جمعَ في ذلك الباب ما يزيد على الخميس طريق أو رواية، وأيضاً عقدَ باباً آخر، وهو باب (ثواب مَن أنشدَ في الحسين عليه السلام شِعراً).

وقد عقدَ الشيخ الحرّ العاملي بدوره في كتاب وسائل الشيعة، كتاب المزار، آخر كتاب الحجّ(٢) ، باباً جمعَ فيه بالتحديد عشرين رواية أو طريق في ثواب البكاء، وهناك أبواب أُخرى ذَكرها صاحب الوسائل تقرب من أربعين باباً (في أبواب المزار)، اشتملت على أقسام عديدة في الحثّ على الشعائر الحسينيّة، من قبيل: زيارته (عليه السلام)، وإقامة المأتم عليه، والبكاء، وإنشاء الشِعر وإنشاده وغيرها.

وهذه الروايات - التي جَمعها صاحب الوسائل في باب ٦٦ - ليست هي الروايات الوحيدة التي وردت في البكاء، بل الأبواب الأخرى أيضاً متضمّنة لذلك، حيث فيها روايات عديدة متعرّضة لأمور أخرى، ثُمّ تُعرّج على البكاء

____________________

(١) في ج ٤٤: باب ٣٤ في تاريخ الحسين (عليه السلام)، باب ثواب البكاء على مصيبته (عليه السلام).

(٢) كتاب الحج: باب ٦٦.

٢٥٣

بنحوٍ أو بآخر.

وكمحاولة لجمع الروايات في هذا الباب فهي تقرب من خمسمائة رواية(١) .

أمّا كتاب مُستدرك الوسائل للمحقّق الشيخ النوري (قدِّس سرّه)، فقد نقلَ في أبواب المزار(٢) روايات تطرّقت لموضوع البكاء بطرق عديدة، سواء كانت تحت عنوان البكاء مباشرة، أو تحت عناوين أخرى أيضاً واردة لمناسبة أو أخرى، إلاّ أنّها تتعرّض للبكاء.

ومن الكتب التي تطرّقت لهذا البحث: كتاب كامل الزيارات لابن قولويه، شيخ الطائفة في عصره (جعفر بن محمد القمّي) المعروف، وهو أستاذ الشيخ المفيد،

____________________

(١) المصادر التي يعتمد عليها صاحب الوسائل، والمصادر التي يعتمد عليها العلاّمة المجلسي، بينهما عموم وخصوص من وجه؛ باعتبار أنّ المرحوم المجلسي لم يُكثر من النقل من الكتب الأربعة حفاظاً على بقاء شهرة الكتب الأربعة، ولكي لا تُستبدل الكتب الأربعة بالبحار، فإنّه - تقديساً لهذه الكتب - لم ينقل عنها الكثير؛ وإنّما نقلَ من كتب أخرى، بينما صاحب الوسائل كان نقله أكثر شيء من الكتب الأربعة، ثُمّ في المرحلة الثانية على كتب أخرى.

ولذا يوصي بعض أكابر العلماء بمراجعة الدورة الفقهيّة الموجودة في بحار الأنوار والمختصّة بالفروع، والتي هي تبدأ من ج ٨٠ (من البحار) إلى ج ١٠٠، حيث إنّ هذه الروايات في البحار مصادرها تختلف غالباً - من أوّل كتاب الطهارة إلى الديّات - عن الروايات الموجودة في الوسائل، وإن كان بينها اشتراك.

(٢) مستدرك الوسائل ١٠: ١٨١.

هناك نظرة وهي: أنّ كلّ ما في المستدرك من طُرق فهي ضعيفة، وهذه نظرة خاطئة؛ لأنّ المستدرك يعتمد على الروايات التي فاتت صاحب الوسائل والموجودة في مصادر مختلفة مثل: قرب الإسناد، ومحاسن البرقي، وكتب الصدوق، كعيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ومعاني الأخبار والأمالي، وعِلل الشرائع وغيرها، هذه الروايات من هذه الكتب أكثرها مُسندة وليست مرسلة ولا مقطوعة.

٢٥٤

والكتاب مشهور بين علماء الطائفة.

والمجاميع المتأخّرة وإن كانت تُبوّب هذه الأبواب، إلاّ أنّ المتتبّع لها وللكتب القديمة يجد - مثلاً - رواية عُثر عليها في بعض الكتب المتأخّرة الثقافيّة، منقولة عن كتاب محاسن البرقي، لم يوردها صاحب الوسائل ولا المستدرك، ونقلها البرقي في باب الأطعمة والأشربة، عند ذِكر الطعام الذي يُقدّم للسجّاد (عليه السلام)، وهي مرتبطة بالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).

فتقصّي الكتب المتقدّمة والمتأخّرة ومراجعتها أمر لازم، وقد مرّ بنا أنّ في كتاب أمالي الصدوق (قدِّس سرّه) عُقدت عدّة مجالس - أو أمالي - في المقتل قد يُطلق عليه مقتل الصدوق، ولو اقتُطع هذا الجزء وأُبرز ككتاب مستقلّ بحيث يكون باسم (مقتل الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه))، لكان مصدراً معتمداً في هذا الباب أيضاً.

البكاءُ ذَروة الشَعائر الحسينيّة

يعتبر البكاء من عمدة أقسام الشعائر الحسينيّة - كما في كلمات الفقهاء والمحقّقين والمؤرّخين - بل نستطيع أن نسمّيه الشريان الدموي للعديد من الأقسام في الشعائر الحسينيّة، مثلاً: انظر إلى الخطابة، أو إلى الشعر، أو النثر، أو الرثاء، أو التمثيل - الشبيه - أو انظر إلى اللطم والعزاء، أو لبس السواد؛ فإنّ كلّ هذه الظواهر المختلفة من الشعائر الحسينيّة، حينما تريد أن تتألّق وتحلِّق وتبلغ ذروتها تصل إلى حدّ البكاء، فالبكاء حينما جعلناه قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة، فإنّه في الحقيقة هو ليس قسماً مقابل الأقسام الأخرى، بل ربّما جعله بعضهم مَقسماً لأقسام الشعائر الحسينيّة، وإن كان المَقسم للشعائر الحسينيّة هو ما

٢٥٥

ذكرناه في الجهة الأولى من تحديد الماهيّة الحقيقيّة للشعائر الحسينيّة، بلحاظ أنّها شعيرة وعلامة على معنىً سامٍ وحقيقة خالدة.

وهذا الاهتمام الكبير بالبكاء، إنّما نشأ من توصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، من خلال الحثّ الأكيد والتوجيه الشديد إليه، لذا اعتدّ به علماء الإماميّة - سواء المحدّثون، أو المؤرّخون، أو الفقهاء - في فتاواهم المتعلّقة بالشعائر الحسينيّة، حيث يبرز البكاء عندهم كأنّه العمود في خيمة الشعائر الحسينيّة، وما ذهبَ إليه فقهاء الإماميّة أو بقيّة أصناف علماء الإماميّة ليس هو فقط كفتاوى مسلّمة؛ وإنّما هو ما تشير إليه الأبواب العديدة الواردة في الشعائر الحسينيّة، وهو: أنّ البكاء هو عمدة ولُباب الشعائر الحسينيّة، وليس فقط قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة، بل هو لبّ الشعائر الحسينيّة وأهمّها(١) .

وكما ذكرنا أنّ الروايات التي تحثّ على البكاء وتبيّن فضيلته، ليست هي فقط تلك الأبواب التي عُقدت تحت عنوان (فضل البكاء وثواب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام))، بل كلّ الأبواب التي وردت حوله تشير بأدنى مناسبة للبكاء، إمّا بلفظ البكاء، أو بما يرادفها، أو يلازمها وبإشارات مختلفة، حتّى أنّ بعض المتتبّعين

____________________

(١) مثلاً وردت عناوين عديدة فيما يتعلّق بتاريخ الإمام الحسين (عليه السلام) في كتاب البحار، أو في الكتب الروائيّة المتعدّدة التي أشرنا إليها.

كما في: مزار الوسائل، ومزار المستدرك، وفي كامل الزيارات، وكتب الشيخ الصدوق التي خُصّصت للروايات الواردة في قضيّة الحسين (عليه السلام)، مثل: مقتل الصدوق ضمن عدّة مجالس وردت في أمالي الصدوق، وعِلل البكاء في عِلل الصدوق وغيره، حتّى كتاب محاسن البرقي، وكتاب قرب الإسناد، وقد جُمعت كثير من الروايات في نفس عنوان الباب حول الحسين (عليه السلام)، إلاّ أنّها كلّها تردّد عنواناً معيّناً بألفاظ مختلفة وهو البكاء.

٢٥٦

ممّن له باع واسع في هذا التحقيق، ذَكر أنّه وردَ في ما يلازم ويرادف البكاء ما يقرب من خمسين لفظة حول الشعائر الحسينيّة، مثل: اللطم، أو اللّدم، القلق، الهلع، الجزع، البكاء، النوح، الندبة، الصيحة، الصرخة، الحزن، التفجّع، التألّم، وغيرها.

وأيضاً هناك إشارات أخرى في كيفيّة التركيز على البكاء، وإنّه من عمدة أبواب الشعائر الحسينيّة كذلك ما ذُكر في تاريخ الحسين (عليه السلام) - التاريخ الروائي - مضافاً لكتب التاريخ المختلفة، وكثير منها عن طريق مصادر العامّة، مثل: خيارات ابن عساكر، وتاريخ الخطيب البغدادي وغيرها، وكلّها تَذكر البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)، حتّى الأنبياء قد بكوه قبل ولادته، بل قبل ولادة النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وتذكر أبواب عديدة في هذا السياق، مثل: بكاء أنواع المخلوقات، ويبيّن مجموع الروايات في الأبواب العديدة جزع وبكاء الخلقة بأكملها على مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام).

فقضيّة كون البكاء هو العمدة في الشعائر الحسينيّة يكاد يكون أمراً واضحاً، ولربّما يُدقّق في التعبير بأن يُقال: بأنّ البكاء هو جوهر وروح الشعائر الحسينيّة، وبحسب الأدلّة الواردة فإنّنا لو كنّا نجمد على ظاهر الأدلّة، لرأينا أنّ للبكاء مكانةً وأهميّة يتفرّد بها من بين أقسام الشعائر الحسينيّة الأخرى، فالبكاء كالجوهر والروح لأقسام الشعائر الحسينيّة، وكأنّما إلغاء البكاء عن الشعيرة الحسينيّة هو عبارة عن تخليته عن جوهره، ومسخ لتلك الشعائر عن حقيقتها.

٢٥٧

الجَزعُ في الشعائر الحُسينيّة

الجزع: هو غير الحزن وغير البكاء، إذ إنّ الجزع في اللغة هو شدّة الحزن وعدم التصبّر، أو هو نوع من إبداء التفجّع الشديد، بشقّ الجيب، ونتف الشعر، وضرب الرأس، وخمش الوجوه، أو الصراخ الشديد، وهذه كلّها تعبيرات عن معنى الجزع باللازم، وإلاّ فإنّ معنى الجزع: هو إظهار المرء للألم الشديد عند الحزن بصخب وتفاعل ساخن، هذا هو الجزع.

ووردت روايات في ذلك، وقد عَثرنا على ما يزيد على عشرين رواية واردة في الجزع فقط، وعدّة من أسانيدها صحيحة منها:

١ - ما رويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام):(كلّ الجزع والبكاء مكروه، ما خَلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام) (١) .

٢ - وما نقله صاحب الوسائل عن جعفر بن قولويه في المزار، بسنده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول:(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور) (٢) .

٣ - وعن مسمع بن عبد الملك، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) في حديث:(أمَا

____________________

(١) وسائل الشيعة: ١٤: ٥٠٥، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام)؛ بحار الأنوار: ٤٤: ٢٨٠ / ح٩ عن الصادق (عليه السلام):(كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام)).

(٢) وسائل الشيعة ١٤: ٥٠٦.

٢٥٨

تَذكر ما صُنع به (يعنى بالحسين (عليه السلام)؟

قلتُ: بلى.

قال:أتجزع؟

قلت: إي والله، وأستعبر بذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علي، فأمتنع من الطعام حتى يتبيّن ذلك من وجهي.

فقال:رَحم الله دَمعتك، أمَا إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحُزننا، أمَا إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك...) (١) .

٤ - نُقل في الوسائل عن مصباح الشيخ الطوسي، بسنده عن علقمة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، في حديث زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء من قرب وبعد، قال:(ثُمّ ليندُب الحسين (عليه السلام) ويبكيه ويأمر مَن في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه، ويُقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، وليُعزّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين (عليه السلام)...) (٢) .

٥ - ما نقله صاحب مستدرك الوسائل عن نهج البلاغة، قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ساعة دُفن:(إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك) (٣) .

٦ - وفي صحيحة معاوية بن وهب نقلاً عن باب المزار في الوسائل، دعا

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٤: ٥٠٧؛ ١٠: ٣٩٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٤: ٥٠٩.

(٣) مستدرك الوسائل ٢: ٤٤٥.

٢٥٩

الصادق (عليه السلام) بهذا التعبير:(... فارحَم تلك الوجوه التي قد غيّرتها الشمس، وارحَم تلك الخدود التي تقلّبت على حُفرة أبي عبد الله (عليه السلام)، وارحَم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك القلوب التي جَزعت واحترقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا...) (١) .

فالروايات طرقها عديدة وصحيحة، وبعضها موثّق، فإذاً الجزع هو إشارة من إشارات البكاء.

ونظير هذا التعدّد في الطرق لهذه الطائفة من الروايات نجده في الكتب الأربعة أيضاً، في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي، وكتاب الفقيه للشيخ الصدوق، وكتاب الكافي للشيخ الكليني التي هي من أهمّ مصادرنا.

فالحاصل: أنّ البكاء في الشعائر الحسينيّة - حسب ما ترسمه النظرة الأوّليّة العابرة للروايات المتواترة حول الشعائر الحسينيّة، وإقامتها في المصادر الروائيّة العديدة - فضلاً عن التاريخيّة - الروايات ترسم للناظر والمتتبّع رسماً أوّليّاً بديهيّاً فطرياً - هو جوهر الشعائر، وهو جوهر ذكرى نهضة الحسين (عليه السلام)، هذا كبحث إجمالي أوّلي من جهة أقوال علماء الإماميّة، ومن جهة نفس الروايات.

وأيضاً، كنظرة أوّليّة في الروايات أو في فتاوي العلماء، يظهر أنّ الحزن لا ينقضي إلاّ بظهور الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، والأخذ بثأر الدماء التي أُريقت في كربلاء مع الحسين (عليه السلام)، وتطبيق أهداف الأئمّة (عليهم السلام)، وبذلك نصل إلى صلاح البشريّة وانتشار القسط والعدل، وتحقيق أغراض وأهداف مسيرة الأنبياء، وهذا نوع من الثأر الشريف المنشود لدم الحسين (عليه السلام).

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٤: ٤١١ - باب ٣٧ من أبواب المزار، نقلاً عن الكافي ٤: ٥٨٣.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440