الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد9%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131268 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

إذاً، الذي يظهر حول بحث البكاء من كلمات علماء الإماميّة - من: فقهاء، ومتكلّمين، ومفسّرين، ومحدّثين، ومؤرّخين، ومن الروايات أيضاً - أمران:

١ - كون البكاء الدعامة الأصليّة في الشعائر الحسينيّة.

٢ - استمرار البكاء وتأبيده إلى يوم الثأر، وقبل الخوض في تفاصيل ظاهرة البكاء يجب الالتفات إلى جانب مهمّ جدّاً.

حقيقةُ البكاء

إنّ البكاء مادّة حيويّة للبحث في عدّة علوم، مثل: علم النفس، والاجتماع، والأخلاق، والفلسفة، وعلم التمدّن، والحضارة، قد شغل حيّزاً في اهتمام العلوم الإسلاميّة، وبمحاولة لمعرفة حقيقة البكاء نقول: إنّه فعل من أفعال النفس الجانحيّة لا الجارحيّة، وهنا تظهر تساؤلات على السطح منها: أين تصدر النفس البكاء، وكيف تصدره، ومتى؟ هل البكاء فعلٌ سلبي أم إيجابي، باعتبار أنّ أفعال النفس الجانحيّة أو الجارحيّة لا تتّصف بلونٍ ما بذاتها؛ وإنّما تتّصف بلحاظ الغايات، فيا ترى كيف هو البكاء في لونه الذاتي؟ فلابدّ من تحليله موضوعيّاً ماهويّاً تحليلاً عقليّاً كاملاً لنرى ما هي أجوبة هذه الأسئلة؟

ولأجل ذلك، يجب الالتفات إلى ما ذكرنا في جهات سابقة في الفصل الأوّل من الشعائر الدينيّة العامّة: وهو وجود أجنحة مختلفة في النفس قد جهّزها الله عزّ وجل بها، ولا ريب أنّ أحد أبواب معرفة الله سبحانه ناشئ من معرفة النفس،

٢٦١

فقد وردَ في الأثر عن أمير المؤمنين (عليه السلام):(مَن عَرف نفسه فقد عَرفَ ربّه) (١) ، وورد كذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(أعرفكم بنفسه، أعرفكم بربّه) (٢) ، الذي يعرف نفسه سوف يعرف نقاط الضعف من نقاط القوّة فيها، ومن ثَمّ لا تُزعزعه دواهي الدهر، فمعرفة النفس لها فوائد عديدة في سبيل الاتّصاف بالأخلاق، وفي بناء شخصيّة الإنسان، والنفس فيها أجنحة عديدة، وأحد أجنحة النفس مشجّرات القوى الإدراكيّة، وهي على نوعين: الإدراكات الحصوليّة، والإدراكات الحضوريّة.

الإدراكات الحصوليّة: هي قوّة الحس، وقوّة المخيّلة (الخيال)، وقوّة الوهم، ثُمّ قوّة العقل.

الإدراكات الحضوريّة: هي إدراكات عيانيّة للأشياء في نشآت أخرى غير النشأة المادّيّة الحسّيّة.

القوّة الإدراكيّة والقوّة العمليّة

على كلّ حال، هناك أيضاً جناح آخر في النفس هو: جناح القوّة العمليّة، أو ما يسمّى بالقوّة العمّالة، مثل: القوى العضليّة، والقوى الشهويّة، والغرائز المختلفة في النفس، وقوّة العقل العملي، هذه القوى سمتها المهمّة المميِّزة لها عن الجناح الأول - أو الأجنحة الأخرى - أنّها باعثة ومحرّكة في النفس.

فلدينا جناحان من الأجنحة العديدة في النفس، أو جهتان:

____________________

(١) بحار الأنوار ٢: ٣٢: ٣٣؛ مصباح الشريعة (المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)): ١٣.

(٢) الاقتصاد (الشيخ الطوسي): ١٤؛ روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): ٢٠.

٢٦٢

الأوّل: الجهةُ الإدراكيّة.

الثاني: الجهةُ العمليّة.

طبعاً الجناح الذي هو في الجهة العمليّة هو المحرِّك والباعث، لكنّه ليس بكلّ درجاته خالياً من الإدراك، كلاّ، بل هو في بعض درجاته مزيج ومختلط بالإدراك، مثل: قوّة العقل العملي، وخاصيّة قوّة العقل العملي هو الإدراك مع كونه محرّكاً أيضاً.

مثلاً: يَدرك الإنسان حُسن فضيلة معيّنة ويتشوّق إليها، فيمارسها ويعزم عليها ويوطّن نفسه على تطبيقها، أو ربّما - بدل أن يتشوّق إلى فضيلة ما - يستنكر رذيلة ما وينفر منها، ويشحن نفسه بالنفرة منها، فتراه ينقطع في سلوكه العملي عن تلك الرذيلة، وهلمّ جرّاً.

فعلى كلّ حال، العقل العملي حيث إنّه محرِّك عملي، إلاّ أنّ جنبة الإدراك تتوفّر فيه أيضاً، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى: لابدّ من امتزاج هاتين القوّتين العمليّة والإدراكيّة في النفس الإنسانيّة، فافتراض وجود إنسان له جانب إدراكي فقط، أو له جانب عملي فقط مخالف للفطرة الإنسانيّة، وبعبارة أخرى: فأنت تريد بافتراضك هذا أن تجعله إنساناً له جانب عمّالي فقط دون جانب إدراكي أو بالعكس، لكنّ مثل هذا الشخص ليس من الحقيقة الإنسانيّة بشيء، بل الحقيقة الإنسانيّة فَطرها الله عزّ وجل على مزيج من القوى العمليّة والقوى الإدراكيّة، فمن المحال وجود حقيقة إنسانيّة تتمحّض في إدراك المعلومات فحسب، بل لابدّ أن تجد فيها جناحاً آخر وجنبة أخرى، وهي جنبة

٢٦٣

عمّاليّة، كذلك من المحال أن ترى إنساناً فيه جنبة عمّاليّة فقط - كالحيوانات -، بل جملة من الحيوانات تكون الجنبة الإدراكيّة خفيفة فيها، لكنّ الجنبة العمّاليّة فيها بارزة وظاهرة.

وقد وزّع الله عزّ وجل الصفات العمليّة في الحيوانات بشكلٍ عجيب، مثلاً: الحرص تجده في النمل(١) ، والوفاء تراه في حيوان آخر، والغيرة على الأنثى في حيوان، وانعدام الغيرة في حيوان، كأنّ هذه الصفات العمليّة وزِّعت على كثير من أقسام الحيوانات عبرةً للإنسان، والفطرة الإنسانيّة تختلف عن الفطرة الحيوانيّة التي تكمن فيها الجنبة العمليّة فقط، وإن كان هناك صفات عمليّة (فضيليّة) موزّعة وموجودة لدى الحيوانات من اللطائف، ومَن يتتبّع حياة بعض الحيوانات سوف يلاحظ في كلّ حيوان صفة معيّنة، وهذا مورد للاعتبار، حيث يقال: الإنسان يُحشر حسب صفته، وهذه الأشكال من الحيوانات الموجودة هي نموذج وأمثال للصفات المختلفة، فإن كانت صفات الإنسان رذيليّة - لا سامح الله - فإنّه سوف يُحشر بحسبها.

فليست الفطرة الإنسانيّة تحتوي على جانب إدراكي محض، ولا على جانب عملي محض، بل هما جناحات ممتزجان لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا يُفصل بينهما في حاقّ النفس البشريّة، وإذا وجدنا بعض الناس فيه طغيان جنبة إدراكيّة على جنبة عمليّة، أو طغيان جنبة عمليّة على جنبة إدراكيّة، فهذا نوع من الاختلال وعدم التوازن والتكامل فيه.

____________________

(١) راجع توحيد المفضّل: القسم الخاص لبيان أسرار وعجائب الحيوانات - بحار الأنوار ٣: ٩٠.

٢٦٤

مثلاً: الحسد، أو الشهوة، هما من جنبة إدراك المخيّلة التي هي النافذة العظمى للشيطان في الإنسان، التي يدخل من خلالها، حيث يُري الشيطان الصور للإنسان من بعيد، يُريه صورة لفعل أو لشيء، ثُمّ يشوّقه نحو ذلك الفعل( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي... ) (١) ، فبتوسّط نفس الدعوة من بعيد يُري الصورة في عالَم النفس، ثُمّ يُغري الإنسان فيتشوّق ويتحرّك نحوها، فالإنسان إذا عزفَ وانصرف عن هذا الإغراء ينقطع سلطان الشيطان عنه، أمّا مع رغبة النفس وتركيزها وانجذابها؛ فإنّ الشيطان سوف يستولي عليه، وهذا قد يكون تفسير الحديث المعروف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّ الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم) (٢) .

وباعتبار أنّ هذه النوافذ الإدراكيّة لا يضبطها الإنسان ولا يحرسها بحراسة جيّدة، وإنّه يُطلِق عنانها من دون مراقبة النفس؛ فإنّ الشيطان سيخترق النفس من خلالها وينفذ إلى أعماقها.

فالفطرة الإنسانيّة ذات جنبتين لا يمكن تفكيك إحداهما عن الأخرى.

ونواصل بعض الأمثلة لكي نكون على بصيرة من هذا البحث، حتّى نصل إلى حقيقة النكات الفلسفيّة والعقليّة.

مثلاً: يروِّج البعض في بعض الأبحاث الفكريّة والثقافيّة الحديثة أنّ

____________________

(١) إبراهيم: ٢٢.

(٢) مستدرك الوسائل ١٦: ٢٢٠.

وفي الكافي ٢: ٤٤٠، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:(يا ربّ سلّطتَ عليّ الشيطان وأجريتهُ منّي مجرى الدم..) .

٢٦٥

التقديس والقدسيّة والتعظيم هي نوع من الحجاب أمام التحرّر الثقافي والانفتاح الفكري، لذا لابدّ من إزالة هذا الحاجب والوقوف في وجه أشكال التقديس والاحترام والتعظيم.

وهذا يندرج ويجري في نفس المسار في بحث البكاء أيضاً، فما مدى صحّة هذه المقولة يا ترى؟

للإجابة عن ذلك - ولتمحيص حقيقة هذه المزاعم والدعاوى - لابدّ من معرفة ماهيّة القدسيّة، وإنّها فعل أيّ قوّة من قوى النفس، وأيّ جناح من أجنحة النفس؟

مثلاً، قيل: إنّ التشكيك نبراس ومعلم للحريّة الفكريّة وللأسلوب الفكري والتحقيقي، وإنّه ديدن العلم، هل هذا صحيح بقول مطلق أم فيه تفصيل؟ التشكيك أيضاً عمليّة فكريّة تمارسها بعض القوى الإدراكيّة، فهل هذا الفعل - كفعل نفساني - هو فعلٌ سليم دوماً أم لا؟

إذاً، يجب أن ندرس أفعال النفس بدقّة كي لا نقع في الخطأ ولا في المغالطات، ولا في الالتباسات، وعلينا أن نتعرّف على مجال ممارسة النفس لها، ومواطن عدم الممارسة، كذلك البكاء فعل من أفعال النفس، وكذلك التقديس والتعظيم والإذعان والمتابعة النفسيّة كلّها من أفعال النفس، وترتبط بالقضايا الإدراكيّة والاعتقاديّة والفكريّة والسلوكيّة، وهي برنامج يتعلّق بسير الإنسان في معاشه وحياته، فمتى يا ترى تمارسه النفس بصحّة، ومتى تمارسه النفس خطأً؟

كذلك التشكيك، أو التساؤل، أو التنقيب فعل من أفعال النفس، فمتى تمارسه النفس بشكل صحيح، ومتى تمارسه النفس خطأً؟ هل يجب أن يقف الإنسان

٢٦٦

دوماً في منطقة التشكيك والتساؤل؟ أم ينبغي عليه أن يتجاوز ذلك؟ كلّ هذه الأبحاث ونحوها ممّا ترتبط بمباحث دينيّة حسّاسة وخطيرة، فلابدّ من الوقفة العلميّة عندها؛ لإنعام النظر فيها.

ثوابتٌ عن ظاهرة التقديس

كيف يمارس الإنسان عمليّة التقديس بشكل صحيح؟ التقديس والقدسيّة: عبارة عن الإذعان، وحينما يذعن الإنسان لشيء ويتصوّر أنّه حقيقة فإنّه يُبدي المتابعة أو الخضوع له، فالتقديس: عبارة عن خضوع النفس عمليّاً ومتابعة القوى العمليّة في النفس لأمرٍ أذعنت النفس له وتصوّرت أنّه حقيقة، فمن ثَمّ يظهر لنا متى يكون التقديس صحيحاً ومتى يكون خاطئاً.

فإن كان ما أذعنت له النفس حقيقة من سنخ الواقع، فالتقديس صحيح، وإصرار النفس عليه ممدوح، وتعظيمها لتلك المعلومة الحقيقة راجح وصحيح؛ لأنّ المفروض أنّها من نفس الواقع، ورفع اليد عنها يعني ارتطام النفس ودفعها في سلسلة الجهل، مثل العالِم التجريبي إذا وصل إلى حقيقة معيّنة، ثُمّ يرفع اليد عنها ولا يعتمد عليها، أو لا يستفيد منها فيكون ذلك ضياعاً للحقيقة.

نعم، التقديس والقدسيّة إن كانت لأمر مخالف للواقع أو للحقيقة، أو كانت نابعة عن تصوّر وتخيّل رسمتهُ المخيّلة بعيداً عن الواقع، كانت خاطئة.

فإذاً، التقديس - بشكل مختصر -: هو عبارة عن متابعة النفس لمَا أذعنت له وتصوّرت أنّه حقيقة، فإن كان حقيقة واقعاً، ومبتنياً على مقدّمات وأدلّة يقينيّة مُنتجة، فيكون هذا التقديس صحيحاً وراجحاً، ولكن لابدّ أن يوضع حريم

٢٦٧

حوله؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل الذي أوصلك إلى مثل هذا بعد عناء وجهد، إذا لم تعمل به يكون ابتعاداً عن الواقع وإغراقاً في الجهالات والظلمات، وهذه حقيقة متّبعة في جميع العلوم التجريبيّة والعلوم المرتبطة بالنشآت وعلوم العقيدة وغيرها.

فإذا كان التقديس ناتجاً من إدراك حقيقة، فهو حالة طبيعيّة في النفس، ويبدأ التقديس من أرفع درجة من درجات القوى العمليّة في النفس، وهو العقل العملي، فيتابع العقل النظري فيما أدركه من حقيقة، وأمّا لو كان التقديس نتيجة لإدراك تخيّلي أو ظنّي أو وهمي أو غير مُبرهن وغير ثابت، كان التقديس نوعاً من التقليد.

فعلى كلّ حال، إطلاق وصف التقليد أو الإتّباع الأعمى على التقديس مطلقاً أمرٌ فيه مغالطة، حيث تبيّن أنّ ليس كلّ تقديس هو تقليد، بل حقيقة التقديس هي تعظيم للحقائق فيما إذا كان وليداً وتابعاً لإدراك حقيقة ما، نعم، لو كان التقديس أو المتابعة أو الإخبات والخضوع في الجناح العملي في النفس نتيجة لإدراك تخيّلي أو وهمي، كانت حقيقة هذا التقديس اتّباعاً أعمى وتقليداً خاطئاً، إذاً ليس من الصحيح ذمّ التقديس في نفسه مطلقاً.

بل لو انعكس التقديس إلى حالة الرفض الدائم في الجانب العملي للنفس، وهو ما قد يسمّى بالتشكيك، إذا كان رفضاً دائماً فسيكون حالة مرضيّة في النفس وليس حالة صحّيّة في بعض أقسامه، حيث إنّ الجناح الإدراكي في النفس إذا أدركَ حقيقةً ما ولم يتابعه الجناح العملي، ولم تُتابعه القوى العمليّة التجريبيّة أو غير التجريبيّة، إذا لم تحصل المتابعة بين الجناح العملي والجناح الإدراكي،

٢٦٨

ستكون هذه حالة مرضيّة في النفس؛ لأنّها تُدرك الحقائق ولكن لا تنتفع بها ولا تستفيد منها، وإصرار النفس على الرفض والإباء عن متابعة الحقائق يؤدّي إلى تضييع الحقيقة والتفريط بها.

كما يُفسّر المحقّق الأصفهاني الآية الكريمة( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) (١) : أنّهم في البداية قد يكون هناك لديهم إيقان مع الجحود، لكن في النهاية والمآل فإنّ هذا الإيقان يذهب كشيء ووجود شريف ثمين، يذهب وتفتقده النفس بسبب عدم متابعة الجانب العملي للجانب الإدراكي(٢) ، ولعلّ إليه الإشارة الأخرى في قوله تعالى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٣) .

وكما أنّ الجانب العملي في النفس يتأثّر بالجانب الإدراكي؛ فإنّ الجانب الإدراكي في النفس كذلك يتأثّر بدوره بالجانب العملي، وأمراض الجانب العملي في النفس تُسبّب أمراضاً في الجانب الإدراكي أيضاً، وكذلك الحال في أمراض القوى الإدراكيّة: كالوسوسة، أو سرعة الجزم (القطّاعيّة)، أو غلبة الوهم والتخيّل على التعقّل، حيث لا يستطيع أن يدرك المعاني العقليّة نتيجة السجن الذهني في القضايا الخياليّة والوهميّة.

فهناك أمراض في الجانب الإدراكي، كما أنّ هناك أمراضاً تقابلها في الجانب العملي إضافة للصفات الصحيحة في الجانب العمليّ، ومثال من أمثلة

____________________

(١) النمل: ١٤.

(٢) آخر بحث الانسداد في كتاب نهاية الدراية للشيخ الأصفهاني.

(٣) الروم: ١٠.

٢٦٩

أمراض الجانب العملي: دوام الإباء في الجانب العملي للنفس، أو دوام الإخبات والخضوع لكلّ مقولة ولأيّ دعوى، فهذه تعتبر حالة غير صحيحة وغير سليمة.

وهذه الأمراض في الجانب العملي لها أسماء أيضاً، مثل: التقليد العام الأعمى، أو بالعكس الرفض الدائم التي هي حالة السفسطة، فالحالة السفسطائيّة الدائمة المطلقة هي حالة مرضيّة في الجانب العمليّ في النفس، وحالة التقليد الأعمى هي أيضاً حالة مرضيّة ومذمومة عند العقلاء، وإليها وإلى غيرها من الأمراض يشير إليها القرآن الكريم وتشير الأحاديث النبويّة، وقد تعرّض لها أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن خُطبه الشريفة في نهج البلاغة، مثل:(حُبّك الشيء يُعمي ويُصمّ) (١) .

هذه حالات الجانب العملي، فإذا اشتدّت المحبّة فإنّها توجب ظلامة وحاجباً في الجانب الإدراكي، وشدّة البغض كذلك قد توجب التأثّر والستر في الجانب الإدراكي.

لا بمعنى أن لا تشتدّ محبّة الإنسان لمَن أمره الله بمحبّته، إذ إنّ الله سبحانه أمر بمحبّة نفسه، وأمرَ بمحبّة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام)، أو لا تشتدّ عداوته لمَن أمرَ الله سبحانه بعداوته، وليس المعنى أنّ زيادة المحبّة المأمور بها تكون خاطئة، أو الكراهة والبغض المأمور بها كذلك، ليس المراد ذلك، ولسنا وراء ما يطرحه العِلمانيّون أو ما يسمى بالعولَمة، أي الحياديّة في كلّ شيء، وإنّ المدار الأول والأخير هو نفسي ونفسي فقط، كطرق العولَمة المطروحة حديثاً - في الثقافات العالميّة - ليس هذا هو المقصود.

____________________

(١) رسائل المرتضى (الشريف الرضي) ٢: ٢١٦.

٢٧٠

وليس الاتّزان هو: عدم المحبّة في موردها (التي أمرَ بها الشارع والعقل)، أو عدم العداوة الشديدة في موردها الذي بيّنه الشارع، بل الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يدرك أمراً، ينبغي له عدم جعل المحبّة مؤثّرة في كيفيّة الإدراك، حتّى لو كانت محبّة في موردها، وكذلك الأمر في العداوة الشديدة، فضلاً عمّا لو كانت ليست في محلّها؛ وإنّما ينبغي جعل موازين الإدراك على ما هي عليه، وجعل موازين الحركات والأفعال في النفس على ما هي عليه، هذا هو المنطق القرآني والتوجيه النبوي والعلوي.

المنطقُ الشرعي وظاهرة البكاء

إنّ المنطق الذي يطرحه القرآن - والسُنّة المعصوميّة النبويّة والمعصوميّة العلويّة في نهج البلاغة - منطق ليس أُحاديّاً ولا تمايليّاً إلى طرف معيّن.

انظر مثلاً إلى المنطق الأرسطي الذي يضع موازين معيّنة على فرض صحّتها - كلّها أو بعضها - في جانب من جوانب الإدراكات، وهو فقط الإدراك الحصولي، وعلى بعض تقاديره ليس كلّ الإدراكات، أمّا الإدراك العياني فإنّه لا يضع له ميزاناً، أو الإدراك الحصولي من تقادير أخرى قد لا يضع لها ميزاناً.

أو أنّك ترى مثلاً المنطق الرياضي يضع موازين من جانب آخر، أو ترى المنطق النفسي الحديث المتداول أو المنطق الوضعي، ومدارس منطقيّة كثيرة كلّها تتناول جانباً معيّناً وتهمل الجوانب الأخرى، ومع ذلك فإنّ تلك الجوانب المتناولة قد تكون غير مستوعِبة لوضع الموازين فيها.

أمّا المنطق الشرعي: فإنّك ترى خلاف ذلك، المنطق الشرعي يتناول موازين

٢٧١

القوى العمليّة ويتناول موازين القوى الإدراكيّة، وعلى صعيد الإدراك العياني والإدراك الحصولي، وهلمّ جرّاً، يعني أنّه يتناول الموازين في أجنحة النفس العديدة، وينظر في كيفيّة ملائمة هذه الأجنحة في النفس مع بعضها البعض، وهذا ممّا لا تتناوله مدرسة منطقيّة بشريّة إلى الآن، هذا هو المنطق الشرعي أو المنطق الذي تُقدّمه المعرفة الدينيّة.

إنّه منطق الإنسان المتكامل في كلّ أجنحة النفس، وهو أيضاً يُحدّد العلاقة بين أجنحة النفس بعضها البعض، وإلاّ فأيّ منطق تراه يُحدّثك أنّ الحبّ والبغض يُعمي ويصمّ(١) ، أو يتناول قول أمير المؤمنين (عليه السلام):(إذا أقبَلَت الدنيا على أحدٍ أعارتهُ محاسن غيره، وإذا أدبَرت عنه سلبتهُ محاسن نفسه) (٢) ومثل هذه التعبيرات، وهذه أمور منحصرة في منطق الأطروحة الدينيّة.

التشكيكُ سلاح ذو حدّين

فالإباء المطلق حالة مرضيّة في النفس في الجانب العملي، والتشكيك أو التساؤل في منطق المعرفة الدينيّة وفي المنطق العقلي البشري؛ إنّما هو قنطرة لكي يراجع الإنسان حسابات الأدلّة التي يعقد عليها إيمانه، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة في أيّ مجال من المجالات، وفي أيّ علم من العلوم المرتبطة بالنشأة الدنيويّة، أو المرتبطة بالنشآت الأخرى، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة التي إمّا أن تكون مطابقة أو غير مطابقة.

____________________

(١) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ) بحار الأنوار ٧٧: ١٦٦ / ح ٢.

(٢) بحار الأنوار ٧٥: ٣٥٧ / ح ١٧ عن نهج البلاغة - رسائل المرتضى ٢: ٢١٦.

٢٧٢

لا أن يبقى في الإنسان منطقة التساؤل أبد الدهر، فليس التساؤل إلاّ محرّكاً وآلة للفحص وطاقة للبحث، وليس الفحص إلاّ طريق للوصول للحقيقة، ولو وقف الإنسان دائماً في منطقة التساؤل من دون أن يتحرّك، فهذه تعتبر حالة مرضيّة في النفس وليست حالة صحيّة؛ إنّما التساؤل يُعتبر بوّابة لأجل الفحص، لأجل التنقيب، لأجل التحرّي للوصول إلى الحقائق، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على الوقوف دوماً في منطقة التساؤل والتشكيك لمَا اكتُشف شيء في العلوم القديمة والحديثة، فليست هذه حالة صحّيّة، أمّا إذا كان التشكيك بمعنى التساؤل، ثُمّ يأتي بعده التحرّي والتنقيب - الذي يستتبع الجزم والتصميم على ضوء المعطيات البرهانيّة اليقينيّة - كانت الحالة حالة سليمة وصحيّة للنفس، أمّا أن نقف في دوّامة التساؤل والإباء والرفض فهذه حالة جهالة وليست حالة علميّة ولا صحيحة.

والذي يعيش بشكل دائم حالة سفسطائيّة وتشكيكيّة سيؤدّي به ذلك إلى القضاء على الفطرة علماً وعملاً، إدراكاً وتطبيقاً، وليس فيه نوع من التقدّم بل سوف يتحجّر المرء على نفسه، ولو كان الأمر كذلك لمَا وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات، هذا كمثال في العلوم التجريبيّة، فكيف في العلوم الإنسانيّة الأخرى.

فالشكّ والحيرة حينئذٍ يُشكّلان داعياً وباعثاً للتساؤل الذي يستعقبه تحرّك وفحص وتنقيب وتحقيق، حتّى يحصل الجزم والوصول إلى النتائج.

والإنسان - ضمن الفحص والتحقيق والسير - ربّما يسير ويفحص وتنتابه حالة مرضيّة أخرى غير السفسطة، وقد تكون مقابلة لها، وهي حالة بُطأ اليقين لديه، أو سرعة اليقين لديه، وكلاهما من الحالات المرضيّة في الإدراك، والمفروض أنّ

٢٧٣

الحالة الصحّيّة المتّزنة هي أنّه إذا رأى النتائج مُقنعة للنفس بشكل قطعي، وبمعزل عن ميوله الشخصيّة وقناعاته الخاصّة، فإذا كانت النتائج بنفسها موزونة ومنتجة، فاللازم أن يُسلّم ويُذعن ويقرّ بها.

فقيمة الشكّ إذاً من جهة الفحص والوصول إلى النتائج، أمّا إذا كان الشكّ محطّة دائمة فيصبح صورة سلبيّة وصفة مذمومة،

وكما يقال: فإنّ العلوم خزائن مفتاحها السؤال(١) .

ومن ثَمّ ذهبَ الفقهاء وعلماء الكلام إلى أنّ مَن اعتقدَ عقائد الحق لا عن دليل، فهو وإن كان من الناجين - إن شاء الله - إلاّ أنّه قد ارتكب معصية؛ لأنّه لم يعتقد ذلك عن دليل وبرهان، إذ إنّ العلم بالحقائق عن دليل واجب، وإن كانت النجاة مرهونة بصرف اعتقاد الحقّ ولو كان عن تقليد(٢) .

فالاعتقاد والاعتناق عن تقليدٍ - بدون تفكير وتدبّر - لا يُعتبر اعتقاداً تامّاً؛ لأنّه يكون في معرض الحرمان والزوال، بخلاف الاعتناق والاعتقاد عن دليل وبرهان وحجّة، فإنّه يظلّ دائماً متمسّكاً بتلك العقيدة، ثابت القدم على أركانها.

حصيلةُ المطاف: هذان نموذجان بشكل مختصر عن التقديس والتشكيك، أين موضعهما من أفعال النفس، ومتى يصبحان حالة مرضيّة، أو حالة سليمة في

____________________

(١) قال الخليل: العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها، نهج البلاغة ٢٠: باب ٤٨٦: ٢٤٧.

(٢) مثلاً: مَن يتّبع هذه الحقيقة عن تقليد وهي: أنّ الكهرباء قاتلة؛ فإنّه سوف ينجو من الكهرباء وإن كان اعتقاده عن تقليد وبدون دليل، ولكن لو عَلم بأنّ الكهرباء قاتلة عن طريق الدليل لمَا كان في معرض الشكّ؛ لأنّ الذي يبني على أنّ الكهرباء قاتلة من دون دليل، قد يكون في معرض الوقوع في هلكة الكهرباء؛ لأنّه قد يشكّكه أحد، فالإذعان بالحقائق - ولو عن تقليد - أمر له فائدته، لكن ليس كمَن يعتقد ويذعن بالحقائق عن دليل وبرهان.

٢٧٤

جهاز الوجود للنفس.

أمّا البكاء: فعلينا التعرّف أنّ حكم الفعل من قِبل أيّ جناح من أجنحة النفس يصدر، وهل له ارتباط مع جناح آخر للنفس؟ وهل هو صحيح وسليم مطلقاً؟ أو قد يكون حالة مرضيّة؟

تعريفُ البكاء

يُعرّف اللغويّون البكاء: بخروج الدمع حزناً وتأثّراً(١) ، وهذا التعبير إنّما هو باللازم للمعنى الحقيقي، أمّا علماء الأخلاق والحكماء فقالوا: إنّ البكاء هو حالة انفعال في الجناح العملي للنفس، وهو ما يسمّى بتأثّر الضمير والوجدان في الإنسان، سواء خرج الدمع أم لا، مع الصيحة أو بدونها.

والمقصود بالضمير والوجدان: هو تأثّر الجانب العملي الذي فيه مزيج إدراكي؛ (لأنّا أشرنا إلى أنّ الجناح العملي في النفس في بعض درجاته وإن كان عمليّاً، إلاّ أنّه ممزوج بالإدراك، أي فيه جنبة إدراكيّة، يعني ليست جنبة عمليّة بحتة) نظير قوّة العقل العملي، نظير الشوق، إذ لابدّ من إدراكٍ ما، ثُمّ يستتبعه العمل، ونظير الغضب، وما شابه ذلك.

على كلّ حال، فبعض الدرجات العمليّة هي موجودة بالإدراك.

البكاء: فعل ناتج وناشئ من القوى النفسيّة الموجودة، وهو عبارة عن حالة

____________________

(١) قال الجوهري: البكاء يُمدّ ويُقصر، فإذا مددتَ أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرتَ أردت الدموع وخروجها.

٢٧٥

انكسار، أو تأثّر، أو انفعال - تعبيرات مختلفة - في الجانب العملي نتيجة لإدراك ما، وذاك الإدراك هو إدراك لحرمان ما؛ لأنّ الكمال لم يستتمّ لدى الإنسان حتّى ينفعل تشوّقاً إليه، فقد يكون البكاء عن تشوّق، وقد يكون عن حزن لفقد حقّ من الحقوق، وقد يكون مزيجاً من الحزن والشوق، وهكذا.

المهمّ أنّه نوع من الانفعال في الجانب العملي في النفس نتيجة لإدراك ما، وهذا الإدراك هو فقدٌ لشيء ما، سواء في صورة الحزن، أو في صورة الشوق، وإلاّ لو كان الإنسان حاصلاً على ذلك الشيء فإنّه لا يتشوّق إليه، هذا تعريف إجمالي من الحكماء أو علماء الأخلاق للبكاء.

وأمّا حكم البكاء - بأنّه على الإطلاق حالة سليمة في النفس، أم هو حالة مرضيّة، أو على التفصيل - فلابدّ هنا من التفصيل؛ لأنّ البكاء يتّبع معنىً ما، هذا الانفعال في الجانب العملي يتّبع معنىً معيّن، فإن كان المعنى الذي يتّبعه الانفعال النفسي بحيث يكون الانفعال عنه ايجابيّاً، وذلك المعنى هو معنىً حقيقي وصادق إن كان ناشئاً عن معنىً صادق وحقيقة صادقة، والتأثّر كان إيجابيّاً، فيكون حالة صحيحة في النفس، وأمّا إن كان المعنى الموجود معنىً غير صادق، أو كان صادقاً لكنّ التأثّر به غير ملائم، فسوف يكون سلبيّاً.

مثلاً إذا كان إنسان يبكي لفقد كمال معيّن: كعِلم معيّن، أو احترام معيّن، أو قدرة معيّنة - ماليّة أو غير ماليّة - بكى لفقدها، فإدراك هذا الفقد حقيقي وليس كاذباً، حيث أدرك أنّه فاقد للكمال، والمفروض أنّ كماليّة ذلك الشيء واقعيّة، فإنّ تأثّره بهذا الفقدان أيضاً شيء إيجابي؛ لأنّ المفروض أنّه يتأثّر كي يستعدّ للحركة، ولزيادة شدّة حركة النفس وطاقتها وانشدادها باتّجاه ذلك الكمال، ولزيادة

٢٧٦

السعي نحو تحصيل ذلك الكمال، وعلى عكس المقولة المعترضة على ظاهرة البكاء بأنّه يُعدّ مفرّغاً للطاقة، بل هو يزيد سعرات الطاقة ويسرّع حركة النفس نحو تحصيل ذلك الكمال، نعم، هو مفرّغ للحصر النفسي - كما يعبّر به علماء النفس - لا أنّه يوجب تخفيف تشوّق النفس نحو المطلوب ونحو المتشوّق إليه.

أمّا لو فقدَ الإنسان شيئاً، وكان ذلك الشيء موجوداً عند صديقه، وبكى لأجل إزالة الشيء عن صديقه وحصوله عنده، فهذا نوع من الحسد طبعاً، إن كانت المعلومة صادقة، وهي فقد ذلك الكمال، ولكن تأثّره موجّه باتّجاه أن يسعى لإزالة كمال عن الآخرين، ولا ريب أنّ هذا التأثّر سلبي وليس تأثّراً ايجابيّاً، فتارة تكون المعلومة صادقة ولكنّ التأثّر خاطئ.

أو أنّ الإنسان قد يفقد أعزّ أحبّته فيتأثّر وهو جيّد، لكن إذا اشتدّ البكاء أو تحوّل إلى حالة من السخط والجزع والاعتراض على الله سبحانه أو..، فهذا المظهر يكون خاطئاً، وإن كانت المعلومة صادقة؛ لأنّ تأثّره وِجّه بتوجيه خاطئ، ولغاية معيّنة، وإنّ أيّ فعل عملي ترتكبه النفس، كأي فعل إدراكي ترتكبه النفس دائماً يكون لغاية، فلابدّ أن نلاحظ العلّة، ونلاحظ العِلل الفرعيّة، والعلّة الغائيّة، كما في العلّة الماديّة والصوريّة.

فحينئذٍ، إذا كان البكاء منطلقاً ومتولّداً من معلومة حقيقيّة، فيكون صحيحاً، وإذا كان تأثّره موجّهاً إلى غاية كماليّة هادفة، فإنّه أيضاً يكون إيجابيّاً وسليماً.

بخلاف البكاء الذي يكون لأجل غاية سلبيّة، وبخلافة ما إذا كان مع الصبر والتحمّل.

والبكاء إنّما يحصل للتأثّر ولبيان المحبّة التي كانت بين الباكي وبين المفقود

٢٧٧

مثلاً، الذي لأجله حصل البكاء، فيعتبر هذا نوع من الصلة للميّت، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما فقدَ ابنه إبراهيم:(تدمعُ العين، ويحزنُ القلب، ولا أقول إلاّ ما يرضي ربّنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون) (١)، وفي رواية أخرى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لو عاشَ إبراهيم لكان نبيّاً) (٢) هذا نوع من إظهار المحبّة والرحمة.

فالفعل الذي يصدره الجناح العملي للنفس تأثّراً بالجانب الإدراكي في النفس يُشترط فيه أمران لكي يكون إيجابيّاً:

أحدهما: أن يكون منطلقاً من إدراك صادق ومعلومة حقيقيّة.

الثاني: أن تكون غايته غاية هادفة وإيجابيّة.

وإذا اختلّ أحد هذين الشرطين يكون البكاء سلبيّاً.

هذا ما قرّره العلماء في البحوث العقليّة والحكميّة والأخلاقيّة وفي علم النفس، على نحو الإجمال، حول موضوع البكاء.

في علم النفس وعلم الاجتماع الحديث يذكرون في بعض تعريفاتهم: أنّ البكاء تنفيس عن الضغط؛ لأنّ الإنسان قد تتكدّس عليه ضغوط، فتنشأ منها حالة البكاء لدى الإنسان، ويكون بكاؤه نوعاً من التنفيس والتخفيف، هذه هي كلماتهم بغضّ النظر عن تصويبها أو تخطئتها أو مقارنتها مع ما ذُكر في علوم أُخرى(٣) .

____________________

(١) بحار الأنوار ١٦: ٢٣٥ / ح ٣٥.

(٢) بحار الأنوار ٢٢: ٤٥٨ / ح ٤.

(٣) وجود ظاهرة اجتماعيّة وهي: أنّ مَن يُصاب بحادثة أو مصيبة يحاول أن يتّخذ مجالس تعزية بالإجارة، (وعلماء النفس والسيكولوجيا في أوروبا يوصون بذلك) بأن يُستأجر

٢٧٨

ففي علم النفس الحديث - السيكولوجيا - ثبتَ بأنّ الذي تلمّ به فادحة ومصيبة ويتّخذ البكاء كوسيلة لتهدئته والتخفيف عنه، يكون أبعد من غيره في احتمال وقوعه في الاختلال الروحي، حيث يكون لديه اتّزان روحي في الحوادث والمصائب، وإنّ نفسه تسلم وتطهر وتتخلّص من العقد، بخلاف الذي يمتنع عن البكاء ويتجلّد، حيث تنشأ لديه نوع من العُقد والاعتقادات الخاطئة، أو تتكوّن لديه وساوس وأحقاد على البشريّة، وربّما تصيّره وحشاً على مَن حوله أو على بيئته بسبب تلك الاعتقادات الخاطئة.

فالبكاء يولِّد نوع من الاتّزان الروحي ووقاية عن الاختلال الروحي في النفس، ويُحصّنها من ابتلائها بالعُقد.

وتَذكر إحصائيّات في هذا الصدد أنّ مَن يمارس البكاء - سيّما النساء - يَسلم عادة من الأمراض النفسيّة أو العُقد، أو من تلك الحالات التي تكون قريبة من الكآبة والتمرّد على المجتمع.

طبعاً هذه الضمائم نسبيّة، والجانب العاطفي عند المرأة أكثر من الجانب العاطفي عند الرجل، ومن ثَمّ فإنّ مقابلة الرجل للصدمات أكثر من المرأة، ولذا جَعل الدين الإسلامي الرجل هو القيّم، وجعلَ بعهدته الجانب الإداري والتنفيذي؛ لأنّه أشدّ وأصلب.

ولكن نفس هذا التحليل جُعل إشكالاً وعاد انتقاداً على ظاهرة البكاء، بتقريب أنّ البكاء يُنفّس عن الإنسان الحالة الضاغطة، فهو يُقلّل سعرة الحركة

____________________

جماعة، ويتباكون معه للتنفيس عن الضغط الذي حلّ بصاحب المصيبة، وهو نوع من الحالة الصحّيّة لمَن ألّمت به المصيبة والفادحة.

٢٧٩

والعمل؛ لأنّه يُنفّس ويهدّئ، فيبرد الإنسان ويبقى على حالة اتّزانه، فمن ثَمّ يكون البكاء سلبيّاً في بعض الموارد.

مثلاً: إذا وقعَ الظلم على الإنسان فهو ينفّس عن نفسه بالبكاء، وبذلك يرجع إلى الحالة الطبيعيّة ويفقد السعرة والطاقة والباعث نحو التصدّي والمقابلة لذلك الفعل الموجّه ضدّه، ويتقاعس عن أخذ حقّه، وهو أثر سلبي.

وفي الجواب نقول: إنّ البكاء ينفّس عن الحالة الضاغطة، لا أنّه يُقلّل السعرة ويُخمد الهمّة لاسترجاع الحقّ، بل على العكس؛ لأنّ المفروض أنّ البكاء لابدّ أن يوجّه إلى غاية معيّنة، مثل: أنّ المظلوم يبكي لفقد حقّ من حقوقه وفقد ما هو كمال له، وهذا وإن نفّس عن نفسه من جهة الضغط المتراكم عليه نتيجة ذلك الفقدان، لكن لا زال البكاء يزيد المظلوم تشوّقاً إلى ذلك الكمال والحقّ المطلوب، فلا يكون نوعاً من تقليل السعرة والإرادة لإرجاع حقّه، فإذا كان أحد الناس فاقداً لشيء وبكى لفقده، فإنّنا نرى بالوجدان والعيان أنّه يزداد إرادة وتصميماً من ناحية، وطاقةً وعملاً من ناحية أخرى نحو تحصيل ذلك المفقود منه، وإنّ بكاءه لا يُعيقه ولا يمنع حركته بتاتاً، فالإشكال بأنّ البكاء هو نوع من الممانعة نحو الحركة للكمال على إطلاقه غير صحيح وغير سديد.

وما ذكرهُ علماء النفس أو علماء الاجتماع الحديث، لا يتضارب مع ما نقوله: من أنّ البكاء على تفصيل بلحاظ اجتماع الشرطين(١) يكون ايجابيّاً، ومع فقد أحدهما يكون سلبيّاً، أمّا أنّ البكاء هو حالة انقهاريّة وانهزاميّة للنفس فهي مقولة غير سليمة على إطلاقها.

____________________

(١) ذكرنا الشرطين ص: ٢٧٤ من هذا الكتاب.

٢٨٠

ومن عمدة البحث أن نرى الرؤية الشرعيّة حول حقيقة البكاء، هل يرى الشارع أنّ البكاء حالة سلبيّة أم ايجابيّة؟ وعلى التفصيل فهل يكون بتوفّر الشرطين السابقين ايجابيّاً وإلاّ كان سلبيّاً كما ذَكر الحكماء وعلماء الأخلاق.

ولابدّ من استعراض الآيات القرآنيّة العديدة والروايات الواردة في هذا الموضوع، ومن ثَمّ نبدأ في تحليل تفصيلي لأجوبة بقيّة الإشكالات السبعة.

وما تقدّم من الشرطين في إيجابيّته: هو مورد توافق العلوم العقليّة والإنسانيّة التقليديّة القديمة في البشريّة، والعلوم النفسيّة والإنسانيّة الحديثة (من: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم السيكولوجيا) وهي تتوافق تقريباً على مثل هذا التقسيم للبكاء.

وعلماء الاجتماع يلاحظون ظاهرة مفارقة بين بلدان الشرق - سيّما الشرق الأوسط - وبين بلاد الغرب، ويشاهدون أنّ في الشرق ظاهرة وفور من العاطفة والأحاسيس، وإنّ كثيراً من الفضائل الأخلاقيّة التي هي من سنخ القوى العقليّة في النفس، سواء كانت تلك الفضائل العقليّة عملاً محضاً، أو كانت مزيجاً من جهات إدراكيّة علميّة، يلاحظون ويرون بأنّ نظم العاطفة ونظم الوجدان الموجود في الشرق - لا سيّما الشرق الأوسط - أقوى بمراتب بما لا يقاس منه في الغرب، وكأنّما الغرب فقط قوالب إدراكيّة، طبيعة الإنسيّة البشريّة الموجودة هناك كأنّها تقتصر على قوالب إدراكيّة قد فُرِّغت من الجانب العاطفي والجانب الروحي.

ومن ثَمّ نجد الإحصائيّات تشير - في مجالات عديدة - إلى بروز الأمراض الروحيّة والعُقد وتَفكّك الأُسرة، إلى غير ذلك ممّا هو مرتبط بجانب العاطفة

٢٨١

والوجدان والروح والخلق المتعلّق بالجانب العملي.

فهناك فارق شاسع جدّاً بين بلاد الشرق (الأوسط) وبلاد الغرب، بين أولئك الذين يتّخذون نمطاً من الحياة المادّيّة والذين يتّخذون نمطاً من الحياة الروحيّة، ولو كانوا على غير دين الإسلام من بلاد الشرق: كالهنود والبوذيّين وما شابه ذلك، وقد أضحى هؤلاء - في الآونة الأخيرة - يتخوّفون من الغزو الثقافي الغربي والأمريكي، الذي يكاد يهدّد الثوابت الروحيّة والعاطفيّة لديهم.

والقوانين المدنيّة إنّما وجِدت لأجل سلامة المحيط الاجتماعي، وهو - مع قلّة الحريّات في المجتمعات الشرقيّة وتخلّف القانون الوضعي - يُعدّ في الشرق أسلم منه من الغرب.

والسرّ في ذلك: هو أنّ الإنسان في زوايا نفسه ودرجات روحه لا يقتصر على جناح الإدراك، وهو ليس مجرّد علبة كمبيوتريّة تُزقّ بالمعلومات، الإنسان يحتوي على جناح عملي أيضاً، بل الجناح الإدراكي ليس يقتصر على قنوات إدراك، بل فيه إدراكات روحيّة وما يسمّى بالحاسّة السادسة، وهي غير الإدراكات الحصوليّة التي هي من قبيل المفاهيم، والإدراكات الباطنيّة التي هي في أعماق الروح يُعبّر عنها الحكماء القدماء بالقلب والسرّ والخفي والأخفى، يعني الدرجات، فضلاً عن الجناح العملي في النفس، فكثير من أجنحة النفس ليست إدراكاً محضاً، والجناح الإدراكي الفوقاني(1) هو غير جناح الإدراك التحتاني(2) الذي ذَكرنا له درجات، وهي: الوهم، الخيال، العقل النظري.

____________________

(1) جناح الإدراك الفوقاني: هو الإدراكات الحضوريّة الوجدانيّة.

(2) جناح الإدراك التحتاني: هو الإدراكات الحصوليّة بتوسّط القوى الفكريّة.

٢٨٢

الجناح الإدراكي الفوقاني في النفس هو: القلب، السرّ، الخفي، الأخفى، أو ما يسمّى بأعماق الباطن في النفس، أعماق النفس الباطنة - في الفلسفة الحديثة - ليس صرف إدراك محض، بل فيه جذب وقطع، وصل ونفرة، انقباض وانبساط، إقبال وإدبار.

هذه حالات غامضة روحيّة تناولتها الشريعة والفلسفة القديمة والحديثة والعرفان بالتحليل والدراسة، فهذه حالات ليست حالات إدراكيّة جافّة فقط، كذلك الجانب العملي في النفس: الغضب، الشهوة، الغرائز المختلفة، قوّة العقل العملي، الإرادة، الصبر، الشجاعة، العفّة، هي كلّها من أفعال النفس التي يتكفّل بها دائماً الجانب العملي في النفس وليس الجانب الإدراكي النازل، فالجانب العملي - سواء النازل(1)، أو العملي الفوقاني(2) - في الإدراك الفوقاني، هو من الجوانب العمليّة في النفس وليس إدراكات جافّة محضة.

فلو ألقى المتحدّثون على الناس عشرات المحاضرات، والعديد من الأفكار من دون تطعيمها بعاطفة صادقة ومن دون إثارة عمليّة للأفكار، لم تحصل الفائدة المرجوّة لذلك! بل النتيجة: قوالب جافّة، وسوف لن تصل هذه البرامج الفكريّة المحضة في تأثيرها إلى البرامج العمليّة، ولن يؤثّر ذلك بالمجتمع في طريق إصلاحه، مع أنّ الغاية من البرامج الفكريّة هو الإقدام العملي في شرائح المجتمع.

وهذا نظير ما يقوله القائل في شأن المرحليّة الفكريّة والفكر من دون تطعيمه

____________________

(1) الجانب العملي النازل مثل: الغضب، والشهوة، والغرائز المختلفة.

(2) الجانب العملي الفوقاني: هو إدراك حضوري مزيج مع العمل.

٢٨٣

بعاطفة صادقة، وقد شرحنا العاطفة الصادقة حينما تطرّقنا في البحث عن البكاء الصادق.

حيث إنّ البكاء الصادق هو أحد الحالات والظواهر العاطفيّة الصادقة كالتقديس، باعتبار أنّ تحقّق الإدراك الصادق يحصل بمتابعة غاية صادقة وصحيحة، فتنشأ العاطفة الصادقة، أي تكون العاطفة ترجماناً عمليّاً للفكرة.

وأمّا تزريق: المستمع، أو القارئ، أو المُشاهد بأفكار ومعلومات من دون أن تستثير فيه الجانب العملي والعاطفي؛ فإنّه سيُخفق في التأثير عليه، ولن ينجح في إرشاده إلى الصلاح، سواء في التربية المدرسيّة، أو الاجتماعيّة، أو الدينيّة، أو الحسينيّة، ومثل تلك الطريقة لن تصلحه ولن تستثيره، بل المفروض هو: أن تشحذ همّة إرادته حيث توجد عنده إرادة عازمة حازمة، لكي يبدأ بتغيير مسيره.

بينما البكاء يختصر الطريق، البكاء أو العواطف الصادقة تختصر الطريق أمام آلاف المحاضرات والأفكار، وإنّ فكرة جامعة لمادّة غنيّة بالأفكار مقرونة بإثارة عاطفيّة صادقة نابعة من هذه الفكرة الإجماليّة الجامعة الصحيحة، رُبّما تقلب الإنسان رأساً على عقب، فيتبدّل وضعه، وتتغيّر بيئته السلبيّة، وينقلب فجأة إلى العزم للمضي نحو الفضائل، وينشأ ذلك من الإثارة العاطفيّة الصادقة، إذ المفروض أنّ الإثارة العاطفية الصادقة رسالة، مُستمعها (المُرسل إليه) هو الجانب العملي في النفس، والجانب العاطفي في النفس، المنفعل والمتقبّل لها هو الجانب العاطفي في النفس، فإذا كان المشتري والسامع والمنفّذ لها هو الجانب العملي في النفس، فهذا اختصار للطريق، وبعبارةٍ أخرى، فإنّ معيّة الفكر مع العاطفة أو مع الجانب العملي في النفس ضرورة لا يمكن التفريط بها للوصول إلى الإرشاد

٢٨٤

والإصلاح الاجتماعي، أو الفردي، أو التربية السليمة والكمال المنشود.

ومن ثَمّ حصلَ الفارق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة، فمن الخطورة بمكان أن ننحو نحو سلبيّات الغرب، بخلاف إيجابيّات الغرب - من التقدّم العلمي والتكنولوجي - فإنّه لابدّ من الأخذ بهما.

أمّا أن نكون مَجمعاً للروافد السلبيّة المنتشرة والشائعة في مجتمعاتهم، فهذا مرفوض من الأساس؛ لأنّ حقيقة الفطرة الإنسانيّة مزدوجة من جانبين، بل قيادة النفس إنّما هي بالإرادة، والإرادة صفة عَمليّة، والذي يوجدها ويولِّدها ويثيرها ويحرّكها هو جانب العاطفة - العاطفة الصادقة - أو جانب العقل العملي الصادق الوليد للجانب الإدراكي.

فإذا فقدَ الإنسان إرادته، فإنّه سوف يفقد كلّ شيء في شخصيّته، فالإرادة - التي هي أثمن شيء في الوجود، وهي الصفة التي امتاز بها الإنسان عن بقيّة المخلوقات - لابدّ من تطعيمها بعاطفة صادقة، فحينئذٍ من الجناية على المجتمع والفكر والحقيقة بمكان أن نُسمّي الفكر الجاف، أو نسمّي عدم التفاعل الصادق مع الحقائق والجمود في قبال الحقائق، نسمّيه نوع اعتدال، أو نوع تقدّم، أو حالة حضاريّة، بل هي حالة تخلّف تقودها جاهليّة الغرب، وهم يعانون منها الآن، ونحن بالتبع نجترّها، نجترّ فضلاتهم بعناوين برّاقة زائفة وأثواب جميلة خادعة، ونتنازل عن المفاهيم والعناوين الصادرة عن تراثنا.

هذه لقطة أخيرة من حقيقة البكاء، وهي: أنّ البكاء وأخواته من الأفعال العاطفيّة النفسيّة إذا كان ضمن الصور الإيجابيّة، فهو من كمالات النفس ومن

٢٨٥

كمالات المجتمع والبشريّة، التي تحتاج إليها لتصل إلى رُقيّها المنشود.

وأمثلة المفردات العاطفيّة: التشكيك، والتقديس، والبكاء.

ونذكر الآن مفردة أخرى، وفعلاً عمليّاً آخر يثار وهو: وصف شخص بأنّه عاطفي وانتقاده؛ لأنّه يتأثّر بالخبر مباشرة سلباً أو إيجاباً، وإنّ الشخص السوي والسليم: هو الذي إذا رأى صورة صادقة لا يتأثّر بها ولا يتحمّس لها، وإذا رأى صورة باطلة لا يتنفّر منها ولا يرفضها، وبعبارة أخرى: غلق باب العقل العملي، وقد عرفتَ أنّ العقل العملي من فطرة الله سبحانه، وإنّ الغاية منه قيادة حركة نورانيّة في النفس، بحيث ينفّرها عن المنكر والنقص والمساوئ، ويجذبها نحو الخير والكمال والفضائل، فهو حبل ربّاني نوراني وهداية ورحمة إلهيّة.

هذه الفطرة التي أنعمَ بها الباري عزّ وجل على الإنسان، لماذا نطمسها؟ ولماذا نقول: بأنّ العاطفة في الإنسان تعتبر حالة شاذّة! العاطفة ليست بجميع صورها خاطئة، العاطفة ترجمان عملي صادق حقيقي طبيعي للإنسان إذا كان ناتجاً عن معلومة صادقة، أو تأثّر بالنفرة والإنكار من معلومة كاذبة، كيف تُلغى العاطفة من وجود الإنسان، كيف تُهمل من وجود المجتمع، اللهمّ إلاّ أن نَصْبوا إلى مجتمع مفكّك عن العاطفة والأخلاق، كالمجتمع الغربي الذي يسبح في بحر الرذائل ويتخبّط في أدنى مستوى من الانحطاط.

التناسبُ الطردي بين المعلومة والعاطفة

نعم، الجدير بالذكر: أنّ كلّ معلومة لها حجم مقدّر من العاطفة في علم السيكولوجيا، إذا زاد التفاعل معها عن حجمها كان إفراطاً، وإذا نقص عن

٢٨٦

حجمها كان تفريطاً، وهذا مقرّر في تعاليمنا الدينيّة، مثلاً: على الإنسان أن لا يتعدّى بالغيرة على غيرة الله في محرّماته، فإذا جعلَ الله لشارب الخمر حدّاً معيّناً، فيجب أن لا تشتدّ الغيرة فيُحدّ أكثر من حدّ الله سبحانه، فإنكار المنكر اليسير يختلف عن المنكر المتوسط والمنكر الشديد الذي يصل إلى حدّ الكبيرة، والكبائر أيضاً لها درجات، فالزائد يكون إفراطاً وليس في محلّه، وهناك ترابط، فكلّ معلومة لها حجم عاطفي معيّن لابدّ أن يتولّد منها، وعدم تولّده يعني مسخ الفطرة الإنسانيّة عمّا هي عليه؛ لأنّ المفروض أنّ المُدركة لابدّ أن تُترجَم على الصعيد العملي، ولو لم تُترجَم فلا فائدة من الإدراك، وهذا هو الفرق بين النفس وبين الكمبيوتر، وبينها وبين الكتب، وبينها وبين مجرّد المعلومات.

فالفكرة والمعلومة كما هي خطيرة جدّاً، وكذلك العاطفة والمقولة العاطفيّة الصحيحة خطيرة جدّاً أيضاً، وخطورتها إيجابيّة أيضاً، سواء في النفس، أو في الإنسان، أو في المجتمع، وكما أنّنا لا يمكننا إلغاء الأفكار فكذلك لا يمكننا إلغاء العاطفة الناتجة من تلك الأفكار، وتبديل العلم إلى الجهل مساوق لإلغاء وتعطيل العمل، وقوام العمل بالزخم الروحي والقوّة العاطفيّة الصادقة التي تقوم بها النفس، من البكاء والتقديس والتأثّر.

وهذا المنحى المادّي، أو اللاروحي، أو اللاخلقي، ينتشر في الأوساط الفكريّة العلمانيّة والأوساط الإسلاميّة المتأثّرة بالعلمانيّة تدريجيّاً، وهو أمر بالغ الخطورة.

هذا مُجمل البحث التخصّصي في موضوعات ظاهرة البكاء، حيث ألقينا الضوء على البكاء من ناحية تخصصيّة بغضّ النظر عن الفقه، وبغضّ النظر عن

٢٨٧

روايات الشريعة الواردة في خصوص البكاء على الحسين (عليه السلام)، بغضّ النظر عن ذلك كلّه، وفي الواقع فإنّ الشريعة لا تتناول البكاء فقط، بل تتناول كثيراً من الأفعال العمليّة التي تقوم بها النفس وتمارسها ولكن وفق شروط وضوابط معيّنة.

البكاءُ في القرآن الكريم

1 - ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (1)، فالقرآن يُثني على ظاهرة البكاء التي تنشأ من درك الحقيقة، أي أنّه يمدح التأثّر والتحسّس العاطفي الذي يكون البكاء مظهراً من مظاهره، وقسماً من أقسامه، يمدحه القرآن ويصفه بأنّه: تأثّر صادق ومطلوب وطبيعي وفطري وكمالي إذا نتج من معلومة حقيقيّة( وَإِذَا سَمِعُوا... تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) ، وهنا إشارة لنفس الشرطين اللذين ذكرناهما باعتبار أنّه تأثّر من المعلومة الحقيقيّة.

2 - ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) (2) ، فيمدحهم القرآن على

____________________

(1) المائدة: 82 - 83.

(2) التوبة: 91 - 92.

٢٨٨

تأثّرهم، هذا التأثّر هو على نحو الانفعال البكائي نتيجة التشوّق للمشاركة في فعل الخير من الجهاد والإنفاق، هذا التأثّر يمدحه القرآن ويصفه بأنّه: فعل إيجابي وكمالي.

3 - ( قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأذقَان سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ للأذقَان يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (1) .

مَدحهم لأجل البكاء والتأثّر، ولو كانوا يستمعون فقط لمَا أُنزل من الوحي ولا يبكون، فلن يكون لديهم خشوع، والخشوع - الذي هو ذروة الحالات النفسيّة العمليّة - هو في الواقع حالة عمليّة، ليس من الجناح العملي النازل، بل من الجناح العملي الصاعد، حيث مرّ بنا أنّه من أجنحة النفس الذي هو: القلب، السرّ، الخفيّ، الأخفى.

فالخشوع: هو فعل من أفعال القلب وليس فعلاً من أفعال الغرائز، وليس فعلاً من أفعال العقل العملي، وليس فعلاً من أفعال الشهوة، وليس من أفعال الحس ولا من الإدراك الحصولي؛ إنّما هو فعل من أفعال إدراك الباطن العلوي في النفس وهو القلب، فلولا البكاء لمَا حصل ذلك الفعل العلوي للنفس( وَيَخِرُّونَ للأذقان يَبْكُونَ ) ؛ لأنّه ناتج من معلومة صادقة وغاية صادقة، وهو الفرار من الذنوب والتشوّق إلى النشآت الأبديّة الخالدة، وهذا التشوّق والتأثّر يمدحه القرآن، وهو سير نفساني، وسير حقيقي في النشآت الأبديّة الخالدة، يمدحه القرآن الكريم وإن لم ندركه نحن الآن، وسيُكشف لنا الغطاء - إن شاء الله - فندرك أنّ

____________________

(1) الإسراء: 107 - 109.

٢٨٩

هذا السير النفساني هو سير في تلك النشآت وكمال فيها.

4 - ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ...) تَذكر هذه الآية الأنبياء والصفة البارزة لكلّ نبيّ منهم، إلى أن تقول:( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (1) ، فالأنبياء هم الأمثولة المحتذى بها والأنموذج المقتدى للبشريّة، وهم المَثل السامي للبشريّة، والقرآن الكريم يمدحهم بأنّ لهم تأثّراً عاطفيّاً يظهر بشكل البكاء.

( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ ) على نحو القضيّة الحقيقيّة، أي: كلّما تُليت آيات الرحمان - ولو على مرّ الدهور - فهناك فئة ممّن هداهم الله سبحانه واجتباهم يتأثّرون بها فيخرّون للسجود ويبكون( إِذَا تُتْلَى... خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) .

5 - عندما أُخبر يعقوب بأنّ ابنه الثاني أيضاً قد أُخذ منه، قال:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ (2) تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (3) يعني: ما أمارسه هو فعل من الأفعال الراجحة، ويعقوب نبيّ من أنبياء الله عزّ وجل، والقرآن يُخلّد ذكره ويُخلّد فعله لنا، ويُعطينا قدوة نموذجيّة وأمثولة للاقتداء به في هذا التفاعل

____________________

(1) مريم: 58.

(2) لا تفتأ، لا تنقطع.

(3) يوسف: 83 - 86.

٢٩٠

العاطفي، هذا البكاء والتشوّق لنبيّ آخر هو من أبنائه ليس تشوّقاً إلى كمالٍ زائل؛ وإنّما هو تشوّق لنبوّة نبيّ آخر، فالغاية سامية، والتأثّر لأجل صلة الرحم.

بكاؤه استمرّ طيلة غياب يوسف، وأدّى إلى بياض عينيه( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ) يعني: عَميت، اشتدّ به البكاء إلى درجة العمى، فالبكاء كان باختياره، فإذا كان النبي يتشوّق ويبكي إلى هذا الحد، وقد كان ضمن مَن وَصفهم الله عزّ وجل( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ... ) (1) ، فيعقوب ضمن هؤلاء الأئمّة، ومع ذلك يتشوّق إلى نبي مثله، فكيف إذا تشوّق غير النبي وغير المعصوم إلى المعصوم، وهل يكون تشوّقه أو بكاؤه - لو وصلَ به الأمر إلى الإضرار بالعين - فعلاً محرّماً، هذا بحث آخر سيأتي في جهة الضرر الحاصل بسبب الشعائر.

فهذا نوع من السلوك والخُلق النبويّ الذي سطّره لنا القرآن الكريم بُغية الاحتذاء به واتّباعه، حيث يقول في آخر السورة:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (2)، وبهدف التأسّي من هذه النماذج(3) .

حينئذٍ، هذا الفعل من يعقوب (عليه السلام) أورده الباري سبحانه في هذه السورة لأجل أن يُحتذى به، وهو فعل كمالي وليس فعلاً مذموماً أو فيه منقصة، وآية

____________________

(1) الأنبياء: 73.

(2) يوسف: 111.

(3) وكما قال الزمخشري مخاطباً الأشاعرة مع أنّه من العامّة، في ذيل الآية( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (يوسف: 24): قاتَلهم الله، عمدوا إلى سورة ضربها الله مثلاً للبشريّة إلى يوم القيامة؛ احتذاءً لعفّة النبي يوسف، فجعلوها نقضاً على الله سبحانه في كتابه.

٢٩١

( فَارْتَدَّ بَصِيراً ) تدلّ على أنّه أُصيبَ بالعمى، تصل الدرجة لنبي من الأنبياء أنّه مارسَ البكاء بهذه الشدّة، فكيف يمكن أن يكون الفعل سلبيّاً، بل فعله ايجابي، ولذلك ضربهُ الله سبحانه أنموذجاً يُحتذى به.

6 - ( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ) (1) ، فيها زجر ونهي عن الضحك، وعن الإمساك عن البكاء.

فما تُطالبنا به هذه الآيات الكريمة هو: البكاء المتوفّر فيه الشرطان السابقان: وهو انطلاقه وتولّده من معلومة حقّانيّة، واندراجه تحت غاية كماليّة، مثل هكذا بكاء يمتدحه القرآن أشدّ مدح.

- في الجانب الآخر هناك آيات تنهى عن الفرح المذموم، مثل:

سورة هود: 10( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) .

هذه الآيات تذمّ الفرح( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) (2) ، والفرح الذي يكون منشأه حَدث دنيويّ يذمّه القرآن أشدّ الذم،( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (3) يعني بما عند الله بالآخرة، يُخصّص الفرح الممدوح بما يكون في سياق النشأة الأخرويّة، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فَرحاً: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر) (4) .

____________________

(1) النجم: 59 - 60.

(2) القصص: 76.

(3) يونس: 58.

(4) مقاتل الطالبيّين (أبو الفرج الأصفهاني): 6؛ الاحتجاج (الطبرسي) 1: 172.

٢٩٢

نعم، هذه في سلسلة النشأة الأخرويّة، وأمّا ما لا يصبّ في سبيل النشأة الأخرويّة فيذمّه القرآن أشدّ ذم، ويُخصّص شطراً كبيراً منه بذمّ الفرح إلاّ ما كان قد تعلّق بالتشوّق إلى الجانب الأخروي.

وأمّا الخشية والخشوع - اللذان هما صفتان وفعلان نفسيّان قريبا الأفق من البكاء - فهما صنفان يتلازمان ويتزامنان مع البكاء، والآيات المادحة لذلك كثيرة جدّاً(1) .

الخشية، أو الخشوع والإشفاق: حالات نفسيّة من أفعال الجانب العملي في النفس، وتكون مقرونة بالبكاء، بل في أكثر الأحيان ناشئة منه، ولا تنفكّ غالباً عنه، وإذا كان ما هو ناتج عن البكاء مُستحبّاً وراجحاً ومرغوباً فيه في الشريعة، فالسبب (وهو البكاء) أيضاً مرغّب فيه من قِبل الشريعة أيضاً.

لذا فإنّ البكاء من خشية الله يُعدّ من أعظم العبادات، حتّى أنّه وردت روايات عديدة في أنّ البكاء في الصلاة من أفضل أعمالها.

فنظرة الشريعة - من خلال الآيات والروايات - تدلّ على أنّ البكاء المتوفّر فيه هذان الشرطان: هو من الأفعال الكماليّة النفسانيّة ومن الفطرة المستقيمة للبشر، والقرآن يمدح هذه الحالة في أنبيائه ورسله، ويضرب لنا في ذلك أُمثولة وقدوة نتأسّى بها حتّى في الحزن، فنظرة الآيات القرآنية - وقبل أربعة عشر قرناً - تُقرّر وتُثبت ما توصّلت إليه

____________________

(1) مثل: سورة الزمر: 23( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ) ، الحديد: 16، الأنبياء: 90، الحشر: 21.

٢٩٣

البحوث العقليّة والعلوم الحديثة: من أنّ البكاء ليس سلبيّاً على إطلاقه، بل أغلب وأكثر أفراده إيجابيّةً.

بعضُ الأدلّة الواردة في البكاء

أمّا الروايات الواردة في الحثّ على البكاء، والمدح والثناء للباكين، فمنها:

1 - بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّه حمزة، وحثّه وترغيبه البكاء عليه، ويظهر ذلك من عدّة أدلّة تاريخيّة، منها:

أ) قال ابن الأثير وغيره: لمّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة قتيلاً بكى، فلمّا رأى ما مُثّل به شهقَ(1) .

ب) وذكرَ الواقدي: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذٍ(2) إذا بكت صفية يبكي، وإذا نَشجت ينشج. قال: وجَعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

ج) روى ابن مسعود، قال: (ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكياً قط أشدّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لمّا قُتل - إلى أن قال - ووضعه في القبر، ثُمّ وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله على جنازته وانتحبَ حتّى نشغ(4) من البكاء...)(5) .

د) ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في ص: 40 من

____________________

(1) أُسد الغابة 2: 48.

(2) أي: يوم أحد.

(3) كما نقلَ ذلك السيّد شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد: 293.

(4) النشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغشي.

(5) ينابيع المودّة (القندوزي) 2: 215؛ شرح مسند أبي حنيفة (ملاّ علي القاري): 526؛ ذخائر العقبى (أحمد بن عبد الله الطبري): 181.

٢٩٤

الجزء الثاني من مسنده: من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رجعَ من أُحد، جَعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنّ، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(ولكنّ حمزة لا بواكي له ، قال: ثُمّ نام، فانتبهَ وهنّ يبكين، قال:فهنّ اليوم إذا يبكينَ يندُبن حمزة) .

- وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي، قال: لم تبكِ امرأةٌ من الأنصار على ميّت - بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لكنّ حمزة لا بواكي له) - إلاّ بدأنَ بالبكاء على حمزة(1) .

2 - بكاءُ النبي جعفر بن أبي طالب وحثّ النساء بالبكاء عليه:

فقد أخرجَ المزّي في تهذيب الكمال عن مغازي الواقدي، بسنده عن أم جعفر بنت محمّد بن جعفر، عن جدّتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحتُ في اليوم الذي أُصيبَ فيه جعفر وأصحابه، فأتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد هيّأتُ أربعين منّاً من أُدُم، وعجنتُ عجيني، وأخذتُ بَنيّ، وغسلتُ وجوههم، ودهنتُهم، فدخلَ عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:(يا أسماء، أين بنو جعفر؟

فجئتُ به إليهم فضمّهم وشمّهم، ثُمّ ذَرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلّه بَلغك عن جعفر شيء، فقال:نعم، قُتل اليوم.

فقالت: فقمتُ أصيح واجتمعَ إليّ النساء.

____________________

(1) عن كتاب النص والاجتهاد: 297؛ وهناك شواهد كثيرة على ثبوت بكاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحثّه عليه، وقد جمعَ أكثرها السيّد عبد الحسين شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد: 297، فراجع.

٢٩٥

قالت: فجعلَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:يا أسماء، لا تقولي هَجراً ولا تضربي صدراً ، قالت: فخرجَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى دخلَ على ابنته فاطمة، وهي تقول:واعمّاه.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :على مِثل جعفر فلتبكِ الباكية .

ثُمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :اصنَعوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم) (1) .

3 - بكاءُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولده إبراهيم: ما أخرجه البخاري في صحيحه، قال فيه:

ثُمّ دخلنا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإبراهيم يجود بنفسه، فجُعلت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تذرفان.

فقال له عبد الرحمان بن عوف: وأنت يا رسول الله؟

فقال:(يا بن عوف، إنّها رحمة، ثُمّ أتبعها بأخرى.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلاّ ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) (2) .

وبكى كذلك على عثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وزيد بن حارثة(3) .

4 - ما وردَ في خطبة الأمير (عليه السلام) في وصف المتّقين، وشدّة انفعال همام إلى حدّ الموت، فصُعق همام صعقةً كانت نفسه فيها، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):(أمَا

____________________

(1) تهذيب الكمال (المزي) ج 5: 60.

(2) صحي البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي:(إنّا بكَ لمحزونون) .

(3) راجع كتاب النص والاجتهاد: 295.

٢٩٦

والله لقد كنتُ أخافها عليه، ثُمّ قال:هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين(1) ، فقال:ويحك إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه ولا يتجاوزه، فمهلاً لا تعُد لمثلها فإنّما نفثَ الشيطان على لسانك) (2) .

5 - وما ذكرهُ الأمير (عليه السلام) عندما غارت خيل معاوية على الأنبار، وقُتل حسّان بن حسّان البكري، فكان (عليه السلام) متأثّراً ومتذمّراً، وهو يستنهض الناس في الكوفة للقتال ضدّ معاوية، فكان يقول (عليه السلام):(ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حِجلها وقلائدها ورُعثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثُمّ انصرفوا وافِرين، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أُريقَ لهم دمٌ، فلو أنّ امرءاً مسلماً ماتَ بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً) (3) .

فهو (عليه السلام) يصف شدّة الانفعال من جهة الغيرة(4) (الغيرة: هي أيضاً صفة نفسانيّة، عاطفيّة، منطلقة ووليدة من إدراك معلومة حقيقيّة، ولأجل غاية حقيقيّة، وهي الذبّ عن حريم الدين، وحريم المسلمين، والدفاع عن شرف وكرامة

____________________

(1) أي: لمَ سبّبتَ له ذلك.

(2) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبدة 2: 160، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 10: 149.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(الغيرةُ من الإيمان، والبذاء من الجفاء) ، كتاب النوادر (قطب الدين الراوندي): 179؛ بحار الأنوار 103: 250 / 44.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(كان إبراهيم أبي غيوراً، وأنا أغيَر منه، وأرغمَ الله أنف مَن لا يغارُ من المؤمنين) بحار الأنوار 103: 248 / 33.

٢٩٧

المؤمن).

إذاً، الجامع بين الخشية والخشوع والأسى والحزن هو شدّة الانفعال، وهو من المعاني الحقيقيّة، هذه الشدّة لا يعتبرها الإمام إفراطاً، ولا مغالاة، مثلَ ما وقع من النبي يعقوب( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) ، أو كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام):(بل كان به عندي جديراً) ، حيث يصفها بأنّها فعلٌ كمالي.

6 - وأيضاً، في زيارة الناحية التي نَقلها صاحب البحار، وهي منسوبة للإمام الحجّة (عليه السلام):(فلأندُبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدلَ الدموع دَماً حسرةً عليك وتأسّفاً وتحسّراً على ما دَهاك) (1) ، فهذا نوع من شدّة الانفعال التي هي ليست بمذمومة بل ممدوحة ومطلوبة.

7 - أيضاً في القصيدة التي ألقاها دعبل الخزاعي في محضر الرضا (عليه السلام):

أفاطم لو خِلت الحسين مجدّلاً وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذاً للطمت الخدّ فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوَجنات(2)

فَعلا صُراخ حرم الإمام (عليه السلام) من وراء الستر، ولطمنَ الخدود، وبكى الإمام الرضا (عليه السلام) حتّى أُغميَ عليه مرّتين من شدّة الانفعال والتأثّر.

8 - ما يُذكر في التاريخ من إغماء أمير المؤمنين (عليه السلام) مراراً من خشية الله في صلاة الليل، وهي مسندة في تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) في المصادر المختلفة، ونفس الحالة ثابتة أيضاً لباقي الأئمّة (عليهم السلام).

____________________

(1) بحار الأنوار 101: 238 / 38.

(2) ذكرها الصدوق مسندة في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 263؛ بحار الأنوار 45: 257 / 38.

٢٩٨

9 - ما ذكرهُ صاحب كامل الزيارات ابن قولويه(1) ، ونقله صاحب البحار أيضاً من كامل الزيارات نفس الرواية(2) الواردة في بكاء السجّاد (عليه السلام) وقول مولىً له: جُعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال (عليه السلام):(إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ خَنقتني العبرة) .

- وفي رواية أخرى: أمَا آنَ لحُزنك أن ينقضي؟!

فقال له:(ويحكَ، إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً، فغيّبَ الله واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودبَ ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرتُ إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني) (3) .

- وذكرَ صاحب حُلية الأولياء: أنّه (عليه السلام) بكى حتّى خيفَ على عينيه(4) .

10 - ما ذكرهُ الصدوق في عِلل الشرائع(5) ، من العلّة التي من أجلها جَعل الله عزّ وجل موسى خادماً لشعيب (عليهما السلام) وهي: لكثرة بكاء النبي شعيب من خشية الله حتّى عميَ مرتين أو ثلاث، يُعمى ويردّ الله عليه بصره، ثُمّ يبكي بشدّة ويردّ الله عليه بصره، حيث وردَ في هذه الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(بكى شُعيب (عليه السلام) من حُبّ الله عزّ وجل حتّى عَمي، فردّ الله عزّ وجل عليه بصره، ثُمّ بكى حتّى عَمي

____________________

(1) في الباب 35.

(2) بحار الأنوار 46: 108 / 1.

(3) بحار 46: 108.

(4) المصدر السابق.

(5) علل الشرائع: 1 / 74، 57 / باب 51.

٢٩٩

فردّ الله عليه بصره، ثُمّ بكى حتّى عميَ فردّ الله عليه بصره، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب، إلى متى يكون هذا أبداً منك، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك، وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبَحتك، قال: إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيتُ خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك، ولكن عُقد حبّك على قلبي، فلستُ أصبر أو أراك، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: أمَا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدِمك كليمي موسى بن عمران) (1) .

11 - فِعل الرباب زوجة الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّها من شدّة التأثّر لم تستظلّ تحت السقف(2) عاماً كاملاً إلى أن توفّيت، وكان ذلك بمسمع وبمرأى من السجّاد (عليه السلام)، أي مع تقرير المعصوم على هذا الفعل، فيكون نوعاً من التصحيح والإمضاء له.

وهناك موارد عديدة غير ذلك تُصوّر شدّة الانفعال، وتدلّ على رجحان البكاء، والجامع بين هذه الموارد والصور المتعدّدة للتفاعل العاطفي هو شدّة التأثّر للإدراكات الحقيقيّة، ولعلّ المتتبّع يجمع أكثر من هذه الموارد بكثير.

حينئذٍ يظهر أنّ البكاء والتأثّر العاطفي من معلومة حقيقيّة وإدراك حقيقي هو لأجل غاية حقيقيّة، وهذه من خاصّيّة النوع الإنساني وخاصّيّة الفطرة الإنسانيّة، ومن دون ذلك سوف يفقد الإنسان إنسانيّته ويكون حاله حال الجمادات، ويكون أدون من العجماوات، حيث أثبتَ القرآن الكريم أنّ للسماء والأرض

____________________

(1) عِلل الشرائع 1: 57.

(2) لواعج الأشجان (السيّد محسن الأمين): 223.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440