الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124839
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124839 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هذا يقتضي أهميّة مِلاك الشُعيرة الحسينيّة في نظر الشارع، وهو يُعدّ سياسة تشريعيّة منهم لأجل دَعم الشعائر الحسينيّة، وكون الدعاء مستجاباً تحت قبّته، ونفهم منه أبعاداً عديدة، منها: إحياء ذكره وتخليده (عليه السلام)، وربط الناس به (عليه السلام) عبر الأجيال تلو الأجيال، مع أنّ الصادق (عليه السلام) عاش في زمن المنصور الدوانيقي الذي هدّم قبر الحسين (عليه السلام)، وهَدمُ القبر: يعني التصميم والإرادة على منع هذا الرافد للحقّ، وإطفاء هذا النور الذي يزيل ظلام الطاغوت العبّاسي على المسلمين، ومع ذلك ينتدب الصادق (عليه السلام) مَن يدعو له تحت قبّة الحسين (عليه السلام)، هذا التعظيم والتخليد لشعيرة من شعائر الحسين (عليه السلام)، مع أنّه في معرض تلف النفس، أو تلف العضو على الأقلّ، أو تلف المال، أو العِرض، أو الضرر بالسجن، أو التعرّض للضرب والإهانة.

وكذلك الإمام الهادي (عليه السلام) انتدبَ شخصاً يدعو له من سامراء إلى حائر الحسين، فذكرَ الرجل المنتدِب تساؤله بأنّ الإمام الهادي (عليه السلام) هو الحائر أيضاً، كما أنّ الحسين (عليه السلام) حائر النور ودائرة النور، فأجابه (عليه السلام):(هذا صحيح، إلاّ أنّ لله مواقع يحبّ أن يُدعى فيها، وأنا أحببتُ ذلك).

والهادي (عليه السلام) كان في زمن المتوكّل (لعنه الله)، الذي هدّم القبر عدّة مرات وأرسل الماء ليخفي ويُطمس أثر وجود القبر، والمعروف أنّ اسم الحائر كان لهذا السبب(1) ، واللطيف في الرواية ورود لفظة الحير وفيه إشارة لهذه المعجزة الباهرة.

____________________

(1) وهو أنّ الماء بعد إرساله على قبر الحسين (عليه السلام)، لم يصل إليه، وحار حول القبر الشريف، فلذا سُمّي حائراً.

٣٦١

إذاً، الروايات عديدة في فضل زيارته (عليه السلام)، والحثّ والأمر بها في تلك الظروف الصعبة المحفوفة بالمخاطر والمليئة بالمصاعب والشدائد، ونضيف ذِكر بعض هذه الروايات علاوةً على ما مضى؛ للاستدلال على شدّة هذا الأمر وأهمّيّته:

صحيحة معاوية بن وهب المعروفة، وهذه الرواية لها عدّة أسانيد، اثنان منها صحيحان(1) ، المتضمّنة لدعاء الصادق (عليه السلام) المعروف، وهي: استأذنتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) فقيل لي: ادخل، فدخلتُ فوجدتهُ في مصلاّه، فجلستُ حتّى قضى صلاته، فسمعتهُ وهو يُناجي ربّه وهو يقول:(يا مَن خصّنا بالكرامة وخصّنا بالوصيّة، وواعَدنا الشفاعة، وأعطانا عِلم ما مضى وما بقي، وجعلَ أفئدةً من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولأخواني، ولزوّار قبر أبي الحسين (عليه السلام) الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبةً في برّنا، ورجاءً لمَا عندكَ في صِلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك صلواتك عليه وعليهم (2) وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا..

أرادوا بذلك رضاك، فكافِهم عنّا بالرضوان، واكلأهُم بالليل والنهار، واخلُف على أهاليهم وأولادهم الذين خُلّفوا بأحسن الخلف، واصحبهم، واكفهم شرّ كلّ جبار عنيد) (3) ففيها دلالة واضحة، بأنّ زيارة الحسين (عليه السلام) مشروعة في ظروف الخوف وعدم الأمن ومعرضيّة التلف.

____________________

(1) الكافي 4: 582؛ وسائل الشيعة 14: 411 - باب 37 باب استحباب زيارته (عليه السلام).

(2) هذه الرواية تشتمل على حكم الشعائر الحسينيّة.

(3) وسائل الشيعة 14: 412 باب 37: رواية 19482.

٣٦٢

وقوله (عليه السلام):(واكفِهم شرّ كلّ جبّار عنيد) ، إشارةً إلى زيارة الحسين (عليه السلام) في تلك الأزمنة، وإنّها مع ذلك مشروعة وإن كان يُحتمل بسببها التلف.

وكذلك قوله (عليه السلام):(اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم يُنههم ذلك عن شخوصهم، وخلافاً منهم على مَن خالفونا، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحَم تلك الخدود التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله، وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك القلوب التي جَزعت واحترَقت لنا (1) ،وارحَم الصرخة التي كانت لنا، اللهمّ إنّي استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتّى توافيهم الحوض يوم العطش... ، فقال: ما زال وهو ساجد يدعو بهذا الدعاء، فلمّا انصرف، قلتُ: جُعلت فداك، لو أنّ هذا الذي سمعتُ منك كان لمَن لا يعرف الله لظننتُ أنّ النار لا تَطعم منه شيئاً، والله، إنّي قد تمنّيت أنّي كنت زرته ولم أحجّ، فقال لي:ما أقربكَ منه، فما الذي يمنعك من زيارته؟ ثُمّ قال:يا معاوية، لِمَ تدع ذلك؟ (2) قال: لم أدرِ أنّ الأمر يبلغ هذا كلّه، قال (عليه السلام):يا معاوية، إنّ مَن يدعو لزوّار الحسين (عليه السلام) في السماء أكثر ممّن يبلغ هذا كلّه، قال (عليه السلام):يا معاوية، لا تدعه، فمَن تركه رأى من الحسرة ما يتمنّى أنّ قبره كان عنده، أمَا تحبّ أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٌّ وفاطمة والأئمّة (عليهم السلام)) (3) .

____________________

(1) الكافي 4: 583؛ بحار الأنوار 98: 8. وهذه من الروايات المسندة الدالّة على مشروعيّة الجزع، وصحيحة السند، بطريقين.

(2) الإمام (عليه السلام) يستنكر عليه.

(3) وسائل الشيعة 14: 412 باب 37: 19482.

٣٦٣

وقد عقدَ صاحب الوسائل باباً آخراً، وهو باب شدّة استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) عند الخوف، وكذلك صاحب كامل الزيارات، وقد ذكرنا بعض تلك الروايات فيما مضى من البحث(1) هناك روايات خاصة لانتداب زيارته عند الخوف.

وهناك روايات في هذا الباب، تتضمّن تأنيب الإمام الصادق (عليه السلام) أصحابه لعدم الزيارة، مع أنّهم يتعذّرون بالخوف، ومع ذلك يؤنّبهم على ترك الزيارة.

فمقتضى جملة هذه الروايات: أنّ مِلاك الشعائر الحسينيّة أهمّ بكثير من الضرر الشخصي، سواء تلف العضو، بل تلف النفس؛ لشدّة أهميّة المِلاك في حكم الشعائر الحسينيّة، والوجه بيّن في ذلك: حيث إنّ شعائره (عليه السلام) تُعتبر بقاءً للدين الحنيف، وإنّ في جملة من الروايات دلالة على أنّ زيارة الحسين (عليه السلام) أعظم ثواباً من الحجّ، ويقول (عليه السلام):(لولا أنّي أكره أن يدع الناس الحجّ، لحدّثتُك بحديثٍ لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السلام) أبداً) (2) .

وقد جمعَ صاحب الوسائل في أبواب المزار، في باب استحباب اختيار زيارة الحسين (عليه السلام) على الحج والعمرة المندوبين(3) ، وأبواب أخرى وروايات كثيرة تبلغ حدّ الاستفاضة أو أدنى حدّ التواتر.

ومن ثَمّ ذهبَ جملة من الأعلام في مسألة ما إذا نذر زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة ثُمّ حدثت له الاستطاعة، ودار الأمر بين الحج والوفاء بالنذر - أي بين بقاء

____________________

(1) راجع ص: 351 من هذا الكتاب.

(2) مصباح المتهجِّد (الطوسي): 716؛ وسائل الشيعة 14: 464.

(3) وسائل الشيعة 14.

٣٦٤

استطاعة الحج ومشروعيّة النذر ورجحانه - ذهبوا إلى تقديم الزيارة المنذورة، منهم: صاحب الجواهر، والسيّد اليزدي، حيث قالوا: بأنّ نذر زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة يُقدّم على الحجّ الواجب، ووجوب النذر ههنا يُقدّم على وجوب الحج، والتقديم لخصوص هذا النذر، وقد تمسّك السيّد في العروة بأنّ الروايات الواردة في فضل زيارة الحسين (عليه السلام) يظهر منها أهميّة الملاك، ومقتضاه: أنّ مِلاك الشعائر الحسينيّة يفوق في الأهميّة ملاكات أحكامٍ عديدة.

ولعلّ الوجه في ذلك: أنّ باب الشعائر الحسينيّة هو باب الولاية، (لم يُنادَ بشيء كما نوديَ بالولاية)(1) ، لا سيّما ما في بعض الروايات(2) : أنّ هذه الولاية هي ولاية الله تعالى، وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة (عليهم السلام) في قبال بقيّة أركان وفروع الدين، فَعظمة شعائر الحسين (عليه السلام) هي من عظمة ولايته (عليه السلام).

ونُبيّن - للقارئ الكريم - شاهداً آخر على أهميّة مِلاك الشعائر الحسينيّة، وهو:

ما يظهر من جملة من الأدلّة والروايات: أنّ شعائر الحسين (عليه السلام) ممّا يجب إقامتها في الجملة، كما هو حال جملة من شعائر أركان

____________________

(1) الكافي 2: 18، وإليك نصّ الرواية، عن أبي جعفر (عليه السلام):(بُنيَ الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والولاية، ولم ينادَ بشيءٍ كما نوديَ بالولاية) .

(2) أبواب مقدّمات العبادات: باب 29، الوسائل 1: 118 منها: عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام):

(ذروةُ الأمر وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا الرحمن، الطاعة للإمام بعد معرفته، أمَا لو أنّ رجلاً قامَ ليله، وصام نهاره، وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره، ولم يعرف وليَّ الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حقّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان).

٣٦٥

الدين: كالتظاهر بجماعات الصلاة ولواحق ذلك، والحجّ وغيرهما، ويظهر ذلك في العديد من الروايات التي مرّت الإشارة إليها، والتي جَمعها صاحب الوسائل في أبواب المزار، نظير ما ورد في الحج، أنّ الناس لو تركوا الحجّ لعوجِلوا بالنقمة الإلهيّة.

كما في صحيح جميل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):(إنّ الله يدفع بمَن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا، ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإنّ الله يدفع بمن يُزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي من شيعيتنا، ولو أجمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإنّ الله ليدفع بمَن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ من شيعتنا، ولو أجمعوا على ترك الحجّ لهلكوا، وهو قوله ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ) (1) ) (2) .

وفي صحيح الحسين الأحمس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(لو تركَ الناس الحجّ لمَا نوظروا العذاب) ، أو قال:((لنزلَ عليهم العذاب) (3) ، ومثلها صحيح حمّاد، وموثّق سدير(4).

وفي صحيح أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة) (5) وغيرهما من الأحاديث(6) .

____________________

(1) البقرة: 251.

(2) الوسائل 1: 28 - أبواب مقدّمات العبادات ب 1.

(3) وسائل الشيعة 4: 271 أبواب وجوب الحجّ ب 4، (1، 2، 3، 5) وبقية روايات الباب.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

(6) المصدر السابق.

٣٦٦

فهذه الشعيرة يجب أن تظلّ دائماً نابضة ومستمرّة (مثاباً للناس)، فهناك روايات عديدة في أوائل أبواب وجوب الحج، في الوسائل، وكذلك من الروايات أيضاً:(أمَا أنّ الناس لو تركوا حجّ هذا البيت لنزلَ بهم العذاب وما نوظروا) (1).

هذا النحو من الوعيد والإنذار وردَ نظيره في أدلّة زيارات الحسين (عليه السلام)، وفي الشعائر الحسينيّة أيضاً.

إنّ مَن تركَ زيارته، أو مَن جفاهُ عوجِل بالنقمة، أو عوجِل بالبليّة.

وفي بعضها مَن تركَ الزيارة له (عليه السلام) من غير علّة فهو من أهل النار(2).

وإنّه يموت قبل أجَله بثلاثين سنة(3) ، كما في صحيح منصور بن حازم.

وفي رواية(4) عنبسة بن مصعب: أنّ مَن تركَ زيارة الحسين (عليه السلام) مُنتقَص الإيمان، مُنتقَص الدين، وفي بعضها: إنّ زيارته حقّ من حقوق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ حقّ الحسين (عليه السلام) فريضةٌ من الله تعالى واجبة على كلّ مسلم(5) .

وفي الصحيح إلى أمّ سعيد الأحمسيّة، عنه (عليه السلام):(إنّ زيارة الحسين (عليه السلام) واجبة على الرجال والنساء) (6) .

____________________

(1) عن الإمام الصادق (عليه السلام): بحار الأنوار 99: 19 / رواية 69.

(2) وسائل الشيعة 14: أبواب المزار ب 38، 13.

(2) وسائل الشيعة 14: أبواب المزار ب 38، 4.

(2) وسائل الشيعة 14: أبواب المزار ب 38، 5.

(2) وسائل الشيعة 14: أبواب المزار ب 38، 1.

(2) وسائل الشيعة 14: 437 أبواب المزار ب 39، 3.

٣٦٧

أو أخذَ على شيعتنا بالمواثيق زيارتنا كلّ عام(1) ، أو بمثل هذه التعبيرات، ولفظ الفريضة قد ورد في الروايات، وكذلك أنّ زيارته فريضة على النساء، وورد(2) أيضاً: أنّ المرأة تزور الحسين (عليه السلام) من دون مَحرم، كما هو حكم النساء في فريضة الحجّ إذ ليس من شرط الاستطاعة على المرأة ذهابها مع المَحرم، بل يجوز لها أن تذهب بدون مَحرم إذا أمَنت الرفقة.

وهناك تشابه كبير بين لسان أدلّة شعيرة الحجّ وبين لسان أدلّة شعيرة زيارة الحسين (عليه السلام).

أركانُ الشريعة الإسلاميّة

هذا لسان آخر، وعلى ضوء هذا الشاهد الذي ذكرناه، استظهاراً من الأدلّة، وذهب جملة من أساطين المذهب وعلمائه من الفقهاء، أو المحدّثين، أو المتكلّمين الإماميّة إلى أنّ في الشريعة الإسلاميّة ثلاثة معالِم ركنيّة عماديّة، كتبَ الله المحافظة عليها وعدم انطماسها، وإنّ فيها بقاء الدين وهي:

الأوّل: القرآن الكريم، قال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (3) .

الثاني: الحجّ والمسجد الحرام:( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ) (4) .

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: أبواب المزار، ب 44.

(2) وسائل الشيعة 14: أبواب المزار، ب 39، 2.

(3) الحجر: 9.

(4) البقرة: 125.

٣٦٨

الثالث: الشعائر الحسينيّة، كما هو لسان العرب، وقال تعالى:( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ... فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَال ) (1)، وبين علي وفاطمة وولداهما من أعظمها كما في روايات الفريقين(2) وقال تعالى:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (3) ، وكالنبوي:(إنّ الحسين مِصباحُ الهدى وسفينةُ النّجاة) .

والآخر:(حُسينٌ منّي وأنا من حسين) .

وتوبيخ العقيلة الكبرى (عليها السلام) في خطابها ليزيد (لعنه الله) في قصره بالشام حيث قالت له: (فو الله، لن تمحو ذِكرنا، ولا تُميت وَحيَنا)(4) .

وما قالته العقيلة (عليها السلام) لابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، عند رؤية جثمان أبيه وجُثث أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء بلا دفن: (مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأخوتي، فو الله، إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله

____________________

(1) النور: 35 - 36.

(2) الكافي 8: 321؛ وأورد عليّ بن يونس العاملي في كتابه الصراط المستقيم 1: 293 هذه الرواية:

( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ.. ) أسند الثعلبي إلى أنس وبريدة أنّها بيوت الأنبياء، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا البيت منها؟ - يعنى بيت علي وفاطمة - قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :(نعم، من أفاضلها) .

(3) التوبة: 32.

(4) اللهوف في قتلى الطفوف: 183؛ مثير الأحزان: 101.

٣٦٩

ميثاق أُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة فيوارونها، ويَنصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور اللّيالي والأيّام، وليجهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علواً..)(1) .

وهذه المعالِم في الدين: القرآن، وشعيرة الحجّ والمسجد الحرام، والشعائر الحسينيّة (عليه السلام)، هذه المعالِم الأركان، عبارة أخرى عن الثَقلين: القرآن، والعترة، ويمكن الاستدلال على ركنيّة هذه الأمور في الدين الإسلامي بصحيحة عبد الله بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال:(إنّ لله عزّ وجل حُرمات ثلاثاً ليس مثلهنّ شيء: كتابه وهو حكمته ونوره، وبيته الذي جعله قِبلة للناس لا يُقبل من أحد توجّهاً إلى غيره، وعترة نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (2) .

فهذه هي أثافي الإسلام، لا يُفرّط الله سبحانه وتعالى بها قضاءً وقدراً، في الإرادة التكوينيّة ولا في الإرادة التشريعيّة.

ومن ثَمّ، بنى عدّة من فقهاء الإماميّة على أنّ شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) هي في درجة الأهميّة والمِلاك بهذه المثابة، كما أنّ قدسيّة وعظمة القرآن مستلزمة لبقاء القرآن، حيث إنّ قدسيّته بمكان من الأهميّة والتقدير والتفوّق، كذلك الحال في شعائر الإمام الحسين (عليه السلام)، التي هي نبراس وسؤدد، وهي العلامة الكبرى لولاية أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) كامل الزيارات: 221.

(2) الأمالي للصدوق: 291؛ وسائل 4: 300 - كتاب الصلاة - أبواب القبلة - باب 2/ 10.

٣٧٠

فهذه وجوه عديدة تُذكر، والمتصفّح لبقيّة الروايات في هذا الباب، يستطيع أن يستخلص شواهد أخرى بأسانيد لروايات أخرى دالّة على عظم مِلاك الشعائر الحسينيّة.

لذا يرى البعض بأنّ الشعائر الحسينيّة هي من سنخ الواجب الكفائي: كفريضة الحج بحيث لو عُطّل الحج فينبغي تمويله من بيت المال(1) ، وكزيارة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا عُطّلت فينبغي على الحاكم أن يتصدّى لإقامتها(2) ، وكذلك كضرورة إعمار الحَرَمين بالسكّان فإذا خَلت مكّة والمدينة من الساكنين، يجب على الوالي أن يُموّل ويبذل من بيت المال لأجل إعمارها بالسّكان(3) .

ويأتي هذا الأمر بحذافيره في فريضة الشعائر الحسينيّة على نحو الواجب الكفائي، بحيث لو عُطّلت في ظرف من الظروف، فعلى الحاكم الشرعي أن يتحمّل مسؤوليّة إقامتها وتمويل إحيائها بالشكل المناسب من بيت المال.

تفصيلُ الوجه الثالث

مرّ بنا أنّ الهلكة، أو التلف، أو النقصان؛ إنّما يصدق إذا ذهبَ التلف هَدراً أو

____________________

(1) الكافي 4: 27؛ الوسائل 11: 24 - عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(لو أنّ الناس تركوا الحجّ كان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفقَ عليهم من بيت مال المسلمين) .

(2) راجع الهامش السابق.

(3) ويمكن الاستدلال على هذا الأمر من الرواية السابقة بالتأمّل بعبارة(... وعلى المقام عنده...) ، التي تدلّ على ضرورة الإعمار والإقامة في الحرمين وعدم إخلائهما من السكّان.

٣٧١

يضيع النقصان سدىً ومن دون أي نتيجة أو ثمرة، أمّا إذا كان هناك ثمرة من ذلك التلف والضرر، فليس من باب إلقاء النفس في التهلكة.

ولتوضيح الكفرة: خروج المقام تخصّصاً وموضوعاً عن الضرر، وذلك بالالتفات إلى ما حُرّر في قاعدة (لا ضرر) من عدم شمولها لجملة من الأبواب والأحكام الأوّليّة: كالجهاد، والخمس، والزكاة ونحوها ممّا يتراءى في الوهلة الأولى أنّها ضرريّة؛ فإنّ آيات الجهاد، لا يقال إنّها مخصِّصة لعموم:( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ ) كما لا يُتوهّم شمول النهي لموارد الجهاد، وإنّ أدلّة الجهاد مخصِّصة لها، لا يصحّ تقرير الظاهر من الدليلين بهذه الصورة؛ لأنّ المراد من الإلقاء في التهلكة هو الإلقاء سدىً وبدون نتيجة وبلا طائل، بخلاف ما إذا كانت هناك غاية فضيليّة مترتّبة على إلقاء النفس في فعل يستوجب معرضيّة التلف.

ويشير إلى ذلك مناظرة النبي يعقوب (عليه السلام) مع أبنائه:

( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) فأجابهم:( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (1) أي أنّه ردّ على دعواهم في كون شدّة الحزن وطول البكاء هلكة، وإنّ تطبيقهم الهلكة عليهما هو بسبب جهلهم، وفي الموضوع عنوان آخر وموقف آخر إلاّ أنّهم يجهلون ذلك، وهذا الجواب يقتضي أنّ الحزن الشديد والبكاء الطويل وإن أوجبا ابيضاض العينين، قابلان لأن يتّصفا بالرجحان والغرض الكمالي، ويخرجان بذلك عن الهلكة المذمومة القبيحة.

فعلى كلّ حال: الظاهر أنّ الهلكة وما شابهها إنّما تكون في الموارد التي

____________________

(1) يوسف: 85 - 86.

٣٧٢

تذهب فيها النفس سدىً، ولا يترتّب عليها نتيجة فضيليّة ولا أثر سامٍ، ومن ثَمّ يُتأمّل في التمسّك بالعموم في موارد الغرض الراجح الفضيلي، لا سيّما مع ما ذكرنا من حكم العقل من نفي الذمّ عمّن يُلقي نفسه في معرضيّة التلف بداعي وبسبب الفعل الفضيلي، أو لفعل فضيلة ما، إذ لا يذمّه العقل، وتعبير الإمام (عليه السلام):(لا يكون عندي ملوماً، بل يكون به جديراً..) أي يكون ممدوحاً.

فالهلكة المأخوذ فيها نحواً من القيود العقليّة في ماهيّتها، يتأمّل ويمنع صدقها في مثل تلك الموارد، فتكون تلك الموارد خارجة تخصّصاً وليس تخصيصاً.

وهذا هو محصّل الوجه الثالث: فإنّ موضوع الضرر والإضرار - كما يشير إليه المحقّق النراقي في عوائد الأيّام - ليس هو كلّ نقصٍ يحدث في المال، أو في البدن، أو في العرض، بل الذي لا يعوّض، ففي المعاوضات الماليّة - مثلاً - لا يُسمّى النقص مع العوض ضرراً، ولا يسمّى مطلق فوات النفع ضرراً، وإذا أُطلق عليه فهو من باب المجاز والتوسّع، لا من باب الحقيقة، بخلاف صرف رأس المال الذاهب سُدى من دون أن يعود عليه بأيّ فائدة، فيكون نقصاً مع عدم العوض.

وعلى ضوء ذلك: أُثيرَ في قاعدة الضرر وحرمته، أنّ الضرر هل هو النقص مع عدم العوض الدنيوي، أم عدم النفع الأخروي؟ ويُصرّ الشيخ النراقي (رحمه الله) على أنّ الآيات العديدة دالّة على أنّ الخسران والربح، أو الانكسار والجبران ليس بلحاظ النشأة الدنيويّة فقط، بل بلحاظ النشأة الأُخرويّة أيضاً، وإنّه ينبغي لحاظ الجبران الأخروي، أو الجبران العقلي، وإنّ النقص المتحمّل للغرض المحمود عقلاً لا يُعدّ ضرراً، ثُمّ يبني على هذا القول في كثير من الفروع في كتابه (مستند الشيعة).

٣٧٣

وبناءً على ذلك: فالموارد التي بُحثت في المقام ليست نقصاً بلا عوض، حيث إنّ الضرر هو النقص من دون جبرٍ، وسواء كان الجبر دنيويّاً أو أخرويّاً.. وبعبارةٍ أخرى: إنّ وجه ما قالوا في عدم شمول قاعدة الضرر للضرر الأولي في الأحكام الأوّليّة وشمولها للضرر الطارئ، هو أنّ الأحكام الأوّليّة المبنيّة على المشقّة والحرج والضرر هو عوضيّة المِلاك والمصالح الموجودة في متعلّقات تلك الأحكام عن النقص والمشقّة الناجمة منها.

وكذا الحال في الشعائر الحسينيّة؛ فإنّ ماهيّة الشعيرة الحسينيّة - كما هو مستفاد من الروايات المتواترة التي جُمعت في أبواب عديدة ضمن مصادر معتبرة آنفة الذكر - متقوّمة بالحزن والتفجّع والحماس، كما هي متقوّمة بالمعاني السامية التي نهض من أجلها سيّد الشهداء (عليه السلام)، ومن الواضح أنّ الحزن والتفجّع بحماس فيه مكابدة وعناء وعبأ تحمّل روحي، لا سيّما وإنّ هذا الصخب الروحي - الممتزج بالحماس والمعاني الرافضة للظلم والمسار المنحرف للسلطة والحكم في المسلمين - يوجِب بطبيعته قلق وخوف الحكومات، فتقوم بممانعة إقامة الشعائر الحسينيّة، وإنزال العقوبة بالشيعة في طقوسهم في عاشوراء وشهر محرّم، كما حفلَ التاريخ بذلك منذ شهادة الحسين (عليه السلام) إلى يومنا وعصرنا الحاضر، بل لم تفتأ المُناصرة بين الحكومات وبين الشيعة على الشعائر الحسينيّة قائمة، سواء في زيارته (عليه السلام)، أو في المشي إلى زيارته، أو في إقامة مراسم العزاء بأشكالها المختلفة، أو في غير ذلك من مراسم وصور الشعائر الحسينيّة.

وهذا ممّا يؤكّد أنّ تشريع الشعائر الحسينيّة في الشريعة المقدّسة مبني من أساسه على المخاطرة والمكابدة والمجاهدة، ومن ثَمّ يتّضح وجه ما ذهبَ إليه المحقّق الميرزا القمّي في جامع الشتات من إدراج الشعائر

٣٧٤

الحسينيّة في باب الجهاد، وعلى ضوء ذلك يتبيّن عدم شمول قاعدة الضرر لأبواب الشعائر الحسينيّة التي شرّعت في أصلها: كباب الجهاد ونحوه على تحمّل الضرر والمشقّة.

ومن الواضح أنّ النقض الذي يُشاهد في الشعائر الحسينيّة بهذا المقدار(1) هو ليس من الضرر شرعاً، بل ولا عند العقلاء: نظير جرح الشخص نفسه لإخراج الدم لأجل تحليله طبيّاً، أو مثل الحجامة، التي ورد الحثّ عليها من طرق العامّة والخاصّة ورجحانها أمر ثابت وطبيّاً أيضاً(2) .

فالبشر والعقلاء يمارسون العديد من التصرّفات اليسيرة في البدن، من دون أن يحرّموها أو يمنعوها.

فتحصّل: أنّ هناك ثلاثة وجوه لدفع توهّم الضرر في الشعائر الحسينيّة بأقسامها.

هذا بالنسبة إلى الجهة السادسة، وهي بحث الضرر المترتّب على بعض الشعائر الحسينيّة.

____________________

(1) كما ذَكر المحقّق النائيني وتلاميذه قاطبة.

(2) وقد عُبّر عن الحجامة في الرأس في الروايات، بالمنقِذة والمُغيثة والمنجية، والسرّ: هو أنّها تحمي من الجلطات الدماغيّة كما ثبتَ ذلك طبّيّاً، راجع الوسائل 17: 111.

٣٧٥

الجهةُ السابعة: لبسُ السواد حُزناً على الحُسين (عليه السلام)

٣٧٦

٣٧٧

بدايةً وردت روايات في باب لباس المصلّي، مضمونها: أنّ لبس السواد هو لباس الأعداء، ولباس أهل النار، ولباس بني العبّاس، وفتوى أكثر الفقهاء على كراهة لبس السواد خصوصاً في الصلاة.

وذهبَ بعض المحدّثين الإخباريين إلى الحرمة.

وقد ذكرنا في الفصل الأوّل: أنّ اتّخاذ الشعيرة يكفي فيه الحلّيّة بالمعنى الأعم، فعلى افتراض كونه مكروهاً؛ فإنّ ذلك لا يمنع من اتّخاذه شعيرة للحزن.

حيث إنّ الشعيرة الواردة في الأدلّة ليست حقيقة شرعيّة، بل هي حقيقة عُرفيّة، فيمكن استحداث واتّخاذ ممارسة مصاديق ورسوم جديدة، هذاأوّلاً .

وثانياً: أنّ هذا السواد إنّما يكون مشمولاً للكراهة إذا اتُّخذ لباساً، أمّا إذا اتُّخذ شعاراً لإظهار الحزن فهو غير مشمول لتلك الكراهة، فمن ثَمّ ذهبَ - كما نقلنا في صدر البحث - صاحب الحدائق(1) ، والسيّد اليزدي(2) ، وعدّة من الفقهاء

____________________

(1) الحدائق 7: 118. حيث قال فيها: (لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام)؛ لمَا استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان.

(2) في أجوبة أسئلة حول الشعائر الحسينيّة، الذي هو ملحق على تعليقته على رسالة الشيخ جعفر التستري ص 12، في لبس السواد.

٣٧٨

إلى عدم كراهة لبس السواد حتّى في الصلاة إذا كان لأجل إظهار الشعائر.

(والمسألة محرّرة في كتاب الصلاة).

فالروايات الناهية عن لبس السواد ليست متعرّضة لاتخاذه كشعار، ولأجل إظهار الأسى والحزن، نظير ألبِسة بعض الحِرف والمِهن، أو المؤسّسات والدوائر، فإنّ الهيئة الموحّدة في اللباس لديهم ليست زيّاً لباسيّاً في الحياة المعتادة، بل الهيئة الموحّدة من اللون أو الشكل، هي شعار يرمز إلى العمل الموحّد والانتساب المعيّن، ومن ثَمّ أفتى جمهرة أعلام العصر بجواز لبس الأشخاص الذين يقومون بالشبيه (المسرحيّة لحادثة الطف) زيّ الجنس الآخر، وإنّ ذلك لا يندرج في عموم حرمة تشبّه الرجال بالنساء أو العكس، ولا يندرج في حرمة لبس الرجال للباس النساء؛ وذلك لظهور المتعلّق في حكم الحرمة لمـَا يُتّخذ لبساً في الحياة العاديّة المعيشيّة.

وثالثاً: المتتبّع للسيرة يقرأ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وأتباعهم، ارتَدَوا ولبسوا السواد من أجل إظهار الحزن والتفجّع، وذلك في موارد:

1- منها ما في شرح ابن أبي الحديد: أنّ الحسنين (عليهما السلام) لَبسا السواد على أبيهما في الكوفة بعد شهادته(1) .

2- ومنها ما في كتاب المحاسن للبرقي(2) : أنّ الفاطميّات والعقائل - بعد رجوعهنّ من كربلاء إلى المدينة - لبسنَ السواد والمَسوح، وكان زين العابدين (عليه السلام) يطبخ لهم.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 8.

(2) المحاسن 2: 402، باب الإطعام؛ باب 25.

٣٧٩

فذَكر فيه أنّ زين العابدين كان يطبخ ويُطعم النساء؛ لأنّهنّ شُغلنَ بإقامة المأتم على الحسين (عليه السلام)، ففيه نوع من تقرير المعصوم (عليه السلام) للبس السواد والمسوح.

3- ومنها ما في كتاب إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس(1) ، في فضيلة يوم الغدير، حيث ورد فيه: وهو يوم تنفيس الكرب، ويوم لبس الثياب، ونزع السواد.

4- ومنها ما في مستدرك الوسائل(2) بسنده عن أبي ظبيان قال: (خرجَ علينا عليّ (عليه السلام)، في إزار أصفر وخميصة(3) سوداء).

وسنذكر بعد قليل المزيد من الأدلّة المنقولة على ذلك.

ورابعاً: أنّ بني العبّاس اتّخذوا السواد شعاراً لهم بادئ الأمر؛ من أجل إظهار حزنهم على الحسين (عليه السلام)، وجعلوه ذريعة للانقضاض على بني أميّة، ممّا يدلّ على أنّ لبس السواد كان متّخذاً لإظهار الحزن والتفجّع عند العرف الاجتماعي آنذاك، وهو زمان حضور الأئمّة (عليهم السلام)، وهذه الظاهرة يمكن التحقّق منها تاريخيّاً، وإنّ بني العبّاس اتّخذوا السواد شعاراً لهم ذريعةً وحيلةً في أنّه حُزنٌ على مصاب سيّد الشهداء (عليه السلام)، وإنّهم قاموا بعنوان الثأر لسيّد الشهداء، وهو شعار الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن استغلّوا ذلك للتسلّط على رقاب المؤمنين والمسلمين.

إذاً، تتعاضد هذه الوجوه، وتدفع الريبة في الكراهة، وتؤيّد رجحان لبس السواد حُزناً لأجل مصاب أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) الإقبال: 464.

(2) مستدرك الوسائل 3: 234، باب 45 أبواب لباس المصلّي.

(3) ثوب خَز، أو صوف مُعلَم.

٣٨٠