الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124896
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124896 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بها واختزنَ بها إذا فرّغها عن طريق البكاء، فكأنّما وجّه الصَدمة إلى داخل أعماق نفسه بدل أن يستفيد من تلك الصدمة، أو المصيبة، أو البليّة، أو المدافعة، كشحنة مختزنة وطاقة مكبوتة يمكن أن يستفيد منها في المضيّ قِدماً نحو البرامج الهادفة ونحو السلوك العمليّ البنّاء، فإذا أفرغها عن طريق البكاء، فحينئذٍ يكون قد ضيّع تلك الشحنة ولم يستفد منها في سبيل تحقيق هدفه، بل سوف تترك هذه الشحنة آثارها السلبيّة على نفسه، فإنّ شعور المظلوم المُفعم بالعدوان عليه سوف يجد له طريقاً لتنفيسه بشكل سلبي، وسوف تضيع هذه الطاقة الكامنة للانتصار للمظلوم، وإعادة الحقّ إلى أهله.

ويأتي هذا المُستشكل - في الإشكال السادس - بشواهد عديدة، مثلاً: لمّا أُصيبت قريش ونُكبت في معركة بدر فإنّهم منعوا البكاء في مكّة، وقالوا: يجب أن لا يبكي أحد، وظلّت شحنة المصيبة مختزنة حتّى وقعت الحرب الثانية (معركة أُحد)، حيث قاموا بتفريغ تلك الشحنة وتمّ لهم النصر، هذا شاهد على جدوى تأخّر امتصاص الصدمة إلى وقت آخر.

كما يمكن العثور على شواهد عديدة في تاريخ الأمم، أنّهم إذا أُصيبوا بمصيبة أو بليّة أو فجيعة؛ فإنّهم لا يفرّغون ذلك بتوسّط البكاء، بل يُفرغوها عن طريق العمل المُبرمج والمدروس والهادف.

وبعبارةٍ مختصرة: فإنّ البكاء سلاح ضدّ النفس والمفروض أن يكون سلاحاً ضدّ الأعداء، وهو نوع من تفريغ سعرة الطاقة الكامنة في النفس.

الجواب: وهذا الإشكال قد ذكرنا له أمثلة نقضيّة، وهو: أنّ مَن يفقد شيئاً يتشوّق إليه، فإذا بكى يزداد حرصاً وطلباً وإرادةً للوصول إلى ذلك المفقود، لا

٣٢١

أن تخفّ الطاقة المحرّكة نحو ذلك المفقود.

وأمّا كونه سلاحاً ضدّ النفس، فهذا غير صحيح، نعم، مَن يبكي بداعي الاعتراض على أمر الله سبحانه - لا سمحَ الله - ويجزع وييأس من روح الله ولا يُسلّم بما يُكتب له في حياته، فهذا نوع من الجَزع الممقوت، ونوع من الانكسار والانهيار، وهذا خُلف الفرض الذي نفرضه في البكاء على الحسين (عليه السلام).

حيث إنّ في البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) نوع من الانجذاب والتشوّق للفضائل والكمالات، ليس فيه نوع من اليأس، أو الحرمان، أو التشاؤم، وفي الروايات بيان ترتّب الفضل والثواب على هذه الظاهرة، مثل:(إذا أُصِبتم بمصاب ميّت، فاذكروا مصابَكم لفقدكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يُصب أحد بشيء بأعظم ممّا أُصيبَ بحِرمانه بفقدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (1) .

فالروايات تؤكّد: أنّك إذا أُصِبت بمصيبة، عليكَ أن توظِّف هذه الطاقة العاطفيّة في الانجذاب إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإليهم (عليهم السلام)، فتنتشل نفسك من الحسرة، فالذي يُصاب بمصاب ما، ثُمّ يَعقد مجلساً لندبة مصاب سيّد الشهداء (عليه السلام) ويبكي يثاب على ذلك؛ لأنّه قد نقلَ نفسه من حالة انهياريّة يائسة إلى حالة مِلؤها العمل، ومِلؤها الانجذاب إلى الفضائل والنفرة من الرذائل، بل قد انتشلَ نفسه من مسير خاطئ إلى مسير سليم.

هذا هو الفرق الدقيق بين الحالتين: البكاء الممدوح للحصول على الفضائل والنفرة من الرذائل وهو فعلٌ كمالي، أمّا البكاء على الرذائل فهو مذموم، يعني لو بكى المرء - لأجل خسارة ماليّة - بكاءً شديداً، وإذا تحوّل البكاء إلى نحو من

____________________

(1) الوسائل، كتاب الجنائز، أبواب التعزية على الميت.

٣٢٢

الاعتراض على الله - لا سمحَ الله - يكون مذموماً بل من الكبائر.

بخلاف ما إذا كان البكاء على الفضائل من حيث هي فضائل، كما هي الفضائل المجسّدة في وجوداتهم (عليهم السلام) والرذائل المجسّمة في أعدائهم، فإنّه نوع من الانفتاح والرجاء وبداية التصميم على الاقتداء وعدم التشاؤم، ونوع من تدّفق الروح والأمل في السير النفسي.

فالإشكاليّة على ظاهرة البكاء تدور ضمن هذه الوجوه الستّة، وهي مجمل الانتقاد والمعارضة لهذه الظاهرة وقد سَردنا أجوبة هذه الوجوه تباعاً.

نظرةٌ حول روايات البكاء

ومن باب التيمّن والتبرّك نذكر بعض الروايات الواردة في البكاء(1) ، كنهاية للبحث في هذه الجهة السادسة في المقام الثاني للكتاب.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ أبواب المزار التي تربو على أربعين باباً، عَقدها صاحب الوسائل في زيارة الحسين (عليه السلام)، والبكاء عليه ورثائه، وإنّها بشكل أو بآخر تتعرّض للبكاء، كذلك الأبواب العديدة التي ذكرها المرحوم المجلسي في تاريخ الحسين (عليه السلام)(2) ، أو في جزء كتاب المزار من البحار(3) ، كلّها تشير إلى جهة البكاء، وسنتعرّض لبعضها.

____________________

(1) في باب المزار / باب 66 من كتاب وسائل الشيعة: ج 14.

(2) بحار الأنوار: ج 44.

(3) بحار الأنوار: ج 97.

٣٢٣

الرواية الأولى (1) : السند: أحمد بن محمد البرقي (المعروف بابن خالد البرقي) - في المحاسن - عن يعقوب بن يزيد (من الثقاة الأجلاّء الكبار)، عن محمّد بن أبي عمير (هو من أصحاب الإجماع) عن بكر بن محمّد الأزدي (ثقة؛ لأنّه هو الذي يروي عنه محمّد بن أبي عمير)، عن الفضيل بن يسار (من الفقهاء وأصحاب الإجماع في الطائفة)، عن أبي عبد الله (عليه السلام)(2) قال:(مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مِثل جناح الذُبابة، غفرَ الله ذُنوبه ولو كانت مِثل زَبَد البحر) (3) ، هذه الرواية صحيحة السند، وذكرنا أنّه لا إيهام في مضمون الرواية، وإنّ مؤدّاها ليس كمؤدّى صكوك الغفران النصرانيّة المسيحيّة التي تقول: افعل ما شئت إلى يوم القيامة فإنّك - وإن ساءت عاقبتك - سيُغفر لك بقتل المسيح، فإنّه قد تسبَّب بقتله تكفير ذنوب أتباعه، وهذه عقيدة باطلة.

ومن البديهي بين المسلمين: أنّ التوبة توجِب محو الذنوب، لكن من دون كون التوبة تُغري للوقوع في المعاصي، ومن الأمور المسلّمة بين المسلمين: أنّ التوبة بابها مفتوح حتّى تبلغ النفس التّراقي، من دون استلزامها للإغراء، كما لا إغراء في نصوص التوبة القرآنيّة والروائيّة؛ لأنّها تنضمّ إلى مفاد آخر وهو:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ) (4) .

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 501 - باب 66 كتاب المزار، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصاً يوم عاشوراء واتّخاذه يوم مصيبة وتحريم التبرّك به.

(2) الرواية صحيحة السند بدرجة عالية.

(3) وسائل الشيعة 14: باب 66: 501 رواية 19690.

(4) الروم: 10.

٣٢٤

فما هو الضمان أن يعيش أبد الدهر، أو يعيش أكثر عمره في المعصية والفجور والتجرّي على الله سبحانه ثُمّ يوفّق للتوبة، وليس هناك من ضمان بأنّه سيتوب، إذ قد يفاجأه الموت قبل التوبة.

أضف إلى ذلك لساناً آخراً من الآيات الكريمة:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً ) (1) ، هذه الآية ليست خطاباً فقط لمَن لم يتب من الذين اجترحوا السيئات، إذ إنّ اجتراح السيئة وإن كان يعقبه التوبة بعد ذلك، وكانت التوبة تمحو السيئات، لكن لا يتساوى ذلك التائب مَحياً ومماتاً وجزاءً مع مَن كان طول عمره على الطاعة، والآية( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ... ) ، لم تقيّد بأنّهم لم يتوبوا،( أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا ) ، لا يستوون، وكذلك في دعاء كميل(2) مثيل لمضمون هذه الآية الكريمة.

باب التوبة مفتوح حتّى آخر لحظة من لحظات العمر، لكن ليس في التوبة إغراء على المعصية؛ لأنّه لابدّ من جمع ألسِنة الشرع وتعاليم الشرع حتّى يتعرّف الإنسان على مراد ومغزى الشارع، إذاً هذه الرواية تامّة الدلالة صحيحة وعالية الإسناد.

ووجه المضمون هو: أنّ الانجذاب لهم (عليهم السلام) هو ابتعاد عن الرذائل، وعن حضيض الدركات والمهلكات، والعلو بالنفس إلى أوج الفضائل وذروة المكارم، ومن ثَمّ تُغفر ذنوب المنجذب ولو كانت مثل زَبد البحر.

الرواية الثانية: عن عبد الله بن جعفر الحِميري (الفقيه المعروف في الطائفة،

____________________

(1) الجاثية: 21.

(2)( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ) .

٣٢٥

صاحب قرب الإسناد، وكانت حياته في الغيبة الصغرى)، عن أحمد بن إسحاق الأشعري (المعروف الجليل، من عمدة الطائفة الذي تشرّف برؤية الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وهو من أبلغ الشيعة بنيابة النائب الأول)، عن بكر بن محمّد (نفسه بكر بن محمّد الأزدي الذي مرّ سابقاً، ويروي عنه أحمد بن إسحاق؛ لأنه عمّر طويلاً كما ذكرَ النجاشي)، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام):(تجلسون وتتحدّثون، فقال: نعم، فقال (عليه السلام):إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرَنا، رَحمَ الله مَن أحيا أمرَنا، يا فضيل، مَن ذَكرَنا أو ذُكِرنا عنده، ففاضَت عيناه ولو بِمثل جناحِ الذباب، غفرَ الله ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر) (1) .

ومضمون هذه الرواية عين مضمون الرواية الأولى، وللرواية طريقان، ولها تتمّة زيادةً عن رواية محاسن البرقي، ولها طريق ثالث أيضاً صحيح السند، بنقل الصدوق عن محمّد بن الحسن بن الوليد (شيخ الصدوق، ومن عظماء الطائفة)، عن الصفّار (محمّد بن الحسن الصفّار)، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمّد مثله.

فهذه الرواية التي وردت بلفظ:(كمثل جناح الذباب) مرويّة بثلاثة طرق من أعالي الإسناد.

الروايةُ الثالثة: رواية صحيحة السند، ولها ثلاثة طرق أيضاً، أحسن طرقها , الطريق الذي يرويه علي بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه إبراهيم ابن هاشم، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم(2) ، عن

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 501.

(2) هناك سند قبله وهو: الصدوق، عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قد ترضّى عليه الشيخ

٣٢٦

أبي جعفر (عليه السلام).

وهناك طريق لابن قولويه أيضاً.

وعلى كلّ حال يكفينا طريق علي بن إبراهيم، وهو صحيح، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:(كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: أيّما مؤمنٍ دَمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتّى تسيل على خدّيه، بوّأه الله غُرفاً يسكن فيها أحقاباً، وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا (1) بوّأه الله مبوّأ صِدق، وأيّما مؤمنٍ مسّه أذىً فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدِّه فيما أوذيَ فينا، صرفَ الله عنه وجه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار) (2) .

الروايةُ الرابعة: دأبَ صاحب الوسائل أن يتعرّض في أوائل كلّ باب للطرق، والروايات الصحيحة الإسناد، ثُمّ للموثّقة، ثُمّ الضِعاف، ثُمّ لروايات العامّة أيضاً.

وهذه الرواية من الروايات المعروفة المشهورة، وسَندها معتبر، وهو كما يلي:

الصدوق عن محمّد بن علي ماجيلويه (وقد وثّقه غير واحد من متأخّري الرجاليّين، ومن الأجلاّء، وكان له نسبة مع البرقي، ومن رواة ومحدّثي قم)، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم صاحب التفسير المشهور، عن أبيه إبراهيم(3) بن هاشم

____________________

الصدوق، وإلاّ ليس فيه توثيق خاص، ونحن نستحسن طريق الصدوق، ولا حاجة لذكر ذلك الطريق في المقام.

(1) فتكون شاملة للبكاء على مصاب الزهراء (عليها السلام)، وبقيّة الأئمّة (عليهم السلام) وذراريهم أيضاً.

(2) تفسير القمّي 2: 291.

(3) إبراهيم بن هاشم: أوّل مَن نشرَ أحاديث الكوفيّين في قم، روى عن ستّين رجلاً من

٣٢٧

(الثقة) عن الريّان بن شبيب (ثقة أيضاً)، فالرواية صحيحة السند(1) .

عن الرضا (عليه السلام)، أنّه قال:(يا بن شبيب، إن كنتَ باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين بن عليّ (عليه السلام)، فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، (وهناك روايات عديدة بهذا المضمون: أنّ سائر المخلوقات، من السماوات والأرضين والجبال والكائنات بكت الحسين (عليه السلام)، وبكاء السماء والأرض والحجر والمدر مرويّ بما يزيد على عشر طرق في كتاب تاريخ دمشق للحاكم ابن عساكر، وطرق أخرى عامّيّة، فضلاً عن الطرق الخاصّة، وفضلاً عمّا نستفيده من الآية الشريفة في سورة الدخان،( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ) (2) ، فلا يوجد في القرآن: ما أكلت السماء، أو ما نامت السماء، الفعل إذا نُفي عن شيء دلّ على أنّه من شأنه أن يفعل ذلك، فالآية لا تنفي الشأنيّة بل هي تثبت الشأنيّة وتنفي وقوع الفعل، فالسماء من شأنها البكاء، وقد بكت مع بقيّة المخلوقات على سيّد الشهداء (عليه السلام).

وقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله... ، إلى أن قال (عليه السلام):يا بن شبيب، إن بكيتَ على الحسين (عليه السلام) حتّى تسيل دموعك على خدّيك غفرَ الله لك كلّ ذنبٍ أذنبتهُ، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً، يا بن شبيب، إن سرّك أن

____________________

أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) من أكابر الثقاة عند المتأخّرين، وأدمَن ابنه عليّ بن إبراهيم الرواية عنه، ونقل الآخرين أيضاً عنه فأصبحت جلالته واضحة ولا غبار عليها.

(1) وهو في أمالي الصدوق: 112 / ح 5؛ وفي عيون أخبار الرضا 1: 299.

(2) الدخان: 29.

٣٢٨

تلقى الله عزّ وجل ولا ذنبَ عليك فزُر الحسين (عليه السلام)، يا بن شبيب، إن سرّك أن تسكن الغُرف المبنيّة بالجنّة مع النبيّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالعَن (1) قَتَلة الحسين (عليه السلام).. .

يا بن شبيب، إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمَن استشهدَ مع الحسين (عليه السلام)، فقُل متى ذَكرته: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً (2) ،يا بن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجِنان، فاحزَن لحُزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لحشره الله معه يوم القيامة (3) ) .

هذه بعض الروايات ذكرناها للقارئ الكريم من باب التيمّن والتبرّك، والتي تدلّ على فضيلة واستحباب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام).

____________________

(1) اللعن لأعداء الدين هو أحد أقسام الشعائر الدينيّة والحسينيّة، وسيأتي التعرّض لمبحث اللعن في هذا الكتاب إن شاء الله، فانتظر.

(2) هذه من المستحبّات الأكيدة، وهو (عليه السلام)، في صدد سرد أقسام الشعائر الحسينيّة.

(3) الوسائل 14: باب 66: 503: رواية 9694.

٣٢٩

٣٣٠

٣٣١

الجهةُ السادسة: الشَعائرُ الحُسينيّة والضرر

٣٣٢

٣٣٣

البحث في الجهة السادسة في الشعائر الحسينيّة: وهي مثار جدل ونقض وإبرام في السطح العام دون الخاص، وهو بحث الضرر الذي يحصل بسبب الشعائر الحسينيّة، وأبرز ذلك في أقسام العزاء: اللطم، اللّدم بشدة، والبكاء والصياح حتّى الإغماء، والضرب بالسلاسل، والتطبير، وإلى غير ذلك من الأقسام، والجامع فيها هو الضرر الحاصل من جرّاء إقامة العزاء(1) .

الفهرسةُ لبحث الضرر

أوّلاً: في أنّه هل مانع وعائق عن الشعائر الحسينيّة أم لا؟ ويمكن ذِكر عدم ممانعته ومعارضته لأقسام العزاء الحسيني بثلاثة وجوه (وهذا بحث مطرّد في

____________________

(1) في زمن المرحوم الميرزا النائيني (رحمه الله) وردَ إلى العلماء استفتاءات من أهالي البصرة حول الشعائر الحسينيّة، وأفتى فيها أكثر العلماء مثل: المرحوم النائيني، والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، وجملة من مراجع النجف الأشرف، وكانت فتوى الميرزا النائيني بهذا الصدد بمنزلة منشور صناعي فتوائي، أفتى على غراره وسجيّته تقريباً كافّة تلاميذ الميرزا النائيني، والسيّد الخوئي وتلاميذه أيضاً ذهبوا على منواله.

وقد أشار الميرزا النائيني إلى نكات، ولعلّ كلامنا يكون كالتحليل لمباني الميرزا النائيني - لا أنّه لدينا شيء جديد - عدا ما يُذكر في فهرسة وتبويب البحث (انظر فتوى المحقّق النائيني (قدِّس سرّه) وتعليقة العلماء عليها حول الشعائر الحسينيّة، في المُلحق المُرفق آخر الكتاب).

٣٣٤

مطلق الضرر، وليس في خصوص الشعائر الحسينيّة).

الوجهُ الأوّل: قصور عموم( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ ) (1) ، أو عموم حرمة الضرر والإضرار عن تناول إيقاع النفس في معرض الخطر في الموارد التي هي مُمضاة من قِبل الشارع.

وهذه المسألة لم تُبحث بشكل مفصّل في أبواب الفقه، ولكن لا بأس من الالتفات إليها.

إنّ عموم حرمة الإلقاء في التهلكة أو الإضرار، لا يشمل موارد إلقاء الإنسان نفسه في معرض قد يؤدّي به إلى تلف عضو، أو قد يؤدّي به إلى الهلكة، لكن في سبيل فضيلة دينيّة، أو من أجل السلوكيّة الممضاة من قِبل الشارع، وعدم الشمول إمّا قصوراً، أو - لو كان شاملاً - فهو مُخصّص بهذا المورد، هذا مُلخّص الوجه الأول.

الوجهُ الثاني: عدم إزالة الضرر الشخصي لأحكام الشعائر الحسينيّة، وهو ما ذكرناه في الفصل الأوّل في الجهات العامّة في بحث عموم الشعائر الدينيّة: من أنّ مبنى مشهور الفقهاء والعلماء أنّ قاعدة(لا ضررَ ولا ضِرار في الإسلام) حاكمة على الأدلّة الأوّليّة، وهي لُبّاً من باب التزاحم، لا من باب التخصيص.

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ ليس أيّ درجة من الضرر أو الحرج أو بقيّة العناوين الثانويّة، تُزيل كلّ حكم من الأحكام الشرعيّة الأوّليّة وإن بلغت أهميّة الحكم إلى درجة قصوى، ليس الحال كذلك، مثلاً الحرج والضرر الذي يزيل وجوب الوضوء هو غير الحرج والضرر الذي يزيل حرمة أكل المِـيتة.

____________________

(1) البقرة: 195.

٣٣٥

فاختلاف مستويات ودرجات الضرر أو الحرج الرافع للأحكام الأوّليّة: هو من متفرّعات مبنى مشهور الفقهاء والأُصوليّين(1) .

بل سواء بنينا على بمنى المشهور في (لا ضرر)، أو على المبنى غير المشهور(2) ، على كلا التقديرين يمكن أن نستدلّ على أنّ الشعائر الحسينيّة من حيث الأهميّة في أقسامها، تفوق أهميّة دفع الضرر بشواهد مُسندة روائيّة وغيرها، بل عند بعضهم أنّ الضرر وإن بلغَ درجة التلف العضوي أو تلف النفس، فهو لا يُغيّر حكم الشعائر(3) .

يتّضح من ذلك: أنّ الضرر الذي يرفع أهميّة الشعائر الحسينيّة ليس هو الضرر اليسير أو المتوسط، وذهبَ بعض الأعلام إلى أنّ الضرر لو كان على المذهب فله صلاحيّة أن يزيل رسماً، أو قسماً، أو لوناً، أو طريقة من رسوم، أو أقسام، أو ألوان، أو طرق الشعائر الحسينية، أمّا الضرر الشخصي - وإن بلغَ لحدّ النفس - فليس بمزيل للشعائر.

____________________

(1) على عكس ما ذكره الميرزا النائيني، مع أنّ فتواه هذه - الشهيرة، المعروفة، التاريخيّة - في بحث الضرر في العزاء الحسيني مبنيّة على نفس مسلك مشهور الفقهاء، ممّا يدل على أنّه ارتكازاً يختار مسلك المشهور.

(2) سواء بنينا على مسلك المشهور، أو على مسلك المحقّق النائيني، أي ولو قلنا (لا ضرر ولا حرج) لبّاً مخصّصه، أيضاً فالمحقّق النائيني يعترف أنّ ليس أي ضرر أو أيّ حرج في أيّ درجة رافع لكلّ حكم، ولو بلغَ من الشدّة والأهمّيّة، بل الضرر المناسب له.

(3) هذه هي فتوى بعض العلماء ومنهم: الشيخ خضر بن شلاّل المعروف، وهو من تلاميذ الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وتلاميذ السيّد بحر العلوم، وله مقام خاص، وقد نُقل قبره الشريف من حيّ العمارة في النجف الأشرف إلى وادي السلام، ووضعوا له ضريحاً خاصّاً، وله كتاب أبواب الجنان.

٣٣٦

هذا هو الوجه الثاني، فلابدّ من تناسب الضرر مع حجم أهميّة الشعائر الحسينيّة ليُمكنه أن يزيلها، وإلاّ فإنّ الضرر الشخصي على اختلاف درجاته ليس بمزيل ولا مؤثّر على الشعائر الحسينيّة.

الوجهُ الثالث: دعوى انتفاء الضرر موضوعاً، فلا رافع لحكم الشعائر التي تُعنون في الأقسام المختلفة المرسومة قديماً وحديثاً، ولا تجري فيها قاعدة الضرر لانتفاء الموضوع من الأساس؛ لأنّ الضرر بحسب التحليل الشرعي لا يتناول - ابتداءً - مثل هذه الدرجات من النقص، كما لا يُسبِّب شيئاً من النقص على المذهب.

وهذا الوجه يختلف عن الوجهين السابقين: فدليل الضرر من رأس لا يتناول الشعائر الحسينيّة من البداية، نظير موارد عديدة، مثل: عمليّة جراحيّة يجريها الإنسان لغرض معيّن، فلا يقال: إنّ شقّ البطن مثلاً نوع من الضرر الوارد المحرّم، بل هو نوع من المعالجة، ومثلاً الحجامة في الرأس، أو في البدن تُعتبر نوع من المعالجة، فدعوى الضرر من الأصل هو أوّل الكلام.

وكلّ من الوجه الثاني والثالث أفاض فيه الكثير من العلماء، ومع ذلك سنوضّحه إجمالاً.

تفصيلُ الوجه الأوّل

والأهمّ في بيان عدم ممانعة ومعارضة الضرر للشعائر الحسينيّة: هو الوجه الأوّل؛ لأنّه ينطوي على بيان قاعدة فقهيّة مرتكزة لدى علمائنا في الأبواب المختلفة، إلاّ أنّها لم تُعنون كقاعدة بإطار مستقل، وهي:

٣٣٧

قاعدةُ معرضيّة الهلَكة في سبيل الفضيلة

أي ما نريد دفع ممانعته للشعائر الحسينيّة هو الضرر البالغ إلى إزهاق النفس، وجعل النفس في معرض الهلكة والتلف، إذا كان في سبيل فضيلة من الفضائل الدينيّة، فالإقدام على ذلك الفعل الذي يُعرّض النفس لتلف عضوٍ، أو تلفها هي، وإقحام النفس في ذلك الفعل، ليس مشمولاً لعموم حرمة قَتل النفس، أو إلقاء النفس في التهلكة، ولا مشمولاً لعموم حرمة الضرر أيضاً.

ولابدّ من توضيح صورة الفرض (الموضوع) أوّلاً، ثُمّ نُقيم الدليل (على المحمول) بعد ذلك.

فرضُ القاعدة: هو أن يُقدِم الإنسان على فعل فيه معرضيّة التلف (وليس حتميّة التلف): تلف عضو، أو تلف النفس، وكان ذلك الفعل ذاته لا ينفكّ عن الإيصال إلى فضيلة دينيّة، أو عقليّة راجحة عند الشارع.

الوقوع في ذلك الفعل وإن أدى إلى تلف عضو أو تلف النفس، ليس مشمولاً لعموم حرمة إقدام النفس على الضرر، بل هو مشمول لمديح الفضيلة الشرعيّة أو العقليّة.

هذه هي الدعوى في مفاد القاعدة، ولنذكر بعض كلمات الفقهاء في مسائل مشابهة كي يندفع استغراب ذلك، وهو بالأحرى استدلالٌ على القاعدة:

الشاهدُ الأول: مِلاك الدفاع عن النفس والمال: ما ذكروه في باب الدفاع عن النفس في كتاب الحدود، أنّ الدفاع على ثلاثة أقسام: إمّا عن النفس، أو عن العرض، أو عن المال، وكلّ قسم من هذه الأقسام إمّا أن يكون الدفاع مع ظنّ

٣٣٨

السلامة، أو الاطمئنان إلى السلامة، أو مع احتمال التلف.

أمّا الدفاع عن النفس: ففي كلّ الشقوق الثلاثة يكون واجباً، فمع ظنّ السلامة، ومع الاطمئنان إلى السلامة فواضح، مثل: الدفاع في مقابل سارق، أو قاطع طريق، أو غاصب، أو...، وأمّا مع احتمال التلف فيجب أيضاً؛ لأنّه لا يجوز تسليم النفس إلى الهلكة، بل قال البعض: مع ظنّ التلف والاطمئنان بالتلف لا يجوز التسليم أيضاً، وهذا هو الصحيح، فلا يجوز الإعانة على النفس، فلابدّ من المعارضة والمقاومة، نظير بعض التقريبات في وجوه واقعة كربلاء، فلا يجوز التسليم.

هذا بالنسبة للدفاع عن النفس.

وبالنسبة للدفاع عن العرض: مع ظنّ السلامة، والاطمئنان إليها أيضاً فقد قالوا بالوجوب، أمّا مع احتمال التلف، فبعضٌ قال: يُلحق بالنفس فيجب، وبعض قال: بالعدم وإنّه رخصة غير عزيمة.

على كلّ حال، اتّفق الجميع على جواز المدافعة والوقوع في الدفاع وإن احتمل التلف.

أمّا الدفاع عن المال: فالمنسوب إلى الأكثر الرخصة مع ظنّ السلامة والاطمئنان إليها، ولم يوجبه أحد، إلاّ إذا كان مالاً خطيراً.

ونُسب إلى الأكثر أيضاً جواز المدافعة وإن احتملَ المعرضيّة والوقوع في العطب والتلف.

فالأكثر ذهب إلى جواز الدفاع عن المال، وقد ورد الدليل عن أحدهما (عليهما السلام)، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(مَن قُتلَ دون ماله فهو شهيد)،

٣٣٩

وقال (عليه السلام):(لو كنتُ أنا لتركتُ المال ولم أُقاتِل) (1) ، وعن أبي مريم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن قُتل دون مظلمته فهو شهيد، ثُم قال:يا أبا مريم، هل تدري ما دون مظلمته؟ قلتُ: جُعلتُ فداك الرجل، يُقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك، فقال:يا أبا مريم، إنّ من الفقه عرفان الحق) (2) ، ففي هذه الرواية الشريفة دلالة واضحة: أنّ الدفاع دون المال والأهل أمر راجح بل يصل ثوابه إلى درجة عالية في صورة التلف، والدفاع عن المال والأهل هو أدنى درجات الدفاع، فكيف بنصرة الحق، والدفاع عن المبادئ الإسلاميّة العُليا، في حالة تهديدها بالخطر أو الاندراس.

ففي الصورة الثالثة من الدفاع عن المال يجوز المدافعة ولو مع احتمال التلف، وتمسّكوا بإطلاق رواية معتبرة عن المعصومين (عليهم السلام)، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن قُتل دون ماله، فهو شهيد) وهذا النصّ مروي بإسناد معتبر في أبواب الحدود في كتاب الوسائل، باب الدفاع.

ويشمله الدليل:(مَن قُتل دون ماله فهو شهيد) ، فنستخلص من هذا الفرع الذي أفتى به الفقهاء: أنّ الدفاع نوع من الغيرة والإباء، باعتبار أنّ غيرة المؤمن تمنع من تحمّل الظلامة، وتمنع من الخنوع والذلّ، في إباء الشرع الحنيف للمسلم والمؤمن،(مَن قُتل دون مظلمته فهو شهيد) ، وهذا التعبير فيه إشعار بالعلّة مع كون المظلمة هي مال، ليس من جهة رجحان المال، إذ أين النفس من المال؟ إذ لو كان من باب التزاحم بين المال والنفس، لحُرِّم حينئذٍ ولمَا ساغَ وجاز؛ لأنّ المال

____________________

(1) الفقيه 4: 95، وسائل 18: باب 4 من أبواب الدفاع: 589: 1 - 2.

(2) الكافي 5: 52.

٣٤٠