الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد13%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131273 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

إذاً، الذي يظهر حول بحث البكاء من كلمات علماء الإماميّة - من: فقهاء، ومتكلّمين، ومفسّرين، ومحدّثين، ومؤرّخين، ومن الروايات أيضاً - أمران:

١ - كون البكاء الدعامة الأصليّة في الشعائر الحسينيّة.

٢ - استمرار البكاء وتأبيده إلى يوم الثأر، وقبل الخوض في تفاصيل ظاهرة البكاء يجب الالتفات إلى جانب مهمّ جدّاً.

حقيقةُ البكاء

إنّ البكاء مادّة حيويّة للبحث في عدّة علوم، مثل: علم النفس، والاجتماع، والأخلاق، والفلسفة، وعلم التمدّن، والحضارة، قد شغل حيّزاً في اهتمام العلوم الإسلاميّة، وبمحاولة لمعرفة حقيقة البكاء نقول: إنّه فعل من أفعال النفس الجانحيّة لا الجارحيّة، وهنا تظهر تساؤلات على السطح منها: أين تصدر النفس البكاء، وكيف تصدره، ومتى؟ هل البكاء فعلٌ سلبي أم إيجابي، باعتبار أنّ أفعال النفس الجانحيّة أو الجارحيّة لا تتّصف بلونٍ ما بذاتها؛ وإنّما تتّصف بلحاظ الغايات، فيا ترى كيف هو البكاء في لونه الذاتي؟ فلابدّ من تحليله موضوعيّاً ماهويّاً تحليلاً عقليّاً كاملاً لنرى ما هي أجوبة هذه الأسئلة؟

ولأجل ذلك، يجب الالتفات إلى ما ذكرنا في جهات سابقة في الفصل الأوّل من الشعائر الدينيّة العامّة: وهو وجود أجنحة مختلفة في النفس قد جهّزها الله عزّ وجل بها، ولا ريب أنّ أحد أبواب معرفة الله سبحانه ناشئ من معرفة النفس،

٢٦١

فقد وردَ في الأثر عن أمير المؤمنين (عليه السلام):(مَن عَرف نفسه فقد عَرفَ ربّه) (١) ، وورد كذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(أعرفكم بنفسه، أعرفكم بربّه) (٢) ، الذي يعرف نفسه سوف يعرف نقاط الضعف من نقاط القوّة فيها، ومن ثَمّ لا تُزعزعه دواهي الدهر، فمعرفة النفس لها فوائد عديدة في سبيل الاتّصاف بالأخلاق، وفي بناء شخصيّة الإنسان، والنفس فيها أجنحة عديدة، وأحد أجنحة النفس مشجّرات القوى الإدراكيّة، وهي على نوعين: الإدراكات الحصوليّة، والإدراكات الحضوريّة.

الإدراكات الحصوليّة: هي قوّة الحس، وقوّة المخيّلة (الخيال)، وقوّة الوهم، ثُمّ قوّة العقل.

الإدراكات الحضوريّة: هي إدراكات عيانيّة للأشياء في نشآت أخرى غير النشأة المادّيّة الحسّيّة.

القوّة الإدراكيّة والقوّة العمليّة

على كلّ حال، هناك أيضاً جناح آخر في النفس هو: جناح القوّة العمليّة، أو ما يسمّى بالقوّة العمّالة، مثل: القوى العضليّة، والقوى الشهويّة، والغرائز المختلفة في النفس، وقوّة العقل العملي، هذه القوى سمتها المهمّة المميِّزة لها عن الجناح الأول - أو الأجنحة الأخرى - أنّها باعثة ومحرّكة في النفس.

فلدينا جناحان من الأجنحة العديدة في النفس، أو جهتان:

____________________

(١) بحار الأنوار ٢: ٣٢: ٣٣؛ مصباح الشريعة (المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)): ١٣.

(٢) الاقتصاد (الشيخ الطوسي): ١٤؛ روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): ٢٠.

٢٦٢

الأوّل: الجهةُ الإدراكيّة.

الثاني: الجهةُ العمليّة.

طبعاً الجناح الذي هو في الجهة العمليّة هو المحرِّك والباعث، لكنّه ليس بكلّ درجاته خالياً من الإدراك، كلاّ، بل هو في بعض درجاته مزيج ومختلط بالإدراك، مثل: قوّة العقل العملي، وخاصيّة قوّة العقل العملي هو الإدراك مع كونه محرّكاً أيضاً.

مثلاً: يَدرك الإنسان حُسن فضيلة معيّنة ويتشوّق إليها، فيمارسها ويعزم عليها ويوطّن نفسه على تطبيقها، أو ربّما - بدل أن يتشوّق إلى فضيلة ما - يستنكر رذيلة ما وينفر منها، ويشحن نفسه بالنفرة منها، فتراه ينقطع في سلوكه العملي عن تلك الرذيلة، وهلمّ جرّاً.

فعلى كلّ حال، العقل العملي حيث إنّه محرِّك عملي، إلاّ أنّ جنبة الإدراك تتوفّر فيه أيضاً، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى: لابدّ من امتزاج هاتين القوّتين العمليّة والإدراكيّة في النفس الإنسانيّة، فافتراض وجود إنسان له جانب إدراكي فقط، أو له جانب عملي فقط مخالف للفطرة الإنسانيّة، وبعبارة أخرى: فأنت تريد بافتراضك هذا أن تجعله إنساناً له جانب عمّالي فقط دون جانب إدراكي أو بالعكس، لكنّ مثل هذا الشخص ليس من الحقيقة الإنسانيّة بشيء، بل الحقيقة الإنسانيّة فَطرها الله عزّ وجل على مزيج من القوى العمليّة والقوى الإدراكيّة، فمن المحال وجود حقيقة إنسانيّة تتمحّض في إدراك المعلومات فحسب، بل لابدّ أن تجد فيها جناحاً آخر وجنبة أخرى، وهي جنبة

٢٦٣

عمّاليّة، كذلك من المحال أن ترى إنساناً فيه جنبة عمّاليّة فقط - كالحيوانات -، بل جملة من الحيوانات تكون الجنبة الإدراكيّة خفيفة فيها، لكنّ الجنبة العمّاليّة فيها بارزة وظاهرة.

وقد وزّع الله عزّ وجل الصفات العمليّة في الحيوانات بشكلٍ عجيب، مثلاً: الحرص تجده في النمل(١) ، والوفاء تراه في حيوان آخر، والغيرة على الأنثى في حيوان، وانعدام الغيرة في حيوان، كأنّ هذه الصفات العمليّة وزِّعت على كثير من أقسام الحيوانات عبرةً للإنسان، والفطرة الإنسانيّة تختلف عن الفطرة الحيوانيّة التي تكمن فيها الجنبة العمليّة فقط، وإن كان هناك صفات عمليّة (فضيليّة) موزّعة وموجودة لدى الحيوانات من اللطائف، ومَن يتتبّع حياة بعض الحيوانات سوف يلاحظ في كلّ حيوان صفة معيّنة، وهذا مورد للاعتبار، حيث يقال: الإنسان يُحشر حسب صفته، وهذه الأشكال من الحيوانات الموجودة هي نموذج وأمثال للصفات المختلفة، فإن كانت صفات الإنسان رذيليّة - لا سامح الله - فإنّه سوف يُحشر بحسبها.

فليست الفطرة الإنسانيّة تحتوي على جانب إدراكي محض، ولا على جانب عملي محض، بل هما جناحات ممتزجان لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا يُفصل بينهما في حاقّ النفس البشريّة، وإذا وجدنا بعض الناس فيه طغيان جنبة إدراكيّة على جنبة عمليّة، أو طغيان جنبة عمليّة على جنبة إدراكيّة، فهذا نوع من الاختلال وعدم التوازن والتكامل فيه.

____________________

(١) راجع توحيد المفضّل: القسم الخاص لبيان أسرار وعجائب الحيوانات - بحار الأنوار ٣: ٩٠.

٢٦٤

مثلاً: الحسد، أو الشهوة، هما من جنبة إدراك المخيّلة التي هي النافذة العظمى للشيطان في الإنسان، التي يدخل من خلالها، حيث يُري الشيطان الصور للإنسان من بعيد، يُريه صورة لفعل أو لشيء، ثُمّ يشوّقه نحو ذلك الفعل( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي... ) (١) ، فبتوسّط نفس الدعوة من بعيد يُري الصورة في عالَم النفس، ثُمّ يُغري الإنسان فيتشوّق ويتحرّك نحوها، فالإنسان إذا عزفَ وانصرف عن هذا الإغراء ينقطع سلطان الشيطان عنه، أمّا مع رغبة النفس وتركيزها وانجذابها؛ فإنّ الشيطان سوف يستولي عليه، وهذا قد يكون تفسير الحديث المعروف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّ الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم) (٢) .

وباعتبار أنّ هذه النوافذ الإدراكيّة لا يضبطها الإنسان ولا يحرسها بحراسة جيّدة، وإنّه يُطلِق عنانها من دون مراقبة النفس؛ فإنّ الشيطان سيخترق النفس من خلالها وينفذ إلى أعماقها.

فالفطرة الإنسانيّة ذات جنبتين لا يمكن تفكيك إحداهما عن الأخرى.

ونواصل بعض الأمثلة لكي نكون على بصيرة من هذا البحث، حتّى نصل إلى حقيقة النكات الفلسفيّة والعقليّة.

مثلاً: يروِّج البعض في بعض الأبحاث الفكريّة والثقافيّة الحديثة أنّ

____________________

(١) إبراهيم: ٢٢.

(٢) مستدرك الوسائل ١٦: ٢٢٠.

وفي الكافي ٢: ٤٤٠، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:(يا ربّ سلّطتَ عليّ الشيطان وأجريتهُ منّي مجرى الدم..) .

٢٦٥

التقديس والقدسيّة والتعظيم هي نوع من الحجاب أمام التحرّر الثقافي والانفتاح الفكري، لذا لابدّ من إزالة هذا الحاجب والوقوف في وجه أشكال التقديس والاحترام والتعظيم.

وهذا يندرج ويجري في نفس المسار في بحث البكاء أيضاً، فما مدى صحّة هذه المقولة يا ترى؟

للإجابة عن ذلك - ولتمحيص حقيقة هذه المزاعم والدعاوى - لابدّ من معرفة ماهيّة القدسيّة، وإنّها فعل أيّ قوّة من قوى النفس، وأيّ جناح من أجنحة النفس؟

مثلاً، قيل: إنّ التشكيك نبراس ومعلم للحريّة الفكريّة وللأسلوب الفكري والتحقيقي، وإنّه ديدن العلم، هل هذا صحيح بقول مطلق أم فيه تفصيل؟ التشكيك أيضاً عمليّة فكريّة تمارسها بعض القوى الإدراكيّة، فهل هذا الفعل - كفعل نفساني - هو فعلٌ سليم دوماً أم لا؟

إذاً، يجب أن ندرس أفعال النفس بدقّة كي لا نقع في الخطأ ولا في المغالطات، ولا في الالتباسات، وعلينا أن نتعرّف على مجال ممارسة النفس لها، ومواطن عدم الممارسة، كذلك البكاء فعل من أفعال النفس، وكذلك التقديس والتعظيم والإذعان والمتابعة النفسيّة كلّها من أفعال النفس، وترتبط بالقضايا الإدراكيّة والاعتقاديّة والفكريّة والسلوكيّة، وهي برنامج يتعلّق بسير الإنسان في معاشه وحياته، فمتى يا ترى تمارسه النفس بصحّة، ومتى تمارسه النفس خطأً؟

كذلك التشكيك، أو التساؤل، أو التنقيب فعل من أفعال النفس، فمتى تمارسه النفس بشكل صحيح، ومتى تمارسه النفس خطأً؟ هل يجب أن يقف الإنسان

٢٦٦

دوماً في منطقة التشكيك والتساؤل؟ أم ينبغي عليه أن يتجاوز ذلك؟ كلّ هذه الأبحاث ونحوها ممّا ترتبط بمباحث دينيّة حسّاسة وخطيرة، فلابدّ من الوقفة العلميّة عندها؛ لإنعام النظر فيها.

ثوابتٌ عن ظاهرة التقديس

كيف يمارس الإنسان عمليّة التقديس بشكل صحيح؟ التقديس والقدسيّة: عبارة عن الإذعان، وحينما يذعن الإنسان لشيء ويتصوّر أنّه حقيقة فإنّه يُبدي المتابعة أو الخضوع له، فالتقديس: عبارة عن خضوع النفس عمليّاً ومتابعة القوى العمليّة في النفس لأمرٍ أذعنت النفس له وتصوّرت أنّه حقيقة، فمن ثَمّ يظهر لنا متى يكون التقديس صحيحاً ومتى يكون خاطئاً.

فإن كان ما أذعنت له النفس حقيقة من سنخ الواقع، فالتقديس صحيح، وإصرار النفس عليه ممدوح، وتعظيمها لتلك المعلومة الحقيقة راجح وصحيح؛ لأنّ المفروض أنّها من نفس الواقع، ورفع اليد عنها يعني ارتطام النفس ودفعها في سلسلة الجهل، مثل العالِم التجريبي إذا وصل إلى حقيقة معيّنة، ثُمّ يرفع اليد عنها ولا يعتمد عليها، أو لا يستفيد منها فيكون ذلك ضياعاً للحقيقة.

نعم، التقديس والقدسيّة إن كانت لأمر مخالف للواقع أو للحقيقة، أو كانت نابعة عن تصوّر وتخيّل رسمتهُ المخيّلة بعيداً عن الواقع، كانت خاطئة.

فإذاً، التقديس - بشكل مختصر -: هو عبارة عن متابعة النفس لمَا أذعنت له وتصوّرت أنّه حقيقة، فإن كان حقيقة واقعاً، ومبتنياً على مقدّمات وأدلّة يقينيّة مُنتجة، فيكون هذا التقديس صحيحاً وراجحاً، ولكن لابدّ أن يوضع حريم

٢٦٧

حوله؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل الذي أوصلك إلى مثل هذا بعد عناء وجهد، إذا لم تعمل به يكون ابتعاداً عن الواقع وإغراقاً في الجهالات والظلمات، وهذه حقيقة متّبعة في جميع العلوم التجريبيّة والعلوم المرتبطة بالنشآت وعلوم العقيدة وغيرها.

فإذا كان التقديس ناتجاً من إدراك حقيقة، فهو حالة طبيعيّة في النفس، ويبدأ التقديس من أرفع درجة من درجات القوى العمليّة في النفس، وهو العقل العملي، فيتابع العقل النظري فيما أدركه من حقيقة، وأمّا لو كان التقديس نتيجة لإدراك تخيّلي أو ظنّي أو وهمي أو غير مُبرهن وغير ثابت، كان التقديس نوعاً من التقليد.

فعلى كلّ حال، إطلاق وصف التقليد أو الإتّباع الأعمى على التقديس مطلقاً أمرٌ فيه مغالطة، حيث تبيّن أنّ ليس كلّ تقديس هو تقليد، بل حقيقة التقديس هي تعظيم للحقائق فيما إذا كان وليداً وتابعاً لإدراك حقيقة ما، نعم، لو كان التقديس أو المتابعة أو الإخبات والخضوع في الجناح العملي في النفس نتيجة لإدراك تخيّلي أو وهمي، كانت حقيقة هذا التقديس اتّباعاً أعمى وتقليداً خاطئاً، إذاً ليس من الصحيح ذمّ التقديس في نفسه مطلقاً.

بل لو انعكس التقديس إلى حالة الرفض الدائم في الجانب العملي للنفس، وهو ما قد يسمّى بالتشكيك، إذا كان رفضاً دائماً فسيكون حالة مرضيّة في النفس وليس حالة صحّيّة في بعض أقسامه، حيث إنّ الجناح الإدراكي في النفس إذا أدركَ حقيقةً ما ولم يتابعه الجناح العملي، ولم تُتابعه القوى العمليّة التجريبيّة أو غير التجريبيّة، إذا لم تحصل المتابعة بين الجناح العملي والجناح الإدراكي،

٢٦٨

ستكون هذه حالة مرضيّة في النفس؛ لأنّها تُدرك الحقائق ولكن لا تنتفع بها ولا تستفيد منها، وإصرار النفس على الرفض والإباء عن متابعة الحقائق يؤدّي إلى تضييع الحقيقة والتفريط بها.

كما يُفسّر المحقّق الأصفهاني الآية الكريمة( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) (١) : أنّهم في البداية قد يكون هناك لديهم إيقان مع الجحود، لكن في النهاية والمآل فإنّ هذا الإيقان يذهب كشيء ووجود شريف ثمين، يذهب وتفتقده النفس بسبب عدم متابعة الجانب العملي للجانب الإدراكي(٢) ، ولعلّ إليه الإشارة الأخرى في قوله تعالى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٣) .

وكما أنّ الجانب العملي في النفس يتأثّر بالجانب الإدراكي؛ فإنّ الجانب الإدراكي في النفس كذلك يتأثّر بدوره بالجانب العملي، وأمراض الجانب العملي في النفس تُسبّب أمراضاً في الجانب الإدراكي أيضاً، وكذلك الحال في أمراض القوى الإدراكيّة: كالوسوسة، أو سرعة الجزم (القطّاعيّة)، أو غلبة الوهم والتخيّل على التعقّل، حيث لا يستطيع أن يدرك المعاني العقليّة نتيجة السجن الذهني في القضايا الخياليّة والوهميّة.

فهناك أمراض في الجانب الإدراكي، كما أنّ هناك أمراضاً تقابلها في الجانب العملي إضافة للصفات الصحيحة في الجانب العمليّ، ومثال من أمثلة

____________________

(١) النمل: ١٤.

(٢) آخر بحث الانسداد في كتاب نهاية الدراية للشيخ الأصفهاني.

(٣) الروم: ١٠.

٢٦٩

أمراض الجانب العملي: دوام الإباء في الجانب العملي للنفس، أو دوام الإخبات والخضوع لكلّ مقولة ولأيّ دعوى، فهذه تعتبر حالة غير صحيحة وغير سليمة.

وهذه الأمراض في الجانب العملي لها أسماء أيضاً، مثل: التقليد العام الأعمى، أو بالعكس الرفض الدائم التي هي حالة السفسطة، فالحالة السفسطائيّة الدائمة المطلقة هي حالة مرضيّة في الجانب العمليّ في النفس، وحالة التقليد الأعمى هي أيضاً حالة مرضيّة ومذمومة عند العقلاء، وإليها وإلى غيرها من الأمراض يشير إليها القرآن الكريم وتشير الأحاديث النبويّة، وقد تعرّض لها أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن خُطبه الشريفة في نهج البلاغة، مثل:(حُبّك الشيء يُعمي ويُصمّ) (١) .

هذه حالات الجانب العملي، فإذا اشتدّت المحبّة فإنّها توجب ظلامة وحاجباً في الجانب الإدراكي، وشدّة البغض كذلك قد توجب التأثّر والستر في الجانب الإدراكي.

لا بمعنى أن لا تشتدّ محبّة الإنسان لمَن أمره الله بمحبّته، إذ إنّ الله سبحانه أمر بمحبّة نفسه، وأمرَ بمحبّة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام)، أو لا تشتدّ عداوته لمَن أمرَ الله سبحانه بعداوته، وليس المعنى أنّ زيادة المحبّة المأمور بها تكون خاطئة، أو الكراهة والبغض المأمور بها كذلك، ليس المراد ذلك، ولسنا وراء ما يطرحه العِلمانيّون أو ما يسمى بالعولَمة، أي الحياديّة في كلّ شيء، وإنّ المدار الأول والأخير هو نفسي ونفسي فقط، كطرق العولَمة المطروحة حديثاً - في الثقافات العالميّة - ليس هذا هو المقصود.

____________________

(١) رسائل المرتضى (الشريف الرضي) ٢: ٢١٦.

٢٧٠

وليس الاتّزان هو: عدم المحبّة في موردها (التي أمرَ بها الشارع والعقل)، أو عدم العداوة الشديدة في موردها الذي بيّنه الشارع، بل الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يدرك أمراً، ينبغي له عدم جعل المحبّة مؤثّرة في كيفيّة الإدراك، حتّى لو كانت محبّة في موردها، وكذلك الأمر في العداوة الشديدة، فضلاً عمّا لو كانت ليست في محلّها؛ وإنّما ينبغي جعل موازين الإدراك على ما هي عليه، وجعل موازين الحركات والأفعال في النفس على ما هي عليه، هذا هو المنطق القرآني والتوجيه النبوي والعلوي.

المنطقُ الشرعي وظاهرة البكاء

إنّ المنطق الذي يطرحه القرآن - والسُنّة المعصوميّة النبويّة والمعصوميّة العلويّة في نهج البلاغة - منطق ليس أُحاديّاً ولا تمايليّاً إلى طرف معيّن.

انظر مثلاً إلى المنطق الأرسطي الذي يضع موازين معيّنة على فرض صحّتها - كلّها أو بعضها - في جانب من جوانب الإدراكات، وهو فقط الإدراك الحصولي، وعلى بعض تقاديره ليس كلّ الإدراكات، أمّا الإدراك العياني فإنّه لا يضع له ميزاناً، أو الإدراك الحصولي من تقادير أخرى قد لا يضع لها ميزاناً.

أو أنّك ترى مثلاً المنطق الرياضي يضع موازين من جانب آخر، أو ترى المنطق النفسي الحديث المتداول أو المنطق الوضعي، ومدارس منطقيّة كثيرة كلّها تتناول جانباً معيّناً وتهمل الجوانب الأخرى، ومع ذلك فإنّ تلك الجوانب المتناولة قد تكون غير مستوعِبة لوضع الموازين فيها.

أمّا المنطق الشرعي: فإنّك ترى خلاف ذلك، المنطق الشرعي يتناول موازين

٢٧١

القوى العمليّة ويتناول موازين القوى الإدراكيّة، وعلى صعيد الإدراك العياني والإدراك الحصولي، وهلمّ جرّاً، يعني أنّه يتناول الموازين في أجنحة النفس العديدة، وينظر في كيفيّة ملائمة هذه الأجنحة في النفس مع بعضها البعض، وهذا ممّا لا تتناوله مدرسة منطقيّة بشريّة إلى الآن، هذا هو المنطق الشرعي أو المنطق الذي تُقدّمه المعرفة الدينيّة.

إنّه منطق الإنسان المتكامل في كلّ أجنحة النفس، وهو أيضاً يُحدّد العلاقة بين أجنحة النفس بعضها البعض، وإلاّ فأيّ منطق تراه يُحدّثك أنّ الحبّ والبغض يُعمي ويصمّ(١) ، أو يتناول قول أمير المؤمنين (عليه السلام):(إذا أقبَلَت الدنيا على أحدٍ أعارتهُ محاسن غيره، وإذا أدبَرت عنه سلبتهُ محاسن نفسه) (٢) ومثل هذه التعبيرات، وهذه أمور منحصرة في منطق الأطروحة الدينيّة.

التشكيكُ سلاح ذو حدّين

فالإباء المطلق حالة مرضيّة في النفس في الجانب العملي، والتشكيك أو التساؤل في منطق المعرفة الدينيّة وفي المنطق العقلي البشري؛ إنّما هو قنطرة لكي يراجع الإنسان حسابات الأدلّة التي يعقد عليها إيمانه، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة في أيّ مجال من المجالات، وفي أيّ علم من العلوم المرتبطة بالنشأة الدنيويّة، أو المرتبطة بالنشآت الأخرى، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة التي إمّا أن تكون مطابقة أو غير مطابقة.

____________________

(١) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ) بحار الأنوار ٧٧: ١٦٦ / ح ٢.

(٢) بحار الأنوار ٧٥: ٣٥٧ / ح ١٧ عن نهج البلاغة - رسائل المرتضى ٢: ٢١٦.

٢٧٢

لا أن يبقى في الإنسان منطقة التساؤل أبد الدهر، فليس التساؤل إلاّ محرّكاً وآلة للفحص وطاقة للبحث، وليس الفحص إلاّ طريق للوصول للحقيقة، ولو وقف الإنسان دائماً في منطقة التساؤل من دون أن يتحرّك، فهذه تعتبر حالة مرضيّة في النفس وليست حالة صحيّة؛ إنّما التساؤل يُعتبر بوّابة لأجل الفحص، لأجل التنقيب، لأجل التحرّي للوصول إلى الحقائق، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على الوقوف دوماً في منطقة التساؤل والتشكيك لمَا اكتُشف شيء في العلوم القديمة والحديثة، فليست هذه حالة صحّيّة، أمّا إذا كان التشكيك بمعنى التساؤل، ثُمّ يأتي بعده التحرّي والتنقيب - الذي يستتبع الجزم والتصميم على ضوء المعطيات البرهانيّة اليقينيّة - كانت الحالة حالة سليمة وصحيّة للنفس، أمّا أن نقف في دوّامة التساؤل والإباء والرفض فهذه حالة جهالة وليست حالة علميّة ولا صحيحة.

والذي يعيش بشكل دائم حالة سفسطائيّة وتشكيكيّة سيؤدّي به ذلك إلى القضاء على الفطرة علماً وعملاً، إدراكاً وتطبيقاً، وليس فيه نوع من التقدّم بل سوف يتحجّر المرء على نفسه، ولو كان الأمر كذلك لمَا وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات، هذا كمثال في العلوم التجريبيّة، فكيف في العلوم الإنسانيّة الأخرى.

فالشكّ والحيرة حينئذٍ يُشكّلان داعياً وباعثاً للتساؤل الذي يستعقبه تحرّك وفحص وتنقيب وتحقيق، حتّى يحصل الجزم والوصول إلى النتائج.

والإنسان - ضمن الفحص والتحقيق والسير - ربّما يسير ويفحص وتنتابه حالة مرضيّة أخرى غير السفسطة، وقد تكون مقابلة لها، وهي حالة بُطأ اليقين لديه، أو سرعة اليقين لديه، وكلاهما من الحالات المرضيّة في الإدراك، والمفروض أنّ

٢٧٣

الحالة الصحّيّة المتّزنة هي أنّه إذا رأى النتائج مُقنعة للنفس بشكل قطعي، وبمعزل عن ميوله الشخصيّة وقناعاته الخاصّة، فإذا كانت النتائج بنفسها موزونة ومنتجة، فاللازم أن يُسلّم ويُذعن ويقرّ بها.

فقيمة الشكّ إذاً من جهة الفحص والوصول إلى النتائج، أمّا إذا كان الشكّ محطّة دائمة فيصبح صورة سلبيّة وصفة مذمومة،

وكما يقال: فإنّ العلوم خزائن مفتاحها السؤال(١) .

ومن ثَمّ ذهبَ الفقهاء وعلماء الكلام إلى أنّ مَن اعتقدَ عقائد الحق لا عن دليل، فهو وإن كان من الناجين - إن شاء الله - إلاّ أنّه قد ارتكب معصية؛ لأنّه لم يعتقد ذلك عن دليل وبرهان، إذ إنّ العلم بالحقائق عن دليل واجب، وإن كانت النجاة مرهونة بصرف اعتقاد الحقّ ولو كان عن تقليد(٢) .

فالاعتقاد والاعتناق عن تقليدٍ - بدون تفكير وتدبّر - لا يُعتبر اعتقاداً تامّاً؛ لأنّه يكون في معرض الحرمان والزوال، بخلاف الاعتناق والاعتقاد عن دليل وبرهان وحجّة، فإنّه يظلّ دائماً متمسّكاً بتلك العقيدة، ثابت القدم على أركانها.

حصيلةُ المطاف: هذان نموذجان بشكل مختصر عن التقديس والتشكيك، أين موضعهما من أفعال النفس، ومتى يصبحان حالة مرضيّة، أو حالة سليمة في

____________________

(١) قال الخليل: العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها، نهج البلاغة ٢٠: باب ٤٨٦: ٢٤٧.

(٢) مثلاً: مَن يتّبع هذه الحقيقة عن تقليد وهي: أنّ الكهرباء قاتلة؛ فإنّه سوف ينجو من الكهرباء وإن كان اعتقاده عن تقليد وبدون دليل، ولكن لو عَلم بأنّ الكهرباء قاتلة عن طريق الدليل لمَا كان في معرض الشكّ؛ لأنّ الذي يبني على أنّ الكهرباء قاتلة من دون دليل، قد يكون في معرض الوقوع في هلكة الكهرباء؛ لأنّه قد يشكّكه أحد، فالإذعان بالحقائق - ولو عن تقليد - أمر له فائدته، لكن ليس كمَن يعتقد ويذعن بالحقائق عن دليل وبرهان.

٢٧٤

جهاز الوجود للنفس.

أمّا البكاء: فعلينا التعرّف أنّ حكم الفعل من قِبل أيّ جناح من أجنحة النفس يصدر، وهل له ارتباط مع جناح آخر للنفس؟ وهل هو صحيح وسليم مطلقاً؟ أو قد يكون حالة مرضيّة؟

تعريفُ البكاء

يُعرّف اللغويّون البكاء: بخروج الدمع حزناً وتأثّراً(١) ، وهذا التعبير إنّما هو باللازم للمعنى الحقيقي، أمّا علماء الأخلاق والحكماء فقالوا: إنّ البكاء هو حالة انفعال في الجناح العملي للنفس، وهو ما يسمّى بتأثّر الضمير والوجدان في الإنسان، سواء خرج الدمع أم لا، مع الصيحة أو بدونها.

والمقصود بالضمير والوجدان: هو تأثّر الجانب العملي الذي فيه مزيج إدراكي؛ (لأنّا أشرنا إلى أنّ الجناح العملي في النفس في بعض درجاته وإن كان عمليّاً، إلاّ أنّه ممزوج بالإدراك، أي فيه جنبة إدراكيّة، يعني ليست جنبة عمليّة بحتة) نظير قوّة العقل العملي، نظير الشوق، إذ لابدّ من إدراكٍ ما، ثُمّ يستتبعه العمل، ونظير الغضب، وما شابه ذلك.

على كلّ حال، فبعض الدرجات العمليّة هي موجودة بالإدراك.

البكاء: فعل ناتج وناشئ من القوى النفسيّة الموجودة، وهو عبارة عن حالة

____________________

(١) قال الجوهري: البكاء يُمدّ ويُقصر، فإذا مددتَ أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرتَ أردت الدموع وخروجها.

٢٧٥

انكسار، أو تأثّر، أو انفعال - تعبيرات مختلفة - في الجانب العملي نتيجة لإدراك ما، وذاك الإدراك هو إدراك لحرمان ما؛ لأنّ الكمال لم يستتمّ لدى الإنسان حتّى ينفعل تشوّقاً إليه، فقد يكون البكاء عن تشوّق، وقد يكون عن حزن لفقد حقّ من الحقوق، وقد يكون مزيجاً من الحزن والشوق، وهكذا.

المهمّ أنّه نوع من الانفعال في الجانب العملي في النفس نتيجة لإدراك ما، وهذا الإدراك هو فقدٌ لشيء ما، سواء في صورة الحزن، أو في صورة الشوق، وإلاّ لو كان الإنسان حاصلاً على ذلك الشيء فإنّه لا يتشوّق إليه، هذا تعريف إجمالي من الحكماء أو علماء الأخلاق للبكاء.

وأمّا حكم البكاء - بأنّه على الإطلاق حالة سليمة في النفس، أم هو حالة مرضيّة، أو على التفصيل - فلابدّ هنا من التفصيل؛ لأنّ البكاء يتّبع معنىً ما، هذا الانفعال في الجانب العملي يتّبع معنىً معيّن، فإن كان المعنى الذي يتّبعه الانفعال النفسي بحيث يكون الانفعال عنه ايجابيّاً، وذلك المعنى هو معنىً حقيقي وصادق إن كان ناشئاً عن معنىً صادق وحقيقة صادقة، والتأثّر كان إيجابيّاً، فيكون حالة صحيحة في النفس، وأمّا إن كان المعنى الموجود معنىً غير صادق، أو كان صادقاً لكنّ التأثّر به غير ملائم، فسوف يكون سلبيّاً.

مثلاً إذا كان إنسان يبكي لفقد كمال معيّن: كعِلم معيّن، أو احترام معيّن، أو قدرة معيّنة - ماليّة أو غير ماليّة - بكى لفقدها، فإدراك هذا الفقد حقيقي وليس كاذباً، حيث أدرك أنّه فاقد للكمال، والمفروض أنّ كماليّة ذلك الشيء واقعيّة، فإنّ تأثّره بهذا الفقدان أيضاً شيء إيجابي؛ لأنّ المفروض أنّه يتأثّر كي يستعدّ للحركة، ولزيادة شدّة حركة النفس وطاقتها وانشدادها باتّجاه ذلك الكمال، ولزيادة

٢٧٦

السعي نحو تحصيل ذلك الكمال، وعلى عكس المقولة المعترضة على ظاهرة البكاء بأنّه يُعدّ مفرّغاً للطاقة، بل هو يزيد سعرات الطاقة ويسرّع حركة النفس نحو تحصيل ذلك الكمال، نعم، هو مفرّغ للحصر النفسي - كما يعبّر به علماء النفس - لا أنّه يوجب تخفيف تشوّق النفس نحو المطلوب ونحو المتشوّق إليه.

أمّا لو فقدَ الإنسان شيئاً، وكان ذلك الشيء موجوداً عند صديقه، وبكى لأجل إزالة الشيء عن صديقه وحصوله عنده، فهذا نوع من الحسد طبعاً، إن كانت المعلومة صادقة، وهي فقد ذلك الكمال، ولكن تأثّره موجّه باتّجاه أن يسعى لإزالة كمال عن الآخرين، ولا ريب أنّ هذا التأثّر سلبي وليس تأثّراً ايجابيّاً، فتارة تكون المعلومة صادقة ولكنّ التأثّر خاطئ.

أو أنّ الإنسان قد يفقد أعزّ أحبّته فيتأثّر وهو جيّد، لكن إذا اشتدّ البكاء أو تحوّل إلى حالة من السخط والجزع والاعتراض على الله سبحانه أو..، فهذا المظهر يكون خاطئاً، وإن كانت المعلومة صادقة؛ لأنّ تأثّره وِجّه بتوجيه خاطئ، ولغاية معيّنة، وإنّ أيّ فعل عملي ترتكبه النفس، كأي فعل إدراكي ترتكبه النفس دائماً يكون لغاية، فلابدّ أن نلاحظ العلّة، ونلاحظ العِلل الفرعيّة، والعلّة الغائيّة، كما في العلّة الماديّة والصوريّة.

فحينئذٍ، إذا كان البكاء منطلقاً ومتولّداً من معلومة حقيقيّة، فيكون صحيحاً، وإذا كان تأثّره موجّهاً إلى غاية كماليّة هادفة، فإنّه أيضاً يكون إيجابيّاً وسليماً.

بخلاف البكاء الذي يكون لأجل غاية سلبيّة، وبخلافة ما إذا كان مع الصبر والتحمّل.

والبكاء إنّما يحصل للتأثّر ولبيان المحبّة التي كانت بين الباكي وبين المفقود

٢٧٧

مثلاً، الذي لأجله حصل البكاء، فيعتبر هذا نوع من الصلة للميّت، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما فقدَ ابنه إبراهيم:(تدمعُ العين، ويحزنُ القلب، ولا أقول إلاّ ما يرضي ربّنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون) (١)، وفي رواية أخرى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لو عاشَ إبراهيم لكان نبيّاً) (٢) هذا نوع من إظهار المحبّة والرحمة.

فالفعل الذي يصدره الجناح العملي للنفس تأثّراً بالجانب الإدراكي في النفس يُشترط فيه أمران لكي يكون إيجابيّاً:

أحدهما: أن يكون منطلقاً من إدراك صادق ومعلومة حقيقيّة.

الثاني: أن تكون غايته غاية هادفة وإيجابيّة.

وإذا اختلّ أحد هذين الشرطين يكون البكاء سلبيّاً.

هذا ما قرّره العلماء في البحوث العقليّة والحكميّة والأخلاقيّة وفي علم النفس، على نحو الإجمال، حول موضوع البكاء.

في علم النفس وعلم الاجتماع الحديث يذكرون في بعض تعريفاتهم: أنّ البكاء تنفيس عن الضغط؛ لأنّ الإنسان قد تتكدّس عليه ضغوط، فتنشأ منها حالة البكاء لدى الإنسان، ويكون بكاؤه نوعاً من التنفيس والتخفيف، هذه هي كلماتهم بغضّ النظر عن تصويبها أو تخطئتها أو مقارنتها مع ما ذُكر في علوم أُخرى(٣) .

____________________

(١) بحار الأنوار ١٦: ٢٣٥ / ح ٣٥.

(٢) بحار الأنوار ٢٢: ٤٥٨ / ح ٤.

(٣) وجود ظاهرة اجتماعيّة وهي: أنّ مَن يُصاب بحادثة أو مصيبة يحاول أن يتّخذ مجالس تعزية بالإجارة، (وعلماء النفس والسيكولوجيا في أوروبا يوصون بذلك) بأن يُستأجر

٢٧٨

ففي علم النفس الحديث - السيكولوجيا - ثبتَ بأنّ الذي تلمّ به فادحة ومصيبة ويتّخذ البكاء كوسيلة لتهدئته والتخفيف عنه، يكون أبعد من غيره في احتمال وقوعه في الاختلال الروحي، حيث يكون لديه اتّزان روحي في الحوادث والمصائب، وإنّ نفسه تسلم وتطهر وتتخلّص من العقد، بخلاف الذي يمتنع عن البكاء ويتجلّد، حيث تنشأ لديه نوع من العُقد والاعتقادات الخاطئة، أو تتكوّن لديه وساوس وأحقاد على البشريّة، وربّما تصيّره وحشاً على مَن حوله أو على بيئته بسبب تلك الاعتقادات الخاطئة.

فالبكاء يولِّد نوع من الاتّزان الروحي ووقاية عن الاختلال الروحي في النفس، ويُحصّنها من ابتلائها بالعُقد.

وتَذكر إحصائيّات في هذا الصدد أنّ مَن يمارس البكاء - سيّما النساء - يَسلم عادة من الأمراض النفسيّة أو العُقد، أو من تلك الحالات التي تكون قريبة من الكآبة والتمرّد على المجتمع.

طبعاً هذه الضمائم نسبيّة، والجانب العاطفي عند المرأة أكثر من الجانب العاطفي عند الرجل، ومن ثَمّ فإنّ مقابلة الرجل للصدمات أكثر من المرأة، ولذا جَعل الدين الإسلامي الرجل هو القيّم، وجعلَ بعهدته الجانب الإداري والتنفيذي؛ لأنّه أشدّ وأصلب.

ولكن نفس هذا التحليل جُعل إشكالاً وعاد انتقاداً على ظاهرة البكاء، بتقريب أنّ البكاء يُنفّس عن الإنسان الحالة الضاغطة، فهو يُقلّل سعرة الحركة

____________________

جماعة، ويتباكون معه للتنفيس عن الضغط الذي حلّ بصاحب المصيبة، وهو نوع من الحالة الصحّيّة لمَن ألّمت به المصيبة والفادحة.

٢٧٩

والعمل؛ لأنّه يُنفّس ويهدّئ، فيبرد الإنسان ويبقى على حالة اتّزانه، فمن ثَمّ يكون البكاء سلبيّاً في بعض الموارد.

مثلاً: إذا وقعَ الظلم على الإنسان فهو ينفّس عن نفسه بالبكاء، وبذلك يرجع إلى الحالة الطبيعيّة ويفقد السعرة والطاقة والباعث نحو التصدّي والمقابلة لذلك الفعل الموجّه ضدّه، ويتقاعس عن أخذ حقّه، وهو أثر سلبي.

وفي الجواب نقول: إنّ البكاء ينفّس عن الحالة الضاغطة، لا أنّه يُقلّل السعرة ويُخمد الهمّة لاسترجاع الحقّ، بل على العكس؛ لأنّ المفروض أنّ البكاء لابدّ أن يوجّه إلى غاية معيّنة، مثل: أنّ المظلوم يبكي لفقد حقّ من حقوقه وفقد ما هو كمال له، وهذا وإن نفّس عن نفسه من جهة الضغط المتراكم عليه نتيجة ذلك الفقدان، لكن لا زال البكاء يزيد المظلوم تشوّقاً إلى ذلك الكمال والحقّ المطلوب، فلا يكون نوعاً من تقليل السعرة والإرادة لإرجاع حقّه، فإذا كان أحد الناس فاقداً لشيء وبكى لفقده، فإنّنا نرى بالوجدان والعيان أنّه يزداد إرادة وتصميماً من ناحية، وطاقةً وعملاً من ناحية أخرى نحو تحصيل ذلك المفقود منه، وإنّ بكاءه لا يُعيقه ولا يمنع حركته بتاتاً، فالإشكال بأنّ البكاء هو نوع من الممانعة نحو الحركة للكمال على إطلاقه غير صحيح وغير سديد.

وما ذكرهُ علماء النفس أو علماء الاجتماع الحديث، لا يتضارب مع ما نقوله: من أنّ البكاء على تفصيل بلحاظ اجتماع الشرطين(١) يكون ايجابيّاً، ومع فقد أحدهما يكون سلبيّاً، أمّا أنّ البكاء هو حالة انقهاريّة وانهزاميّة للنفس فهي مقولة غير سليمة على إطلاقها.

____________________

(١) ذكرنا الشرطين ص: ٢٧٤ من هذا الكتاب.

٢٨٠

والمجاهدين في سبيل الله ، أو صفوف المصلّين والعباد.

رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة «الصافات» هو الملائكة ، إضافة إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(١) .

وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة «الزاجرات» الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم ، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر.

و «التاليات» إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله ، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.

هنا يطرح هذا السؤال : ظاهر هذه الآيات ـ وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث ـ يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاخرى ، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟

من الواضح أنّ الاصطفاف والاستعداد قد جاءا كمرحلة اولى ، ثمّ جاءت ـ كمرحلة ثانية ـ عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة.

ومن جهة اخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة ، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى ، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع.

على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباريعزوجل ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها ، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ١٥ ، الدرّ المنثور ، المجلّد ٥ ، الصفحة ٢٧١.

٢٨١

من الطريق ، ورفع الموانع بالصوت العالي ، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر ، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر.

فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى اجتياز تلك المراحل الثلاث ، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج.

وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين ، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء ، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء ، وإن أعطيت الآيات طابعا عامّا فإنّها ستكون أقرب للواقع ، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة.

أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند ما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة ، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة ، ويقول : «وصافون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله»(١) .

أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه ، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله ، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات ، حيث يكون المعنى كالتالي : وربّ الصافات صفّا ، وربّ الزاجرات زجرا ، وربّ التاليات ذكرا.

والذين فسّروا الآيات على هذا النحو ، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله ، لذا فإنّ الله لا يقسم إلّا بذاته ، إضافة إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ ، ألا وهو ذات الله المقدّسة.

__________________

(١) الخطبة الاولى في نهج البلاغة.

٢٨٢

إلّا أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد ، فالله تعالى ـ من أجل توجيه الإنسان ـ يقسم بآيات «الآفاق» و «الأنفس» ودلائل قدرته في الأرض والسماء ، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات ، وعن طريقها يعرف ربّه.

وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد ، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة ، إذن فالتقدير هنا غير سديد ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ) (١) .

على أيّة حال ، فإنّ ظاهر الآيات ـ محلّ البحث ـ يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها ، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر ، ولا يمكن قبوله بغير دليل.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني ، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول :( إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) .

قسم بتلك المقدّسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر ، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) .

وهنا نطرح سؤالين :

١ ـ ما هي الضرورة لذكر «المشارق» بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، رغم أنّ المشارق هي جزء منهما.

ويتّضح الجواب من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهي : إنّ المراد من «المشارق» هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيّام السنة ، أو إلى مشارق

__________________

(١) سورة الشمس ، الآيات ٥ ـ ٧.

٢٨٣

النجوم المختلفة في السماء ، حيث أنّها جميعا لها نظام وبرنامج خاصّ بها ، إضافة إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضّح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.

فالشمس في كلّ يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم ، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية ، حيث أنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار ١ من الثانية ، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين.

كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشمس لو لم تكن تتحرّك ضمن مسير تدريجي طوال العام ، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك الفصول ، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالقعزوجل .

ومن المعاني الاخرى لكلمة «المشارق» ، هو أنّ الأرض لكونها كروية الشكل ، فإنّ كلّ نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الاخرى إمّا مشرقا أو مغربا ، وبهذا فإنّ الآية تؤكّد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقّق المعنيين في الآية المذكورة).

أمّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو : لماذا لم تأت كلمة «مغارب» في الآية في مقابل «المشارق» كما جاء في الآية (٤٠) من سورة المعارج( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) .

والجواب على هذا السؤال ، هو أنّ قسما من الكلام ينسخ قسما آخر لوجود القرينة ، وفي بعض الأحيان يأتيان معا ، وهنا ذكر كلمة «المشارق» قرينة على «المغارب» وهذا التنوّع يوضّح فصاحة القرآن وبلاغته.

فيما قال بعض المفسّرين : إنّ ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي بواسطة الملائكة( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) على قلب النّبي الطاهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١٧.

٢٨٤

الآيات

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) )

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام ، والآيات التالية ـ موضوع البحث ـ ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها ، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ ، وتتضمّن كذلك درسا في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) (١) فلو رفع أحدنا

__________________

(١) «الكواكب» هنا بدل من الزينة ، ويحتمل كونها عطف بيان ، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدرا ، حيث

٢٨٥

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة ، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت ، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق ، وأحيانا تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية ، وإغماضها وتواريها ، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها ، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّا إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال ، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه ، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع ، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

ومن الجدير بالاهتمام قول الآية :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقا لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاخرى التي تلفت النظر هي أنّ ارتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود ـ من وجهة نظر العلم الحديث ـ إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض ، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة( السَّماءَ الدُّنْيا ) .

__________________

غ جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف ، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

٢٨٦

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) (١) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع ، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب) ، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم ، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث ، رشقوا بالشهب من كلّ جانب( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) .

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة ، وقد أعدّ لهم عذاب دائم ، كما جاء في قوله تعالى :( دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ) .

( لا يَسَّمَّعُونَ ) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّا أنّه لا يسمح لهم بذلك.

( الْمَلَإِ الْأَعْلى ) ، تعني ملائكة السماوات العلى ، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة ، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة ، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك

__________________

(١) (حفظا) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو : وحفظناها حفظا. والبعض احتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له) ، وتقديرها إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا.

٢٨٧

مراكز القوى ، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضا ، ولكن عند ما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد ، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب ، التي سنتطرّق لها فيما بعد ، وهذا يوضّح أنّ الباريعزوجل لا يسمح للشياطين بالاقتراب من الملأ الأعلى.

«دحورا» مشتقة من (دحر) ـ على وزن (دهر) ـ وتعني طرد الشيء ودفعه ، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن ، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر ، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(١) .

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الاقتراب من السماء فحسب ، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضا إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لاستراق السمع ، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ، كما جاء في الآية الشريفة( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) .

«الخطفة» أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» شيء مضيء متولّد من النار ، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوما ، وإنّما تشبه النجوم ، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ، عند ما تدخل في مجال جاذبية الأرض ، تنجذب نحوها ، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض واحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة «ثاقب» تعني النافذ والخارق ، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها ، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

__________________

(١) لقد تمّ بحث كلمة «واصب» أيضا في نهاية الآية (٥٢) من سورة النحل.

٢٨٨

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا :

الأوّل ، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم ، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني ، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب ، الذي يكون بانتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع ، وهذا المعنى نجده أيضا في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الحجر( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية الخامسة من سورة الملك( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ) .

ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر ، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين ، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر ، وقالوا : هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها ، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار ، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس ، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة ، فتجبرهم على التراجع ، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون : من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر ، إلّا أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها ، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد اختار هذا التّفسير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) و «الآلوسي» في (روح المعاني) و «سيّد قطب» في (الظلال) ، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال

٢٨٩

المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ، وهو القائلعزوجل :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .(١)

وأضافوا : إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ، عالم ملكوتي ذو أفق أعلى من عالمنا المحسوس ، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب ، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الاقتراب من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخليفة والحوادث المستقبلية ، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه ، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(٢) .

ويحتمل أيضا أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها ، إضافة إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم ، إلّا أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه ، ألا وهو العلم والتقوى ، ويمنعون الشياطين من الاقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال ، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (١٨) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، ٤٣.

(٢) تلخيص من تفسير الميزان ، المجلّد السابع عشر ، الصفحة (١٢٥).

٢٩٠

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) )

التّفسير

الذين لا يقبلون الحقّ أبدا :

هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباريعزوجل خالق السموات والأرض ، وتبدأ بالاستفسار منهم وتقول : اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض :( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ) .

نعم ، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة ، من طين لزج :( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) .

فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات

٢٩١

والأرض والملائكة. إلّا أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

«استفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة.

وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة ، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.

«لازب» يقول البعض : إنّ أصلها كان (لازم) ، حيث استبدلت (الميم) (باء) وحاليا تستعمل بهذه الصورة ، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض ، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طينا متجمعا ذا رائحة نتنة ، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) .

نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد ، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّا ، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعبدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.

وما يمكن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون( وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) .

والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالاستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للاستهزاء أيضا( وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) .

( وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والانتقاص منها ،

٢٩٢

وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة ، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للاستسلام لتلك المعاجز ، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية ، وتوضّح في نفس الوقت اعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

ملاحظتان

١ ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة «يستسخرون» تعني «يسخرون» ، ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود اختلاف بين المعنيين ، بقولهم : إنّ «يستسخرون» جاءت من باب استفعال ، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الاستهزاء ، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالاستهزاء بآيات القرآن المجيد ، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك ، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.

والبعض يعتبر هذا الاختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).

فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها «الإعتقاد بكون الشيء مثيرا للسخرية» ، ويعني أنّهم نتيجة انحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون ـ تماما ـ أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية ، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسبا من غيره.

٢ ـ عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ «ركانة» رجل من المشركين من أهل مكّة ، لقيه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جبل خال يرعى غنما له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : يا ركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟

٢٩٣

قال : نعم. فصرعه ثلاثا ، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت ، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال : «يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض». فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.

* * *

٢٩٤

الآيات

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) )

التّفسير

هل نبعث من جديد؟

الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاولى تعكس استبعاد البعث من قبل منكريه ، بهذا النصّ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٧٧.

(٢) هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها ، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقا للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاء.

٢٩٥

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضا؟( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) . فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقّية من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا ترابا في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون باستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل ، وعلاوة على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباريعزوجل المطلقة.

ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة( أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) هي جملة اسمية استخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.

وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية :

أوّلا : إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاما في بداية الأمر ، ثمّ يتحوّل إلى تراب ، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئا عجيبا ، لهذا قدّمت كلمة التراب.

ثانيا : عند اندثار أبدان الأموات ، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام ، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.

ثالثا : التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين ، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.

ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة ، عند ما يقول للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء ،( قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ) (١) .

__________________

(١) (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور) ، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة

٢٩٦

فهل تتصوّرون أنّ عمليّة إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلّا ، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ) .

(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقا ، فإنّها تعني الطرد ، وأحيانا تأتي بمعنى الصرخة ، وهنا تفيد المعنى الثاني ، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل ، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.

عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون ، أو النظر بعنوان انتظار العذاب ، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة ، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.

وتعبير( زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) مع الالتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباريعزوجل ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاولى.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين( وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

نعم ، فعند ما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث ، الاعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب ، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباريعزوجل أو من ملائكته : نعم ، اليوم هو

__________________

تقديرية هي جوابها ، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر ، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).

٢٩٧

يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، يوم فصل الحقّ عن الباطل ، وفصل المجرمين عن المتّقين ، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

ومثل هذه العبارات وردت في آيات اخرى من آيات القرآن الكريم ، والتي تتناول يوم القيامة ، وتعتبره يوم الفصل ، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(١) .

الملاحظ ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء( يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

فيما يطلق عليه الباريعزوجل في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ) .

إنّ الاختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب ، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّا بالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل ، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين ، كما جاء في الآية (٥٩) من سورة يس( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين ، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.

وكم يكون هذا المشهد رهيبا عند ما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله ، ويتّجهون نحو جنان الخلد.

وعلاوة على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.

على أيّة حال ، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضا يوم المحاكمة ، ففي

__________________

(١) الدخان ، الآية ٤٠ ، المرسلات ، الآيات ١٣ ، ١٤ ، ٣٨ ، النبأ الآية ، ١٧.

٢٩٨

ذلك اليوم يقضي الله العالم العادل بين عباده ويصدر أحكاما دقيقة بحقّهم ، وهنا يخزى المشركون.

إذن ، فطبيعة الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات ، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار ، ولا يمكن تجنب عملية فصل الصفوف.

ثمّ يصدر الباريعزوجل أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون( مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) . (احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات.

على كلّ حال ، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب اللهعزوجل ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد اعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين ، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية(٧) ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار ، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم ، ثمّ يساقون إلى جهنّم.

أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.

المهمّ ، هو عدم وجود أي اختلاف بين هذه المعاني الثلاثة ، ومن الممكن أن

٢٩٩

تجتمع في مفهوم الآية.

جملة( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة ، وعبّرت عنها بـ( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة ، وقد اصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.

(الجحيم) تعني جهنّم ، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.

والملاحظ في الآية استخدامها عبارة( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) حقّا كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألما في أعماقهم.

* * *

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440