الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 124856
تحميل: 5741

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124856 / تحميل: 5741
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أدق: فإنّ المكلَّف مخيّر بين الأفراد الطوليّة للصلاة، والأفراد العرضيّة لها أيضاً(1) .

وكذلك في مثال عِتق الرقبة، فالاختيار بيد المكلّف لعتق أيّ رقبة شاء، سواء كان المعتَق رجلاً أو امرأة، مسنّاً أو شابّاً، أسود أم أبيض وغير ذلك.

فحينئذٍ تطبيق هذه الماهية وهذا العنوان الكلّي على الأفراد، قد جعلهُ الشارع بيد المكلّف.

هذا الجواز في تطبيق الطبيعة الكلّيّة على الأفراد يسمّونه في اصطلاح علم أصول الفقه بالتخيير العقلي، يعني هناك جواز عقلي يتّبع حُكم الشارع والأمر بالطبيعة الكلّيّة، والمكلَّف مُخوّل بالتطبيق والتخيير بين الأفراد، وهو ما يُسمّى تخييراً عقليّاً؛ ليمتاز عن التخيير الشرعي، والذي هو أن ينصّ الشارع بنفسه على التخيير(2) .

فهذا لا يُعدّ تشريعاً، أو إبداعاً، أو إحداثاً في الدين من قِبَل المكلّف؛ لأنّ المكلّف إذا أتى بصلاة الظهر في هذا المسجد دون ذاك المسجد، أو أتى بالصلاة بثوب مطيّب بطيب أو لم يأت به، أو إذا أتى بالصلاة في أوّل

____________________

(1) وقد ذكرَ هذا الأمر آية الله الشيخ حسن المظفّر في كتابه (نصرة المظلوم): 3، وإليك نصّ عبارته: (وإذا كان سنخ الشيء عبادة ومندوباً إليه، سَرَت مشروعيّته إلى جميع أفراده من جهة الفرديّة)، وهذه العبارة تُشير إلى ما نحن فيه من أنّ الأمر بالكلّي الطبيعي يعني مشروعيّة جميع أفراده؛ وإنّما التخيير يكون بيد المكلّف.

(2) كما في التخيير الوارد في خصال الكفّارة لـمَن أفطر متعمّداً في نهار شهر رمضان أنّ عليه: عِتق رقبة، أو صيام شهرين مُتتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، فهذا تخيير شرعي.

٨١

الوقت، أو في وسط الوقت، أو في آخر الوقت؛ فإنّ هذه الخصوصيات في الواقع هي تطبيق لذلك الكلّي الطبيعي، وتطبيق لذلك الكلّي في ضمن هذه الأفراد والمصاديق والخصوصيّات، ولا يقال: إنّه نوع من البدعيّة أو التشريع أو الإحداث في الدين من قِبَل المكلّف؛ لأنّ الشارع - حسب الفرض - قد رسمَ وحدّدَ للمكلّف طبيعة كلّيّة من خلال الأمر بها، وخوّله أن يوجِد هذه الطبيعة في أيّ مصداق من المصاديق.

فلا يقال في موارد وجود التخيير العقلي والجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الأفراد والمصاديق، أنّ هذا التطبيق إنّما هو من تشريع المكلّف، إذ المفروض أنّ الشارع سوّغ له أن يُطبّق طبيعة الصلاة هذه في ضمن أيّ فرد، وجعلهُ مختاراً في ذلك.

والمفروض هو أنّ المكلّف - حين إتيانه بهذه الطبيعة في ضمن تلك الأفراد - لا يتديّن بتلك الخصوصيّة، وإنّما يتديّن بذلك المعنى الكلّي والفعل الكلّي الذي يُطبّقه في موارد الأفراد، لا أنّه يتديّن ويتعبّد بخصوصيّة من خصوصيّات الفرد، وإنّما هو يتعبّد بتلك الطبيعة الكلّيّة وبذلك المعنى الكلّي الذي يعمّ الموارد والأفراد المتعدّدة.

بخلاف ما إذا أراد المكلّف أداء الصلاة ونوى الفرد المخصوص (من الأفراد الطوليّة والعرضيّة)، مثلاً: نوى الصلاة المخصوصة في أوّل الوقت بدل أن ينوي الطبيعة في الفرد المزبور، أو نوى الصلاة في المكان الخاص بأنّه يتقرّب إلى الله بالفرد من الصلاة المخصوصة الواجبة..

هنا يتحقّق التشريع المحرّم؛ لأنّ المكلّف يتقرّب ويتعبّد ويتديّن بفرد

٨٢

الصلاة المخصوصة ذات المواصفات المعيّنة، والحال أنّ الشارع لم يأمر بهذا الفرد بخصوصه، بل أمرهُ بالطبيعة الصادقة والمنطبقة على هذه الأفراد، فالإتيان بالأفراد يقع على نحوين، والنحو الأول الذي ذكرناه هو الطريقة المتّبعة، والمشي المرتكز لدى المتشرِّعة، حيث يقصدون الطبايع في الأفراد.

فإذا أمرَ الشارع بطبيعة معيّنة أو سوّغ امتثالها وتطبيقها، لا يقال: إنّ المكلّف في ضمن هذا الفرد قد أبدعَ، أو قد أحدث، فمرتكز المتشرّعة - خواصّهم وعوامّهم - عدم التأمّل والتوقّف في المصاديق المستحدَثة، وفي تطبيق الطبيعة على الأفراد المختلفة تحت ذريعة وطائلة الابتعاد عن التشريع المحرّم، بل هم يرون أنّ هذا نوع من امتثال أوامر الشريعة، ونوع من التديّن بما تُحدّده لنا الشريعة المقدّسة.

فإذاً، ترتسم لنا من هذه النقطة الأولى: أنّ في كلّ مورد يأمر الشارع بطبيعة كلّيّة ولا يُقيّد بخصوصيّة معيّنة، فالمستفاد من ذلك الأمر هو الجواز الشرعي، أو قل الجواز العقلي التَبعي بتطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى الكلّي في ضمن أيّ فردٍ من الأفراد، ويكون التديّن في تلك الأفراد والتعبّد والتقرّب بالطبيعة الكلّيّة، والمعنى الكلّيّ الموجود والمتكرّر في ضمن تلك الأفراد والخصوصيّات، ولايكون ذلك تعدّياً على ما رسمَ الشارع، وليس إحداثاً في الدين، ولا ابتداعاً ولا غير ذلك من المعاني.

النقطة الثانية: (1) تقسيم العناوين الثانويّة

العناوين الثانويّة لها تقسيمات عديدة، والذي يهمّنا في المقام هو

____________________

(1) راجع النقطة الأولى ص: 78 من هذا الكتاب.

٨٣

تقسيم العنوان الثانوي إلى: عنوان ثانوي في الحُكم، وعنوان ثانويّ في الموضوع.

العنوان الثانوي في جنبة الحُكم:

وهو ما يكون ملاكه ثانويّاً، ومن ثُمّ يكون حكمه ثانويّاً، من قبيل: عناوين الضرر، والحرج والنسيان والإكراه، والاضطرار والجهل وغيرها.

هذه العناوين الثانويّة يقال لها إنّها عناوين ثانويّة في جانب الحُكم؛ لأنّها حينما تطرأ سوف تُغيّر الحكم الأوّلي في المورد الذي تطرأ عليه بسبب طروّ ملاك جديد، فهذه العناوين ملاكاتها ثانويّة، ونقصد من قولنا ثانويّة: هو الطروّ الثانوي للملاكات على الأفعال، فتُغيّر ملاكها الأولي.

العنوان الثانوي في جنبة الموضوع:

وهي حالات نسمّيها طارئة، ولكن ليست حالات طارئة في الحكم والقانون، بل حالات طارئة وعناوين ثانويّة في جنبة الموضوع.

هذه الحالات الطارئة لا يكون ملاكها طارئاً ثانويّاً، بل ملاكها وحكمها أوّلي، إنّما موضوعها ثانوي، فهي ثانويّة بلحاظ الموضوع أي أنّها ثانويّة وطارئة الموضوع.

مثلاً: القيام احتراماً للقادم، أو مصافحته، أو توسعة المجلس له، أو أيّ نوع من آداب الاحترام ربّما لم تكن هذه المظاهر أو بعضها فيما مضى من عهود البشريّة، ولم تُستخدم هذه الرسوم والتقاليد لإبداء الاحترام، لكن شيئاً فشيئاً، صارت الأجيال المتعاقبة تستخدم أشكالاً أخرى في الاحترام

٨٤

والتعظيم..

فأخذوا يجعلون القيام وسيلة وعلامة لإبداء الاحترام والتعظيم، فهنا الاحترام والتعظيم بين الجنس البشري ليس حكماً طارئاً، وليس ملاكه استثنائيّاً، بلى هو حكمٌ أوّلي من ضمن الأحكام الأوّليّة المقرّرة في الشرع، سواء شرع السماء، أم شرع العقل.. أي ما يحكم به العقل مستقلاًّ.

فالاحترام: حُكم أوّلي يحكم به العقل، ويحكم به الشرع، لكنّ المصاديق المستجدّة المستحدَثة من أنحاء الاحترام - كالمصافحة باليد والقيام، والإيماء بالرأس، وما شابه ذلك - إنّما هي مصاديق طارئة للاحترام، فهنا الطروّ والحالة الاستثنائية والحالة المستجدّة ليست في الحكم، وإنّما هي مستجدّة في نفس الموضوع.

القيام مثلاً لم يكن متّخذاً عند العقلاء أو عند البشريّة كوسيلة لإبداء الاحترام، لكنّه أصبح في العصور اللاحقة وسيلة لإبداء الاحترام مثلاً، كما كان على صورة السجود في بعض العصور المتقادِمة كذلك.

فتلبّس القيام بكونه وسيلة لإبداء الاحترام، هو نوع من الطروّ والحالة الاستثنائيّة والحالة غير الأوّليّة، ولكن هذه الحالة الطارئة في علم القانون الوضعي أو الشرعي، ليست طارئة في جانب الحُكم، بل في جانب الموضوع، وإلاّ فحكم الاحترام والتعظيم حكم أوّلي وليس حكماً ثانويّاً، لكن إيجاد الاحترام في ضمن هذا المصداق أو هذا الموضوع، حالة طارئة وليست حالة أوّليّة.

حيث إنّ ماهيّة القيام: هي استواء صُلب الإنسان على رجليه، فالاحترام ليس مخبوّاً ومطويّاً في ماهيّته، بل هو عنوان طارئ استثنائي حالّ على القيام، وهذا معنى أنّه عنوان ثانوي وحالة طارئة، ولكن ليس

٨٥

ملاكه ثانويّاً للحُكم، بل ملاك الحكم فيه أوّلي، وحكمه ثابت، وإنّما كيفيّة الاحترام تكون طارئة وثانويّة.

ففي علم القانون - سواء الوضعي أو الشرعي - هناك قسمان من الحالات الطارئة، وقسمان من العناوين الثانويّة: عناوين ثانويّة في طرف الموضوع، وعناوين ثانويّة في طرف المحمول (الحكم).

الفوارقُ بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم وفي جنبة الموضوع

الأوّل: إنّ الطروّ في العناوين الثانويّة في جنبة الحكم هو طروّ بلحاظ المحمول، أي: بلحاظ الحكم والقانون والتقنين.

وأمّا العناوين الثانويّة الطارئة في الموضوع؛ فإنّ الطروّ فيها والاستثناء في نفس الوجود الخارجي للموضوع.

الثاني: إنّ العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، أو الحالات الطارئة في التقنين، حالات طارئة في التقنين في الملاك، وأمّا الحالات الطارئة والعناوين العارضة على الموضوع فملاكها أوّلي وليس بطارئ.

الثالث: تشريعات أيّ قانون سواء من القوانين الوضعيّة أو السماويّة، عندما تُشرّع لا يراد منها أن تكون جامدة، ولا أن تبقى في دائرة عدم التفعيل، بل الغاية المنشودة من تشريع القوانين الأوّليّة: هو أن تُجرى وأن تُطبّق، وأن تكون فعليّة في مجال التطبيق والممارسة، وتوصِل إلى الملاكات وتحقّق الأغراض التي رَسمها المُقنّن والمشرِّع من تشريعاته.

فلابدّ من الانتباه إلى أنّ العناوين الثانويّة والحالات الطارئة في قسم المحمول أو جانب الحكم، يجب أن لا تأخذ مأخذاً واسعاً في التطبيق

٨٦

والمصداق الخارجي والتنفيذ، وإلاّ لعاد الحكم الثانوي أوّليّاً، وعاد الحكم الأوّلي حكماً ثانويّاً، وهذا أمر مهمّ ينبغي الالتفات إليه.

وإذا ما جرى بواسطة العناوين الثانويّة، وبذريعة: (لا ضرر ولا حرج)، وبسبب الاضطرار والنسيان وغير ذلك الاجتراء على إسقاط الأحكام الأوّليّة واحدة تلو الأخرى، فتُجعل الحالات الثانويّة حالات دائمة، بينما تُجعل الحالات الأوّليّة حالات استثنائيّة شاذّة، فإنّ ذلك نقض أصول أغراض التشريع، إذ المفروض أنّ الأحكام الأوّليّة تبقى على حالتها الأوّليّة، يعني أن تكون هي غالبة ودائمة وأكثريّة، والحالات الثانويّة الاستثنائيّة هي طارئة ونادرة.

وهذا بعينه مُراعى في القوانين الوضعيّة أيضاً، حيث يحاول المنفِّذ أو المدير لأيّ شعبة إداريّة أو وزاريّة أن لا يفتح المجال للاستفادة من استثناءات القانون، إذ المفروض أنّ الاستثناء حالة غير طبيعيّة وليس حالة أوّليّة دائمة، بل حالة طارئة، ولو فُتح الباب للحالة الاستثنائيّة في القانون، لانقلبَ الوضع وانعكس الأمر، حيث يُصبح القانون هو الحالة الاستثنائيّة، وتصبح الحالات الاستثنائيّة هي القانون، فالحذر من وقوع هذه الحالة يكون من باب المحافظة على أغراض القانون.

ومحلّ الكلام: هو أنّ العناوين الثانويّة للحكم ينبغي أن لا تنقلب إلى أحكام أوّليّة، بل تبقى حالة شاذّة، ومن ثُمّ نجد الفقهاء في فتاواهم فيما يرد عليهم من أسئلة عامّة الناس - بقدر الوسع والإمكان - لا يفتحون المجال لذريعة المستفتي في الضرر والاضطرار والحرج لتسويغ رفع الأحكام الأوّليّة، بل يُدقّقون ويُفتّشون ويتحرّون في الحالة التي يُستفتى عنها في العثور على مخرج غير ثانوي، ويسعَون في تطبيق الأحكام الأوّليّة،

٨٧

والتأكّد ممّا يدّعيه السائل، فقد تكون حالة الاضطرار، أو الإكراه، أو الإلجاء، أو النسيان غير موجودة، بل مجرّد ادّعاء أو وهم وجهالة لا واقع لها.

أمّا الحالة الطارئة والعناوين الثانويّة في الموضوع، فلا مانع من أن تصبح دائمة ومستمرّة مثلاً: اتّخاذ القيام وسيلة للاحترام والتعظيم، حيث يصبح القيام وسيلة دائمة للاحترام والتعظيم، ودون أن يكون فيه نقض لغرض التقنين الشرعي..

لأنّ المفروض أنّ التعظيم والاحترام المتبادَل بين الإنسان وبني جنسه، له ملاكٌ أوّلي وليس ملاكه ثانويّاً، بل هناك غرض ومصلحة في تقنينه أوّليّاً، إنّما يكون الطروّ أو الاستثناء في تحقّق موضوعه في هذا المصداق أو ذاك، لا أنّ حكمه وملاكه وغرضه ثانوي استثنائي، إنّما طريقة وجوده في الخارج حصلَ بها طروٌ تكويني، فهي حالة طارئة تكوينيّة وليست حالة طارئة في فلسفة الحكم والملاك.

مثل هذه الحالات الثانويّة - التي هي في جانب الموضوع - لا يكون فيها نقض للغرض حتّى لو كانت دائميّة غالبة.

الخلاصة:

ضرورة التمييز بين شكلين ونحوين من العناوين الثانويّة والطارئة، فالعناوين الثانويّة الحُكميّة لو انقلبت إلى دائميّة، لكان ذلك نقضاً لغرض التقنين، ولكان إبداعاً وتشريعاً في الدين.

وأمّا الحالات الثانويّة في طرف الموضوع - فمعَ كون ملاكاتها أوّليّة، فإنّها إذا كانت دائمة وغالبة في المصداق - كما مثّلنا لذلك بالقيام دلالةً

٨٨

على الاحترام والتعظيم - فلا مانع من ذلك، وليس فيه أي نقض لفلسفة التقنين أو منافاة لمَا يسمّى بالحكم أو الملاك؛ لأنّ المفروض أنّ فلسفة الحكم في التعظيم والاحترام أوّليّة ودائمة، وليست استثنائيّة شاذّة طارئة، نعم، في هذا المصداق أصبحت طارئة، وهذا فارق مهمّ جدّاً بين العناوين الثانويّة في جانب الموضوع، والعناوين الثانويّة في جانب الحُكم، أو قل: الحالات الطارئة في جانب الموضوع والحالات الطارئة في جانب الحكم.

ثمرةُ الفرق بين النوعين:

وهناك ثمرات عديدة في الأبواب الفقهيّة لهذه الفوارق.

مثلاً عندما يأمر الشارع في الآية:( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ... ) (1) ، لم يُقيّد الإنذار بأشكال معيّنة، وكذلك الأمر في نَشر الدين والإعلام، حيث لم يأمر الشارع بوسيلة وبأسلوب وبمصداق وبخصوصيّة معيّنة في الإنذار، فحينئذٍ يتّخذ الإنذار أساليب تختلف كلّما استجدّت الأعصار، فلا يتحرّج أحد من نشر أحكام الدين بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من قبيل: الإذاعة والتلفزيون، أو الصُحف والمجلاّت، أو الإنترنت والقنوات الفضائيّة والبريد الإلكتروني وغير ذلك، إذ بمقتضى النقطة الأولى لم يُقيّد الشارع الإنذار، ولم يُخصِّصه بأسلوب مُعيّن، فالشارع حينئذٍ سمحَ وجوّز كلّ المصاديق التي تُحقّق هذا العنوان في الخارج العملي.

____________________

(1) التوبة: 122.

٨٩

فالتخيير العقلي في محلّ البحث - وهو الشعائر - حاصل ومتحقّق، حيث إنّ الآية الكريمة:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ.. ) (1) تُبيّن أنّ غرض الشارع هو إتمام نوره وانتشاره واتّساعه وعلوّه.

فكلّ ما نتّخذه نحن من أساليب ومصاديق - وأشكال لنشر الدين، ورفع بيوت الله سبحانه، وما فيه إعلاء لكلمة المؤمنين - تكون جائزة وصحيحة ولا يُتطرّق إليها شبهة البدعة والتشريع.

فلو سلّمنا القول: بأنّ الشارع قد جعلَ للشعائر حقيقة شرعيّة ووجوداً شرعيّاً، اعتماداً على الصنف الأول من الأدلّة.

لكنّ الأدلّة من الصنف الثاني والصنف الثالث(2) ، لم يُحدّد الشارع فيها أسلوباً أو مصداقاً معيّناً للشعائر، فإذا استحدثَ المسلمون وسائل وخصوصيات ومصاديق معيّنة، ينشأ منها زيادة ذِكر الله سبحانه وانتشار نوره واعتزاز دينه، فلا

تكون بدعة ولا تُعدّ تشريعاً محرّماً.

فالقائل بضرورة كون الجاعل للشعائر هو الشرع، سوف لن ينتهي إلى النتيجة التي يحاول إثباتها، وهي: حرمة وضع الشعائر المتجدّدة والمُستحدَثة؛ وذلك لمَا بيّنا من النقطتين السابقتين وهما:

1 - تعبّد وتديّن المكلّف بالطبيعة الكلّيّة الموجودة، والمعنى الساري الحاصل في المصاديق.

____________________

(1) التوبة: 32.

(2) راجع ص: 34 - 38 من هذا الكتاب.

٩٠

2 - تقسيم العناوين الثانويّة إلى:

أ) عناوين ثانويّة في جنبة الحكم.

ب) عناوين ثانويّة في جنبة الموضوع.

مع معرفة الفوارق بين هذين القسمين.

وجدير بالذكر: أنّ الأمثلة التي تُضرب في العناوين الثانويّة؛ إنّما أكثرها هي العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، مثل: عناوين الضرر، الحرج، النسيان، الجهل، الإكراه وما شابه.

أمّا العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، مثل: الاحترام في ضمن مصداق القيام، أو المصافحة، أو المعانقة، فهي لا تكاد تُذكر.

فمثلاً: مبحث اجتماع الأمر والنهي، وطروّ الصلاة في الدار الغصبيّة، ليس من قبيل العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، بل هو من قبيل العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، وكذلك مبحث التزاحم.

النقطة الثالثة (1) :

مصداق العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، يجب أن يكون مصداقاً محلّلاً في نفسه بالحلّيّة بالمعنى الأعم، الشاملة للمكروه، والمقابِلة لخصوص الحُرمة..

فالحلّيّة بالمعنى الأعم شاملة: للمستحب، والواجب، والمكروه، والإباحة

____________________

(1) النقطة الثالثة من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، تراجع النقطة الأولى ص: 78، والنقطة الثانية ص: 81 من هذا الكتاب.

٩١

الخاصّة؛ في مقابل خصوص الحرمة، والعناوين الكلّيّة والأفعال الكلّيّة العامّة التي أمرَ بها الشارع بنحو كلّي، أي خُيّرنا فيها التطبيق على أيّ مصداق، أو على أيّ فردٍ وإن كانت هي ذات ملاك أوّلي وفعل أوّلي، إلاّ أنّ طروّها في الخصوصيّات والمصاديق هو طروّ ثانوي، فلابدّ أن يكون رسوّها ومصداقها ومهبطها محلّلاً بالمعنى الأعم.

فمن ثُمّ يجب على الفقيه أن يُثبّت الحلّيّة أوّلاً بالمعنى الأعمّ في المصداق، ومن ثُمّ يطرأ الوجوب.

والوجوب ليس وجوباً طارئاً من حيث الملاك، إذ الملاك أوّلي، بل الطروّ من جهة الموضوع.

وقد يُثبته بالأصل العملي ويفرض الشكّ فيه من زاوية الحكم للمصداق في نفسه، مثلاً: هل الضرر اليسير في الشُعيرة محلّل أو لا؟ فزيارة القبور في نفسها - لو كان فيها ضرر يسير في نفسها - هل عنوان مفسدة ذاتيّة أو لا؟ في حال الشكّ وعدم الدليل نُجري أصالة البراءة، ثُمّ بعد ذلك نستدلّ بالعنوان الثانوي من جنبة الموضوع (لا الثانوي من جنبة الحُكم) وهو إحياء الشعائر، فيحصل الجمع بين الجنبتين، كما إذا أراد المكلّف أن يصلّي الصلاة الواجبة التي لها حكم أوّلي وشكّ في غصبيّة المكان، فيُجري البراءة أوّلاً، ثُمّ يقوم بأداء الصلاة - وقد دخل وقتها أو تضيّق وقتها - فيكون مصداقاً للواجب.

فمن جنبة المعنى الكلّي العام هو ملاك أوّلي وحُكم وواجب مثلاً، أمّا من جنبة المصداق فيجب أن تثبت حلّيّته بالمعنى الأعم لكي تُطبّق ذلك المصداق الكلّي عليه، فليس هناك تدافع ولا تنافي بين الجنبتين.

٩٢

وهذه إحدى الجهات اللازم توضيحها في هذه القاعدة، وهي: أنّ العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، يجب أن يكون مصداقها محلّلاً بالمعنى الأعم.

ويستدلّ العلماء على أنّ المصداق لابدّ أن يكون مُحلّلاً بالمعنى الأعم، إذ المفروض - كما قلنا - إنّ الأمر الشرعي بطبيعة عامّة: كالصلاة، والزكاة، والاعتكاف، والشعائر يُستفاد منه تخيير عقلي أو شرعي في تطبيق الطبيعة الكلّيّة على المصاديق , وهو تجويز وتسويغ من الشارع في تطبيق هذا المعنى العام على المصاديق.

ولا ريب أنّه لا يتناول الخصوصيّات المحرّمة حفظاً ورعاية للتوفيق بين أغراض الأحكام الشرعيّة، نعم، هذا التجويز والتسويغ يتناول حتّى المصاديق المكروهة ولا مانع من ذلك، مثل: الصلاة في الحمّام، والصلاة في المقبرة، وفي الأرض السبخة مثلاً، وهذه الصلاة وإن كانت مكروهة إلاّ أنّها صلاة سائغة ومشروعة، وإذا كان الحال كذلك، فلابدّ من الإمعان في هذه القاعدة، فإنّ الإمعان والتدبّر فيها يكشف لنا الستار عند اللبس الموجود بين موارد البدعة وبين موارد الشرعيّة.

اجتماعُ الأمر والنهي في مصداق واحد

هذا، ويلاحظ من بحث الفقهاء والأصوليّين في مسألة اجتماع الأمر والنهي - نظير الصلاة في الدار المغصوبة - أنّ شمول دليل الأمر لموارد الأفراد المحرّمة مفروغ عنه، فالصلاة المأمور بها شاملة لفرد الصلاة في الدار الغصبيّة، ولك أن تقول: إنّ هناك قولين معروفين في مسألة اجتماع الأمر والنهي على تقدير وحدة مصداق المأمور

٩٣

به والمنهيّ عنه:

أحدهما: وهو قول المشهور(1) شهرة عظيمة، واختاره صاحبا (الرسائل) و(الكفاية)، وهو: تزاحم الحُكمين، لا التزاحم في مقام الامتثال، بل التزاحم بين مِلاكي الحُكمين ومقتضى المصلحة والمفسدة، فيقدّم ويراعى الأهمّ، ولا يخفى أنّ التزاحم وإن كان ملاكيّاً فإنّه لا يعني سقوط دليل الحكم غير الأهمّ وعدم شموله لمورد اجتماع الحُكمين، بل غايته هو فساد العبادة لأجل أنّ التقرّب فيها لا يصلح أن يكون بما هو مبغوض شرعاً ومحرّم، وليس لكون دليل طبيعة الصلاة المأمور بها قاصر الشمول عن مورد تصادقه مع الفرد الحرام.

ومن ثُمّ حكم المشهور بصحّة الصلاة في الدار الغصبيّة مع قصور المصلّي لجهله وغفلته عن غصبيّة الأرض، وتصحيحهم للصلاة المزبورة مُستند إلى نقطتين:

الأولى: هو شمول دليل الصلاة إلى الفرد المحرّم.

الثانية: عدم تنجّز الحُرمة على القاصر الذي أتى بالفرد المحرّم وأوقعَ الصلاة فيه وعدم معصيته، فلم يكن متجرّئاً طاغياً على مولاه.

هذا، بخلاف القول الثاني(2) الذي يتبنّى التعارض في الفرد الذي يتصادق فيه الحكمان؛ فإنّ أصحاب هذا القول يبنون على سقوط دليل الأمر في مورد اجتماعه مع النهي لتحقّق التعارض بين الدليلين، فلا يكون دليل الأمر شاملاً لمورد الاجتماع.

____________________

(1) ذهبَ إليه الشيخ الأنصاري، والآخوند، والمحقّق العراقي، والمحقّق الأصفهاني (رحمهم الله) وغيرهم.

(2) ذهبَ إليه المحقّق النائيني (قدِّس سرّه)، وجمعٌ من تلامذة مدرسته.

٩٤

وعلى ضوء ما تقدّم، قد تقرّر النسبة إلى المشهور قولهم بشمول أدلّة الأوامر إلى الفرد والمصداق المحرّم، وعدم تقييد طبائع الأوامر في طروّها على المصاديق بما كان محلّلاً بالحلّيّة الأعم، سواء كانت تلك الطبائع المأمور بها ذاتيّة لمصاديقها، أو عناوين ثانويّة في جنبة الموضوع لآحاد المصاديق.

وحينئذٍ أمكنَ لنا أن نقول بشمول الدليل الآمر بالشعائر وتعظيمها وما شابه ذلك، أو الأمر بالصلاة - مثلاً - لكلّ الموارد والمواطن المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، وأمكن لنا أن نُعمّم الدليل - دليل المشروعيّة - لكلّ تلك المواطن، ويكون ذلك الموطن مشروعاً وشرعيّاً وعليه الصفة الشرعيّة، وليس فيه واهمة للبدعة أو البدعيّة.

بعضُ أقوال العلماء في المقام:

ونتعرّض هنا لبعض أقوال الأعلام في المقام:

قال صاحب الحدائق (قدِّس سرّه) - بعد ذِكر مسألة كراهة لبس اللباس الأسود في الصلاة -: (ثُمّ أقول: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) من هذه الأخبار؛ لمَا استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الحزن، ويؤيّده ما رواه شيخنا المجلسي (قدِّس سرّه) عن البرقي في كتاب المحاسن: رويَ عن عمر بن زين العابدين أنّه قال: (لما قُتل جدّي الحسين المظلوم الشهيد، لبسَ نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد ولم يغيّرنها في حرّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين صنعَ لهنّ الطعام في المأتم)(1) .

____________________

(1) الحدائق الناضرة: 8: 18، نقلاً عن المحاسن للبرقي: 420.

(2) جامع الشتات 2: 787، الطبعة الحجريّة.

٩٥

فعلّل الخروج عن النهي في لبس السواد بعموم الأمر بإظهار شعائر الحزن، مع أنّ النسبة هي عموم وخصوص من وجه، ومقتضى عموم النهي شموله لمورد التصادق وهو من اجتماع الأمر والنهي.

وللميرزا القمّي (قدِّس سرّه) - صاحب القوانين - في كتاب جامع الشتات(1) مجموعة من الأسئلة حول الشعائر الحسينيّة، حيث قال بجواز الشبيه ضمن الشعائر الحسينيّة ورجحانه، واستدلّ على ذلك بعمومات البكاء والإبكاء، حيث إنّ عمومات البكاء والإبكاء لها مصاديق مختلفة يمكن أن تشملها.

وأحد المصاديق الموجِبة للبكاء والإبكاء: هو ما يكون في ضمنه التشبيه والتمثيل التي تثير عواطف الناظرين وتستدرّ دموعهم، وذَكر (رحمه الله) أنّه على تقدير عموم حرمة تشبّه الرجل بالمرأة، أو المرأة بالرجل (في الشبيه قد يُضطرّ إلى تشبّه الرجل بالمرأة)، فاستدلّ على جواز هذا الفرد من الشبيه أو التمثيل بعموم أدلّة البكاء والإبكاء، وقال: بأنّه على تقدير عموم حرمة التشبّه لهذا المصداق نقول: إمّا بالتعارض أو بالتزاحم، فإذا قلنا بالتعارض سوف يتساقطان، أي: يسقط عموم دليل الشعائر، وعموم دليل الحرمة أيضاً، وتكون الفائدة بعد سقوط حرمة الشبيه أن يبقى الفعل حينئذٍ على الجواز بإجراء أصالة البراءة، وهو في صدد إثبات الجواز والحلّيّة، فمن ثَمّ لو نتجَ عن العمومَين التعارض من وجه، فغايته أن يتساقط العمومان ثُمّ نتمسّك بأصالة البراءة.

وإذا قلنا بينهما التزاحم، فعمومات البكاء والإبكاء أرجح وأهمّ فتُقدّم.

وقد ذهبَ السيّد اليزدي (قدِّس سرّه) أيضاً - في أجوبته عن الشعائر

____________________

(1) جامع الشتات 2: 787، الطبعة الحجريّة.

٩٦

الحسينيّة(1) - إلى ما ذهبَ إليه صاحب الحدائق، من رجحان لبس السواد على الكراهة، لإظهار الحزن والتفجّع والتألّم على مصاب الحسين (عليه السلام).

وذهبَ السيّد الگلبايگاني (قدِّس سرّه) في فتواه(2) إلى جواز الشبيه، تمسّكاً بعمومات رجحان البكاء والإبكاء (مع أنّ عموم البكاء والإبكاء لا يشير إلى مصاديق خاصّة؛ وإنّما يتناول بعمومه مصاديق متعدّدة، ومع ذلك استفادَ المشروعيّة للمصداق الخاص بعمومات البكاء).

وقد ذكرَ الشيخ حسن المظفّر (قدِّس سرّه) في كتابه نصرة المظلوم، ما لفظه:

(لا شكّ أنّ إظهار الحُزن ومظلوميّة سيّد الشهداء (عليه السلام) - والإبكاء عليه وإحياء أمره - بسنخه عبادة في المذهب، لا بشخص خاصّ منه، ضرورة أنّه لا ترد في الشريعة كيفيّة خاصّة للحزن والإبكاء وإحياء الذكر المأمور به؛ ليقتصر عليه الحزين في حزنه، والمُحيي لأمرهم في إحيائه، والمبكي في إبكائه، وإذا كان سنخ الشيء عبادةً ومندوباً إليه سَرَت مشروعيّته إلى جميع أفراده من جهة الفرديّة)(3) .

فما تشير إليه كلمات الأعلام: هو استفادة مشروعيّة المصاديق المستجدّة المُستحدَثة للشعائر بنفس عموم العام، ولا يبنون على البدعيّة أو التشريع المحرّم؛ لأنّ عموم ذلك العام ينطبق على مصاديقه بمقتضى النقطة الثانية التي ذكرناها، وهي: أنّ بعض العناوين الثانويّة التي لها ملاكات أولّيّة،

____________________

(1) في حاشيته على رسالة الشيخ جعفر التستري (طبعة قديمة).

(2) مجمعُ المسائل.

(3) نصرة المظلوم: 22.

٩٧

لكنّ موضوعها طارئ وثانويّ، فطروّ هذا الموضوع على تلك المصاديق يستنبط العلماء منه مشروعيّة تلك المصاديق، وهذه حقيقة فقهيّة يتغافل عنها القائل ببدعيّة الشعائر المستجدّة والمتّخذة حديثاً.

وفي عبارة للشيخ جعفر كاشف الغطاء أيضاً(1) : «وأمّا بعض الأعمال الخاصّة الراجعة إلى الشرع، ولا دليل عليها بالخصوص، فلا تخلو بين أنّه تدخل في عمومٍ، ويُقصد بالإتيان بها الموافقة من جهته (يعني جهة العام التي انطوت تحته تلك الخصوصيّة)، لا من جهة الخصوصيّة كقول: (أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله) في الأذان لا بقصد الجزئيّة، ولا بقصد الخصوصيّة؛ لأنّها معاً تشريعٌ، بل بقصد الرجحان الذاتي أو الرجحان العارضي؛ لمـَا وردَ من استحباب ذِكر اسم عليّ (عليه السلام) متى ذُكر اسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

فحينئذٍ الشهادة الثالثة، مع عدم البناء على قصد الجزئيّة، بل البناء على قصد الاستحباب العام، فلا يُحكم عليها بالبدعيّة، كما وقعَ عند بعض المتوّهمين وأثاروا دائرة هذا البحث، حيث المفروض أنّ مَن يأتي بها إنّما يقصد جهة العنوان العام، وهو اقتران ذِكر اسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مع ذكر عليّ (عليه السلام) واستحباب ذلك، كالعموم الوارد في استحباب الصلاة على محمّد وآل

____________________

(1) كشف الغطاء: 53 - 54، الطبعة الحجريّة.

(يبدأ كتابه بأصول الدين، ثُمّ بعد ذلك بأصول الفقه، ثُمّ بعد ذلك بالقواعد الفقهيّة، ثُمّ يَشرع بالفقه)، فأحد القواعد التي يبحثها الشيخ كاشف الغطاء الكبير - في القواعد الفقهيّة في الصفحة المذكورة سطر: 33 - حول الفارق والفيصل بين البدعيّة والشرعيّة.. (وهذا جدّاً مهمّ، حيث إنّ الشيخ كاشف الغطاء هو أوّل مَن واجه من علماء الإماميّة شبهات وإشكالات الوهّابيّة في كتابه المعروف (منهج الرشاد))، يذكر أمثلة مصاديق منها ما يتعلّق بالشعائر الحسينيّة.

٩٨

محمّد عند ذِكر اسم النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ يكون جفاءً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكما لا نحكم بالبدعيّة في الصلاة عليه أثناء الأذان، كذلك ذِكر الشهادة الثالثة في الأذان لا نحكم عليه بالبدعيّة.

إذاً، يجب التفرقة في أنحاء العمل المأتيّ به، أنّه هل يؤتى به من جهة العموم استناداً إلى مشروعيّة عموم العام، بخلاف ما إذا أُتي به بقصد الخصوصيّة بما هي هي، حيث تأتي شبهة التشريع والبدعة والشرعيّة، أمّا إذا أُتي به استناداً إلى العموم فلا بدعيّة في البين، بل ذلك بواسطة مشروعيّة نفس العموم.

فالمستَند والمدرَك والشرعيّة مترشِّحة وآتية من نفس العموم، لا من تخرّص واقتراح المكلّف.

مثال آخر يذكره صاحب كشف الغطاء: وكقراءة الفاتحة بعد أكل الطعام وبقصد استحباب الدعاء، لمَا ورد فيه أنّه من وظائفه (يعني من الوظائف المستحبّة للطعام)، أن يدعو بعد الطعام، وأفضله أن يكون بعد قراءة سبع آيات، وأفضلها السبع المثاني، وكما يُصنع بقراءة الفاتحة في مجالس ترحيم الموتى على الرسم المعلوم والطريقة المعهودة، أو إخراج صدقةٍ عند الخروج من المنزل.

وورد في كتاب كشف الغطاء: (وتشبيه بعض المؤمنين بيزيد أو الشمر، ودقّ الطبل وبعض آلات اللهو، وإن لم يكن الغرض ذلك (يعني اللهو)، وكذا مطلق التشبيه).

(وجميع ما ذُكر وما يشابهه، إن قُصد به الخصوصيّة تشريعاً،

٩٩

وإن لوحظَ فيه الرجحانيّة من جهة العموم فلا بأس به)(1) .

إطلالةٌ على سُنن المتشرِّعة المستجدّة

الكلام عن السُبل والسُنن الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة، والطقوس الاجتماعيّة المستجدّة المستحدثة، لا بعنوان الشعائر الدينيّة بخصوصها، بل بعنوان السُنن الاجتماعيّة التي تُتّخذ كطقوس عباديّة في مناطق معيّنة، كما مثّل الشيخ كاشف الغطاء بكيفيّة الدعاء بعد الطعام بقراءة سورة الفاتحة، ورسوم أخرى، هذه كلّها سُنن اجتماعيّة متلوّنة بالواعز الشرعي الديني، وقد لا نعثر عليها بعناوينها في الأبواب الفقهيّة.

بعبارةٍ أخرى: نجد بعض المذاهب الإسلاميّة يواجه هذه السُنن المستحدَثة والحسنة في المجتمع، ويصفها بالبدعيّة والإحداث في الدين، مع ورود العموم النبوي المتواتر بين الفريقين:(مَن سنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (2) ، فضلاً عن العمومات الخاصّة بالأبواب المختلفة، والسُنن الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة - السُنن الحَسنة - قد تكون في باب الآداب والأخلاقيّات التي لم تحصل على صبغة عباديّة، لكن يتعاطاها المتشرِّعة اعتماداً على أنّ الفعل مرضيّ عند الشارع، وليس مأموراً به بالأمر العبادي الخاص، بل هو مشمولٌ للعمومات، ويتّخذه المتشرِّعة سُنّة اجتماعيّة.

فما هي ضابطة الشرعيّة؟ وما هي ضابطة البدعيّة؟ سواء في الشعائر

____________________

(1) كتاب كشف الغطاء: 54.

(2) الفصول المختارة: 136.

١٠٠