الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124909
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124909 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي سيرة كثير من أهل التقوى والورع.

والمهمّ من ذلك: أنّ هذا الفعل كان على مسمع ومرأى من الأئمّة (عليهم السلام)، وقد اشتهرَ أنّ إطالة السجود تؤدّي في جملة من الأحيان إلى عَمى العين، أي يكون الساجد في معرض ذلك، لكن لا يكون ملوماً ولا مذموماً.

الشاهدُ الرابع: بكاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) المستمرّ والدائم على أبيه الحسين (عليه السلام)، ففي الصحيح إلى العباس بن معروف عن محمد بن سهل البحراني (النجراني) - المستحسَن حاله - يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث:(... وأمّا عليّ بن الحسين (عليه السلام) فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وضِع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين! قال: إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خَنقتني لذلك عبرة) (1) .

وفي الصحيح إلى أبي داود المسترقّ، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(بكى عليّ بن الحسين على أبيه الحسين بن عليّ (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضِع بين يديه طعاماً إلاّ بكى على الحسين (عليه السلام) حتّى قال له مولى له: جُعلت فداك يا بن رسول الله...) ، ثُم ذكرَ نفس الرواية السابقة(2) .

وروى ابن قولويه بسند صحيح إلى إسماعيل بن منصور، عن بعض أصحابنا، قال: أشرف مولى لعليّ بن الحسين (عليه السلام) وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا عليّ بن الحسين، أمَا آنَ لحُزنك أن ينقضي؟ فرفعَ رأسه إليه

____________________

(1) وسائل الشيعة 3: 281 أبواب الدفن باب 87؛ حُلية الأولياء 3: 138.

(2) كامل الزيارات: 107: باب 35، ح1.

٣٤١

وقال:(ويلكَ - أوثَكلتك أُمّك -والله، لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيتُ حتّى قال: يا أسفى على يوسف، إنّه فقدَ ابنا واحداً، وأنا رأيتُ أبي وجماعة أهل بيتي يُذبّحون حولي) الحديث(1) .

وكان (عليه السلام) إذا أخذ إناءً ليشرب ماءً بكى حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك؟ فقال:(وكيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي كان مُطلقاً للسباع والوحوش) (2) .

وما نُقل في هذا الصدد الكثير(3) عن شدّة بكاء السجّاد وخوف أهل بيته وعشيرته وبني هاشم عليه، وكذلك اشتدّ خوف عامّة المسلمين عليه لشدّة بكائه على أبيه الحسين (عليه السلام)، وقد نُقل أنّه (عليه السلام) بكى حتّى خيفَ على عينيه(4) ، وهو (عليه السلام) يحتجّ بفعل يعقوب، فكيف يكون هذا الفعل محرّماً، بل إنّما يُعتبر فضيلة ومكرمة.

ونظيره إغماء الرضا (عليه السلام) مرّتين في إنشاء دعبل قصيدته التائيّة المشهورة(5) وقد مرّ وجه الاستشهاد: (أنشدَ دعبل، فلَطمت النساء وجوههنّ وعَلا الصُراخ من وراء الستر، وبكى الرضا (عليه السلام) حتّى أُغميَ عليه مرّتين)(6) .

____________________

(1) كامل الزيارات: 107 باب 30، ح 2؛ والبحار عنه 46: 109.

(2) المناقب 4: 166.

(3) البحار، ج 46، تاريخ عليّ بن الحسين (عليه السلام): 108؛ حلية الأولياء 3: 138؛ مناقب ابن شهر آشوب: 3: 303.

(4) المناقب 4: 166، عن حلية الأولياء.

(5) ومطلعها:

مدارسُ آياتٍ خَلت من تلاوةٍ ومَنزلُ وحي مُقفرُ العَرَصات

(6) عيون أخبار الرضا 2: 263.

٣٤٢

وظاهر أنّ البكاء بهذه الشدّة اختياري، والإغماء ليس بالشيء غير محتمل الخطر، وقد ثبتَ علميّاً أنّ في الإغماء مُعرضيّة الموت، فالإغماء معروف قديماً وحديثاً، وهو فعل غير مضمون السلامة، وفي معرض الهلكة، كما حصلَ لهمّام عندما سمعَ صفات المتّقين من سيّدهم أمير المؤمنين (عليه السلام).

الشاهدُ الخامس: إغماء أمير المؤمنين والأئمّة (عليهم السلام) في البكاء، وهذا ممّا استفاضَ نقله في كتب السيَر والتاريخ من العامّة والخاصّة، والروايات الواردة في ذلك - سواءً الروايات الحديثيّة أو التاريخيّة - مجموعها موجِب للاستفاضة أو الوثوق، مضافاً إلى وجود سيرة متشرعيّة بذلك مقرّرة على مسمع ومرئ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين (عليهم السلام)، مع أنّ فيه معرضيّة الخطر من تلف النفس.

الشاهدُ السادس: شاهدٌ آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) - ذكرناه سابقاً - عندما أغار جيش معاوية على الأنبار، فخطبَ خطبته المعروفة يستحثّ فيها أهل الكوفة للقتال، ذكرها ابن الأثير والطبري في كتابيهما، ووردت في كتاب الغارات لابن إسحاق الثقفي أيضاً.

ومحلّ الشاهد من الخطبة هو:(... وهذا أخو غامد، قد وردت خيلُه الأنبار، وقد قَتلَ حسّان بن حسّان البكري، وأزالَ خيلكم من مسالِحها، ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهِدة، فينتزِع حِجلها وقَلبها وقلائِدها ورُعُثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثُمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلَمٌ، ولا أُريقَ لهم دم، فلو أنّ امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً) (1) .

____________________

(1) نهج البلاغة 2: 74.

٣٤٣

لو لم يكن الموت اختياريّاً لمَا كان هناك وجه لنفي اللوم، إذ لو كان موتاً عفويّاً، غير اختياري بل من الكمد والأسف، من شدّة التأسّف، حيث إنّ الذمّ والمدح إنّما يتوجّه على الفعل الاختياري القريب أو البعيد، أو على الأقلّ تكون مقدّماته اختياريّة، فلو أنّ الإنسان يتأثّر لأجل الغيرة الدينيّة، ويشتدّ تفاعله، ويزداد ويتحسَّس، حتّى لو علمَ أنّ هذا الحماس سوف يؤدّي به إلى الهلاك(ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً) .

بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا هو حكمٌ عقليّ أيضاً، فالعقل يقضي إذا كانت المقدّمات البعيدة اختياريّة في الفعل، فإنّه حين يقع الإنسان في دائرة الفعل يصبح غير اختياري، لكنّ مقدّماته البعيدة اختياريّة، فإذا وقعَ الإنسان في مَعرضيّة التلف لا يُعدّ عند العقلاء مذموماً.

____________________

- وبحار الأنوار، ج 8 من الطبعة الحجريّة، باب ما جرى من الفتن: 679 س 34.

- الغارات 2: 464.

- أحمد زكي صفوت في جمهرة خطب العرب 1: 239 - 242.

- وأبو الفرج الأصفهاني في الأغاني 15: 43، تحت عنوان: ذِكر الخبر في مقتل ابن عبيد الله بن العبّاس.

- ورواها الجاحظ في البيان والتبيين 2: 39 - 42، طبعة الرحمانيّة بمصر سنة 1351 هـ.

- الكافي 5: 89 في كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد مسندة، وهي غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار.

- ومعاني الأخبار: 309.

- وابن أبي الحديد 1: 141، وقال: هذه خطبة من مشاهير خطبه (عليه السلام)، قد ذكرها كثير من الناس، ورواه أبو العبّاس المبرّد في أوّل الكامل.

- والطبري في ضمن ذكره لأحداث سنة 39 هـ، ومصادر أخرى غيرها.

٣٤٤

فعبارة:(ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً) ، من باب الجدارة والاقتضاء العقلي والحميّة الدينيّة.

الشاهدُ السابع: ما هو معروف في خطبته (عليه السلام) في وصف المتّقين، لمّا طلبَ منه همام ذلك.

وبعد تمام الخطبة، صعقَ همام بن عبّاد(1) صعقةً كانت نفسه فيها، فقال (عليه السلام):(أمَا والله، لقد كنتُ أخافها عليه) أخاف عليه، ليس من باب العلم اللّدنّي؛ إنّما من باب العلم العقلائي الحاصل من الحالة المعتادة، الذي هو علم ظاهري، وهو محلّ التكليف.

إقدامه على فعل فضيلي - وهو شدّة الخشية من الله سبحانه إلى أن يصعق - إنّما حصلَ من شدّة التأنيب والخوف والخشية من الله سبحانه.

ثُمّ قال (عليه السلام):(هكذا تصنعُ المواعظ البالغة بأهلها) ، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام):(ويحكَ إنّه لكلّ أجلٍ وقتاً لا يعدوه، وسَبباً لا يتجاوزه) (2) .

هذه حالة فضيلة، مثل: أن يبرز للجهاد الذي هو ميدان فضيلة وكمال، وهي نوع من التسبيب، ونمط من الموت في سبيل الله، وهذا تقريب آخر لمفاد الرواية والخطبة، وهو أنّ المدّعى في هذه المسألة: هو أنّ الموت في الجوانب الفضيليّة هو

____________________

(1) نهج البلاغة 10: باب 186: 149.

والكافي 2: 227؛ ينابيع المودّة: 417؛ والمستدرك لكاشف الغطاء: 63؛ ومصادر نهج البلاغة 3: 65؛ مطالب السؤول ومصباح البلاغة 3: 274، عن الصواعق المحرقة لابن حجر؛ منهاج البراعة 12: 160.

(2) أشرنا إلى المصادر المختلفة لهذه الخطبة في الهامش السابق، فليراجع.

٣٤٥

نوع من الموت في سبيل الله عقلاً وشرعاً، إذا كان الفرض أنّ الموت في طريق فضيلة من الفضائل الشرعيّة الراجحة.

الشاهدُ الثامن: الاستشهاد بفعل الزهراء (عليها السلام) وشدّة بكائها، وإن كان سبب شهادتها هو كسر الضلع وإسقاط الجنين - كما تشير إلى ذلك النصوص الكثيرة - لكن كان بكاؤها (عليها السلام) الشديد في معرضيّة التلف أيضاً.

الشاهدُ التاسع: فعلُ الرَباب - زوجة الحسين (عليه السلام) -(1) في عدم استظلالها بسقف بعد شهادة الحسين (عليه السلام) في القرّ والحرّ، وعدم الاستظلال بهذا الوصف مع الاستمرار بالبكاء هو في معرضيّة الهلاك والتلف، إلى أن توفيت كمَداً، ومع ذلك لم يُردعها السجّاد (عليه السلام) وأقرّها على فعلها، فيُعتبر ذلك إمضاءً من المعصوم (عليه السلام) على جواز ذلك الفعل.

ويؤيّد المقام: ما ذُكر في كتب السيَر والتواريخ والمقاتل من ترك الحسين لشرب الماء، كمؤيّد، حينما خاطبهُ أحد الأعداء: قد هُتك حَرمك، فترك الماء لكي يظهر أنّ غيرته (عليه السلام) وحميّته على حَرمه وعياله يضحّي من أجلها بأغلى الأثمان، حتّى ولو بترك شرب الماء الذي كان فيه حياته آنذاك.

وكذلك موقف العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم عاشوراء وعدم شُربه للماء.

شواهدٌ أخرى: نعم، هذه الموارد أو الشواهد العديدة تدلّ على المطلوب أوضح دلالة، ويمكن للإنسان جمع شواهد ومؤيّدات أخرى أيضاً،

____________________

(1) لواعج الأشجان (السيّد محسن الأمين): 223.

٣٤٦

مثل:(ولأبكينّك بدلَ الدموع دَماً) الواردة في زيارة الناحية، ومفادها ظاهر ودالّ على المطلوب في المقام.

ومثل ما ورد عن السجّاد (عليه السلام) في خطبته عند دخولهم المدينة:(أيّ قلبٍ لا يتصدّع لقتله - يا لها من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأقضّها وأمّرها...) (1) ، والاستشهاد به لمَا يعمّ الشعائر الحسينيّة وغيرها، فيستشهد به في مطلق الإقدام على فعلٍ في معرضيّة التلف إذا كان الفعل لفضيلة دينيّة، كي يكون راجحاً.

على كلّ حال، فإنّ المتصفّح لفروع عديدة في الفقه، أو أبواب الأخلاق الممدوحة، يرى أنّ جامع هذه الموارد هو: أنّ الفعل الفضيلي والسلوك الكمالي إذا أقدمَ عليه الإنسان وكان فيه معرضيّة للخطر، فلا ملامة عقليّة في البين، بل على العكس يكون محلاًّ للمديح العقلي والمديح الشرعي، كما ظهر من هذه الشواهد أو المؤيّدات المستخلصة.

وهذا البحث أعمّ من بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ مَن يموت في سبيل فضيلة، إنّما يحاول في الواقع إظهار وتثبيت تلك الفضيلة في المجتمع، على غرار مفاد الحديث النبوي المستفيض بين الفريقين:(مَن سَنّ سنّةً حسنةً فله أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء) (2) تكون نوعاً من السُنّة وإجراءً لتلك الفضيلة التي مات هو دونها، أي أنّ نفس الفضيلة سوف تُسنّ في المجتمع.

____________________

(1) بحار الأنوار 45: 148؛ وبعض العبارات في كتاب مثير الأحزان: 113.

(2) الكافي 5: 9 / رواية 1.

٣٤٧

تفصيلُ الوجه الثاني

عدم إزالة الضرر الشخصي لحكم الشعائر بناءً على التمسّك بحرمة الضرر كرافع للأحكام الأوّليّة.

وقد مرّ بنا أنّ طروّ قاعدة (لا ضرر) على الشعائر الدينيّة - ومنها الشعائر الحسينيّة - ليس بأيّ درجة كان؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر إنّما يرفع الحكم أو تنجيزه - على الاختلاف بين المشهور وغيره - عندما يكون مِلاك الحكم بدرجة مناسبة له، لا أيّ ضرر يسيرٍ يسبِّب رفع عموم الأحكام، ومن ثَمّ الآية الكريمة:( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) أنّ درجة الضرر والاضطرار هي: الإشراف على الموت، بخلاف الضرر والحرج في الوضوء.

سواء على مسلك المحقِّق النائيني في رفع الاضطرار من باب التخصيص، أو على مسلك المشهور وهو من باب التزاحم - وهو الصحيح - والتزاحم يتطلّب ملاكين متقاربين، والمِلاك اليسير لا يدافع الملاك المهمّ، والمصلحة اليسيرة لا تُدافع المصلحة الجليلة، إذا اتّضح ذلك: فتقرّر أنّ الملاك والمصلحة في نظر الشارع في الشعائر الحسينيّة أهمّ بكثير من تلف عضو، أو معرضيّته لذلك(2) ، (انظر فتوى المحقّق النائيني (قدِّس سرّه)

____________________

(1) النحل: 115.

(2) وكما ذكرنا على فتوى بعض الفقهاء: كالشيخ خضر بن شلاّل (الذي كان هو محدِّثاً وفقيهاً مقدّساً من تلاميذ الشيخ جعفر كاشف الغطاء ومن تلاميذ السيّد بحر العلوم أيضاً)، حيث أفتى

٣٤٨

وتعليقة العلماء عليها حول الشعائر الحسينيّة، في الملحق المرفق آخر الكتاب)(1) .

فالمصلحة والأهميّة في الشعائر الحسينيّة تفوق قاعدة (لا ضرر) في الضرر الشخصي أو ضرر تلف العضو، والوجه في ذلك إجمالاً: أنّ بقاءها إبقاء للدين الحنيف كما هو مقتضى الحديث النبوي: (حُسينٌ منّي وأنا من حسين)(2) .

الشعائرُ الحُسينيّة أهمّ مِلاكاً من الضرر الشخصي

ولابدّ من تفصيل الأدلّة في تفوّق أهميّة المصلحة في الشعائر الحُسينيّة على الضرر في تلف العضو أو النفس.

ولنذكر مقدّمة تاريخيّة لها علاقة بالمقام، وهي: أنّ من الثابت تاريخيّاً أنّ قبر

____________________

في كتابه أبواب الجنان ص 39: بأنّ أهميّة الشعائر الحسينيّة بالنظر الشرعي، تفوق حتّى ضرر النفس، وتقدّمَ فيما سبق أنّ الميرزا القمّي - صاحب القوانين - في جامع الشتات 2: 77 الطبعة الحجريّة القديمة، أدرجَ إقامة الشعائر الحسينيّة في باب الجهاد، وهذا يقضي بأنّ المُرتكز عند الميرزا القمّي كون باب الشعائر الحسينيّة - أي إعلان الشعائر وإقامتها - مُتّحداً مِلاكاً مع باب الجهاد، وسيأتي بيان الأدلّة تباعاً.

وذكرَ غير واحد من الفقهاء ومراجع النجف الأشرف في فتواه التي شابهت فتوى المحقّق النائيني (رحمه الله) - ومنهم الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء وغيره -: أنّ الإقدام والمعرضيّة لتلف العضو في جملة من الشعائر الحسينيّة كالزيارة، ليس محرّماً بل راجحاً، بل بعضهم تصاعدَ إلى معرضيّة تلف النفس.

(1) ص: 417 من هذا الكتاب.

(2) الإرشاد (الشيخ المفيد) 2: 127؛ بحار الأنوار 43: 271؛ المعجم الكبير (الطبراني) 3: 33؛ موارد الظمان (الهيثمي): 554؛ تاريخ مدينة دمشق (ابن عساكر) 14: 149؛ تهذيب الكمال (المزي) 6: 402؛ تهذيب التهذيب (ابن حجر): 299.

٣٤٩

الحسين (عليه السلام) تعرّض للهدم عدّة مرات(1)، حيث هَدمه المنصور الدوانيقي، ثُمّ هَدمه هارون العبّاسي، وقطعَ السدرة(2) التي كانت علامةً على القبر، ثُمّ هَدمه مرةً أخرى بعد تجديد بنائه.

ثُمّ بُني بعد هارون في عهد المأمون، ثُمّ هَدمه المتوكّل عدّة مرات وأجرى الماء عليه، هذا هو المذكور تاريخيّاً من مصادر العامّة والخاصّة، وبالدقّة نذكر السنوات التي هدّم المتوكّل فيها قبر الحسين (عليه السلام) وغيره من خلفاء بني العبّاس: سنة 233 هـ، سنة 236 هـ، سنة 247 هـ، وفي سنة 273 هـ، والمرّة الخامسة هدّم القبر الموفّق ابن المتوكل، فهذه خمس مرّات هُدِم فيها القبر الشريف(3) .

وهذه شواهد تاريخيّة: على أنّ زيارة قبره (عليه السلام) كانت أمراً تحرص سلطات بني أميّة وبني العبّاس على منعه، ووضع العيون لمعرفة زائريه، والتصدّي لهم بشكلٍ شديد وخطير، بل زاد العباسيّون طغياناً، فكانت زيارته (عليه السلام) تُعتبر تعريض النفس للهلاك(4) ، أو تعريضاً لتلف عضو، وقد قُطعت الأيدي كما هو

____________________

(1) راجع: بحار الأنوار 45: 390 / باب 50 (جور الخلفاء على قبره الشريف وما ظهر من المعجزات عند ضريحه...)؛ لتقرأ المزيد عن هذه الحقيقة التاريخيّة.

(2) راجع: بحار الأنوار 45: 398.

(3) وقد قال في ذلك عبد الله بن رابية الطوري:

تالله إن كانت أُميّةُ قد أتت قَتلَ ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها هذا لعَمرُك قبره مهدوما

أسَفوا على أن لا يكونوا شايعوا في قتله فتتّبعوه رَميما

بحار الأنوار 45: 398.

(4) ورد في بحار الأنوار 45: 403: بأنّ المتوكّل العبّاسي قد أمرَ بهدم وحرث قبر

٣٥٠

المأثور في سبيل زيارته (عليه السلام).

ومن جهةٍ أخرى، توجد العديد من الروايات في كتاب المزار التي تشير إلى نفس هذه الحقيقة الموضوعيّة التاريخيّة، وهي: الخوف والرعب الذي أوجدتهُ السلطة الأمويّة والعباسيّة حول زيارة الحسين (عليه السلام).

نذكر بعض الروايات الشريفة الدالّة على ذلك، وعلى تفوّق أهميّة مصلحة الشعائر الحسينيّة على الضرر في تلف العضو أو النفس:

* حَسنة أو مصحّحة الحسين بن بشّار الواسطي، قال: سألتُ أبا الحسن الرضا (عليه السلام): ما لمَن زار قبر أبيك؟

قال:(زُره.

قلتُ: فأيّ شيء فيه من الفضل؟

قال:فيه من الفضل كفضل مَن زارَ قبر والده - يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله -.

فقلتُ: فإنّي خِفتُ فلم يمكنّي أن أدخل داخلاً.

قال:سَلِّم من وراء الحائر - الجسرـ) (1) .

وروى ابن قولويه في كامل الزيارات أربع روايات(2) مسندة في الحثّ على زيارة قبره (عليه السلام) في حال الخوف، ومضاعفة الأجر في ذلك، اخترنا منها هذه الرواية:

____________________

الحسين (عليه السلام) وتوعّد الناس بالقتل لمَن زار قبره، وجعلَ رصداً من أجناده وأوصاهم كلّ مَن وجَدتموه يريد زيارة الحسين (عليه السلام) فاقتلوه.

(1) وسائل الشيعة 14: 545 أبواب المزار باب 80، 4.

(2) كامل الزيارات: 125 - باب 45، ثواب مَن زار الحسين (عليه السلام) وعليه خوف.

٣٥١

* بإسناده عن الأصم عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إنّي أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك فإذا خرجتُ فقلبي وَجل مشفق حتّى أرجع خوفاً من السلطان والسعادة وأصحاب المسالح.

فقال:(يا بن بكير، أمَا تحبّ أن يراك الله فينا خائفاً، أمَا تعلم أنّه مَن خاف لخوفنا أظلّه الله في ظلّ عرشه، وكان مُحدّثه الحسين (عليه السلام) تحت العرش، وآمنهُ الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يَفزع، فإن فزعَ وقّرتهُ (قوّته) الملائكة وسَكّنت قلبه بالبشارة) (1) .

* وفي موثّق حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث:(ولكن زوروه ولا تجفوه؛ فإنّه سيّد شباب أهل الجنّة وشبيه يحيى بن زكريّا، وعليهما بكت السماوات والأرض) (2) .

* وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لي:(كم بينك وبين الحسين (عليه السلام)؟

قلت: يوم للراكب، ويوم، وبعضُ يوم للماشي.

قال:أفتأتيه كلّ جمعة؟

قال: قلت: ما آتيه إلاّ في الحين.

قال:ما أجفاك، أمَا لو كان قريباً منّا لاتّخذناه هجرةً) أي تهاجرنا إليه(3) .

* وفي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:(كم بينكم وبين قبر

____________________

(1) كامل الزيارات: 125.

(2) وسائل الشيعة 14: 451 أبواب المزار ب 45، 15.

(3) وسائل الشيعة 14: 438 أبواب المزار ب 40، 5.

٣٥٢

الحسين (عليه السلام) ؟

قال: قلت: ستّة عشر فرسخاً.

قال:ما تأتونه؟

قلت: لا.

قال:ما أجفاكم؟) (1) .

* وفي صحيح الفضيل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):(ما أجفاكم يا فُضيل لا تزورون الحسين! أمَا عَلمتَ أنّ أربعة آلاف مَلكٍ شُعثاً غبراً يبكونه إلى يوم القيامة) (2) .

* ورواية حنان بن سدير، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام)، فقال لرجل من أهل الكوفة:(تزور الحسين كلّ جمعة؟

قال: لا.

قال:ففي كلّ شهر؟

قال: لا.

قال:ففي كلّ سنة؟

قال: لا.

فقال أبو جعفر (عليه السلام):إنّك لمحرومٌ من الخير) (3) .

* وفي رواية عليّ بن ميمون الصائغ، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام):(يا علي،

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 435 أبواب المزار ب 38، 20.

(2) وسائل الشيعة 14: 434 أبواب المزار ب 38، 19.

(3) وسائل الشيعة 14: 434 أبواب المزار ب 38، 18.

٣٥٣

بَلغني أنّ أُناساً من شيعتنا تمرّ بهم السنة والسنتان وأكثر من ذلك، لا يزورون الحسين بن عليّ (عليهما السلام) .

قلت: إنّي لأعرف أُناساً كثيراً بهذه الصفة.

فقال:أمَا والله لحظِّهم أخطأوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنّة تباعدوا (1) .

* وروى ابن قولويه بإسنادَين متّصلين إلى سدير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):يا سدير، تزور قبر الحسين (عليه السلام) في كلّ يوم؟

قلت: لا.

قال: ما أجفاكم؟

قال:أتزوره في كلّ جمعة؟

قلت: لا.

قال:فتزورهُ في كلّ شهر؟

قلت: لا.

قال:فتزورهُ في كلّ سنة؟

قلت: قد يكون ذلك.

قال:يا سدير، ما أجفاكم بالحسين (عليه السلام)، أمَا عَلمت أنّ لله ألف مَلَك شُعثاً غُبراً يبكونه ويرثونه لا يفترون زوّاراً لقبر الحسين، وثوابهم لمَن زاره) (2) .

* وفي الصحيح إلى العبّاس بن عامر، قال: قال علي بن أبي حمزة - والظاهر أنّ ابن عامر يرويه عن البطائني أيّام استقامته - عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال:(لا تجفوه،

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 429 أبواب المزار ب 38، 3.

(2) كامل الزيارات: 291 - ب 97، ح 9 - 4.

٣٥٤

يأتيه الموسر في كلّ أربعة أشهر، والمُعسر لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعها) (1) .

* وروى ابن قولويه بإسناد متصل عن صفوان الجمّال عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: قلت: ومَن يأتيه زائراً ثُمّ ينصرف عنه متى يعود إليه؟ وفي كم يؤتى؟ وكم يوماً؟ وكم يسع الناس تركه؟ قال:(لا يسع أكثر من شهر، وأمّا بعيد الدار ففي كلّ ثلاث سنين، فما جاز الثلاث سنين فلم يأته فقد عقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقطعَ حرمته إلاّ عن علّة) (2) .

وغيرها من الروايات المستفيضة في ذلك، الدالّة على شدّة حثّ الصادقَين (عليهما السلام) - والكاظم (عليه السلام)، والرضا (عليه السلام)، وبقيّة الأئمّة (عليهم السلام) - الشيعة ومواليهم على زيارة الحسين (عليه السلام)، مع شدّة الظروف وصعوبة الأحوال، فكانوا (عليهم السلام) يأمرون أفضل مواليهم وفقهائهم: كزرارة، والفضيل بن يسار، وسدير الصيرفي، والحلبي، وأترابهم بزيارته (عليه السلام) مع أنّ من الخطورة التفريط بمثل هذه النماذج، إلاّ أنّ زيارة الحسين (عليه السلام) وشعيرة سيّد الشهداء (عليه السلام) أعظم مِلاكاً وأخطر في التشريع , وقد تصل صعوبة الظروف المحيطة بزيارته (عليه السلام) إلى حدّ يهدِّد الطائفة الشيعيّة بتمامها، فيعالج الأئمّة (عليهم السلام) الظرف المزبور بتخفيف إقامة الشعيرة الحسينيّة لكن من دون قطع ولا انقطاع عنها، مع كلّ تلك الشدّة في الظروف.

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 523 أبواب المزار ب 74، ح 5؛ كامل الزيارات: 294 ب 98، 7؛ بحار الأنوار 98:13.

(2) وسائل الشيعة 14: 534 أبواب المزار ب 74، 10؛ الدروع الواقية: 74؛ بحار الأنوار 98: 14.

٣٥٥

ويشير إلى مثل هذا الظروف المتصاعدة في المحنة الطائفة التالية من الروايات:

* صحيح الحَلبي قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن زيارة الحسين (عليه السلام)، قال:في السنة مرّة، إنّي أخاف الشهرة) (1) .

* وفي صحيحه الآخر تعليله (عليه السلام):(إنّي أكره الشهرة) (2) .

* وفي صحيح ثالث لعبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إنّا نزور قبر الحسين (عليه السلام) في السنة مرّتين أو ثلاثاً.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام):(أكره أن تكثروا القصد إليه، زوروه في السنة مرّة.

قلت: كيف أُصلّي عليه؟

قال:تقوم خلفه عند كتفيه، ثُم تصلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتصلّي على الحسين (عليه السلام)) (3) .

* وروي ابن قولويه عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحِميري، بإسناد متّصل إلى زرارة، قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول فيمن زار أباك على خوف؟ قال:(يؤمِنه الله يوم الفزع الأكبر، وتلقاه الملائكة بالبشارة، ويقال له: لا تخف ولا تحزن هذا يومك الذي فيه فوزك) (4) .

* وروى ابن قولويه أيضا عن الحِميري بإسناده عن ابن بكير، عن أبي عبد

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 533 أبواب المزار ب 74، 6.

(2) وسائل الشيعة 14: 532 أبواب المزار ب 74، 3.

(3) وسائل الشيعة 14: 520 أبواب المزار ب 74، 11.

(4) وسائل الشيعة 45: 1 أبواب المزار ب 101، 10.

٣٥٦

الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إنّي أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجتُ فقلبي وَجل مشفق حتّى أرجع، خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح(1)، فقال:

(يا بن بكير، أمَا تحبّ أن يراك الله فينا خائفاً، أمَا تعلم أنّه مَن خافَ لخوفنا أظلّه الله في ظلّ عرشه وكان مُحدّثه الحسين (عليه السلام) تحت العرش، وآمنهُ الله من أفزاع يوم القيامة، يَفزع الناس ولا يَفزع، فإن فزعَ وقّرته الملائكة وسكّنت قلبه بالبشارة) (2).

* وروى ابن قولويه بأسانيد صحيحة عن موسى بن عمر، عن غسّان البصري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي:(يا معاوية، لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السلام) لخوف، فإنّ مَن تركَ زيارته رأى من الحسرة ما يتمنّى أنّ قبره كان عنده، أمَا تحبّ أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلي وفاطمة والأئمّة (عليهم السلام)) (3).

ورواه الصدوق في ثواب الأعمال بسندٍ صحيح عالٍ(4).

ورواه الكليني في الكافي بطريقين عن معاوية بن وهب(5).

قال المجلسي في البحار: لعلّ هذا الخبر - صحيح معاوية بن وهب - بتلك

____________________

(1) جمع مسلحة: وهي الحدود والثغور التي يرابط فيها أصحاب السلاح.

(2) كامل الزيارات ب 45، 2؛ بحار الأنوار 101: 11.

(3) كامل الزيارات ب 40، 8 - 1؛ ب 45، 3 بل رواه في كامل الزيارات عن معاوية بطرق عديدة كثيرة.

(4) ثواب الأعمال 120: 44.

(5) الكافي 4: 582، ح 11 - 10؛ الوسائل أبواب المزار ب 37، 7؛ المستدرك 10: 278.

٣٥٧

الأسانيد الجمّة، محمول على خوف ضعيف يكون مع ظنّ السلامة، أو على خوف فوات العزّة والجاه، وذِهاب المال، لا تلف النفس والعِرض؛ لعمومات التقيّة والنهي عن إلقاء النفس في التهلكة، والله يعلم(1).

أقول: قد عرفتَ أنّ المحقّق الميرزا القمّي - وجماعة من الفقهاء - عملوا بظاهر مثل هذه الروايات الآمرة بالزيارة في ظرف الخوف مطلقاً من دون تفصيل، وأدرجوا شعيرة الحسين (عليه السلام) في باب الجهاد وإقامة فريضة الولاية والتولّي لهم (عليهم السلام).

هذا، وفي طريق الكليني حيث نقلَ الرواية بطولها، أيضاً هذه الفقرة في شأن زوّار الحسين (عليه السلام)، قوله (عليه السلام):(واكفِهم شرّ كلّ جبّار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك أو شديد، وشرّ شياطين الجنّ والإنس،... اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم يَنههُم ذلك عن الشُخوصِ إلينا وخلافاً منهم على مَن خَالفنا، فارحَم تلكَ الوجوه..) الحديث(2).

ولا يخفى إشارة الرواية إلى عدم الاكتراث بالخوف في هذه الشعيرة فضلاً عن استهزاء وسخريّة المخالفين.

* وروى ابن قولويه بإسناد متّصل عن محمّد بن مسلم في حديث طويل، قال: قال لي أبو جعفر محمّد بن علي (عليه السلام):(هل تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟

قلت: نعم، على خوفٍ ووجل.

____________________

(1) بحار الأنوار 101: 8.

(2) الكافي 4: 582؛ وسائل الشيعة 14: 582 - أبواب المزار ب 37، 7؛ بحار الأنوار 98: 8.

٣٥٨

فقال:(ما كان من هذا أشدّ فالثواب فيه على قدر الخوف، ومَن خافَ في إتيانه آمنَ الله روعته يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وانصرفَ بالمغفرة، وسلّمت عليه الملائكة، وزاره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعا له، وانقلبَ بنعمة الله وفضل لم يَمسسهُ سوء واتّبع رضوان الله) الحديث(1).

والرواية كما ترى متضمّنة ومصرّحة باشتداد الخوف(ما كان من هذا أشدّ فالثواب فيه على قدر الخوف) ، بلغَ ما بلغ من الخطورة، لا سيّما وإنّ أصل الخوف في تلك الأزمنة هو على النفس، كما أُشير إليه في العديد من الروايات.

ونلاحظ مُسائلة الإمام الصادق (عليه السلام) عن ذلك لعدّة من الرواة والأصحاب، وحثّه إيّاهم على زيارة قبر الحسين (عليه السلام) مع أنّهم في ظرف التقيّة، في زمن المنصور الدوانيقي وأمثاله من الطغاة(2).

وبالرغم من هذا التشدّد المعروف في زمن العبّاسيين، نجد أنّ الأئمّة (عليهم السلام) حثّوا شيعتهم على هذه الشعيرة المهمّة ومارسوها (عليهم السلام) عملاً، فقد وردَ أنّ الإمام الصادق (عليه السلام)، والإمام الهادي (عليه السلام) مَرِضا فَندبا مَن يدعو لهما تحت قبّة الحسين (عليه السلام).

فقد روى ابن قولويه(3) بطريقين عن أبي هاشم الجعفري: أحدهما صحيح، والآخر مُصحّح(4) ، وكذلك روى الكليني(5) بطريق مصحّح عنه، قال:

____________________

(1) كامل الزيارات ب 45، 5.

(2) المتوكّل كانت له جارية يعزّها ويحبّها، فغابت عنه فترة، فعرف أنّها ذَهبت إلى زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فقتلها بذلك.

(3) كامل الزيارات ب 90، 2 - 1.

(4) الخبر الصحيح: هو المعتبر عند مشهور العلماء، أمّا الخبر المُصحّح: فهو المعتبر عند القائل،

٣٥٩

بعث إليّ(6) أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه وإلى محمّد بن حمزة، فسَبقني إليه محمّد بن حمزة، فأخبرني محمّد: ما زال يقول:(ابعثوا إلى الحير (الحائر)ابعثوا إلى الحير (الحائر).

فقلت لمحمّد: ألا قلتَ له: أنا أذهب إلى الحير (الحائر)؟ ثُمّ دخلتُ عليه وقلت له: جُعلت فداك أنا أذهب إلى الحير.

فقال:انظروا في ذلك - إلى أن قال - فذكرت لعليّ بن بلال فقال: ما كان يصنع الحير؟ هو الحير، فقدمتُ العسكر فدخلتُ عليه فقال لي:اجلِس، حين أردتُ القيام، فلمّا رأيته أنسَ بي ذكرتُ له قول علي بن بلال، فقال لي:ألا قلتَ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمرهُ الله عزّ وجل أن يقف بعرفة، وإنّما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها، فأنا أحبّ أن يُدعى لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها).

ورويَ في عدّة الداعي عن الصادق (عليه السلام)، أنّه مرضَ فأمرَ مَن عنده أن يستأجروا له أجيراً يدعو له عند قبر الحسين (عليه السلام)، فوجدوا رجلاً فقالوا له ذلك، فقال: أنا أمضي ولكنّ الحسين إمام مفترض الطاعة، وهو إمام مفترض الطاعة! فرجعوا إلى الصادق (عليه السلام) وأخبروه فقال:(هو كما قال ،ولكن أمَا عرفَ أنّ لله تعالى بقاعاً يُستجاب فيها الدعاء، فتلك البقعة من تلك البقاع) (7) .

____________________

فعند ذكر (المُصحّح) يَدفع توّهم ذهاب المشهور إلى اعتباره أيضاً.

(5) الكافي 4: 567؛ الوسائل أبواب المزار ب 76، 3.

(6) أي: إلى أبي هاشم الجعفري.

(7) عدّة الداعي: 57؛ وسائل الشيعة 14: 537 - أبواب المزار ب 76، 2.

٣٦٠