الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد9%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131269 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

أدق: فإنّ المكلَّف مخيّر بين الأفراد الطوليّة للصلاة، والأفراد العرضيّة لها أيضاً(١) .

وكذلك في مثال عِتق الرقبة، فالاختيار بيد المكلّف لعتق أيّ رقبة شاء، سواء كان المعتَق رجلاً أو امرأة، مسنّاً أو شابّاً، أسود أم أبيض وغير ذلك.

فحينئذٍ تطبيق هذه الماهية وهذا العنوان الكلّي على الأفراد، قد جعلهُ الشارع بيد المكلّف.

هذا الجواز في تطبيق الطبيعة الكلّيّة على الأفراد يسمّونه في اصطلاح علم أصول الفقه بالتخيير العقلي، يعني هناك جواز عقلي يتّبع حُكم الشارع والأمر بالطبيعة الكلّيّة، والمكلَّف مُخوّل بالتطبيق والتخيير بين الأفراد، وهو ما يُسمّى تخييراً عقليّاً؛ ليمتاز عن التخيير الشرعي، والذي هو أن ينصّ الشارع بنفسه على التخيير(٢) .

فهذا لا يُعدّ تشريعاً، أو إبداعاً، أو إحداثاً في الدين من قِبَل المكلّف؛ لأنّ المكلّف إذا أتى بصلاة الظهر في هذا المسجد دون ذاك المسجد، أو أتى بالصلاة بثوب مطيّب بطيب أو لم يأت به، أو إذا أتى بالصلاة في أوّل

____________________

(١) وقد ذكرَ هذا الأمر آية الله الشيخ حسن المظفّر في كتابه (نصرة المظلوم): ٣، وإليك نصّ عبارته: (وإذا كان سنخ الشيء عبادة ومندوباً إليه، سَرَت مشروعيّته إلى جميع أفراده من جهة الفرديّة)، وهذه العبارة تُشير إلى ما نحن فيه من أنّ الأمر بالكلّي الطبيعي يعني مشروعيّة جميع أفراده؛ وإنّما التخيير يكون بيد المكلّف.

(٢) كما في التخيير الوارد في خصال الكفّارة لـمَن أفطر متعمّداً في نهار شهر رمضان أنّ عليه: عِتق رقبة، أو صيام شهرين مُتتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، فهذا تخيير شرعي.

٨١

الوقت، أو في وسط الوقت، أو في آخر الوقت؛ فإنّ هذه الخصوصيات في الواقع هي تطبيق لذلك الكلّي الطبيعي، وتطبيق لذلك الكلّي في ضمن هذه الأفراد والمصاديق والخصوصيّات، ولا يقال: إنّه نوع من البدعيّة أو التشريع أو الإحداث في الدين من قِبَل المكلّف؛ لأنّ الشارع - حسب الفرض - قد رسمَ وحدّدَ للمكلّف طبيعة كلّيّة من خلال الأمر بها، وخوّله أن يوجِد هذه الطبيعة في أيّ مصداق من المصاديق.

فلا يقال في موارد وجود التخيير العقلي والجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الأفراد والمصاديق، أنّ هذا التطبيق إنّما هو من تشريع المكلّف، إذ المفروض أنّ الشارع سوّغ له أن يُطبّق طبيعة الصلاة هذه في ضمن أيّ فرد، وجعلهُ مختاراً في ذلك.

والمفروض هو أنّ المكلّف - حين إتيانه بهذه الطبيعة في ضمن تلك الأفراد - لا يتديّن بتلك الخصوصيّة، وإنّما يتديّن بذلك المعنى الكلّي والفعل الكلّي الذي يُطبّقه في موارد الأفراد، لا أنّه يتديّن ويتعبّد بخصوصيّة من خصوصيّات الفرد، وإنّما هو يتعبّد بتلك الطبيعة الكلّيّة وبذلك المعنى الكلّي الذي يعمّ الموارد والأفراد المتعدّدة.

بخلاف ما إذا أراد المكلّف أداء الصلاة ونوى الفرد المخصوص (من الأفراد الطوليّة والعرضيّة)، مثلاً: نوى الصلاة المخصوصة في أوّل الوقت بدل أن ينوي الطبيعة في الفرد المزبور، أو نوى الصلاة في المكان الخاص بأنّه يتقرّب إلى الله بالفرد من الصلاة المخصوصة الواجبة..

هنا يتحقّق التشريع المحرّم؛ لأنّ المكلّف يتقرّب ويتعبّد ويتديّن بفرد

٨٢

الصلاة المخصوصة ذات المواصفات المعيّنة، والحال أنّ الشارع لم يأمر بهذا الفرد بخصوصه، بل أمرهُ بالطبيعة الصادقة والمنطبقة على هذه الأفراد، فالإتيان بالأفراد يقع على نحوين، والنحو الأول الذي ذكرناه هو الطريقة المتّبعة، والمشي المرتكز لدى المتشرِّعة، حيث يقصدون الطبايع في الأفراد.

فإذا أمرَ الشارع بطبيعة معيّنة أو سوّغ امتثالها وتطبيقها، لا يقال: إنّ المكلّف في ضمن هذا الفرد قد أبدعَ، أو قد أحدث، فمرتكز المتشرّعة - خواصّهم وعوامّهم - عدم التأمّل والتوقّف في المصاديق المستحدَثة، وفي تطبيق الطبيعة على الأفراد المختلفة تحت ذريعة وطائلة الابتعاد عن التشريع المحرّم، بل هم يرون أنّ هذا نوع من امتثال أوامر الشريعة، ونوع من التديّن بما تُحدّده لنا الشريعة المقدّسة.

فإذاً، ترتسم لنا من هذه النقطة الأولى: أنّ في كلّ مورد يأمر الشارع بطبيعة كلّيّة ولا يُقيّد بخصوصيّة معيّنة، فالمستفاد من ذلك الأمر هو الجواز الشرعي، أو قل الجواز العقلي التَبعي بتطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى الكلّي في ضمن أيّ فردٍ من الأفراد، ويكون التديّن في تلك الأفراد والتعبّد والتقرّب بالطبيعة الكلّيّة، والمعنى الكلّيّ الموجود والمتكرّر في ضمن تلك الأفراد والخصوصيّات، ولايكون ذلك تعدّياً على ما رسمَ الشارع، وليس إحداثاً في الدين، ولا ابتداعاً ولا غير ذلك من المعاني.

النقطة الثانية: (١) تقسيم العناوين الثانويّة

العناوين الثانويّة لها تقسيمات عديدة، والذي يهمّنا في المقام هو

____________________

(١) راجع النقطة الأولى ص: ٧٨ من هذا الكتاب.

٨٣

تقسيم العنوان الثانوي إلى: عنوان ثانوي في الحُكم، وعنوان ثانويّ في الموضوع.

العنوان الثانوي في جنبة الحُكم:

وهو ما يكون ملاكه ثانويّاً، ومن ثُمّ يكون حكمه ثانويّاً، من قبيل: عناوين الضرر، والحرج والنسيان والإكراه، والاضطرار والجهل وغيرها.

هذه العناوين الثانويّة يقال لها إنّها عناوين ثانويّة في جانب الحُكم؛ لأنّها حينما تطرأ سوف تُغيّر الحكم الأوّلي في المورد الذي تطرأ عليه بسبب طروّ ملاك جديد، فهذه العناوين ملاكاتها ثانويّة، ونقصد من قولنا ثانويّة: هو الطروّ الثانوي للملاكات على الأفعال، فتُغيّر ملاكها الأولي.

العنوان الثانوي في جنبة الموضوع:

وهي حالات نسمّيها طارئة، ولكن ليست حالات طارئة في الحكم والقانون، بل حالات طارئة وعناوين ثانويّة في جنبة الموضوع.

هذه الحالات الطارئة لا يكون ملاكها طارئاً ثانويّاً، بل ملاكها وحكمها أوّلي، إنّما موضوعها ثانوي، فهي ثانويّة بلحاظ الموضوع أي أنّها ثانويّة وطارئة الموضوع.

مثلاً: القيام احتراماً للقادم، أو مصافحته، أو توسعة المجلس له، أو أيّ نوع من آداب الاحترام ربّما لم تكن هذه المظاهر أو بعضها فيما مضى من عهود البشريّة، ولم تُستخدم هذه الرسوم والتقاليد لإبداء الاحترام، لكن شيئاً فشيئاً، صارت الأجيال المتعاقبة تستخدم أشكالاً أخرى في الاحترام

٨٤

والتعظيم..

فأخذوا يجعلون القيام وسيلة وعلامة لإبداء الاحترام والتعظيم، فهنا الاحترام والتعظيم بين الجنس البشري ليس حكماً طارئاً، وليس ملاكه استثنائيّاً، بلى هو حكمٌ أوّلي من ضمن الأحكام الأوّليّة المقرّرة في الشرع، سواء شرع السماء، أم شرع العقل.. أي ما يحكم به العقل مستقلاًّ.

فالاحترام: حُكم أوّلي يحكم به العقل، ويحكم به الشرع، لكنّ المصاديق المستجدّة المستحدَثة من أنحاء الاحترام - كالمصافحة باليد والقيام، والإيماء بالرأس، وما شابه ذلك - إنّما هي مصاديق طارئة للاحترام، فهنا الطروّ والحالة الاستثنائية والحالة المستجدّة ليست في الحكم، وإنّما هي مستجدّة في نفس الموضوع.

القيام مثلاً لم يكن متّخذاً عند العقلاء أو عند البشريّة كوسيلة لإبداء الاحترام، لكنّه أصبح في العصور اللاحقة وسيلة لإبداء الاحترام مثلاً، كما كان على صورة السجود في بعض العصور المتقادِمة كذلك.

فتلبّس القيام بكونه وسيلة لإبداء الاحترام، هو نوع من الطروّ والحالة الاستثنائيّة والحالة غير الأوّليّة، ولكن هذه الحالة الطارئة في علم القانون الوضعي أو الشرعي، ليست طارئة في جانب الحُكم، بل في جانب الموضوع، وإلاّ فحكم الاحترام والتعظيم حكم أوّلي وليس حكماً ثانويّاً، لكن إيجاد الاحترام في ضمن هذا المصداق أو هذا الموضوع، حالة طارئة وليست حالة أوّليّة.

حيث إنّ ماهيّة القيام: هي استواء صُلب الإنسان على رجليه، فالاحترام ليس مخبوّاً ومطويّاً في ماهيّته، بل هو عنوان طارئ استثنائي حالّ على القيام، وهذا معنى أنّه عنوان ثانوي وحالة طارئة، ولكن ليس

٨٥

ملاكه ثانويّاً للحُكم، بل ملاك الحكم فيه أوّلي، وحكمه ثابت، وإنّما كيفيّة الاحترام تكون طارئة وثانويّة.

ففي علم القانون - سواء الوضعي أو الشرعي - هناك قسمان من الحالات الطارئة، وقسمان من العناوين الثانويّة: عناوين ثانويّة في طرف الموضوع، وعناوين ثانويّة في طرف المحمول (الحكم).

الفوارقُ بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم وفي جنبة الموضوع

الأوّل: إنّ الطروّ في العناوين الثانويّة في جنبة الحكم هو طروّ بلحاظ المحمول، أي: بلحاظ الحكم والقانون والتقنين.

وأمّا العناوين الثانويّة الطارئة في الموضوع؛ فإنّ الطروّ فيها والاستثناء في نفس الوجود الخارجي للموضوع.

الثاني: إنّ العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، أو الحالات الطارئة في التقنين، حالات طارئة في التقنين في الملاك، وأمّا الحالات الطارئة والعناوين العارضة على الموضوع فملاكها أوّلي وليس بطارئ.

الثالث: تشريعات أيّ قانون سواء من القوانين الوضعيّة أو السماويّة، عندما تُشرّع لا يراد منها أن تكون جامدة، ولا أن تبقى في دائرة عدم التفعيل، بل الغاية المنشودة من تشريع القوانين الأوّليّة: هو أن تُجرى وأن تُطبّق، وأن تكون فعليّة في مجال التطبيق والممارسة، وتوصِل إلى الملاكات وتحقّق الأغراض التي رَسمها المُقنّن والمشرِّع من تشريعاته.

فلابدّ من الانتباه إلى أنّ العناوين الثانويّة والحالات الطارئة في قسم المحمول أو جانب الحكم، يجب أن لا تأخذ مأخذاً واسعاً في التطبيق

٨٦

والمصداق الخارجي والتنفيذ، وإلاّ لعاد الحكم الثانوي أوّليّاً، وعاد الحكم الأوّلي حكماً ثانويّاً، وهذا أمر مهمّ ينبغي الالتفات إليه.

وإذا ما جرى بواسطة العناوين الثانويّة، وبذريعة: (لا ضرر ولا حرج)، وبسبب الاضطرار والنسيان وغير ذلك الاجتراء على إسقاط الأحكام الأوّليّة واحدة تلو الأخرى، فتُجعل الحالات الثانويّة حالات دائمة، بينما تُجعل الحالات الأوّليّة حالات استثنائيّة شاذّة، فإنّ ذلك نقض أصول أغراض التشريع، إذ المفروض أنّ الأحكام الأوّليّة تبقى على حالتها الأوّليّة، يعني أن تكون هي غالبة ودائمة وأكثريّة، والحالات الثانويّة الاستثنائيّة هي طارئة ونادرة.

وهذا بعينه مُراعى في القوانين الوضعيّة أيضاً، حيث يحاول المنفِّذ أو المدير لأيّ شعبة إداريّة أو وزاريّة أن لا يفتح المجال للاستفادة من استثناءات القانون، إذ المفروض أنّ الاستثناء حالة غير طبيعيّة وليس حالة أوّليّة دائمة، بل حالة طارئة، ولو فُتح الباب للحالة الاستثنائيّة في القانون، لانقلبَ الوضع وانعكس الأمر، حيث يُصبح القانون هو الحالة الاستثنائيّة، وتصبح الحالات الاستثنائيّة هي القانون، فالحذر من وقوع هذه الحالة يكون من باب المحافظة على أغراض القانون.

ومحلّ الكلام: هو أنّ العناوين الثانويّة للحكم ينبغي أن لا تنقلب إلى أحكام أوّليّة، بل تبقى حالة شاذّة، ومن ثُمّ نجد الفقهاء في فتاواهم فيما يرد عليهم من أسئلة عامّة الناس - بقدر الوسع والإمكان - لا يفتحون المجال لذريعة المستفتي في الضرر والاضطرار والحرج لتسويغ رفع الأحكام الأوّليّة، بل يُدقّقون ويُفتّشون ويتحرّون في الحالة التي يُستفتى عنها في العثور على مخرج غير ثانوي، ويسعَون في تطبيق الأحكام الأوّليّة،

٨٧

والتأكّد ممّا يدّعيه السائل، فقد تكون حالة الاضطرار، أو الإكراه، أو الإلجاء، أو النسيان غير موجودة، بل مجرّد ادّعاء أو وهم وجهالة لا واقع لها.

أمّا الحالة الطارئة والعناوين الثانويّة في الموضوع، فلا مانع من أن تصبح دائمة ومستمرّة مثلاً: اتّخاذ القيام وسيلة للاحترام والتعظيم، حيث يصبح القيام وسيلة دائمة للاحترام والتعظيم، ودون أن يكون فيه نقض لغرض التقنين الشرعي..

لأنّ المفروض أنّ التعظيم والاحترام المتبادَل بين الإنسان وبني جنسه، له ملاكٌ أوّلي وليس ملاكه ثانويّاً، بل هناك غرض ومصلحة في تقنينه أوّليّاً، إنّما يكون الطروّ أو الاستثناء في تحقّق موضوعه في هذا المصداق أو ذاك، لا أنّ حكمه وملاكه وغرضه ثانوي استثنائي، إنّما طريقة وجوده في الخارج حصلَ بها طروٌ تكويني، فهي حالة طارئة تكوينيّة وليست حالة طارئة في فلسفة الحكم والملاك.

مثل هذه الحالات الثانويّة - التي هي في جانب الموضوع - لا يكون فيها نقض للغرض حتّى لو كانت دائميّة غالبة.

الخلاصة:

ضرورة التمييز بين شكلين ونحوين من العناوين الثانويّة والطارئة، فالعناوين الثانويّة الحُكميّة لو انقلبت إلى دائميّة، لكان ذلك نقضاً لغرض التقنين، ولكان إبداعاً وتشريعاً في الدين.

وأمّا الحالات الثانويّة في طرف الموضوع - فمعَ كون ملاكاتها أوّليّة، فإنّها إذا كانت دائمة وغالبة في المصداق - كما مثّلنا لذلك بالقيام دلالةً

٨٨

على الاحترام والتعظيم - فلا مانع من ذلك، وليس فيه أي نقض لفلسفة التقنين أو منافاة لمَا يسمّى بالحكم أو الملاك؛ لأنّ المفروض أنّ فلسفة الحكم في التعظيم والاحترام أوّليّة ودائمة، وليست استثنائيّة شاذّة طارئة، نعم، في هذا المصداق أصبحت طارئة، وهذا فارق مهمّ جدّاً بين العناوين الثانويّة في جانب الموضوع، والعناوين الثانويّة في جانب الحُكم، أو قل: الحالات الطارئة في جانب الموضوع والحالات الطارئة في جانب الحكم.

ثمرةُ الفرق بين النوعين:

وهناك ثمرات عديدة في الأبواب الفقهيّة لهذه الفوارق.

مثلاً عندما يأمر الشارع في الآية:( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ... ) (١) ، لم يُقيّد الإنذار بأشكال معيّنة، وكذلك الأمر في نَشر الدين والإعلام، حيث لم يأمر الشارع بوسيلة وبأسلوب وبمصداق وبخصوصيّة معيّنة في الإنذار، فحينئذٍ يتّخذ الإنذار أساليب تختلف كلّما استجدّت الأعصار، فلا يتحرّج أحد من نشر أحكام الدين بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من قبيل: الإذاعة والتلفزيون، أو الصُحف والمجلاّت، أو الإنترنت والقنوات الفضائيّة والبريد الإلكتروني وغير ذلك، إذ بمقتضى النقطة الأولى لم يُقيّد الشارع الإنذار، ولم يُخصِّصه بأسلوب مُعيّن، فالشارع حينئذٍ سمحَ وجوّز كلّ المصاديق التي تُحقّق هذا العنوان في الخارج العملي.

____________________

(١) التوبة: ١٢٢.

٨٩

فالتخيير العقلي في محلّ البحث - وهو الشعائر - حاصل ومتحقّق، حيث إنّ الآية الكريمة:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ.. ) (١) تُبيّن أنّ غرض الشارع هو إتمام نوره وانتشاره واتّساعه وعلوّه.

فكلّ ما نتّخذه نحن من أساليب ومصاديق - وأشكال لنشر الدين، ورفع بيوت الله سبحانه، وما فيه إعلاء لكلمة المؤمنين - تكون جائزة وصحيحة ولا يُتطرّق إليها شبهة البدعة والتشريع.

فلو سلّمنا القول: بأنّ الشارع قد جعلَ للشعائر حقيقة شرعيّة ووجوداً شرعيّاً، اعتماداً على الصنف الأول من الأدلّة.

لكنّ الأدلّة من الصنف الثاني والصنف الثالث(٢) ، لم يُحدّد الشارع فيها أسلوباً أو مصداقاً معيّناً للشعائر، فإذا استحدثَ المسلمون وسائل وخصوصيات ومصاديق معيّنة، ينشأ منها زيادة ذِكر الله سبحانه وانتشار نوره واعتزاز دينه، فلا

تكون بدعة ولا تُعدّ تشريعاً محرّماً.

فالقائل بضرورة كون الجاعل للشعائر هو الشرع، سوف لن ينتهي إلى النتيجة التي يحاول إثباتها، وهي: حرمة وضع الشعائر المتجدّدة والمُستحدَثة؛ وذلك لمَا بيّنا من النقطتين السابقتين وهما:

١ - تعبّد وتديّن المكلّف بالطبيعة الكلّيّة الموجودة، والمعنى الساري الحاصل في المصاديق.

____________________

(١) التوبة: ٣٢.

(٢) راجع ص: ٣٤ - ٣٨ من هذا الكتاب.

٩٠

٢ - تقسيم العناوين الثانويّة إلى:

أ) عناوين ثانويّة في جنبة الحكم.

ب) عناوين ثانويّة في جنبة الموضوع.

مع معرفة الفوارق بين هذين القسمين.

وجدير بالذكر: أنّ الأمثلة التي تُضرب في العناوين الثانويّة؛ إنّما أكثرها هي العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، مثل: عناوين الضرر، الحرج، النسيان، الجهل، الإكراه وما شابه.

أمّا العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، مثل: الاحترام في ضمن مصداق القيام، أو المصافحة، أو المعانقة، فهي لا تكاد تُذكر.

فمثلاً: مبحث اجتماع الأمر والنهي، وطروّ الصلاة في الدار الغصبيّة، ليس من قبيل العناوين الثانويّة في جنبة الحكم، بل هو من قبيل العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، وكذلك مبحث التزاحم.

النقطة الثالثة (١) :

مصداق العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، يجب أن يكون مصداقاً محلّلاً في نفسه بالحلّيّة بالمعنى الأعم، الشاملة للمكروه، والمقابِلة لخصوص الحُرمة..

فالحلّيّة بالمعنى الأعم شاملة: للمستحب، والواجب، والمكروه، والإباحة

____________________

(١) النقطة الثالثة من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، تراجع النقطة الأولى ص: ٧٨، والنقطة الثانية ص: ٨١ من هذا الكتاب.

٩١

الخاصّة؛ في مقابل خصوص الحرمة، والعناوين الكلّيّة والأفعال الكلّيّة العامّة التي أمرَ بها الشارع بنحو كلّي، أي خُيّرنا فيها التطبيق على أيّ مصداق، أو على أيّ فردٍ وإن كانت هي ذات ملاك أوّلي وفعل أوّلي، إلاّ أنّ طروّها في الخصوصيّات والمصاديق هو طروّ ثانوي، فلابدّ أن يكون رسوّها ومصداقها ومهبطها محلّلاً بالمعنى الأعم.

فمن ثُمّ يجب على الفقيه أن يُثبّت الحلّيّة أوّلاً بالمعنى الأعمّ في المصداق، ومن ثُمّ يطرأ الوجوب.

والوجوب ليس وجوباً طارئاً من حيث الملاك، إذ الملاك أوّلي، بل الطروّ من جهة الموضوع.

وقد يُثبته بالأصل العملي ويفرض الشكّ فيه من زاوية الحكم للمصداق في نفسه، مثلاً: هل الضرر اليسير في الشُعيرة محلّل أو لا؟ فزيارة القبور في نفسها - لو كان فيها ضرر يسير في نفسها - هل عنوان مفسدة ذاتيّة أو لا؟ في حال الشكّ وعدم الدليل نُجري أصالة البراءة، ثُمّ بعد ذلك نستدلّ بالعنوان الثانوي من جنبة الموضوع (لا الثانوي من جنبة الحُكم) وهو إحياء الشعائر، فيحصل الجمع بين الجنبتين، كما إذا أراد المكلّف أن يصلّي الصلاة الواجبة التي لها حكم أوّلي وشكّ في غصبيّة المكان، فيُجري البراءة أوّلاً، ثُمّ يقوم بأداء الصلاة - وقد دخل وقتها أو تضيّق وقتها - فيكون مصداقاً للواجب.

فمن جنبة المعنى الكلّي العام هو ملاك أوّلي وحُكم وواجب مثلاً، أمّا من جنبة المصداق فيجب أن تثبت حلّيّته بالمعنى الأعم لكي تُطبّق ذلك المصداق الكلّي عليه، فليس هناك تدافع ولا تنافي بين الجنبتين.

٩٢

وهذه إحدى الجهات اللازم توضيحها في هذه القاعدة، وهي: أنّ العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع، يجب أن يكون مصداقها محلّلاً بالمعنى الأعم.

ويستدلّ العلماء على أنّ المصداق لابدّ أن يكون مُحلّلاً بالمعنى الأعم، إذ المفروض - كما قلنا - إنّ الأمر الشرعي بطبيعة عامّة: كالصلاة، والزكاة، والاعتكاف، والشعائر يُستفاد منه تخيير عقلي أو شرعي في تطبيق الطبيعة الكلّيّة على المصاديق , وهو تجويز وتسويغ من الشارع في تطبيق هذا المعنى العام على المصاديق.

ولا ريب أنّه لا يتناول الخصوصيّات المحرّمة حفظاً ورعاية للتوفيق بين أغراض الأحكام الشرعيّة، نعم، هذا التجويز والتسويغ يتناول حتّى المصاديق المكروهة ولا مانع من ذلك، مثل: الصلاة في الحمّام، والصلاة في المقبرة، وفي الأرض السبخة مثلاً، وهذه الصلاة وإن كانت مكروهة إلاّ أنّها صلاة سائغة ومشروعة، وإذا كان الحال كذلك، فلابدّ من الإمعان في هذه القاعدة، فإنّ الإمعان والتدبّر فيها يكشف لنا الستار عند اللبس الموجود بين موارد البدعة وبين موارد الشرعيّة.

اجتماعُ الأمر والنهي في مصداق واحد

هذا، ويلاحظ من بحث الفقهاء والأصوليّين في مسألة اجتماع الأمر والنهي - نظير الصلاة في الدار المغصوبة - أنّ شمول دليل الأمر لموارد الأفراد المحرّمة مفروغ عنه، فالصلاة المأمور بها شاملة لفرد الصلاة في الدار الغصبيّة، ولك أن تقول: إنّ هناك قولين معروفين في مسألة اجتماع الأمر والنهي على تقدير وحدة مصداق المأمور

٩٣

به والمنهيّ عنه:

أحدهما: وهو قول المشهور(١) شهرة عظيمة، واختاره صاحبا (الرسائل) و(الكفاية)، وهو: تزاحم الحُكمين، لا التزاحم في مقام الامتثال، بل التزاحم بين مِلاكي الحُكمين ومقتضى المصلحة والمفسدة، فيقدّم ويراعى الأهمّ، ولا يخفى أنّ التزاحم وإن كان ملاكيّاً فإنّه لا يعني سقوط دليل الحكم غير الأهمّ وعدم شموله لمورد اجتماع الحُكمين، بل غايته هو فساد العبادة لأجل أنّ التقرّب فيها لا يصلح أن يكون بما هو مبغوض شرعاً ومحرّم، وليس لكون دليل طبيعة الصلاة المأمور بها قاصر الشمول عن مورد تصادقه مع الفرد الحرام.

ومن ثُمّ حكم المشهور بصحّة الصلاة في الدار الغصبيّة مع قصور المصلّي لجهله وغفلته عن غصبيّة الأرض، وتصحيحهم للصلاة المزبورة مُستند إلى نقطتين:

الأولى: هو شمول دليل الصلاة إلى الفرد المحرّم.

الثانية: عدم تنجّز الحُرمة على القاصر الذي أتى بالفرد المحرّم وأوقعَ الصلاة فيه وعدم معصيته، فلم يكن متجرّئاً طاغياً على مولاه.

هذا، بخلاف القول الثاني(٢) الذي يتبنّى التعارض في الفرد الذي يتصادق فيه الحكمان؛ فإنّ أصحاب هذا القول يبنون على سقوط دليل الأمر في مورد اجتماعه مع النهي لتحقّق التعارض بين الدليلين، فلا يكون دليل الأمر شاملاً لمورد الاجتماع.

____________________

(١) ذهبَ إليه الشيخ الأنصاري، والآخوند، والمحقّق العراقي، والمحقّق الأصفهاني (رحمهم الله) وغيرهم.

(٢) ذهبَ إليه المحقّق النائيني (قدِّس سرّه)، وجمعٌ من تلامذة مدرسته.

٩٤

وعلى ضوء ما تقدّم، قد تقرّر النسبة إلى المشهور قولهم بشمول أدلّة الأوامر إلى الفرد والمصداق المحرّم، وعدم تقييد طبائع الأوامر في طروّها على المصاديق بما كان محلّلاً بالحلّيّة الأعم، سواء كانت تلك الطبائع المأمور بها ذاتيّة لمصاديقها، أو عناوين ثانويّة في جنبة الموضوع لآحاد المصاديق.

وحينئذٍ أمكنَ لنا أن نقول بشمول الدليل الآمر بالشعائر وتعظيمها وما شابه ذلك، أو الأمر بالصلاة - مثلاً - لكلّ الموارد والمواطن المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، وأمكن لنا أن نُعمّم الدليل - دليل المشروعيّة - لكلّ تلك المواطن، ويكون ذلك الموطن مشروعاً وشرعيّاً وعليه الصفة الشرعيّة، وليس فيه واهمة للبدعة أو البدعيّة.

بعضُ أقوال العلماء في المقام:

ونتعرّض هنا لبعض أقوال الأعلام في المقام:

قال صاحب الحدائق (قدِّس سرّه) - بعد ذِكر مسألة كراهة لبس اللباس الأسود في الصلاة -: (ثُمّ أقول: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) من هذه الأخبار؛ لمَا استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الحزن، ويؤيّده ما رواه شيخنا المجلسي (قدِّس سرّه) عن البرقي في كتاب المحاسن: رويَ عن عمر بن زين العابدين أنّه قال: (لما قُتل جدّي الحسين المظلوم الشهيد، لبسَ نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد ولم يغيّرنها في حرّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين صنعَ لهنّ الطعام في المأتم)(١) .

____________________

(١) الحدائق الناضرة: ٨: ١٨، نقلاً عن المحاسن للبرقي: ٤٢٠.

(٢) جامع الشتات ٢: ٧٨٧، الطبعة الحجريّة.

٩٥

فعلّل الخروج عن النهي في لبس السواد بعموم الأمر بإظهار شعائر الحزن، مع أنّ النسبة هي عموم وخصوص من وجه، ومقتضى عموم النهي شموله لمورد التصادق وهو من اجتماع الأمر والنهي.

وللميرزا القمّي (قدِّس سرّه) - صاحب القوانين - في كتاب جامع الشتات(١) مجموعة من الأسئلة حول الشعائر الحسينيّة، حيث قال بجواز الشبيه ضمن الشعائر الحسينيّة ورجحانه، واستدلّ على ذلك بعمومات البكاء والإبكاء، حيث إنّ عمومات البكاء والإبكاء لها مصاديق مختلفة يمكن أن تشملها.

وأحد المصاديق الموجِبة للبكاء والإبكاء: هو ما يكون في ضمنه التشبيه والتمثيل التي تثير عواطف الناظرين وتستدرّ دموعهم، وذَكر (رحمه الله) أنّه على تقدير عموم حرمة تشبّه الرجل بالمرأة، أو المرأة بالرجل (في الشبيه قد يُضطرّ إلى تشبّه الرجل بالمرأة)، فاستدلّ على جواز هذا الفرد من الشبيه أو التمثيل بعموم أدلّة البكاء والإبكاء، وقال: بأنّه على تقدير عموم حرمة التشبّه لهذا المصداق نقول: إمّا بالتعارض أو بالتزاحم، فإذا قلنا بالتعارض سوف يتساقطان، أي: يسقط عموم دليل الشعائر، وعموم دليل الحرمة أيضاً، وتكون الفائدة بعد سقوط حرمة الشبيه أن يبقى الفعل حينئذٍ على الجواز بإجراء أصالة البراءة، وهو في صدد إثبات الجواز والحلّيّة، فمن ثَمّ لو نتجَ عن العمومَين التعارض من وجه، فغايته أن يتساقط العمومان ثُمّ نتمسّك بأصالة البراءة.

وإذا قلنا بينهما التزاحم، فعمومات البكاء والإبكاء أرجح وأهمّ فتُقدّم.

وقد ذهبَ السيّد اليزدي (قدِّس سرّه) أيضاً - في أجوبته عن الشعائر

____________________

(١) جامع الشتات ٢: ٧٨٧، الطبعة الحجريّة.

٩٦

الحسينيّة(١) - إلى ما ذهبَ إليه صاحب الحدائق، من رجحان لبس السواد على الكراهة، لإظهار الحزن والتفجّع والتألّم على مصاب الحسين (عليه السلام).

وذهبَ السيّد الگلبايگاني (قدِّس سرّه) في فتواه(٢) إلى جواز الشبيه، تمسّكاً بعمومات رجحان البكاء والإبكاء (مع أنّ عموم البكاء والإبكاء لا يشير إلى مصاديق خاصّة؛ وإنّما يتناول بعمومه مصاديق متعدّدة، ومع ذلك استفادَ المشروعيّة للمصداق الخاص بعمومات البكاء).

وقد ذكرَ الشيخ حسن المظفّر (قدِّس سرّه) في كتابه نصرة المظلوم، ما لفظه:

(لا شكّ أنّ إظهار الحُزن ومظلوميّة سيّد الشهداء (عليه السلام) - والإبكاء عليه وإحياء أمره - بسنخه عبادة في المذهب، لا بشخص خاصّ منه، ضرورة أنّه لا ترد في الشريعة كيفيّة خاصّة للحزن والإبكاء وإحياء الذكر المأمور به؛ ليقتصر عليه الحزين في حزنه، والمُحيي لأمرهم في إحيائه، والمبكي في إبكائه، وإذا كان سنخ الشيء عبادةً ومندوباً إليه سَرَت مشروعيّته إلى جميع أفراده من جهة الفرديّة)(٣) .

فما تشير إليه كلمات الأعلام: هو استفادة مشروعيّة المصاديق المستجدّة المُستحدَثة للشعائر بنفس عموم العام، ولا يبنون على البدعيّة أو التشريع المحرّم؛ لأنّ عموم ذلك العام ينطبق على مصاديقه بمقتضى النقطة الثانية التي ذكرناها، وهي: أنّ بعض العناوين الثانويّة التي لها ملاكات أولّيّة،

____________________

(١) في حاشيته على رسالة الشيخ جعفر التستري (طبعة قديمة).

(٢) مجمعُ المسائل.

(٣) نصرة المظلوم: ٢٢.

٩٧

لكنّ موضوعها طارئ وثانويّ، فطروّ هذا الموضوع على تلك المصاديق يستنبط العلماء منه مشروعيّة تلك المصاديق، وهذه حقيقة فقهيّة يتغافل عنها القائل ببدعيّة الشعائر المستجدّة والمتّخذة حديثاً.

وفي عبارة للشيخ جعفر كاشف الغطاء أيضاً(١) : «وأمّا بعض الأعمال الخاصّة الراجعة إلى الشرع، ولا دليل عليها بالخصوص، فلا تخلو بين أنّه تدخل في عمومٍ، ويُقصد بالإتيان بها الموافقة من جهته (يعني جهة العام التي انطوت تحته تلك الخصوصيّة)، لا من جهة الخصوصيّة كقول: (أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله) في الأذان لا بقصد الجزئيّة، ولا بقصد الخصوصيّة؛ لأنّها معاً تشريعٌ، بل بقصد الرجحان الذاتي أو الرجحان العارضي؛ لمـَا وردَ من استحباب ذِكر اسم عليّ (عليه السلام) متى ذُكر اسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

فحينئذٍ الشهادة الثالثة، مع عدم البناء على قصد الجزئيّة، بل البناء على قصد الاستحباب العام، فلا يُحكم عليها بالبدعيّة، كما وقعَ عند بعض المتوّهمين وأثاروا دائرة هذا البحث، حيث المفروض أنّ مَن يأتي بها إنّما يقصد جهة العنوان العام، وهو اقتران ذِكر اسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مع ذكر عليّ (عليه السلام) واستحباب ذلك، كالعموم الوارد في استحباب الصلاة على محمّد وآل

____________________

(١) كشف الغطاء: ٥٣ - ٥٤، الطبعة الحجريّة.

(يبدأ كتابه بأصول الدين، ثُمّ بعد ذلك بأصول الفقه، ثُمّ بعد ذلك بالقواعد الفقهيّة، ثُمّ يَشرع بالفقه)، فأحد القواعد التي يبحثها الشيخ كاشف الغطاء الكبير - في القواعد الفقهيّة في الصفحة المذكورة سطر: ٣٣ - حول الفارق والفيصل بين البدعيّة والشرعيّة.. (وهذا جدّاً مهمّ، حيث إنّ الشيخ كاشف الغطاء هو أوّل مَن واجه من علماء الإماميّة شبهات وإشكالات الوهّابيّة في كتابه المعروف (منهج الرشاد))، يذكر أمثلة مصاديق منها ما يتعلّق بالشعائر الحسينيّة.

٩٨

محمّد عند ذِكر اسم النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ يكون جفاءً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكما لا نحكم بالبدعيّة في الصلاة عليه أثناء الأذان، كذلك ذِكر الشهادة الثالثة في الأذان لا نحكم عليه بالبدعيّة.

إذاً، يجب التفرقة في أنحاء العمل المأتيّ به، أنّه هل يؤتى به من جهة العموم استناداً إلى مشروعيّة عموم العام، بخلاف ما إذا أُتي به بقصد الخصوصيّة بما هي هي، حيث تأتي شبهة التشريع والبدعة والشرعيّة، أمّا إذا أُتي به استناداً إلى العموم فلا بدعيّة في البين، بل ذلك بواسطة مشروعيّة نفس العموم.

فالمستَند والمدرَك والشرعيّة مترشِّحة وآتية من نفس العموم، لا من تخرّص واقتراح المكلّف.

مثال آخر يذكره صاحب كشف الغطاء: وكقراءة الفاتحة بعد أكل الطعام وبقصد استحباب الدعاء، لمَا ورد فيه أنّه من وظائفه (يعني من الوظائف المستحبّة للطعام)، أن يدعو بعد الطعام، وأفضله أن يكون بعد قراءة سبع آيات، وأفضلها السبع المثاني، وكما يُصنع بقراءة الفاتحة في مجالس ترحيم الموتى على الرسم المعلوم والطريقة المعهودة، أو إخراج صدقةٍ عند الخروج من المنزل.

وورد في كتاب كشف الغطاء: (وتشبيه بعض المؤمنين بيزيد أو الشمر، ودقّ الطبل وبعض آلات اللهو، وإن لم يكن الغرض ذلك (يعني اللهو)، وكذا مطلق التشبيه).

(وجميع ما ذُكر وما يشابهه، إن قُصد به الخصوصيّة تشريعاً،

٩٩

وإن لوحظَ فيه الرجحانيّة من جهة العموم فلا بأس به)(١) .

إطلالةٌ على سُنن المتشرِّعة المستجدّة

الكلام عن السُبل والسُنن الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة، والطقوس الاجتماعيّة المستجدّة المستحدثة، لا بعنوان الشعائر الدينيّة بخصوصها، بل بعنوان السُنن الاجتماعيّة التي تُتّخذ كطقوس عباديّة في مناطق معيّنة، كما مثّل الشيخ كاشف الغطاء بكيفيّة الدعاء بعد الطعام بقراءة سورة الفاتحة، ورسوم أخرى، هذه كلّها سُنن اجتماعيّة متلوّنة بالواعز الشرعي الديني، وقد لا نعثر عليها بعناوينها في الأبواب الفقهيّة.

بعبارةٍ أخرى: نجد بعض المذاهب الإسلاميّة يواجه هذه السُنن المستحدَثة والحسنة في المجتمع، ويصفها بالبدعيّة والإحداث في الدين، مع ورود العموم النبوي المتواتر بين الفريقين:(مَن سنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (٢) ، فضلاً عن العمومات الخاصّة بالأبواب المختلفة، والسُنن الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة - السُنن الحَسنة - قد تكون في باب الآداب والأخلاقيّات التي لم تحصل على صبغة عباديّة، لكن يتعاطاها المتشرِّعة اعتماداً على أنّ الفعل مرضيّ عند الشارع، وليس مأموراً به بالأمر العبادي الخاص، بل هو مشمولٌ للعمومات، ويتّخذه المتشرِّعة سُنّة اجتماعيّة.

فما هي ضابطة الشرعيّة؟ وما هي ضابطة البدعيّة؟ سواء في الشعائر

____________________

(١) كتاب كشف الغطاء: ٥٤.

(٢) الفصول المختارة: ١٣٦.

١٠٠

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440